ـ دور عاشوراء فی بقاء الاسلام
ـ سعة وأهمیّة وتأثیر اقامة العزاء لسیّد الشهداء(علیه السلام)
ـ قداسة نهضة عاشوراء وامتناع تحریفها
لقد طرحنا فی الفصل السابق سؤالا یخطر بشكل طبیعىّ فی أذهان الیافعین والشباب وهو: لماذا لابدّ ان نقیم مراسم العزاء لسیّد الشهداء(علیه السلام) فی ایّام شهر محرّم وكذا فی سائر الایّام؟
وقلنا انّ هذا السؤال یمكن تحلیله الى اربعة أسئلة، ثمّ أجبنا علیها بشكل تفصیلىّ. وخلاصة الأجوبة هی انّ لواقعة كربلاء دوراً مصیریّاً فی التاریخ الاسلامیّ، واحیاء ذكرى هذه الحادثة الألیمة یمكن ان یكون مؤثّراً فی مستقبلنا.
ومعنى هذا انّ جمیع هذه الأجوبة تعتمد على فرض سابق مفروغ عنه وهو انّ قصّة كربلاء لها دور مهمّ ومصیرىّ بالنسبة للاسلام والمسلمین.
قد نواجه هذا السؤال وهو:
كیف نعرف انّ لقصّة كربلاء مثل هذا الدور المصیرىّ فی تقدّم الاسلام، وفی بقاء الاسلام، وبالتالی فی سعادة الناس، أو یمكن ان یكون لها ذلك فی المستقبل؟
بودّنا ان نتحدّث فی هذا المجال بمقدار ما نستطیع ویسمح به الوقت.
أجمع الصدیق والعدوّ على انّ قصّة كربلاء اذا لم تكن وحدها تزهر فی سماء الانسانیّة فانّها تعتبر من جملة الوقائع القلیلة النظیر.
ومن الواضح انّنا حسب ما انتهى الینا من اقوال الأئمّة الطاهرین(علیهم السلام) نعتبر هذه
القصّة منحصرة بفرد فحسب، ونعتقد انّها لم یكن لها نظیر فی السابق ولن یكون لها نظیر فی المستقبل. ولكنّنا من باب الاحتیاط فی القول ولانّنا نواجه اشخاصاً یطالبوننا بالدلیل والسند، ولكی لا ندخل فی هذه المناقشات نقول: لقد اتفقت آراء جمیع المُورّخین والمطّلعین على التاریخ البشرىّ على انّ قصّة عاشوراء ان لم تكن منحصرة بفرد فانّها من الحوادث القلیلة النظیر فی العالم، وهی حادثة لا یمكن مقارنتها الى أیّة حادثة اخرى، لا من حیث كیفیّة الوقوع، ولا من حیث عظمة المصیبة، ولا من حیث بقاء ذكریاتها بین الناس وما ترتّب علیها من آثار اجتماعیّة. انّ نفس هذا الاصرار على اقامة مراسم العزاء فی جمیع ارجاء الجمهوریة الاسلامیة یمكن ان یكون عامل تحذیر وانذار وایقاظ بانّ ایّة حادثة اخرى لا یمكن ان تقارن الى هذه الواقعة الألیمة. انّ هذه الحادثة التی یُنفق من اجلها كلُّ هذا الوقت، وتُرصد لها كل هذه المیزانیّات، وتُسكب من اجلها كل هذه الدموع، كیف یمكن تشبیهها بحادثة اخرى؟ وأیّة واقعة یمكن ان تقارن الیها؟
انّ مراسم العزاء هذه لیست مختصّة بالجمهوریة الاسلامیة، فلعلّ هناك من یتصوّر انّ اقامة مراسم العزاء مختصّة بهذا البلد الموالی لأهل البیت(علیهم السلام) ولكنّی اؤكّد لكم انّ مثل هذه المراسم الّتی تقیمونها فی مُدُنكم وقراكم یُقام فی اقصى البلاد على وجه الكرة الأرضیّة فی أیام شهر محرّم وصفر ولاسیّما فی یوم عاشوراء. ففی مدینة نیویورك ـ وهی احدى اكبر مدن العالم الیوم ـ یقیم ابناء الطائفة الشیعیّة من باكستان وایران والعراق ولبنان وبعض الدول الاخرى هیئة للطم على الصدور تخترق فی یوم عاشوراء اكبر شوارع هذه المدینة المكتظّة بالسكّان بحیث تصبح الحركة فی هذا الشارع بطیئة وتُلفت انتباه جمیع الناس هناك الیها.
وبالاضافة الى الشیعة فهناك فی كثیر من البلاد السنیّة تقام مثل هذه المراسم فی یوم عاشوراء من قِبل اهل السنّة انفسهم، أو اذا عقد الشیعة جلسات للعزاء هناك فانّ الاخوة السنّة یشعرون بانّهم مكلّفون بالمشاركة فیها. انّ كثیراً من اخوتنا السنة القاطنین فی شبه القارّة الهندیّة، سواء أكانوا فی الهند التی ربما یبلغ فیها عدد المسلمین ضِعف سكان ایران أم فی بنغلادش والباكستان یشعرون بانّ من الواجب علیهم ـ بعنوان اداء اجر الرسالة ـ ان یساهموا فی مراسم العزاء على سیّد الشهداء(علیه السلام)، لأنّ الله تعالى یصرّح فی القرآن الكریم: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبى»(1)
وبناءً على هذا فانّهم یعتبرون المودّة لأهل البیت(علیهم السلام) اجراً للرسالة ومن الواجب علیهم اداؤها. ولهذا عندما تقام مراسم العزاء لسیّد الشهداء فانّهم یشتركون فیها اظهاراً لمحبتهم لأهل البیت(علیهم السلام) واداءً للدین الّذی فی اعناقهم. بل حتّى عَبَدة الأصنام الذین لا یؤمنون بالشریعة الاسلامیّة یقیمون مراسم العزاء لسید الشهداء ویقدّمون النذور الكثیرة فیها لما رأوه من بركات لهذه المراسم المقدّسة.
هذه الموارد منتشرة فی كلّ أرجاء العالم وحتّى الكفّار یعلمون بوجودها.
انّ ایّة حادثة فی العالم لیس لها مثل هذا التأثیر بحیث یمتدّ تأثیرها الى الاُمم المختلفة.
