ـ مصادیق الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر بالمعنى العام
تعلیم الجاهل
تذكرة وموعظة
التصدّی الاجتماعیّ للمؤامرات
المواجهة للهجوم الثقافیّ
الجهاد والحرص على الشهادة من أجل ایقاظ المجتمع
نواصل حدیثنا فی هذا الفصل عن الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. وقد ذكرنا انّه یعتبر واحداً من أهداف نهضة سیّد الشهداء(علیه السلام). ثمّ تساءلنا عمّا قام به الامام الحسین(علیه السلام)فی هذه النهضة لماذا لا یتطابق مع الموازین التی نعرفها للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر.
وبعبارة اخرى: ما هو نوع هذا الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر الذی لا نعرف له مثیلاً فی التاریخ ولا نعرف أحكامه؟
تحدّثنا فیما مضى ـ كمقدّمة للبحث ـ عن بعض المفاهیم التی تستعمل فی بعض الأحیان بمعناها العامّ وفی أحیان اخرى بمعناها الخاصّ.
وعلى هذا الأساس وبالالتفات الى موارد استعمال الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر فی القرآن الكریم والروایات الشریفة انتهینا الى هذه النتیجة وهی انّ للأمر بالمعروف أیضاً اصطلاحین ومعنیین، أحدهما خاص والآخر عام. فالمعنى الخاصّ للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر هو نفس المعنى المصطلح والمستخدم فی الرسائل العملیّة، وقد ذُكرت له هناك شروط معیّنة، ومن جملة شروط العمل بواجب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر هو أن لا یكون فیه خوف الضرر.
لكنّه یوجد أیضاً معنى أوسع للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر بحیث یشمل أحكاماً وعناوین اخرى، وحتّى انّه فی بعض الموارد یشمل الجهاد أیضاً.
وقد ذكرنا بعض الأمثلة التی تعكس الاستعمال الواسع للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر.
ونحاول ـ بعون اللّه ـ فی هذا الفصل أن نبوّب هذه المواضیع وأن نذكر الأحكام المتعلّقة بكل قسم بالمقدار المیسور لنا.
انّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر بمعناه العام یعنی بذل الانسان أیّ جهد بهدف التأثیر على انسان آخر بحیث یحمله على القیام بالعمل الواجب أو یكفّه عن العمل المحرّم. وقد یتحقّق بذل هذا الجهد بطرق مختلفة مثل تعلیم حكم العمل المقصود أو موضوعه، بمعنى ان یتمّ تعلیمه بانّ الأمر الكذائی واجب فی الاسلام أو تعلیمه كیفیّة القیام بذلك الواجب. ولعلّ «التعلیم» هو أهمّ مصداق للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر بمعناه العامّ. ومن جهة اخرى فانّ مثل نهضة سیّدالشهداء(علیه السلام) التی انتهت باستشهاده تعتبر أیضاً من مصادیق الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر بمعناه العام.
والحاصل انّه من ناحیة المصادیق یمكن الأخذ بعین الاعتبار ثلاث فئات من المصادیق للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر.
انّ أوّل مصداق للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر هو من قبیل التعلیم. فقد نواجه انسانا لم یكن باستطاعته فی السابق ان یتعلّم أحكام الاسلام لأسباب مختلفة، مثل كونه قد وصل الى سنّ البلوغ والتكلیف حدیثاً، أو انّ ظروفه والبیئة التی كان یعیش فیها غیر مؤهّلة لذلك، كما لو كان یعیش فی منطقة بعیدة عن مركز الاسلام أو كانت تحت سلطة الكفّار. ویُصطلح على هذا الفرد بانّه جاهل قاصر بالنسبة الى أحكام الاسلام، ای انّه لم یرتكب تقصیراً فی مجال عدم علمه بالحكم أو كیفیّة تنفیذه. فهو لم تتوفّر له ظروف تعلّم أحكام الاسلام ولم یتهاون فی هذا المضمار. انّ تعلیم
احكام الاسلام بالنسبة لأمثال هذا الفرد أمر واجب.
لكنّ تعلیم مثل هؤلاء على مَن هو واجب؟ وكم هی ألوان هذا التعلیم؟ وهل یتعیّن ان یكون هذا التعلیم فردیّاً أم اجتماعیّاً؟ بصورة رسمیّة أم غیر رسمیّة؟...
هذه وغیرها أسئلة حسّاسة ولكنّ الجواب علیها یستدعی اتّساع البحث وهو لا یتناسب مع هذا الكتاب.
وعلى الاجمال فانّ هذا الموضوع یُعتبر من المسلّمات وهو انّ تعلیم الجاهل القاصر واجب. ولابدّ ان یتمّ هذا التعلیم بحنان ولِین، لانّ المتعلّم لم یكن مقصّراً فی جهله. ویتعیّن البحث عن أفضل الأسالیب التعلیمیّة واستخدامها بما یتناسب مع عمر المتعلّم وظروف حیاته ودرجة استعداده وفهمه حتّى یتعلّم بصورة أحسن وأسرع. فمثلاً بالنسبة للشاب الذی وصل توّاً الى سنّ البلوغ لا یصحّ استخدام نفس الاسلوب التعلیمیّ الذی یستخدم عادةً لكبار السنّ. وهكذا فان اسلوب التعلیم یختلف بحسب درجات استعداد الأفراد ومستواهم العلمیّ.
هذا هو قسم من الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر.
ولا ینبغی لأحد أن یُشكل علینا بأنّنا لم نسمع من قبل بمثل هذا الأمر بالمعروف، لانّ المفروض أنّنا بصدد دراسة مصادیق الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر بمعناه العامّ، وهو شامل لتعلیم الجاهل أیضاً.
القسم الآخر هو أن یكون الجاهل مقصّراً، بمعنى أنّه كان یتمتّع بالقدرة على التعلّم ولكنّه تكاسل وأهمل فی هذا المجال. وفی هذه الصورة اذا طالب الجاهل المقصّر بالتعلیم فانّه یجب تعلیمه. أمّا اذا لم یطلب ذلك ونحن نعلم انّ هذا الجاهل المقصّر لا یعلم واجبه ولا یعلم انّه قد قصّر فی التعلّم فهنا یجب تعلیمه ویجب أیضاً اللجوء الى اسلوب فی تعلیمه بحیث ینجذب الى هذا التعلیم.
فـ «الجاهل القاصر» یتمتّع ـ بذاته ـ بدافع للتعلّم إلاّ ان ظروف التعلّم لم تتیسّر له
ولهذا لم یستطع ان یتعلّم. أمّا بالنسبة الى «الجاهل المقصّر» فانّ ظروف التعلّم میسورة له فكان باستطاعته ان یتعلّم ولكنّه تهاون وتكاسل. ولهذا لابدّ من ایجاد الدافع فی نفسه لكی یستمع ویهتمّ حتّى یتعلّم. وهذا یعنی انّه لابدّ من استخدام اسلوب تعلیمیّ أشدّ تعقیداً فی هذا المجال حتّى یوجد الاستعداد فی الجاهل المقصّر لیطلب التعلیم بنفسه. وفی غیر هذه الصورة اذا قیل له ـ لإقامة الحجّة علیه فقط ـ: تعال لنعلّمك المسائل، وهو یجیب بانّنی لا احبّ أن أتعلّمها، فانّ التكلیف لا یسقط عنّا فی هذه الحالة.
اذن اسلوب العمل فی مجال الأمر بالمعروف بالنسبة للجاهل المقصّر یكون أكثر تعقیداً. وحسب اختلاف الظروف فانّ التكلیف قد یقع على عاتق فرد معیّن أو قد یوضع على عاتق مؤسّسة مثل مؤسّسة التربیة والتعلیم.
القسم الثالث من الأمر بالمعروف الذی هو من قبیل التعلیم یأتی فی حالة الشخص الذی یتصوّر انّه قد تعلّم الحكم وانّه یعرف كیفیّة تنفیذه.
