ـ المعنى الاصطلاحیّ للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر
ـ درجات الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر
ـ الشعور بالمسؤولیّة بالنسبة للآخرین
ـ لماذا استعمل القرآن تعبیر المنافقین فی مقابل المؤمنین؟
هناك آیات كثیرة فی القرآن الكریم تتحدّث بأشكال مختلفة عن الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، وقد وقع اختیارنا على آیتین كریمتین من سورة التوبة سوف نتبرك بذكرهما ثم نتحدّث عنهما بشكل مختصر یتناسب مع حجم هذا الكتاب.
یقول اللّه تعالى:
«الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْض یَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ یَقْبِضُونَ أَیْدِیَهُمْ نَسُوا اللّهَ فَنَسِیَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِینَ هُمُ الْفاسِقُونَ»(1).
ویقول عزّ وجلّ:
«وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْض یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ یُطِیعُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَیَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَكِیمٌ»(2).
ما هو مفهوم «الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر»؟
ان معنى عبارة «الأمر بالمعروف» واضح جدّاً بالنسبة الینا حسب الظاهر، فهی تعنی الأمر بالأشیاء الحسنة. وكذا الأمر بالنسبة الى عبارة «النهی عن المنكر»، فهی تعنی النهی عن الأشیاء القبیحة.
1. سورة التوبة، الآیة 67.
2. سورة التوبة، الآیة 71.
ومن الواضح انّه خلال مسیرة التحوّل فی الكلمات یحدث أحیاناً توسّع فی معنى الكلمة، وأحیاناً اخرى یحدث تضییق فی معناها. ففی بعض الموارد یؤدّی استعمال الكلمة الى أن یصبح مفهومها أوسع من مقتضاها الأصلیّ. وهذا هو ما حدث بالضبط فی موضوع بحثنا. فالفقهاء عندما یبحثون موضوع الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر یقولون انّ معنى العلوّ أو الاستعلاء مستتر فی مفهوم كلمة الأمر، بمعنى انّ من یأمر امّا ان یكون ارفع من المأمور وامّا ان یضع نفسه فی مثل هذه المنزلة ویأمر من موضع أعلى. فالرجاء لیس «امراً»، بمعنى ان من یقول «أرجو ان تفعل كذا» فان هذا القول لایعتبر امراً. فمقتضى كلمة الأمر هو ان یتمّ بصورة الاستعلاء. ویحتاط بعض الفقهاء فیقول: انّ تكلیف الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر لا یتحقّق إلاّ اذا كان الآمر قد أمر «عن استعلاء».
عندما نتأمّل فی حكمة وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر وموارد استعمال ذلك فی الآیات الكریمة والروایات الشریفة فانّنا نلاحظ لوناً من التوسّع فی مفهوم ذلك.
وسوف نقوم ببیان بعض مراتب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر فی الروایات حتّى یتبیّن التوسّع الحادث فی مفهوم الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر.
1 ـ الشعور القلبی: عندما ندرس مراتب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر فی الروایات الشریفة نلاحظ ان أوّل مرتبة لهذا الواجب ـ ولاسیّما النهی عن المنكر ـ هی الإنكار بالقلب، بمعنى ان الانسان حینما یشاهد حدوث المعصیة والانحراف فی المجتمع فانه یتعین علیه ان یشعر بالاشمئزاز منه فی قلبه وان یتألّم منه. وهذه هی المرتبة الاولى للنهی عن المنكر.
2 ـ إظهار الرفض: حسب الروایات الواردة فانّ على الانسان ـ فی المرتبة اللاحقة ـ ان یظهر رفضه واشمئزازه على ملامح وجهه. فاذا واجه الانسان حدوث العمل القبیح فی المجتمع فانّ علیه ـ بالاضافة الى انكاره الباطنی ـ ان یُظهر رفضه للمعصیة بواسطة العبوس والتقطیب. وقد ورد فی احدى الروایات ان الانسان اذا واجه المعصیة ولم یقطب جبهته اعتراضاً على ذلك فان تلك الجبهة سوف تحرق فی نار جهنّم . فالمرتبة الثانیة التی تأتی بعد الانكار بالقلب هی ان یظهر اثر ذلك الانكار القلبی على الوجه.
3 ـ الإظهار باللسان: المرتبة الثالثة هی ان یحتجّ على حدوث المعصیة بلسان. ولهذه المرتبة بالذات درجات ومراحل: ففی المرحلة الاولى یبدأ بالتذكیر بالمعروف والمنكر باللسان الطیّب اللیّن اذا كانت الظروف مناسبة والأرضیّة معدّة للتأثیر بهذه الطریقة. أمّا اذا لم ینفع التذكیر بالكلمات اللیّنة فان المرحلة اللاحقة هی الحیلولة دون وقوع المنكر بالكلام الشدید واللغة القاسیة.
4 ـ الردّ بواسطة الید: اذا لم یؤثّر التذكیر باللسان فی الفرد العاصی فانّ المرحلة اللاحقة هی التعامل الفیزیائی والردّ بالید. ویجب القیام بهذه المرحلة اذا كانت الظروف مناسبة. واذا كانت هناك حكومة اسلامیة تسیطر على المجتمع الاسلامی فانّ هذه المرحلة ـ وهی الردّ بالید ـ لابدّ ان یقوم بها مسؤول رسمیّ أو شخص اُجیز له القیام بهذه المهمّة من الجهات الرسمیّة المسؤولة.