فمن حیث طول فترة التأثیر قد مرّ علیها اكثر من ثلاثة عشر قرناً وهی تحتفظ بطراوتها وحیویّتها وكأنّها قد وقعت بالأمس القریب، والناس لا یزالون الى الآن یبكون بحرقة وتألّم ویلطمون على صدورهم ورؤسهم. والنموذج الّذی یمكن الاشارة الیه فی هذا المجال هو مراسم العزاء التی یقیمها المسیحیّون بمناسبة صلب
1. سورة الشورى، الایة 23.
السید المسیح(علیه السلام). ففی الذكرى السنویّة لصلب السید المسیح(علیه السلام) ـ ونحن نعتقد انه لم یُصلب لانّ القرآن الكریم یصرح: «وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ»(1)، لكنّ المسیحیین یعتقدون بان عیسى(علیه السلام) قد صُلب ثمّ دُفن ثم اُخرج من قبره بعد ثلاثة ایام وصعد الى السماء، ولهذا فهم یقیمون مراسم العزاء فی الذكرى السنویّة لصلب السید المسیح(علیه السلام) ـ وقد حضرتها شخصیّاً فی احدى السنین، حیث اقیمت هذه المراسم فی الفاتیكان وفی أكبر كنیسة فی روما وهی كنیسة القدّیس بیتر وقد حضر المراسمَ البابا الاكبر للكاثولیك، وقد شاركنا فی حضور المراسم. ومن الطبیعی ان تكون المراسم الّتی یحضرها البابا وهو شخصیّة عالمیّة كبیرة ویتنادى لها جمع كبیر من الناس من اطراف المعمورة وتقام فی اكبر كنیسة فی العالم ـ من الطبیعی ان تكون مراسم ضخمة وجلیلة. وهم یرتدون الملابس السوداء فی هذه المراسم ویضیئون الشموع ویتلون الأناشید الدینیّة بصورة هادئة، وهی تشبه قراءة المراثی عندنا. ولكن كل هذه المراسم لا یساوی الحماسُ فیها حماسَ مجلس لقراءة الفاتحة على روح واحد من علمائنا. ولمّا كان میلاد السید المسیح قد مرّ علیه الآن ألفان من السنین فانّه یمكننا القول انّ مراسم العزاء هذه تمتدّ الى ما یناهز الالفی عام، وهی مورد احترام الناس طیلة هذه الفترة، ولكنّها تقام بهذه الصورة الباهتة والعادیّة. ولو قارنتم هذه المراسم الى مجالس العزاء الّتى تقام فی مدینة قم أو طهران لوجدتم الفاصلة الكبیرة بین المحبّة التی یبدیها المسلمون ـ ولا سیّما شیعة اهل البیت(علیهم السلام) ـ من اعماق انفسهم، والمحبّة والاحترام الذی یبدیه اتباع اكبر الأدیان فی العالم وبتلك التنظیمات والمؤسسات الضخمة للسید المسیح(علیه السلام).
وعلى كلّ حال فأنتم تعرفون وتلمسون ان كیفیّة المراسم الّتی تقام لسید الشهداء(علیه السلام) لا یمكن مقارنتها الى ایّة مراسم اخرى.
1. سورة النساء، الآیة 157.
ویُضاف الى هذه الامور الوان التضحیات الّتی قام بها الشیعة فی طول التاریخ، وقد قاموا بهذه التضحیات لتتیسّر لهم اقامة هذه المراسم ولیفوزوا بزیارة قبر سید الشهداء(علیه السلام). ففی السابق لم تكن اقامة هذه المراسم وزیارة قبره الشریف بهذه السهولة، والآن ایضا لیست سهلة، ولكنّه مرّ زمان كان على من ینوی زیارة قبر سید الشهداء(علیه السلام)ان یضع روحه على كفّه. وكان أزلام الدولة العباسیة ولا سیّما فی زمان المتوكّل العباسیّ یتشدّدون كثیراً حتّى لا یجرؤ أحد من الاقتراب من الحرم الحسینىّ، وبالتالی هدموا قبر سید الشهداء واجروا المیاه علیه واعدّوا تلك الارض للزراعة حتّى تذهب تماما آثار القبر الشریف. ولكنّ شیعة اهل البیت(علیهم السلام) كانوا مستعدّین لقطع الأیدی والأرجل وتقدیم ارواحهم لمجرّد ان یُسمح لهم بزیارة قبر سید الشهداء(علیه السلام) وتقدیم التحیّة والسلام علیه من كثب. انّ هذه المواقف لا نظیر لها قطعاً فی تاریخ البشریّة كلّه. لو قلنا بانّ لواقعة كربلاء شبهاً بسائر الحوادث من جهات اخرى، فانها من هذه الجهة لا تشبهها أیّة حادثة اخرى، ولا تُقارَن الیها ایّةُ واقعة فی العالم.
ومن الواضح انّ هذا الأمر لم یحدث صدفة، وصحیح انّ الله تعالى قد غرس فی قلوب المؤمنین عشقاً لسید الشهداء(علیه السلام)، ففی هذا المورد یوجد عامل غیبىّ، ولكنّ الافعال الالهیّة لا تتمّ عادةً من دون اسباب ظاهریّة، ویعتبر من باب الاستثناء ان یتمّ فعل أحیانا من دون اسباب ظاهریّة. اذن لیس من الصدفة ان یعشق الشیعة الحسین(علیه السلام) الى هذا الحدّ. وحتى السنّة بل وحتّى عَبَدة الاصنام قد وجدوا بركات وآثار هذه المراسم. لعلّ الأهمّ من كل هذه ما ورد من توصیات مسبقة من نفس النبیّ الاكرم(صلى الله علیه وآله) والأئمة المعصومین(علیهم السلام) وتأكید على زیارة الحسین(علیه السلام) واقامة العزاء والبكاء علیه واحیاء المآتم. وهی تأكیدات عجیبة مثل انّ للسلام على سید الشهداء(علیه السلام) ثواب حج وعمرة. انّ السلام الذی یتمّ بحضور القلب ومن اعماق النفس
یمكن ان یُكسب صاحبه ثواب الحج المستحب. هكذا ورد فی ثواب وفضیلة زیارة سیّد الشهداء، والكتب الروائیّة ملیئة بمثل هذه التأكیدات. التفتوا الى نفس سلوك الأئمة الطاهرین(علیهم السلام) فی احیاء هذه المراسم، فمثلاً كانوا یهبون الصلات الوافرة لمن یرثی الحسین(علیه السلام) أو ینظم الشعر أو یتلوه فی العزاء ویثنون علیه ویجلّونه، وكان الأئمة(علیهم السلام) انفسهم یقیمون مراسم العزاء فی بیوتهم المطهّرة ویدعون الشعراء الیها لیقرأوا المراثی.