ولكنّه فی الحقیقة مشتبه فی ذلك. مثلاً فی الشؤون الفردیّة هناك أشخاص تكون قراءتهم خاطئة فی الصلاة ولكنّهم یتصوّرون انّهم یقرأون بشكل صحیح. أو هناك مؤمن یتخیّل انه قد نهض بواجبه الاجتماعیّ بصورة صحیحة، لكنّه مخطئ فی هذا التخیّل. مثلاً فی عصر الطاغوت (زمان شاه ایران السابق) حیث كانت الظروف الثقافیّة والدینیّة لمجتمعنا تختلف كثیراً عمّا هی علیه الیوم، ولعلّها تكون متشابهة فی بعض الموارد، فانّ بعض الناس كان یقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر بصورة عنیفة، وفی بعض الأحیان كان یتمّ بصورة مهینة للآخرین فیقول له: لماذا تفعل هذا الفعل القبیح؟ ویتخیّل هذا الانسان انّه قام بواجبه على أحسن وجه، ولكنّه فی الواقع یرتكب ذنباً ـ من دون التفات منه ـ أثناء ادائه واجب الأمر بالمعروف، وهو عبارة عن توجیه الاهانة لمؤمن حتّى لو كان هذا المؤمن عاصیا.
فهنا یُعدّ هذا الانسان جاهلاً من لون الجهل المركّب، بمعنى انّه لا یعلم ویظنّ انه یعلم. مثل هذا الشخص لابدّ من تعلیمه، إلاّ انّ اسلوب تعلیم أمثال هذا یكون أشدّ تعقیداً من الاسلوبین السابقین. أیّ لابدّ من التحدّث معه بشكل لیّن حتّى یصبح مستعدّاً للتغیر، أی ینبغی ان نعمل شیئاً یجعله یحتمل انّه مخطئ فی كیفیّة القیام بالواجب، لانّه كما ذكرنا یعتقد انّه یؤدّی واجبه بشكل صحیح، ولهذا فمن الصعوبة بمكان ان یسلّم بانّه مخطئ فی عمله. ثمّ بعد ذلك نعلّمه الشیء الصحیح.
فالكثیر منّا قد سمع بقصّة الامام الحسن(علیه السلام) والامام الحسین(علیه السلام) فی طفولتهما، فقد نُقل انّهما فی یوم من الأیّام شاهدا شیخاً یتوضّأ ولكنّه كان مخطئاً فی كیفیّة الوضوء. وعقدا العزم على تعلیمه الطریقة الصحیحة للوضوء. وهما یعرفان جیّداً ان الادب الاسلامیّ یقتضی احترام الطاعنین فی السنّ أكثر من غیرهم، فحاولا تعلیمه مع المحافظة على كرامته، فذهب الحسنان(علیه السلام) الیه وسلّما علیه وقالا له: نحن أخوان ونرید أن نتوّضأ أمامك فانظر أیّنا یتوضّأ أفضل من الآخر. لم یقولا له: انّك تتوضّأ بصورة خاطئة، ولماذا لم تتعلّم كیفیّة الوضوء؟ وانّما احترما كِبَر سنّه وسلّما علیه ثمّ عرضا علیه أن یتوضّآ أمامه لیحكم بینهما أیّهما أفضل وضوءاً. فتأمّل الشیخ فی كیفیّة وضوئیهما متعجّباً وعرف أنّهما یحاولان بهذا الاسلوب ان یعلّماه الطریقة الصحیحیة للوضوء. وراح الشیخُ یغدّی الحسنین بأبویه قائلاً لهما: إنّكما تتوضّآن بشكل جیّد وأنا المخطئ فی وضوئی.
انّ الموارد الثلاثة، وهی الجاهل القاصر والجاهل المقصّر والجاهل المركّب، تحتاج الى تعلیم، ولابدّ من تعلیم هؤلاء، ولكن یجب ان یتمّ ذلك التعلیم بأسالیب تربویة تتناسب مع عمر الأفراد واستعدادهم ومكانتهم الاجتماعیّة حتّى ینجح الانسان فی قیامه بالأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. ولا یكفی ان یقول الانسان شیئاً كیفما اتّفق من باب «اقامة الحجّة» على الغیر.
ففی مجتمعنا الاسلامیّ لابدّ ان یتصدّى أفراد أو مؤسسات لعملیّة التعلیم بأسالیب محبّبة ومؤثّرة ومناسبة من جمیع الجهات. وتختلف الشروط من مورد الى آخر. مَن الذی یتصدّى للتعلیم؟ مَن هم الذین یتلقّون التعلیم؟ من الذی یصبح مدیراً للمؤسّسة التعلیمیّة؟ كیف یدیر المعلّم الصفّ؟
لابدّ من البحث عن أفضل الأسالیب حتّى یتعلّم جیّداً من یحبّ التعلّم. فالهدف هو تعلیم الجاهل، ولیس الهدف هو إلقاء كلمات كیفما كانت لتتمّ الحجّة على السامعین.
هذه أقسام ثلاثة للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر وهی تدخل جمیعاً تحت عنوان «تعلیم الجاهل».
ومن الجدیر بالذكر أنّنا فی هذه المجالات الثلاثة: الجاهل القاصر والجاهل المقصّر والجاهل المركّب، لسنا بحاجة الى استخدام العنف، وانّما لابد من تعلیم الجاهل فی كلّ هذه الموارد، ولابدّ أن نبذل غایة وسعنا لكی یتعلّم بصورة أحسن.
و هناك قسم آخر من الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر یعتبر مصداقاً للموعظة والنصیحة. ولهذا القسم عدّة صور ایضاً تختلف مصادیقها. مثلاً اذا عرفنا انّ شخصاً یرتكب الذنب عالماً عامداً على الرغم من انّه یعرف الحكم ویعرف انّ هذا الفعل معصیة. ولهذا الفرض نفسه عدّة حالات، فتارة یرتكب هذا الشخص الذنب وحده وفی حالة الخلوة ولكنّنا صدفةً اطّلعنا علیه وهو لا یحبّ اطلاقاً ان یطّلع علیه احد، وحتّى اذا علم انّنا قد عرفنا بما جرى فان الخجل یستولی علیه، ففی هذه الحالة یجب علینا ان نأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر، إلا ان هذا الأمر والنهی یجب ان یتمّا بشكل بحیث لایصاب بالخجل، لانّ فعل مایخجل الآخرین یكون مصداقاً
لایذاء المؤمن، وایذاؤه حرام. لابدّ من التحدّث معه بصورة لایلتفت فیها الى انّنا عالمون بالقضیّة. فمثلاً نقدّم له الموعظة بذكر الامور العامّة. ولا یجوز اطلاقاً افشاء سرّه للآخرین، بمعنى اخبار الآخرین بمعصیته، لانّ هذا الافشاء هو بذاته من الذنوب الكبیرة. فقد یرتكب شخص ذنباً بسیطاً فی الخفاء، ثم نتحدّث به نحن للآخرین تحت عنوان النهی عن المنكر! فهو أوّلاً یُصاب بالخجل وهذا ذنب ارتكبناه. ثانیاً اذا عرف الآخرون بذنبه البسیط عن طریقنا فنحن قد ارتكبنا بهذا احد الذنوب الكبیرة. انّه ارتكب ذنباً من الذنوب الصغیرة، ونحن ارتكبنا ذنباً من الذنوب الكبیرة أثناء محاولتنا للقیام بالتكلیف!
وبناءً على هذا اذا ارتكب شخص ذنباً فی الخفاء، حتّى لو كان هذا الذنب من الكبائر فانّه لا یجوز لنا افشاء سرّه ویحرم التحدّث به للآخرین حتّى لأبویه، لانّه سوف یصاب بالخجل وتُهدر كرامته، وهو أمر محرّم.
نعم هناك مورد واحد مستثنى من هذا الحكم وهو أن ینحصر طریق اصلاح هذا الفرد العاصی باخبار الآخرین بمعصیته، بمعنى انّه غیر مستعدّ اطلاقاً للكفّ عن معصیته، والطریق الوحید الباقی للتأثیر علیه هو أن نخبر شخصاً آخر یستطیع اصلاحه بهدوء، ففی هذه الحالة فقط یجوز التحدّث بذلك الى هذا الشخص. لكنّه مهما أمكن لابدّ ان نحاول نحن اصلاحه والقیام بنهیه عن المنكر الذی ارتكبه بصورة لا یلتفت فیها الى انّنا مطلعون على ذنبه حتّى لا تُهدر كرامة المؤمن. فاللّه سبحانه وتعالى ستّار العیوب ولا یرضى ان تهدر كرامة المؤمن بواسطة افشاء سرّه للآخرین.
وكثیر من الناس غافل عن هذا الموضوع، ولهذا یتصوّر انّ كل من یرتكب معصیة ولاسیّما اذا كانت من الكبائر فلابدّ من التشهیر به واخبار الجهات المسؤولة عنه أو لابدّ من تعزیره أو اقامة الحدّ علیه اذا كان لذلك الذنب حدّ شرعیّ معیّن.
بینما الواقع انّه حتّى الذنب الموجب للحدّ لا یجوز افشاؤه بسهولة، إلاّ اذا اجتمع اربعة أشخاص قد شاهدوا المعصیة بأعینهم، عندئذ یجوز لهؤلاء الأربعة ان یتحدثوا بهذا الذنب الى الجهات المسؤولة. أمّا اذا جاء الى المحكمة ثلاثة مؤمنین وشهدوا على ارتكاب هذا الفرد عملا موجباً للحدّ ولم یحضر للشهادة رابعهم فانّ على القاضی ان یجری الحدّ على هؤلاء الثلاثة. فالاسلام حریص الى هذا الحدّ على عدم افشاء اسرار الناس للمحافظة على كرامتهم.
نعم اذا وصلت الفضیحة الى هذا المستوى بحیث شاهد فیها المعصیة اربعة من المؤمنین العدول بحیث لم یكن فی ذلك شكّ ولا شبهة فانه عندئذ لابدّ من تنفیذ الحدّ الالهیّ ولا ینبغی تعطیل الحدود الالهیّة.
القسم الآخر من الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر یجری فی حالة ما اذا كان الشخص العاصی غیر مبال بالأمر. صحیح انّه قد ارتكب المعصیة فی الخلوة ولكنّه اذا عرف انّ الآخرین قد علموا بما فعل فانّه لا یشعر بالخجل. فی مثل هذا المورد لا یجب علینا حفظ سرّ هذا الانسان كما كان یجب علینا بالنسبة لمن یستحی من ذنبه. ولكنّه فی نفس الوقت لابدّ ان ننهاه عن المنكر بشكل لا یطّلع فیه الآخرون ـ من دون مبرّر ـ على معصیته. فننصحه بشكل سریّ ونمتنع عن ذلك امام الناس حتّى لا یفشى سرّه. فهو وان كان غیر مبال بذلك ولكنّنا نحن لا ینبغی لنا أن نساهم فی اشاعة الفحشاء.
وهذا یختلف عن المورد السابق الذی لا یحب فیه العاصی ان یطّلع الآخرون على ذنبه وهو غیر متجاهر بالفسق وقد قام بمعصیته فی الخلوة، ولهذا كان یجب علینا ان نحفظ سرّه، وفی نفس الوقت نبذل جهدنا فی ایقاظه بشكل من الأشكال، بقراءة حدیث شریف أو قصّة نافعة أو ارشاده الى مجلس موعظة بطریقة لا تهدر كرامته.
أمّا اذا كان الشخص متجاهراً بالفسق، بمعنى انّه یرتكب المعصیة عملیّاً بحضور الآخرین ولا یشعر بأیّ حرج أو حیاء فانّ أمره بالمعروف ونهیه عن المنكر یصبح أشدّ من الآخرین. وللتعامل مع هذا الفرد مراحل محدّدة. فهنا لا وجود لموضوع المحافظة على السّر، ولسنا ملزمین بالحدیث معه فی الخلوة بحیث لا یلتفت الى انّنا مطّلعون على معصیته، لانّه یرتكب هذه المعصیة امام الناس، وبهذا یكون قد أهدر كرامته بنفسه، ونحن لا نضیف شیئاً جدیداً فی اهدار كرامته. انّه غیر مبال فی ان یذنب علناً وأمام الناس. فی هذا المجال ایضاً توجد مراحل للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. فالمرحلة الاولى هی ان نقوم بموعظته بالقول اللیّن والادب والاحترام ونطلب منه ان یترك المعصیة أو یؤدّی الواجب، وهذه هی النصیحة، ویمكننا الاستعانة بذكر الآثار الدنیویّة والاخرویّة لهذا العمل حتّى نرغبّه فی ترك الذنب. واذا كان من المیسور لنا ترغیبُه بطرق اخرى غیر الكلام فانّه مطلوب مثل ان ندعوه لتناول وجبة طعام او القیام بسفرة أو ما شابه ذلك. ویرتبط نوع هذا الترغیب بنوع الذنب المرتكب والمعلومات الواردة عن ذلك الشخص المذنب.
واذا لم تنفع فیه المرحلة الاولى فانّ المرحلة الثانیة تكون أشدّ قلیلاً حیث اننا نعبس فی وجهه، وقد لاحظنا التعبیر الوارد فی الروایة الشریفة القائلة: «لم یتمعّر وجهه غیظاً لی قطّ»(1) فهو لمثل هذه المرحلة، وكذا قوله(علیه السلام): «صكّوا بها جباههم»(2)
لابدّ من مواجهته بالقول الخشن واللهجة الآمرة، وهذا هو مصداق القدر المتیقّن من الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، فان لم ینفع معه هذا أیضاً أمكننا اللجوء الى
1. اصول الكافی، ج 5، ص 58، الروایة 8.
2. تهذیب الاصول، ج 6، ص 181، الباب 22، الروایة 21.
تهدیده بنقل القضیّة الى المسؤولین ان لم یكفّ عن عمله لیتصرّفوا معه كما ینصّ القانون. وأحیاناً یحقّ له ان یعزّره أو یحبسه، وهی امور یعیّنها القانون. واذا لم ینفع معه هذا التهدید فانّه عندئذ یمكننا نقل الموضوع الى الجهات المسؤولة.
لابد من رعایة هذا التدریج فی مراحل الأمر بالمعروف، ولا ینبغی لنا ان نواجه شخصاً بالشدّة أو بعدم الاحترام من دون مبرّر. أمّا اذا وصل الأمر الى حالة لا یؤثّر فیها الكلام اللطیف فانه یتعیّن استخدام الشدّة والحدّة.
وینبغی ان لا یغیب عن بالنا انّ الافراط والتفریط فی الأمر غیر مستحسن. فكثیر من مشاكلنا ناشئ من الافراط والتفریط. احیاناً نلاحظ انّ البعض یسلك طریق الافراط، والبعض الآخر یسلك طریق التفریط. فی كثیر من الحالات تجری احداث لیست هی إلا ردّ فعل لأعمال اخرى. ففی بعض الأحیان یؤدّی التباطؤ الى ان یعمل الآخرون بسرعة. كما ان التصرّفات غیر اللائقة من بعض الناس تؤدی الى انكار أصل عمل معروف. لكنّ الاسلام قد جعل كلّ شیء فی مجاله المحدّد، فمهما أمكن لابدّ من استخدام الاسلوب اللیّن، فان لم یؤثّر فانّه لا ینبغی التضحیة بمصالح المجتمع من أجل ان الكلام المعقول لا یؤثّر فی شخص عاص، بل لابد من المحافظة على مصالح المجتمع. لا ینبغی للمجتمع الاسلامیّ ان یعیش بشكل یسقط فیه قبح المعصیة، وانّما لابدّ فیه من المحافظة على الحرمات. ویجب ان یكون الجوّ فی المجتمع الاسلامیّ بحیث اذا ارتكب شخص ذنباً فانّه یخجل من ذلك. وأمّا اذا لم یتمّ العمل بهذه القیم فعندئذ تظهر مشاكل اخرى تهدّد المجتمع الاسلامیّ.