اذن التوصیات اللفظیّة للمعصومین(علیهم السلام) وسیرتهم العملیّة وذكر ألوان الثواب لمن یزوره(علیه السلام) أو یقیم العزاء له، وبالتالی العشق الّذی غرسه الله سبحانه فی قلوب المؤمنین الطاهرة ـ كل هذه قد جعلت واقعة كربلاء بصورة واقعة منحصرة بفرد فی التاریخ البشرىّ.
ما هی آثار هذه الامور فی حیاة الناس؟
نحن نعتقد انّ منزلة النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) أرفع من منزلة الأئمة الطاهرین(علیهم السلام)، فلماذا لا نقیم مثل هذا العزاء فی مناسبة وفاة النبی(صلى الله علیه وآله)؟ فمع كون منزلة النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله)ارفع من منزلة جمیع الأئمة الطاهرین(علیهم السلام) لكنّه لم ترد مثل تلك التأكیدات على زیارته واقامة العزاء علیه. لدینا اثنا عشر اماماً معصوماً، واذا كان لابدّ من التفضیل فی منازل الأئمة(علیهم السلام) فانّ منزلة امیرالمؤمنین(علیه السلام) ارفع منهم جمیعا حسب ما ورد عنهم سلام الله علیهم. وصحیح انّنا نقیم مجالس ضخمة للعزاء فی مناسبة استشهاد امیرالمؤمنین(علیه السلام)، ولكن هذه لا تُقاس الى مجالس العزاء على سید الشهداء(علیه السلام). أیّة خصوصیّة تكمن فی مصیبة الحسین(علیه السلام) بحیث تنال كلّ هذه الأهمیّة ویرد فیها كل هذا التأكید؟ دع عنك جانباً الروایات القائلة انّه منذ زمان آدم(علیه السلام) كان هناك ذكر وبكاء على مصیبة الحسین(علیه السلام)، فهناك روایات تؤكّد انّ جمیع الأنبیاء والأولیاء وملائكة السماء قد بكوا على سید الشهداء(علیه السلام). وما هی میزة الامام الحسین(علیه السلام)
بحیث جعلت النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) یقول فی حقّه: «حسین منّی وانا من حسین»(1) ان معنى «حسین منّی» واضح، ولكنّ المهمّ جدّا هو معنى «و انا من حسین». او العبارة المشهورة التی تكتب عادة على مداخل الحسینیّات وهی مقتبسة من هذه الروایة الشریفة:
«انّ الحسین بن علی فی السماء اكبر منه فی الارض فانّه لمكتوب عن یمین عرش الله مصباح هدى وسفینة نجاة»(2).
فالحسین(علیه السلام) مصباح هدىً وسفینة نجاة، مع انّ جمیع ائمتنا(علیهم السلام) كانوا مصابیح هدى وسفن نجاة، حیث نقرأ فی الزیارة الجامعة: «انتم الصراط الاقوم... والباب المبتلى به الناس من اتاكم نجى ومن لم یأتكم هلك».
فجمیع اهل البیت(علیهم السلام) كانوا هكذا. فأیّة میزة ینفرد بها الحسین(علیه السلام) من بینهم؟
لا شكّ انّ شخصیّة سید الشهداء والظروف التی اكتنفت حیاته الشریفة بتقدیر الله سبحانه قد اضفت میزة على حیاته(علیه السلام) ولا سیّما على استشهاده بحیث تنشأ منها كل هذه البركات. ونحن نعتقد ان جمیع الأئمة الطاهرین(علیهم السلام) هم من نور واحد، واىّ امام آخر لو كان فی مكان الامام الحسین(علیه السلام) فانّه كان لابدّ ان ینفّذ نفس المنهج وینهض بنفس الدور.
واذا لوحظ اختلاف فی سلوك الأئمة(علیهم السلام) فان ذلك عائد الى الظروف الاجتماعیّة ومقتضیات زمان كلّ واحد منهم. فالامام الحسن(علیه السلام) قاتل أوّلا ثمّ صالح. وما هو مشهور من انّ الامام الحسن(علیه السلام) كان رمزاً للسلام فی مقارنته مع الامام الحسین(علیه السلام)لا یعنی انّ هناك ذوقین وقراءتین للاسلام، قراءة تتّصف بالسلام وقراءة اخرى تتمیّز
1. بحارالانوار، ج 43، ص 261، الباب 12، الروایة 1.
2. نفس المصدر السابق، ج 36، ص 204، الباب 40، الروایة 8.
بالعنف، كلاّ، فنحن نعتقد انّ الامام الحسین(علیه السلام) لو حلّ محلّ الامام الحسن(علیه السلام) للزم ان یتصرّف كما تصرّف الامام الحسن(علیه السلام)، ولو عاش الامام الحسن(علیه السلام) ظروف الامام الحسین(علیه السلام) لوقف موقف الامام الحسین(علیه السلام). وكذا الأمر فی سائر الأئمة الطاهرین(علیهم السلام). فالاختلاف فی الأسالیب والسلوك بینهم انّما هو بسبب الظروف الاجتماعیّة الخاصّة التی كانت تقتضی هذه الواجبات. اذن فالظروف الخاصّة الّتی احاطت بأبی عبدالله الحسین(علیه السلام) قد وفّرت الأرضیّة لیقوم(علیه السلام) بدور فی تاریخ البشریّة وهدایة الناس لم یتیسّر نظیره لأىّ انسان آخر. فالظروف هی الّتی عیّنت مثل هذا السلوك، أو باللغة الدینیّة انّه التقدیر الالهی وارادة الله سبحانه، لانّ الظروف الاجتماعیّة هی أیضاً بید الله، وكلّ شیء لابدّ ان ینتهی الى الارادة الالهیّة المطلقة. انّ هذین الأمرین هما وجهان لعملة واحدة، فسواء قلنا انّ الله تعالى قد منح هذه المیزة للامام الحسین(علیه السلام) أو قلنا ان ظروف الحیاة الّتی احاطت بالامام الحسین(علیه السلام)اقتضت هذه المیزة فانّ القولین بمعنى واحد، لانّ الظروف أیضاً تابعة لارادة الله وهی تجری حسب التقدیر الالهىّ.