وعلى أیّة حال فهذه كلها مصادیق للموعظة ماعدا المرحلة الأخیرة التی تتّسم بالأمر فهی خارجة عن مجال الموعظة.
الموعظة هی ان نقوم بترغیب شخص بواسطة الكلام اللطیف حیث نذكر له فوائد العمل الحسن أو الأضرار المترتّبة على تركه. وكذا الأمر فی بیان الأضرار المترتبة
على فعل العمل القبیح. انّها موعظة بان یقوم الناصح بذكر النتائج الحسنة والسیئة للفعل حتّى یوجد الدافع فی الآخرین لیقوموا بالأعمال الحسنة.
فكلّ مسلم مكلّفٌ بان یأمر الفرد العاصی بالمعروف بمعنى ان یقول له: «انّنی آمرك بالقیام بهذا الفعل بعنوان كونی انسانا مسلماً أقوم بواجبی الدینیّ فی المجال الاجتماعی»، واذا لم أقم أنا بهذا الأمر فسوف یقوم به مسلم آخر. ولا یعتبر هذا المجال من موارد الموعظة والنصیحة بل لابدّ فیه من الأمر والالزام. ویُعدّ هذا مصداقاً یقینیّاً للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر الذی یشترط فیه الكلام باستعلاء، أی ان یقول له من موضع عال: لابدّ لك من القیام بهذا الفعل.
فاذا استمرّ الشخص العاصی فی القیام بمعصیة بعد أداء هذه المراحل من الأمر بالمعروف فانّ هناك مراتبَ وشروطاً اخرى له تُذكر فی محلّها.
تارةً یكون ارتكاب المعصیة ـ التی هی عبارة عن مخالفة للشریعة المقدسة ومخالفة لمصالح المجتمع الاسلامیّ ـ بصورة عمل بسیط وبدافع فردیّ وبجرأة وعدم احترام من قِبل المذنب. ولكنّه فی بعض الأحیان لا تكون هذه المعصیة عملاً فردیّاً ولا أمراً بسیطاً، وانّما هو عمل معقّد ومخطّط وهناك جهات قد خطّطت له بدقّة. فلیس الأمر هو أنّ شخصاً منفلت الزمام قدارتكب معصیة امام الناس، وانّما هناك خطّة معدّة وراء الستار، وقد جعلها اشخاص لكی یوحوا للآخرین بانّ الاسلام والنظام الاسلامیّ مهزوم وقد فقد قدرته على السیطرة. فمثلاً یحثّون الناس على ان یُكثروا من الأعمال القبیحة حتى تصبح عادّیة فی الجوّ الاجتماعی.
انّها خطّة معدّة من قبلُ ولیست فسقاً علنیّاً فقط، فقد اعدّوا خططهم من قبل لكی یلحقوا ألواناً من الضرر بالمجتمع الاسلامیّ.
ومن الطبیعی أن یكون هؤلاء ـ الذین یقومون بمثل هذه الأعمال ـ غیر راغبین فی الاسلام أو انّهم منافقون لا یتمتّعون بالایمان فی أعماق قلوبهم أو انّ الاموال قد اغدقت علیهم فأصبحوا مرتزقة للأجانب، وعلى كلّ حال فهم یریدون القضاء على حاكمیّة الاسلام فی المجتمع.
وبهذه الصورة تتّجه ألوان من الضرر وبأسالیب متنوّعة للمجتمع الاسلامی، ولابدّ لنا من مقاومتها والوقوف فی وجهها.
وقد یتمّ إلحاق هذه الأضرار فی اطار عمل ثقافیّ أو اقتصادیّ أو فنّی أو أخلاقی أو حتّى عسكری. وفی هذه الحالة یخرج الأمر عن كونه واجباً فردیّاً، ویخرج ایضاً عن اطار الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر البسیط، وتستوجب هذه الحالة ألوانا من النضال ضدّ هذا الانحراف. ولا تعتبر هذه الحالة من الموارد المعروفة والمشهورة للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، ولا نجد ذكراً لأحكامها ومسائلها فی الرسائل العملیّة. انّ هذا اللون من الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر هو نضال ضدّ هجوم واسع النطاق، ولا یمكن ان ینهض به شخص بمفرده ولا ینفع فیه الاسلوب البسیط الذی یستخدم عادةً مع الشخص العاصی حیث یقال له: «لاتفعل».
انّ هذا الهجوم عمل شیطانیّ معقّد ومخطّط مدروس، ولابدّ فی صدّه من اللجوء الى التخطیط والتفكیر والتنظیم بحیث یتمّ إعداد مخطّط یتناسب مع حجم ذلك الهجوم ویحول دون تحقّق تلك الخیانة. وقد یُنفّذ هذا الهجوم فی إطار خطوة اقتصادیّة، وقد طرق سمعَكم قصّة «التنباك» وفتوى المیرزا الشیرازی(رحمه الله) فی تحریمه، وهناك أمثلة عدیدة فی هذا المضمار، ویتمیّز بعضها بتعقید خاصّ بحیث یعجز غیر اصحاب الفنّ عن كشف عمق المؤامرة. مثلاً من جملة المؤامرات التی یحاول أعداء الاسلام فی هذا العصر أن یُلحقوا بواسطتها الضررَ الاقتصادیّ بالمسلمین هی مؤامرة خفض قیمة البترول. ولیس هذا أمراً ساذجاً حتّى ندرك ـ أنا
وأنت ـ حجم الخیانة التی تُرتكب فی هذا المجال وكیفیّة التصدّی لها. انّ هذا منكر اجتماعیّ اقتصادیّ مخطّط ومدروس من قِبل جهات عالمیّة ومنظمات دولیّة. وحتّى انّ أیّ دولة بمفردها لا تستطیع القیام بهذا المنكر، وانّما لابدّ ان یتعاون الشیاطین المنبثّون فی الدول المختلفة لیتمكّنوا من إلحاق مثل هذا الضرر بالمسلمین.
فلكی تنخفض قیمة البترول العائد للمسلمین من أكثر من ثلاثین دولاراً للبرمیل الواحد الى أقل من ثمانیة دولارات قام الشیاطین من الدول المختلفة بأعمال لیس هنا مجال تفصیلها! انّ هذا المنكر «ضرر» یلحق بجمیع الناس فی هذا البلد المسلم بل بجمیع المسلمین فی العالم، ولابدّ من التصدیّ له لاستعادة الحقوق المضیّعة للمسلمین، لانّ استمرار هذا المنكر یثبّت سلطة الكفّار على المسلمین وعلى أسواقهم، واللّه سبحانه وتعالى لا یسمح بتحكّم الكفّار فی المسلمین ولو فی المجال الاقتصادیّ بحیث یفرضون علیهم أهدافهم المنحرفة.
وفی مجال مثل هذه المنكرات لابدّ أن یتّخذ المسلمون قرارهم بشكل جماعیّ، وینبغی ان لا یكون قراراً ساذجاً بل لابدّ ان یكون مدروساً ومخطّطاً بشكل علمیّ، فیتأمّلون فی السبل المیسورة لمواجهة مؤامرة الأعداء هذه. وللظفر بطریق حلّ مناسب لابدّ ان یتوفّر المتخصصّون من الدرجة الاولى ویفكّروا بعمق حتّى یُعدّوا خطّة مؤثّرة فی هذا المضمار. وعندما یظفرون بطریقة حلّ مناسبة لمواجهة هذا المنكر المعقّد لابدّ ان یجتمع المسلمون على تنفیذ هذه الخطّة والعمل بمضمونها. فقد یكون الحلّ احیانا بمقاطعة اقتصادیّة لسلعة معیّنة، فمثلاً یؤكّدون على عدم شراء البضاعة الامریكیّة. وحینئذ یجب على جمیع المسلمین الاذعان لهذا الأمر. ویصبح شراء البضاعة الأمریكیّة محرّماً، حتّى لو اضطُررنا لشراء مثل تلك البضاعة من دولة اخرى بضعف قیمتها، ولكنّنا نتحمّل ذلك من أجل التصدّی لمؤامرات
الأعداء وخیانتهم ممّا یلحق الضرر بجمیع المسلمین. ویكون العمل بهذه المقاطعة واجباً على جمیع المسلمین بعنوان النهی عن المنكر. هكذا یتّسع مجال النهی عن المنكر فی المجتمع الاسلامی.