وهنا ینبغی لنا ان نبحث كیف اكتسب سید الشهداء(علیه السلام) هذه المیزة بحیث استطاع ان تكون له كلّ هذه البركات، وینجح الناس بواسطة اقامة العزاء على مصیبته فی تأمین مصالحهم الدنیویّة والأهمّ منها مصالحهم الاخرویّة، لانّ الدنیا بالنسبة للمؤمن لیست اِلاّ مقدّمة للتكامل الاخروىّ، فالحیاة الأصلیّة هناك، وتمثّل الحیاة الدنیویّة المرحلة الجنینیّة بالنسبة الیها، امّا الحیاة الحقیقیّة فهی تبدأ بعد الموت، یقول تعالى:
«وَ إِنَّ الدّارَ الآْخِرَةَ لَهِیَ الْحَیَوانُ»(1)
الحیاة الواقعیّة هی الّتی تعقب هذا العالم.
1. سورة العنكبوت، الآیة 64.
وعلى كلّ حال فمصالحنا الدنیویّة ومصالحنا الاخرویّة انّما تتحقق ببركة التوسّل بسید الشهداء والاهتمام باقامة العزاء علیه والبكاء على مصیبته واظهار المحبة له. وكلّ واحد منّا قد سمع بما لا حصر له من المعاجز والكرامات الحاصلة فی مجالس العزاء بحیث انّ كل ما یمكننی أن أقوله فی هذا المجال یكون مثل ناقل التمر الى هجر، ولهذا سوف لن اتحدّث فی هذا المضمار. حتّى انّ التراب المأخوذ من الطین الّذی یمسح به اصحاب العزاء جبهاتهم قد ادّى الى شفاء عیون آیة الله العظمى السید البروجردی(رضی الله عنه). فقد اصیب(رحمه الله) بآلام فی العیون استعصت على العلاج، وحلّت ایام ذكرى عاشوراء وهو فی مدینة بروجرد، فجاءت الى بیته هیئة عزاء اللطم على الصدور، وكان اصحاب العزاء قد لطخوا رؤوسهم ووجوههم بشیء من الطین اظهاراً للحداد، فقام(رحمه الله) بأخذ شیء من ذلك التراب ومسح به عیونه فكان العلاج الناجع له ولم یر بعد ذلك آلام العیون الى آخر عمره، وكان یقرأ حتّى الخطوط الدقیقة من دون استخدام للنظّارات، كلّ هذا من بركات الطین الذی یمسح به جبهات اصحاب العزاء على سید الشهداء(علیه السلام). وهناك الى ما شاء الله من هذه الكرامات والمعجزات. ونحن بهذه القطرات من الدموع التی نسكبها فی مراسم العزاء نشعر اولا بنورانیّة خاصّة فی أرواحنا، ثمّ بعد ذلك تُقضى حاجات لنا وتُدفع عنا الوان من البلاء والمصائب ونحن لا ندری. وهناك ملاحظة أودّ ان اذكرها بین قوسین وقد اشیر الیها فی الأدعیة وهی انّنا نعدّ ـ غالباً ـ الحاجات التی طلبناها من الله تعالى واستجیب دعاؤنا وحصلنا علیها، ولكنّنا لا نعلم كم هی المصائب التی كانت متجهة الینا وقد دفعها الله عنّا ونحن غیر منتبهین، اذن ببركة سیّد الشهداء تنزل على الناس بركات عدیدة، وتُدفع عنهم بلایا ومصائب تفوق تلك البركات بعشرات المرّات ونحن لا نعلم ولا نذكرها فی الحساب. اذا كان الأمر كذلك ألیس من حقّ الناس ان یهتمّوا كلّ هذا الاهتمام بالبكاء والعزاء؟
الى هنا تحدّثنا عن أهمیّة وضخامة هذه الحادثة وما لها من آثار عظیمة فی المجتمع خلال ثلاثة عشر قرنا. وهناك موضوع آخر طالما سمعتموه من العلماء والواعظین وهو أنّنا اذا درسنا حیاة وشخصیّة أىّ واحد من أنبیاء الله وأولیائه فسنجد ألواناً من الابهام والغموض ـ حتّى فی زمانهم ـ یكتنف شخصیّاتهم وسلوكهم واقوالهم، وامّا بعد وفاتهم فقد تضاعف الغموض واشتدّ الابهام. والنبیّ الاكرم(صلى الله علیه وآله) ذاته قد اتُّهم ـ مثل سائر الانبیاء ـ بأبشع التهم، فقیل انّه مجنون قد فقد عقله فلا تستمعوا الیه! وقالوا انّه ساحر، كانوا یوصون الشباب انكم اذا رأیتم النبی یتحدث فاجعلوا اصابعكم فی آذانكم أو الجأوا الى حشو آذانكم بالقطن حتّى لا تسمعوا كلامه لانّه ساحر یسحركم بأقواله.
كلّ هذه التهم قد ألصقوها بالنبی الأكرم(صلى الله علیه وآله)، وهو نفسه(صلى الله علیه وآله) قد تنبّأ بأنّ اكاذیبَ كثیرة سوف تنسب الىّ بعد وفاتی، لیس من قبل الأعداء الكفّار، وانّما من بین اتباعه الذین قالوا انّا آمنّا بك. وهكذا حدث، فقد روی عنه(صلى الله علیه وآله):
«قد كثرت علىّ الكذّابة وستكثر»(1)
ثمّ انه(صلى الله علیه وآله) قد عیّن معیاراً لكی نمیّز بواسطته بین الحدیث الصحیح والحدیث الموضوع، وذلك بان نعرض الحدیث على القرآن الكریم فان خالف القرآن فاعلموا انی لم أقله. وبالاضافة الى ذلك فقد قام الأئمة الطاهرون(علیهم السلام) ـ باعتبارهم الخبراء فی العلوم الالهیّة ـ بالتنبیه على الأحادیث الكاذبة وتحذیر الناس منها. مثلاً فی زمان الامام الرضا(علیه السلام) صُحّحت الروایات المنقولة، ثمّ على اساس ذلك اُلّف كتاب «عیون اخبار الرضا(علیه السلام)». وقد حدثت مثل هذه الظروف فی زمان الامام الصادق(علیه السلام)
1. بحارالانوار، ج 2، ص 225، الباب 29، الروایة 2.
فقد قام ابوالخطّاب وآخرون بجعل اكاذیب فتصدّى لها الامام(علیه السلام) وغربلها وبیّن الأحادیث الصحیحة.
وعلى كلّ حال فالآن اذا أردنا ان نعرف الأحادیث التی صدرت قطعاً من النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) ویُسلّم بها جمیع المسلمین على اساس أنّها كلام النبی(صلى الله علیه وآله) فانّ عدد هذه الأحادیث لیس كثیراً. وقد حاول البعض ان یعدّها ولكنّ عددها على أیّة حال لیس كثیراً. أمّا الروایات المجعولة فهی الى ما شاء الله. وقد اُلّفت كتب كثیرة من قبل الشیعة والسنّة حول الروایات المنسوبة كذباً للنبی الأكرم(صلى الله علیه وآله).
والموضوع الذی كان واضحاً كالشمس فی زمان النبی(صلى الله علیه وآله) ـ و ان كان البعض یحمل هذا على التعصّب ـ هو هذه الحقیقة وهی انّ النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) قد بیّن للناس خلیفته منذ الأیّام الاُولى التی جهر فیها بدعوته، فقد نزل الوحی بهذه الآیة الشریفة:
«أَنْذِرْ عَشِیرَتَكَ الأَْقْرَبِینَ»(1)
فذبح(صلى الله علیه وآله) ذبیحة ودعا عمومته وأبناءهم واقرباءه وقال لهم انّ اول من یؤمن بی سیكون خلیفتی. ولم یؤمن به أحدٌ منهم سوى شاب لا یزید عمره آنذاك على عشر سنین أو ثلاث عشرة سنة على اكثر التقادیر، وهو امیرالمؤمنین علی بن ابی طالب(علیه السلام). وبعض الشخصیّات من قریش ممّن كان حاضراً التفت الى ابی طالب ضاحكاً وقال ما معناه: انه لن یمرّ وقت طویل حتى تصبح تابعاً لولدك. أی انّه یسخر من هذا الوضع حیث انّ علیاً(علیه السلام) قد اصبح خلیفة للرسول(صلى الله علیه وآله)، فسیصبح رئیساً وتصبح انت یا اباطالب تابعاً له.
وقد أكّد النبی(صلى الله علیه وآله) طیلة حیاته الشریفة على هذا الموضوع كثیراً وبصور متنوّعة، فقد قال لعلىّ(علیه السلام) مثلاً:
«انت منّی بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبىّ بعدی»(2)
1. سورة الشعراء، الآیة 214.
2. بحار الانوار، ج 5، الباب 2، الروایة 1.
وهناك روایات كثیرة فی هذا المجال ینقلها الشیعة والسنّة. حتّى انتهى الأمر فی حادثة الغدیر وذلك قبل وفاته(صلى الله علیه وآله) بسبعین یوماً، والجمیع یعرف ما جرى فی غدیر خم حیث جمع النبىّ المسلمین تحت حرارة الشمس المحرقة ووقف(صلى الله علیه وآله) رافعاً ید علی(علیه السلام) قائلا:
«من كنت مولاه فهذا علىّ مولاه»(1)
لم یكتف الرسول(صلى الله علیه وآله) بالتأكیدات المتعدّدة المتنوّعة على هذا الموضوع خلال عشرین عاما حتّى بیّن خلافة علی(علیه السلام) فی الأیّام الأخیرة من حیاته الشریفة(صلى الله علیه وآله)بهذه الصورة التاریخیّة. وقد أظهر الناس العجب لماذا یجمعنا الرسول الأكرم(صلى الله علیه وآله) هنا وفی هذا الظهیرة المحرقة.
ولم یمرّ سوى سبعین یوماً على واقعة غدیر خم حتى ارتحل النبى(صلى الله علیه وآله) الى الرفیق الاعلى، فاجتمع المسلمون، هم انفسهم اصحاب بدر وحنین، لیعیّنوا خلیفة للنبی(صلى الله علیه وآله)، فاقترح بعضهم ان یكون خلیفته(صلى الله علیه وآله) من بین المهاجرین، وقال البعض الآخر انّه لابدّ ان یكون من الأنصار، وحاول البعض ان یكون منصفاً فقال بتعیین امیرین: «منّا امیر ومنكم امیر»(2) والشیء الّذی لم یُطرح ولم یوله احدٌ اىَّ اهتمام هو انّه قبل سبعین یوماً فقط ماذا قال النبی(صلى الله علیه وآله) نفسه؟ ولماذا جمعنا فی غدیر خم فی ذلك الحرّ الشدید؟ ولماذا اكّد النبی(صلى الله علیه وآله) مراراً خلال عشرین عاماً على خلافة علی(علیه السلام)؟ لقد قاموا بتحریف اقوال النبی(صلى الله علیه وآله) وسیرته، حتى انّ بعض أزواجه قد وجّهت الیه(صلى الله علیه وآله) التهم. اقرأوا سورة التحریم ولاحظوا القرآن الكریم كیف یتحدّث عن بعض ازواج النبی(صلى الله علیه وآله) وبأیّة نغمة؟
لقد اشرنا فیما سبق الى امیرالمؤمنین(علیه السلام)، وانتم مطّلعون على انّ علیا(علیه السلام) یُعرف
1. بحارالانوار، ج 28، ص 181، الباب 4، الروایة 1.
2. نفس المصدر السابق.
بشیئین فی كلّ العالم. أینما ذُكر علی(علیه السلام) فانّه تتبادر الى الذهن عدالته وعبادته. فعلیٌّ(علیه السلام) من أعبد الناس وأعدلهم. فهو(علیه السلام) یصلّی النافلة فی الوقت الذی یكون فیه مشغولا بحرث المزرعة واعمارها. كان یصلّی فی الیوم واللیلة خمسمائة أو ألف ركعة. وكان الجمیع یعرف هذا عنه. ولكنّه عندما وصل نبأ استشهاد الامام علی(علیه السلام)فی مسجد الكوفة قال الناس فی الشام: هل كان علی(علیه السلام) یصلی؟ وهكذا الأمر بالنسبة لسائر الأئمة الطاهرین(علیهم السلام) والشخصیّات الدینیّة الكبیرة، كلّ واحد منهم قد اتُّهم بشكل من الأشكال. وأقوى حجّة على جمیع الناس هو القرآن الكریم. فمذ خلق الله تعالى آدم(علیه السلام) وحتّى نهایة الحیاة الانسانیّة على وجه الكرة الارضیّة لا توجد حجّة أوضح وأبلغ وأكثر هدایة من القرآن الكریم. لكنّ القرآن نفسه قد تعرّض للتفسیر الخاطئ، والآن یتعرّض لمثل هذا التفسیر ایضاً. انّ جمیع الطوائف الاسلامیة ومع كلّ ما لدیهم من اختلافات فی مذاهبهم فانّهم یتمسكون بآیات القرآن بنحو من الأنحاء. فبالنسبة الى موضوع معین یتمسّك بآیات القرآن من یثبته ویتمسّك بها ایضا من ینفیه. فالقائلون بالجبر والقائلون بالتفویض كلتا الفئتین تتمسّك بآیات القرآن. أی انّ القرآن یصبح مبهما. امّا لماذا صبغ القرآن الكریم بشكل بحیث یمكن تفسیره بأشكال مختلفة؟ هذا موضوع مستقل ویحتاج الى بحث مفصّل. لكنّنا نقطع بوجود عامل التعمّد فی هذه الاحداث. ای انّ هناك أشخاصاً یتعمّدون فی تفسیر القرآن حسب آرائهم ورغباتهم. ولا یمكن اعتبار كلّ هذه الأعمال ناشئة من الجهل والاشتباه والخطأ.