وسعة مجال النهی عن المنكر فی الشؤون العسكریّة هی أجلى وأوضح، لانّ العدوّ یتآمر لیتسلّل الى داخل الحدود أو یرسل عملاءه الى الداخل لیقوموا بالاغتیالات أو أنّه یحاول زرع عملائه فی مجالات حسّاسة فی الجیش ومراكز الأمن. وهناك عشرات من الامور الاجتماعیّة المعقّدة التی یتعیّن على المتخصّصین دراستها بعمق ورویّة.
اذن لابدّ من المواجهة للمعصیة فی المجتمع، والطریق الوحید لمواجهتها لیس هو بان أتّخذ القرار بمفردی، وانّما یتعیّن على المتخصّصین ـ بالدرجة الاُولى ـ ان یتشاوروا ویعدّوا مخطّطاً علمیّاً، ثمّ تأمر الحكومة الاسلامیّة الناس بتنفیذ هذه الخطّة.
فیصبح من الواجب على جمیع الناس عندئذ العمل بهذا المخطّط. ویعتبر وجوب العمل بهذا المخطّط ناشئاً من جهتین: الاولى من جهة انه نهی عن المنكر، والثانیة من جهة انّه طاعة للحكومة الاسلامیّة التی هی عبارة عن الطاعة لولیّ أمر المسلمین.
الفرض الآخر الذی یمكن تصوّره هو ان تجری المؤامرة الاقتصادیّة فی بلد لا یخضع لحكم ولیّ امر المسلمین أو الحكومة الاسلامیّة، أو انّ الحكومة الاسلامیّة موجودة فی ذلك البلد لكنها ـ لسبب من الأسباب ـ لا تستطیع ان تفعل شیئاً. فی هذا الفرض الذی تكون فیه الحكومة الاسلامیّة موجودة لكنّها لا تستطیع ان تقف فی وجه المؤامرة الاقتصادیّة للعدوّ یصبح التكلیف أصعب وأشدّ تعقیداً. فنحن نلاحظ فی هذا البلد الاسلامیّ مجموعة من عبید المال والثروة یسیطرون على
المراكز الاقتصادیة والتجاریة وغیرها ویحاولون تمریر مؤامراتهم من خلال الإعلام لكی یجعلوا الحكومة أمام الأمر الواقع. وحتّى انّهم قدتسلّلوا الى المناصب العلیا فی الدولة فهناك فی مراكز القرار من لا یحترق قلبه للاسلام وانّما هو مهتمّ فقط بمصالحه الشخصیّة.
فاذا تحقّق مثل هذا الوضع ولو حظ وجود تآمر على اقتصاد أو مصالح الدولة الاسلامیة أو مصالح منطقة معیّنة، فان كان الناس قادرین على التخطیط لإحباط مؤامرة العدو فانّه یجب علیهم فعل ذلك حیث یُتّخذ القرار للتصدّی لهذه المؤامرة وإفشال خطّة العدوّ، لانّ المفروض هو انّ الحكومة الاسلامیّة ـ لسبب مّا ـ لا تستطیع القیام بإفشال هذه المؤامرة، إمّا لانها لا علم لها بها وامّا انّها تعلم ولكنها غیر قادرة على عمل شیء.
وهناك صورة اخرى محتملة وهی ان تكون الحكومة الاسلامیّة عالمة بتآمر الأعداء ولها القدرة على مواجهته لكنّها لاتفعل شیئاً. ففی هذه الحالة یجب على الناس ان یتصدّوا لرفع هذا الخطر، حیث یهیّئون خطّة ثم ینفّذونها. وقد تسبّب هذه الخطوة ضرراً اقتصادیّاً للمجتمع بشكل موَقّت ولكنّه یمكن ان یجبر هذا الضرر فیما بعد.
ونؤكد على دراسة مثل هذه الموارد والتعمّق فی أحكامها وان لا نكتفی بالشؤون الفردیّة السهلة.
إذنْ كلّما اتّجه خطر من قِبل الاعداء فی الخارج او الداخل الى ایّ بُعد من ابعاد الحیاة الاجتماعیّة الاسلامیّة فانّه یجب على المسلمین أن یستنفروا علماءهم ومتخصصیهم وان ینتفعوا بعلمهم وتجاربهم وأن یضعوا خطّة لمواجهة الخطر وإحباط خطط الأعداء.
إنّ الهجوم الثقافی هو من أهمّ الأخطار إن لم یكن أهمَّها. والهجوم الثقافیّ ناشئ ـ الى حدّمّا ـ من الضعف الثقافی الموجود فینا وفی مجتمعنا. ونحن نعبّر بالهجوم الثقافی لكی نكون قد تحدّثنا بلغة الآخرین. فماذا یعنی الهجوم الثقافی؟ یعنی الهجوم على الدین. فقد أكّد قائد الثورة الاسلامیّة على انّ الاعداء قد وجّهوا سهامهم الى ایمان الناس. ولیس هذا مزاحاً وانّما هو تحلیل من متخصّص یفهم هذه الامور أكثر من غیره.
فی مثل هذه الظروف اذ قلت أنا لا علاقة لی بهذه الامور وانّی مشغول بعبادتی ودروسی! وقال الآخر انه لا علاقة له بها! والحكومة تعمل بشكل آخر! والناس مشغولون بأعمالهم! والفئات المختلفة مشغولة بالصراع فیما بینها! ولا احد یهتمّ بتآمر الاعداء! وكلّما صاح ولی امر المسلمین ان اهتمّوا بهذا الهجوم الثقافیّ واهتمّوا بشؤون الجامعات لان جامعاتنا لم تصبح اسلامیّة بعدُ فانه لا یجد اُذنا صاغیة، وصحیح انّ الحكومة اسلامیّة ویقف على رأسها الولی الفقیه إلاّ انّ الذین یتعیّن علیهم تنفیذ الأوامر لا ینفّذونها، فهل یصحّ للمسلمین فی هذه الحالة ان یضعوا یداً على ید وان یبقوا متفرّجین على ما یحدث؟ وهل یجوز لهم ان لا یتكلّموا بشی خوفاً من أن یوصف عملهم بـ «العنف»؟ وهل ینبغی لهم أن یتّخذوا طریق التساهل والتسامح؟
وبعد أن أكّد قائد الثورة الاسلامیّة بانّ هناك غارة ثقافیّة وانّ العدوّ فی حالة نهب لثقافتنا ودیننا وانّه استهدف ایمان شبابنا، فماذا یمكننا ان نضیف الى ذلك؟ هل مع ذلك لا ینبغی ان نشعر بالواجب الملقى على عاتقنا؟
افرضوا انّنا جالسون فی بیوتنا وفجأةً سمعنا منادیا فی الشارع یصرخ بالناس انّ هناك مشكلة خطیرة فی التیّار الكهربائی فاحذروا ان تلمسوا الأزرار الكهربائیّة لانّ الدار سوف تلتهب ناراً. أو أنّ الأمطار قد هطلت بغزارة بحیث اندفعت السیول فی
الشوارع ونحن نائمون فی بیوتنا ثمّ انتبهنا على صراخ محذّر یقول: انّ السیول قد تهدم بیوتكم فاخرجوا منها. ماذا سیكون موقفنا عندئذ؟ قد نستیقظ فی البدایة والنوم یخالط أعیننا فنقول: من الذی أزعجنا بصیاحه وسط اللیل؟ ثمّ نعاود النوم. لكنّه اذا تكرّر هذ النداء واستیقظنا بشكل كامل فوجدنا الماء یجری حولنا فی كلّ مكان عندئذ سوف نأخذ الموضوع بجدّ ونقدّم الشكر لمن نبّهنا للخطر المحدق بنا، ونشعر بالامتنان له لانّه لولا صراخه لانهدمت بیوتنا واختنق أطفالنا، او أن النار التهمت بیوتنا وعوائلنا اذا كان الخطر الداهم الذی حذّرنا منه هو «الحریق». فهل من المعقول أن نعترض علیه لانّه أیقظنا من نومنا العمیق أم نشكره؟
لكنّنا بالنسبة للامور المعنویّة لسنا بهذا الشكل. نحن نفهم الامور المادیّة بشكل جیّد، واذا قام احد بتحذیرنا من خطر حدوث زلازل أو حرائق أو سیول أو قصف جویّ فاننا ندرك ذلك بوضوح، ویكون هذا التحذیر ذا قیمة عندنا، ونشكر من قام بتحذیرنا.
أمّا اذا حذّرنا شخص فی مجال الامور المعنویّة فمع أنّنا نعرف انه صدیق ویحبّ الخیر لنا وهو یصیح بنا لشفقته علینا لكنّنا لا نرحّب بتحذیره، بل قد نقول له: لماذا تستعمل «العنف» معنا! تكلّم بهدوء!
فی حالة حدوث الزلازل أو السیول اذا صرخ بنا شخص یحذّرنا منها فانّنا لا نقول له تكلّم بهدوء لانّ الكلام الهادئ لایوقظ النائم. وكذا الأمر فی مجال الأخطار المعنویّة، فهناك من یحذّر دائماً ویكتب ونحن لا نلتفت ولا نهتّم، ولكنّه اذا صرخ المخلص فانّه یؤثر فی البعض واِلاّ فنحن غیر حسّاسین بالنسبة للأخطار المعنویّة. ولا أقصد بقولی «نحن» المؤمنین الملتزمین فحسب، وانّما الطبیعة البشریّة تأنس عادةً بالامور الحسّیة أكثر. أمّا ما هو أرفع من الحسّیات فانها لاتصدّق به سریعاً. فاذا قیل لنا انّ الاعداء یشنّون غارة على دیننا، فنحن نجیب: این وكیف؟ لم ینهبوا
شیئا! أمّا اذا نُهب مالنا الشخصیّ فنحن نشعر بذلك سریعاً. واذا قیل لنا انّ دیننا قد نُهب، نقول كلاّ، فنحن نصلّی ونصوم ولا صحّة لهذا الادّعاء.
ولكنّنا اذا تعمّقنا قلیلاً فسوف نلاحظ انّ الایمان فی العام الماضی یختلف عن الایمان عندنا فی هذا العام. فی العام الماضی كنّا على یقین باللّه تعالى وبالنبی(صلى الله علیه وآله)، أمّا فی هذا العام فنحن فی شك مریب. فی هذا العام یخطر فی بالنا أحیاناً انّ أقوال علماء الدین قد لا تكون صحیحة! انّ الذین یتحدّثون خلاف أقوال علماء الدین قد درسوا وتخرّجوا من جامعات لندن ولابدّ انهم یفهمون مایتحدّثون به ولعلّهم یفهمون أكثر من علماء الدین!
هكذا یفقد الدین رونقه بصورة تدریجیّة وفجأة ینتبه الانسان فیجد انّ الدین لم یبق منه شیء یذكر.
ان الانسان الیقظ الحسّاس یشمّ الرائحة من بُعد، فاذا جاء العدوّ فانّه یفهم من بعید لأیّ غرض قد جاء. فهو قادر على تقییم حركات العدوّ، ویستطیع ان یحدس الشیء الذی استهدفه العدوّ وما هو مشغول فیه الآن. أمّا الآخرون الغافلون عن مؤامرات العدوّ فمهما قیل لهم بالحقائق فانّهم لا یصدّقون.
وعلى كلّ حال فهذا لون من النهی عن المنكر، حیث توجد أخطار تهدّد المجتمع الاسلامیّ لا من قِبل شخص واحد، وبالتالی فان دفعها لا یتیسّر بواسطة شخص واحد. انّ هذه المنكرات تتمیّز بتخطیط معقّد وتُشكّل خطراً كبیراً على المجتمع، والتصدّی لها ومواجهتها تحتاج الى تخطیط دقیق، فلابدّ أن یعیّن المتخصّصون أفضل الأسالیب لمواجهتها، وأن یحسن الآخرون الظنّ بهم، وان یرحّبوا ـ عن حسن نیّة ـ بصراخ المخلصین وان یقبلوا منهم تحذیرهم.
واذا لم یفعلوا ذلك فسوف یملأ الدخان المتصاعد من الحریق عیونهم وسوف یجدون أبناء هذا المجتمع غداً وقد أصبحوا من دون ایمان، وعندئذ سوف تترتب
على ذلك الآثار الأخلاقیّة السیئة، حیث یبتلون بالمخدّرات ومرض الایدز وینضمّون الى مجموعات الجریمة والتهریب، ویسود الانحطاط الثقافی:
«لَهُمْ عَذابٌ فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ لَعَذابُ الآْخِرَةِ أَشَقُّ»(1)
من جملة ألوان العذاب الدنیویّ هو انهیار الكیان العائلیّ والاختلاف الدائم بین الزوجین وسوء تربیة الأبناء والعادات القبیحة كالإدمان على المخدّرات وآلاف المشاكل التی تستعصی على العلاج.
اذا رحل الایمان فسوف تحدث هذه المشاكل، فان كنتم حریصین على ان لا یواجه المجتمع هذا المصیر فلابدّ ان تحولوا دون اسبابه من البدایة، یجب ان تكونوا حسّاسین بالنسبة للشؤون الثقافیّة، ولا تقولوا ان كل مشكلة یمكن حلّها بواسطة الاقتصاد، لأنّ بعض الامراض تنشأ من الاقتصاد نفسه، فكثیر من المفاسد الاجتماعیّة تُنفّذ بواسطة أصحاب الثروة. انّ من یحرص على جمع الأموال ویكدّس منها مایزید على حاجته ویحبّ المزید هو الذی یقوم بهذه الانحرافات. لیست كلّ المفاسد ناشئة من الفقر، ویخطئ من یظنّ انّ المعضلات الاجتماعیّة سوف ترتفع بحلّ المشاكل الاقتصادیّة. ومن الواضح انّه لابدّ من الاهتمام بالشؤون الاقتصادیّة، فالفقر الاقتصادیّ احیاناً یعین على حدوث هذه الانحرافات، ولكنّه لیس علّة تامّة لها. وطریق معالجتها ایضاً لیس منحصراً فی حلّ المشاكل الاقتصادیّة. وصحیح أنّنا نؤكّد على ضرورة الاهتمام بحلّ المشاكل الاقتصادیّة وهو أمر واجب على المجتمع الاسلامی والحكومة الاسلامیّة، ولكنّه لیس الواجب الوحید علیها، وانّما الواجب الأوّل هو المحافظة على الدین والأخلاق والمعنویّات والقیم الرفیعة. ثمّ تأتی بعد ذلك أهمیّة المحافظة على القیم الأخرى. ومن البدیهیّ
1. سورة الرعد، الآیة 34.
انّنی لا اقصد التقدّم والتأخّر فی الزمان وانما اقصد التقدّم والتأخّر من حیث الرتبة.
منذ فترة من الزمن وهم یلقّنون أبناء مجتمعنا ـ لأغراض معیّنة ـ بالبیانات والمقالات ووسائل الإعلام الاخرى بانّ كل شیء سوف یصبح ممتازاً اذا تمّ حلّ المشاكل الاقتصادیّة!