لقد حدثت ألوان من التحریف المعنوی ومسخ الشخصیّات وإلصاق التّهم والافتراءات بكلّ حجّة الهیّة. وأوضح الحجج هو القرآن الكریم وتوجد فیه هذه الابهامات. وأرفع الانبیاء وهداة الناس هو نبی الاسلام الأكرم(صلى الله علیه وآله) ومن بعده أمیرالمؤمنین(علیه السلام)، وألوان الابهام تحیط بهاتین الشخصیّتین العظیمتین، بعد مرور
خمسة وعشرین عاماً على وفاة النبی(صلى الله علیه وآله) بادر الى البیعة مع امیرالمؤمنین(علیه السلام) نفس اولئك الأصحاب المقرّبین وبعض اقارب امیرالمؤمنین(علیه السلام)، مثل الزبیر الذی هو ابن عمة النبی(صلى الله علیه وآله) وعلی(علیه السلام). لقد كان هؤلاء من اوائل الناس الذین بایعوا علیاً(علیه السلام)، وبعد عدّة ایام قالوا انّ علیا هو قاتل عثمان، وشنّوا الحرب على علی(علیه السلام) بذریعة المطالبة بدم عثمان. وشبّهوا الأمر على الناس وأوهموهم بكون عثمان قد قُتل بید علی(علیه السلام)، فلابدّ من مقاتلته. انّ نفس هؤلاء الذین بایعوا علیاً(علیه السلام) قد شنّوا حرب الجمل ثم شنّوا سائر الحروب علیه.
ونحن الیوم عندما نتحدّث مع الاخوة السنّة حول الاسلام أو حول شخصیّة الرسول الأكرم(صلى الله علیه وآله) وسیرته وأقواله فانّ هناك موارد من الابهام. ولنضرب مثلاً بسیطا حتّى تعرفوا مدى الابهام الموجود. لقد كان النبىّ الأكرم(صلى الله علیه وآله) طیلة ثلاث وعشرین سنة من رسالته الالهیّة محشوراً مع الناس، فقد كان من أكثر الأنبیاء شعبیة ومن اقرب القادة الى نفوس اتباعه، كان یجلس مع أصحابه بحیث اذا دخل غریب الى المسجد فانّه لا یعرف ایّ الجالسین هو النبى(صلى الله علیه وآله). هكذا كان بسیطاً فی معیشته وسلوكه. وكلّ أعماله وتصرّفاته كانت تتمّ امام أعین الناس. فهل من المعقول انّ الناس لم یشاهدوا النبی(صلى الله علیه وآله) كیف یتوضّأ خلال ثلاثة وعشرین عاماً من معاشرتهم له؟ هل من الممكن ان یبقى هذا الموضوع مخفیّاً عنهم؟ على أقلّ تقدیر هناك عشر سنوات شاهد فیها اهل مكّة والمدینة كیف یتوضأ النبى(صلى الله علیه وآله)، وفی كثیر من الأحیان كانوا یأخذون من ماء وضوء النبی(صلى الله علیه وآله) للتبرّك به. ولكنّه بعد مرور فترة من الزمن طرحت هذه المسألة وهی: كیف نصبّ الماء عند الوضوء؟ ألم یشاهد الناس النبىّ(صلى الله علیه وآله) وهو یتوضّأ؟ انّ هذا الموضوع لم یكن سرّیاً، وهل هناك ما هو ابسط من هذا الأمر؟
هناك أشخاص كانوا یحبون الاقتداء بسیرة النبی(صلى الله علیه وآله) والتأسّی به، ولكنّه كانت
هناك عوامل تبذل قصارى جهدها لایجاد الابهام، وعلى رأس هذه العوامل كان الشیطان، وشیاطین الانس یعینون فی هذا المجال.
ومن بین جمیع هذه الحوادث ومن بین جمیع الأقوال وألوان السلوك التی صدرت من الأنبیاء والأولیاء كان الشیء الذی استعصى على التحریف والمسخ ولم یتیسّر تفسیره بشكل خاطئ هو انّ الامام الحسین(علیه السلام) قد استشهد من أجل ترویج الدین، وقد استشهد معه فی هذا السبیل جمیع أصحابه، وحتّى طفله الرضیع قد ذبح بین یدیه. انّ هذا التاریخ الیقینىّ لم یستطع أحد أن یحرّفه. نعم هناك اختلافات فی بعض الجزئیّات، مثل عدد الذین جاءوا لقتال الحسین(علیه السلام) من الكوفة هل كان عددهم ثلاثین الفاً أم مائة وعشرین الفاً؟ أقلّ من ذلك أم أكثر؟ من الطبیعیّ انّ القیام باحصائیّة دقیقة لیس امراً سهلا. وفی سائر القضایا ایضا توجد مثل هذه الاختلافات. امّا أصل هذه الواقعة وانّ الامام الحسین(علیه السلام) نهض من أجل احیاء دینه واستمرّ حتى استشهد عطشاناً وحتى تمّ أسر عائلته وأطفاله، فهذا أمر غیر قابل للتحریف. فلا یمكن القول انّ هذا الأمر لم یتحقّق، ولا یمكن القول انّه قد تمّ من اجل الظفر بالدنیا. أما كان هناك سبیل أسهل وأفضل من هذا للحصول على الزعامة والمنزلة الدنیویّة؟ من یبحث عن الزعامة عندما یلاحظ انّ حیاته فی خطر فانّه یجد سبیلا للصلح والسلام. وقد اقترحوا علیه ذلك لیلة عاشوراء، وقالوا له یوم عاشوراء: تعال وبایع یزید بن معاویة لتبقى سالماً، فرفض هذا قائلا «هیهات منی الذلّة»(1)وجرت قصة الحرّ الریاحی وسائر الحوادث.