كلاّ لیست الحقیقة بهذه الصورة. انّ من یتحدّث بهذه الطریقة فهو یخدع نفسه، فلاینبغی لنا ان ننخدع بقوله. ان الرفاهیة الاقتصادیّة لیست حلاّلة لكلّ المشاكل. فمن المعروف أنّ أكثر الدول رفاهیةً فی العالم هی امریكا، فعائدها السنویّ یفوق العائد السنویّ لسائر دول العالم، ونموّها الاقتصادیّ أكثر من نموّ الآخرین. أو على أقلّ تقدیر تعتبر امریكا احدى الدول المتقدّمة اقتصادیّاً. فهل هذا البلد خال من المشاكل الأخلاقیّة والاجتماعیّة؟ حسب ما تنقله نفس وسائل الإعلام الامریكیّة فانه فی كل عدّة ثوان تحدث جریمة فی امریكا. وأطفال المدارس فیها یُصطحبون بالمحافظین الى مدارسهم، وفی المدارس الثانویة الامریكیّة یوجد أفراد من الشرطة المسلحین. ومع هذا كلّه تحدث الجرائم باستمرار فی أعماق المدارس! فهل یمكن حلّ هذه المشاكل الأخلاقیّة الاجتماعیّة بواسطة الأموال؟ هل هؤلاء فقراء؟
ولست انكر انّ كثیراً من المشاكل الاجتماعیّة ناشئ من الفقر، أو ان الفقر ـ على أقلّ تقدیر ـ یزید فی حدّتها، لكنّ هذا لایعنی ان مشكلة الفقر اذا تمّ حلّها فسوف تحلّ جمیع المشاكل الاخرى بصورة ذاتیّة. كلاّ، ففی كثیر من الأحیان تحدث مشاكل جدیدة وعسیرة نتیجةً لوفرة المال وكثرته.
اذن هذا هو لون من ألوان النهی عن المنكر، فان نهض به أفراد أو نهضت به الحكومة الاسلامیّة، أو حصل تعاون بین الحكومة والناس فی هذا المجال، أو لم
تستطع الحكومة الاسلامیّة فعل شیء أو لم تكن هناك حكومة اسلامیّة لكنّ المسلمین نهضوا بذلك وقاوموا أعداء الاسلام وأفشلوا خططهم وحلّوا المشكلة فقد حصل المطلوب. أمّا اذا لم تحصل مواجهة كافیة فی هذا المضمار فعندئذ یجب على جمیع المسلمین التصدّی لهذه المنكرات.
لكن هل كان جمیع المسلمین على مرّ التاریخ عارفین بواجباتهم؟
وهل من الممكن ان یقصّر المسلمون فی القیام بواجباتهم الاسلامیّة؟ ألا یُلاحظ فی التاریخ وجود نماذج من عدم وفاء المسلمین؟
وهل یُعدّ من قبیل المستحیل ان تقصّر الاغلبیّة الساحقة من المسلمین فی القیام بواجباتها الاسلامیّة؟
ان مصداق هذا الأمر یعرفه الجمیع.
لقد امتدّت الفترة منذ استشهاد امیرالمؤمنین(علیه السلام) وحتى استشهاد الامام الحسین(علیه السلام)عشرین عاماً. فماذا كان یفعل سیّد الشهداء خلال هذه المدّة الطویلة فی المدینة؟ وهل كان الحكّام حینذاك ینكرون وجود اللّه أو یعبدون الأصنام؟ وهل كانوا منكرین ـ فی الظاهر ـ لنبوّة النبی(صلى الله علیه وآله) وأحكام دینه؟
كلاّ لم یكن شیء من هذا، فهؤلاء كانوا یعتبرون أنفسهم خلفاء لرسول اللّه(صلى الله علیه وآله)، وكانوا یؤدّون الصلاة ویؤمّون الناس فی یوم الجمعة، غایة الأمر انّهم كانوا فی بعض الأحیان یصلّون صلاة الجمعة فی یوم الأربعاء! وأحیانا یؤمّون الجماعة وهم سكارى! والقدر المتیقّن انهم كانوا یصلّون. وحتّى فی یوم عاشوراء أقدم عمر بن سعد على اداء الصلاة اولاً ثمّ نادى:
«یا خیل اللّه اركبی وبالجنّة أبشری»(1).
1. بحار الأنوار، ج 44، ص 391، الباب 37، الروایة 2.
والناس الذین كانوا یعیشون فی زمان سیّد الشهداء كانوا جمیعاً یصلّون ویزعمون انّهم مسلمون وانّ حكومتهم اسلامیّة. إلاّ انّ الامام الحسین(علیه السلام) قد ذاق الأمرّینِ خلال عشرین عاماً ولم یستطع ان یصرّح بانّ هذه الحكومة غیر قائمة على الحقّ. ولم یقل ذلك إلاّ لأفراد معدودین هنا وهناك وبصورة خاصّة وسرّیة. وحتّى عندما وصل خبر موت معاویة فان الامام(علیه السلام) قام ـ فی الظاهر ـ بتقدیم التعازی الى حاكم المدینة.
هكذا كان الوضع یومئذ.
وكذا الأمر بالنسبة الى سائر الأئمة الطاهرین(علیه السلام)، فهل كان الامام الصادق(علیه السلام)أو الامام موسى بن جعفر(علیه السلام) أو غیر هما قادراً على ان یصرّح للناس بانّ هذه الحكومات باطلة؟ فلماذا سُجن هؤلاء الكرام؟ ولماذا استشهدوا؟ وهل كان الخلفاء یحكمون باسم الكفر؟ أم كانوا منكرین لوجود اللّه؟ وحتّى لو كانوا ـ فی الواقع ـ منكرین لوجود اللّه فانهم لم یكونوا یظهرون ذلك بل كانوا یحكمون بعنوان انّهم خلفاء لرسول اللّه(صلى الله علیه وآله).
ولعلّكم سمعتم بهذه القصّة وهی انّ هارون الرشید لمّا قرّر ان یودع الامام موسى بن جعفر(علیه السلام) السجن فقد جاء الى مرقد النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) معتذراً قائلاً اعذرنی یا رسول اللّه(صلى الله علیه وآله) لانّی اُدخل ابنك السجن لكی اؤمّن مصلحة المجتمع الاسلامی! لكی یسود الأمن فی المجتمع! لكیلا یحصل اختلاف ونزاع فی الجوّ الاسلامیّ!(1) فلم تكن جمیع تلك الحكومات كافرة ومشركة.
اذن ما العمل فی مثل هذه الظروف؟
تارةً تكون الظروف بشكل یمكن فیه حفظ الدین بواسطة النشاطات الثقافیّة
1. الارشاد، ص 280.
السرّیة وغیر المنظمّة، تمهیداً لیوم یرتفع فیه مستوى وعی الناس وثقافتهم بحیث یستطیعون النهوض بأعمال أهمّ واوسع.
ومثل هذا المنهج قد سار علیه الأئمة(علیهم السلام) منذ الامام السجاد(علیه السلام) ومن جاء بعده لأسباب مختلفة، فهناك مجموعة من الناس قد تمّ تربیتها على أساس الاسلام وقد عرفوا الحق ببركة دماء سیّد الشهداء وأصحابه المیامین فاستوعبوا الثقافة الاسلامیّة وانتشروا فی بقاع العالم الاسلامی، ومن جملة هؤلاء ابناء الأئمة الذین جاءوا الى بلاد خراسان ومازندران ومناطق اخرى بهدف هدایة الناس وتوعیتهم.
وهناك آخرون نهضوا بنفس المهمّة إلاّ ان الاغلب كانوا من بیت النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله).
فی مثل هذه الظروف كان یتحتّم الاقتصار على النشاطات الثقافیّة، لانّه لم یكن من المیسور القیام بأیة نشاطات اخرى، والشیء الوحید الذی كان من الممكن القیام به هو العمل الثقافی، وهناك اطمئنان بانّ أصل الدین باق لا یمسّه سوء.