ویُضاف الى ذلك ما نعتقد به وهو ثابت بأسناد صحیحة ومتظافرة وتؤیّده قرائن كثیرة وهو انّ الامام الحسین(علیه السلام) كان یعلم من قبلُ انّه سوف یُقتل. وحتّى لو زعم
1. بحارالانوار، ج 45، ص 83، الباب 37، الروایة 10.
أحد بانّه لم یكن لدیه علم الامامة والالهام الالهىّ فانّه كان یعلم باستشهاده بناءً على الأحادیث الواردة عن النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله). وقوله(علیه السلام) «كأنّی بأوصالی یتقطّعها عسلانُ الفلوات بین النواویس وكربلا»(1) وكذا الرؤیا اثناء النوم مثل ما جرى لعلىّ الأكبر(علیه السلام).
اذا أضفنا هذه الامور الى بعضها تبیّن لنا انّ الامام الحسین(علیه السلام) كان یعلم بانّ الشهادة هی آخر المطاف فی هذه الواقعة، ومع ذلك استصحب معه نساءه وأطفاله، فهل تمّ هذا من أجل الحصول على الأموال؟ أم من اجل الظفر بالزعامة؟ أم من اجل نیل الشهوات الدنیویّة؟ أیّة شهوة للانسان یمكن اشباعها فی صحراء كربلاء؟ لا یمكن اطلاقاً تفسیر هذه الحادثة بانّها نهضة من أجل الدنیا وطلب الزعامة والقدرة والقوة. انّه قدّم نفسه للقتل لا لشیء الاّ لإحیاء دین جدّه(صلى الله علیه وآله).
نعم قد یتصوّر البعض ان الحسین(علیه السلام) قد اخطأ، فبعض المتعصّبین والنواصب المنتسبین الى الاسلام یقولون: لم یكن من حقّ الحسین(علیه السلام) ان یقوم بهذا العمل، ولكنّهم یعترفون بانّه(علیه السلام) قد قام به من اجل احیاء الدین.
انّ هذه الحادثة بجمیع خصائصها ـ ای خصائص كونها مؤثّرة فی اعطاء خطّ لمسیرة الانسان وتعلیمه درساً فی الفداء والتضحیة ـ لیست قابلة للخطأ، وهی فی كونها قد أتمّت الحجّة على المسلمین ـ حتّى یعلموا انّه اذا حدثت ظروف مشابهة لظروف زمان الامام الحسین(علیه السلام) فلابدّ من القیام بنهضة تشبه تلك النهضة ـ لیست قابلة للتفسیر الخاطئ. ولمّا لم یكن من الممكن تفسیرها بشكل خاطئ، ولا یرد فیها أىّ توهّم بانّها كانت من اجل الدنیا والحرص على الزعامة، فلهذا بمجرّد ان یتأمّل الانسان فیها فانّ نور الهدایة یشعّ فی قلبه ویستیقظ ضمیره وتنبعث عواطفه
1. بحارالانوار، ج 44، ص 366، الباب 37، الروایة 2.
الدینیّة وینمو فی نفسه الاحساس بالمسؤولیّة. فالدّین الذی یستحقّ ان یستشهد من اجله الامام الحسین(علیه السلام) مع جمیع اصحابه واهل بیته وحتّى طفله الرضیع هل من الممكن ان لا نشعر ـ أنا وأنت ـ بالمسؤولیّة ازاءه؟ من أجل هذا كان الحسین(علیه السلام)«مصباح هدىً وسفینة نجاة» فهو مصباح یضیء للانسانیّة الى یوم القیامة، واىّ انسان ومن اىّ مكان ینظر الیه فانّه یكتشف الطریق الصحیح ولا یستطیع احد ان یوجد فیه نقطة مبهمة.
انّ هذا وجه من وجوه القضیّة، حیث لاحظنا المسلمین منذ البدایة ـ وعلى أقلّ تقدیر منذ الأیّام الاولى لشهادة الامام الحسین(علیه السلام) عندما بدأت حركة التوّابین ـ یولون اهمّیة كبیرة لاحیاء ذكرى هذه النهضة المباركة فی البكاء والتضحیة وكل ما یدلّ على العشق لاسم الحسین(علیه السلام).
یحتفظون بكمیّات ضئیلة من تراب كربلاء بكل احترام وقدسیّة، حتّى اذا ابتلی احدهم بمرض یستعصی على العلاج ـ والعیاذ بالله ـ قدّموا له بمقدار حبّة العدس من تلك التربة المقدّسة لیأكلها وینال الشفاء ببركتها. هذا وجه، والوجه الآخر للقضیّة ممّا ینبغی الالتفات الیه هو: كم حاولوا ان یندرس اسم الحسین(علیه السلام)؟ ما هو السبب فی عداوتهم للامام الحسین(علیه السلام)؟ ماذا كان یفعل اسم الامام الحسین(علیه السلام)بحیاتهم بحیث كانوا مستعدّین ان یقتلوا الناس حتّى یمتنعوا عن زیارة الامام الحسین(علیه السلام)؟ لقد اجروا نهراً من الماء على قبر الامام الحسین(علیه السلام) حتّى تنمحی آثاره. عمروا الارض فوق القبر الشریف وبذروها لتخفی الزراعة حقیقة هذا المكان. لماذا كلّ هذه المحاولات؟ وأىّ نفع عاد علیهم من هذه العداوات؟
لا نحتاج الى الذهاب بعیداً فهناك من یعیش بیننا من الشیوخ والعجائز وهم یتذكّرون جیّداً منع اقامة العزاء من قبل سلطة رضاشاه. لقد منعوا الوعّاظ من ارتداء ملابس علماء الدین ومنعوا قراءة الرثاء بصوت مسموع وحظروا اقامة المجالس على
الامام الحسین(علیه السلام). كان عمری آنذاك یناهز الخامسة وأتذكّر أنّ الناس كانوا یعقدون مجالس العزاء لیلا ویأتی قارئ العزاء مرتدیاً البنطلون ثمّ عندما یدخل الى البیت فانه یغیّر ملابسه ویرتدی العمامة، ویُعقد المجلس عادة فی سرداب البیت ولایرفع القارئ صوته حتّى لا یسمعه افراد قوّات الأمن الذین یجوبون الشوارع. ما هی المشكلة التی یوجدها ذكر اسم سید الشهداء لحكومة بهلوی؟ لماذا كلّ هذه العداوة؟
ولماذا الیوم یعادون سیّد الشهداء(علیه السلام) بصورة «متحضّرة»؟
انّهم یعتبرون انفسهم مستنیرین فی الفكر الدینىّ، والصحیح ان نقول انّهم اصحاب الفكر المظلم الذین لا دین لهم!
لماذا یصرّ هؤلاء على انّ استشهاد الامام الحسین(علیه السلام) كان قضیّة عادیّة أو أنّها كانت ردّ فعل للعنف الذی استعمله النبی(صلى الله علیه وآله)؟ یزعمون انّ النبی(صلى الله علیه وآله) قد استعمل العنف مع بنی امیّة فی غزوة بدر. وهنا فی كربلاء جاء بنو امیّة لیثأروا فأشعلوا نار الحرب وقتلوا ابن النبی(صلى الله علیه وآله) وأصحابه. فهذه اذنْ هی نتیجة ذلك العنف!(1) ومعروف انه فی الحرب لا توزّع الحلویات.
فی غزوة بدر قتل افراد من المسلمین وافراد من الكفّار، ولكنّ القتلى من الكفّار أكثر وقد نصر الله المسلمین فی تلك الغزوة.
امّا «المتحضّرون» السائرون فی ركاب الغرب فهم یقولون انّ النّبی(صلى الله علیه وآله) قد استخدم العنف مع بنی امیة فی غزوة بدر، فجاء ابناء بنی امیّة وفعلوا نفس الفعل مع ابناء النبی(صلى الله علیه وآله). فهذا امر طبیعی وردّ فعل عادیّ. كان على النبی(صلى الله علیه وآله) ان لا یقتل اولئك الآباء حتّى لا یقتل اولادُهم اولادَه!
1. لیرجع من احب الى المقال الذی كتبه اكبر گنجی بعنوان «خون به خون شستن آمد محال» ونشره فی صحیفة «صبح امروز» بتاریخ 1378/02/23 ـ ص 6، وهو باللغة الفارسیة.
ویقول هؤلاء «المستنیرون» انّ من اراد ان یتّعظ بعاشوراء فلیأخذ هذا الدرس من هذه المناسبة، وهو: لا تستعمل العنف مع اىّ أحد حتّى لا یُستخدم العنف مع أولادك!
هكذا یطلبون من الناس ان یأخذوا الدرس من عاشوراء. ومن وجهة نظر هؤلاء لابدّ من تعطیل واجب الجهاد والدفاع والامر بالمعروف والنهی عن المنكر، حتى لا یتعرّض أحد لآخر بشیء.
ای انّ الله تعالى عندما أمر:
«قاتِلُوهُمْ یُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَیْدِیكُمْ وَ یُخْزِهِمْ وَ یَنْصُرْكُمْ عَلَیْهِمْ وَ یَشْفِ صُدُورَ قَوْم مُؤْمِنِینَ»(1) فأمره سبحانه فی غیر محلّه والعیاذ بالله.
انّ هذه آیة قرآنیّة ولیست من اقوال شخص مثلی حتى یتّهم بالعنف أو انه منظّر لحركة العنف.
لكنّ هؤلاء المستنیرین یقولون حتّى لو كان القرآن هو القائل فهو مخطئ. لا ینبغی استعمال العنف.
اذن فالله قد اخطأ، والنبی(صلى الله علیه وآله) قد اخطأ حینما ساهم فی غزوة بدر، ونتیجة خطأ النبی هذا انّه قد قتلوا ولده! وبهذا تتمّ تبرئة یزید واتباعه. ما كان لهم من ذنب، وكلّ ما فعلوه انّهم قاموا بردّ فعل طبیعىّ لیس أكثر. عندما یُقتل والد فانّ ابن المقتول یقوم بقتل ابن القاتل.
ثمّ یأتون لیطلقوا على هذا اسم الاسلام المتحضّر أو انّها قراءة جدیدة للاسلام! وتُطبع هذه الامور فی صحف الجمهوریّة الاسلامیّة الواسعة الانتشار، وتُسمّم بها افكار الشباب حتّى تصبح نظرة ابنائنا للحسین(علیه السلام) بهذه الصورة.
لماذا یعادی هؤلاء الامام الحسین(علیه السلام)؟
الجواب واضح جداً لانّ الحسین(علیه السلام) مصباح هدایة ولا یترك الجوّ مظلماً حتى
1. سورة التوبة، الآیة 14.
یتورّط الناس فی الضلال. انّه(علیه السلام) یضیء الطریق ویبیّن للناس واجبهم، ماذا علیهم ان یعملوا؟ وكیف یدافعون عن دینهم؟ ولا یترك الناس لیفقدوا غیرتهم بذریعة التساهل والتسامح.
انّها صرخة الحسین(علیه السلام): «هیهات منّا الذلة». ماذا یستطیعون ان یعملوا مع هذه المدرسة؟ هل یستخدمون اسلوب الترغیب والتطمیع لیعرضوا علیه الاموال؟ وهل قَبِل الحسین(علیه السلام) عرض الاموال علیه؟ وهل وافق على عرض الرئاسة علیه؟ وحتّى اذا هدّدوه بالقتل فانّه على أتمّ الاستعداد للشهادة هو وأطفاله، وقد فعلها صلوات الله علیه.
واذا أصبح الانسان من أتباع الحسین(علیه السلام) فانه لا یتأثّر من الوان التطمیع ولا یخاف من انواع التهدید.
ومن عاش أحداث نهضة الامام الخمینی(رحمه الله) قبل انتصار الثورة یتذكّر كیف كان الشباب یفتحون صدورهم أمام ازلام نظام بهلوی یقولون لهم: اطلقوا النار علینا فنحن لا نخاف من الموت. وقد كان هذا رمزاً للنصر. من لا یخاف الموت فهو منتصر.
كان اصحاب الحسین(علیه السلام) یعشقون الموت لیلة عاشوراء، وقد استعمل الشیوخ منهم الخضاب. فهل یمكن الحاق الهزیمة بهذه المدرسة؟ كلاّ، إلاّ اذا نجح المغرضون فی تحریفها وتضلیل الناس عن حقیقتها.
اذن لماذا یعشق الحسینَ(علیه السلام) المسلمون الحقیقیّون الذین ارتضعوا العزّة والكرامة مع لبن اُمهاتهم؟
ولماذا یعادی الجبناء والعملاء اسم الامام الحسین(علیه السلام)؟
الجواب واضح كالشمس فی رابعة النهار: لانّ الحسین(علیه السلام) مصباح هدایة ولا یترك الناس یتیهون فی طریق الضلال.