ولنتذكّر ماقاله الامام الحسین(علیه السلام) فی منى لتلك الصفوة من المسلمین حیث أكّد لهم: «فانّی أخاف أن یندرس هذا الحقّ ویذهب» لیس الكلام عن حكم شرعی أو حكمین، افتحوا عیونكم جیّداً فانّی أخاف ان یضیع أصل الحقّ فلایستطیع الناس حینئذ ان یمیّزوا بین الحقّ والباطل، فلیس هناك أیّ سبیل اخرى للتمییز بین الحقّ والباطل! انّ هذه الظروف تستدعی عملا خاصّاً آخر، فلایمكن القیام بالنشاط الإعلامی ولا یمكن تأیید الحقّ بواسطة المال ولا یمكن ترتیب حرب منظّمة، فجبهة الحقّ لیس لها نصیر، والقوّة فی ید جبهة الباطل والثروة تحت تصرّفها،. وقد شنّوا حرباً إعلامیّة بحیث لا یستطیع احد ان یتنفّس. والمعارضون قد تعرّضوا للصلب أو للاغتیال بحیث لا یجرؤ أحد على النهوض، ولم تبق قوّة ولا قدرة لأحد. فی مثل هذه الظروف لابدّ من توجیه هزّة اخرى للمجتمع.
أیّ شی یستطیع أن یفعله شخص واحد أو مجموعة صغیرة من الناس للمجتمع
الاسلامیّ الكبیر؟ فالإعلام لا تأثیر له لان جمیع وسائله كانت تحت تصرّف الاُمویین، ولم یبق إلا عدد محدود جدّاً یمكنه ان یسمع صرخات الامام الحسین(علیه السلام). كم كان سیّد الشهداء یستطیع ان یوجّه من صرخات؟ وكم كان عدد الأشخاص الذین كان(علیه السلام) یستطیع أن یوصل الیهم صوته؟ هذا اذا اُجیز له أن یتحدّث للناس خلال العشرین عاماً، ولكنّهم قد حرموه حتّى من هذه الفرصة، فلم یبق أمامه(علیه السلام) إلاّ أن یتحدث مع أصحابه بالسّر والخفاء.
ما العمل فی مثل هذه الظروف؟
انّه العمل الذی قام به الامام الحسین(علیه السلام) حیث أوجد هزّة فی المجتمع الاسلامیّ سوف یبقى أثرها حتى قیام الساعة. انّ هذا الزلزال سوف یستمرّ ولن یهدأ. وهی نهضة تستعصی على التحریف وترفض التفسیر الخاطئ.
ماذا یمكنهم ان یقولوا؟
انّ أیّة آیة فی القرآن الكریم یمكنهم ان یحرّفوها وان یفسروها بطریقة خاطئة، أو انّهم یبتدعون لها قراءة جدیدة كما یقولون الیوم.
وانّ أیّ حدیث شریف یمكنهم ان یقولوا انّه مجعول وكاذب أو هو من الاسرائیلیّات، أو غایة الأمر ان هذه قراءتكم لهذا الحدیث! وهناك قراءة اخرى له ایضاً!
ویواجهون المراجع الكرام بقولهم: لا تجعلوا فهمكم مطلقاً، فهناك قراءات اخرى أیضاً!
لكن ماذا یستطیعون ان یفعلوا بنهضة سیّد الشهداء(علیه السلام)؟
ألها تفسیر آخر غیر انّ مجموعة مطهّرة قد ضحّت بأنفسها وأحبّائها من أجل إحیاء الدین؟
لحدّ الآن لم یقدّم أیّ مؤرّخ وأیّ انسان منصف تفسیراً غیر هذا لنهضة كربلاء.
نعم هناك بعض الأشخاص فی هذه الأیّام یزعمون انّ لدیهم قراءةً جدیدة لقصّة كربلاء!
فهم یقولون ان الحسین(علیه السلام) ـ والعیاذ باللّه ـ لم یفعل شیئاً مهمّاً! وما حدث فی كربلاء هو ردّ فعل متوقَّع للعنف الذی قام به جدّه! فیزید وأصحابه ماكانوا مقصّرین، لانّ جدّ الحسین(علیه السلام) قد قتل آباءهم، فهم جاءوا فی كربلاء لیأخذوا الثار فقتلوا أولاد النبی(صلى الله علیه وآله)!
انّه التفسیر الشیطانی الذی یقدّمه اصحاب القراءات الجدیدة فی هذا العصر لنهضة كربلاء.
ولیس لمثل هذا التعبیر سابقة فی التاریخ.
انّ العدوّ والصدیق، المسلم والكافر، المشرك وعابد الأصنام، كل هؤلاء قد وقفوا مندهشین أمام عظمة نهضة كربلاء. وهكذا أصبح الحسین(علیه السلام) مصباح الهدى ومشعلاً مضیئاً لا یخبو إشعاعه أبداً ولا یمكن إلغاء اثره.
هذه الهزّة العنیفة هی التی ایقظت المجتمع الاسلامیّ.
فهذا مصداق آخر للنهی عن المنكر بمعناه العام، حیث قال الامام الحسین(علیه السلام): «ارید أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(1).
فهل حقّق سیّد الشهداء هدفه؟
الجواب: نعم، لقد حقّق الامام(علیه السلام) ما أراد وقد وصل الى النتیجة التی كان یهدف الیها.
ما هی نتیجة هذه النهضة؟
هی أن یستطیع الناس التمییز بین الحقّ والباطل.
1. بحارالأنوار، ج 44، ص 329، الباب 37، الروایة 2.
فالهدایة هی المهمّة الاولى لأنبیاء اللّه وأولیائه. وبعد الهدایة اذا كان الناس مستعدّین لقبول قیادة هؤلاء العظام فانهم عندئذ یشكّلون حكومة أیضاً. وصحیح ان تشكیل الحكومة هو أحد واجباتهم ولكنّه مشروط بمساعدة الناس ونصرتهم كما صرّح بذلك أمیرالمؤمنین فی خطبته المعروفة بالشقشقیّة: «لولا حضور الحاضر وقیام الحجّة بوجود الناصر»(1)
فاذا حضر الناس وأعانوا فانّنی أقوم بواجبی. أمّا اذا لم یحضروا فان واجب تشكیل الحكومة یصبح ساقطاً عنّی، لكنّ واجب الهدایة باق على حاله.
انّ الهدایة واجب الأنبیاء والأولیاء، وفی عصر غیبة ولیّ اللّه الاعظم (عج) یقع عبء الهدایة على عاتق العلماء: «العلماء ورثة الأنبیاء»(2)، وهذا الواجب موجود دائماً، ولا یسقط فی أیّ حال من الأحوال عن عاتق أیّ شخص. واذا انسدّت كل الأبواب فلابدّ أن یقدم الناس على الشهادة من أجل الهدایة حتّى یفهم الجمیع ویمیّزوا. حتّى یتساءل الناس: لماذا استعدّ للشهادة هذا التابع للامام الحسین(علیه السلام)؟ واذا كان عندهم إنصاف فلیحلّلوا ولیدرسوا الموضوع، وسوف یصلون الى هذه النتیجة وهی انّه قد قام بهذا الفعل من أجل القیام بواجبه الدینیّ. وسیظهر انّ جمیع التُهم كانت كاذبة.
اذن من الممكن أیضاً ان یكون للنهی عن المنكر مثل هذا المصداق لكنّه: أوّلاً: موارد ذلك نادرة.
ثانیاً: یحتاج الى وعی كبیر حتّى یعرف الشخص انّ علیه مثل هذا الواجب. انّه یحتاج الى تضحیة ضخمة بحیث یزهد فی كل شیء، وان لا یخترع لأهوائه حیلة شرعیّة، وان لایبحث عن الذرائع لترك الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. ومثل
1. نهج البلاغة، الخطبة 3.
2. بحارالأنوار، ج 1، ص 164، الباب 1، الروایة 2.
هذه الشخصیة نادرة فی التاریخ، ولكنّ اللّه عزّ وجلّ قد أتمّ الحجّة علیّ وعلیك. فان لم یكن هناك أحد فقد كان الحسین بن علیّ(علیه السلام).
السلام علیك یا أبا عبداللّه، فداك نفسی وأولادی وأبی وامّی. فلقد أضأت مصباح الهدایة فی هذا العالم، فمادام هذا العالم موجوداً فانّ ذلك المصباح لن ینطفئ.