5 ـ الجهاد: انّ المراحل السابقة الذكر تتعلق جمیعاً بالموارد المتعارفة للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، غیر انّ هناك مرحلةً اخرى للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر مذكورة فی الروایات وهی شاملة للجهاد أیضاً. وبشكل عامّ فإن جمیع انواع الجهاد تعتبر من مصادیق الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. وحتّى الجهاد الابتدائی ـ الذی هو جهاد للتنویر والهدف منه هو رفع الموانع التی تحول دون
هدایة الناس ـ فانّه فی الواقع یعتبر لوناً من ألوان الأمر بالمعروف، لان الجهاد الابتدائی یدفع المجتمع نحو الحقّ ویهدیه الى الصراط السویّ.
وكذا الجهاد الدفاعیّ فهو أیضاً لون من النهی عن المنكر، وذلك لان الجهاد الدفاعی هو من أجل بقاء الحقّ فی المجتمع بحیث لا یسیطر علیه الكفر والانحراف والضلال.
وهناك قسم آخر من الجهاد وهو الجهاد مع أهل البغی أو جهاد البُغاة (و البُغاة هم المثیرون للاضطرابات فی داخل البلد الاسلامیّ ویقتلون الناس عشوائیّاً، وهؤلاء لابدّ من قتالهم). وهذا هو أیضاً من مصادیق النهی عن المنكر، لانّه یقاوم الفساد الناشئ من التصرّفات اللامسؤولة التی یقوم بها المخلّون بالأمن الاجتماعیّ ویحول دون استمراره.
وللجهاد مصادیق اخرى خاصّة قد تقع أحیاناً ولكنّها نادرة الحدوث، مثلاً قد یتعرّض أساس الاسلام للخطر فی جهة من جهات العالم أثناء ظروف معیّنة، وفی هذه الحالة یجب على الحكومة الاسلامیّة وعلى المسلمین أن یقفوا فی وجه هذا الفساد وان یصدّوه.
فی أیّ مورد یحقّ للناس الردّ بالید؟
اذا كانت الحكومة الاسلامیّة غیر موجودة فی عصر معیّن وفی بلد خاص أو كانت الحكومة الاسلامیة ضعیفة وغیر قادرة على التصدّی للمنكرات وشعر الناس بانّ الاسلام یتعرّض للخطر فی هذا البلد ففی هذه الحالة یجب على الناس النهوض للنهی عن المنكر حتّى تتمّ المحافظة على حقیقة الاسلام وأحكامه ویتمّ احیاء القیم الاسلامیّة فی المجتمع.
6 ـ الحركة الاستشهادیّة: أحیاناً قد لا تكون فی المجتمع حكومة اسلامیّة قویّة بحیث تستطیع أن تحول دون وقوع الفساد، سواء أكان فساداً فی العقیدة أم فساداً فی العمل، فإمّا أن تكون الحكومة المسیطرة كافرة وإمّا ان یكون الذین یحكمون
باسم الاسلام هم فی الواقع من أهل النفاق، أو توجد بینهم عناصر منافقة بحیث یفقد الجهاز الحاكم قدرته على القیام بواجب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، ویكون الأفراد المتصدّون فی المجتمع للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر بهدف إصلاح الامور والحیلولة دون الفساد لا یتمتّعون بتلك القدرة التی تؤهلّهم للأنتصار على الحكّام المتغطرسین من أجل تطبیق الحقّ، ففی هذه الحالة قد ینهض هؤلاء الأفراد بحركة ـ للقیام بهذه الفریضة ـ تنتهی باستشهادهم مظلومین، بحیث یؤدّی استشهادهم هذا الى بقاء الاسلام.
والمصداق الأتمّ لهذا الأمر هو نهضة ابی عبداللّه الحسین(علیه السلام) الذی أعلن الهدف لنهضته المباركة بصورة صریحة قائلاً:
«انّی لم اخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالما وانّما خرجت لطلب الاصلاح فی امّة جدیّ(صلى الله علیه وآله) اُرید ان آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(1).
فهو(علیه السلام) یصرّح بانّ الهدف من نهضته هو اصلاح المجتمع بواسطة الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. ومثل هذه الحركة التی انتهت باستشهاد الامام الحسین(علیه السلام) تعتبر المصداق الأتمّ للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. انّ هذا الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر لم یقتصر على تعبیس الوجه ولا على الاعتراض باللسان ولا على الرد الفیزیائیّ المحدود، وانّما هو حركة ضخمة وعمیقة بحیث أدّت الى تحوّل تاریخی عظیم، ومادام المجتمع الانسانیّ باقیاً فانّ آثارها سوف تبقى.
ومن الواضح انّ مثل هذا المصداق ـ ولاسیّما فی أرفع مستویاته مما تحقّق على ید سیّد الشهداء(علیه السلام) ـ لا یحدث إلاّ نادراً.
1. بحارالأنوار، ج 44، ص 329، الباب 37، الروایة 2.
و فی هذا المجال توجد ملاحظة مهمّة وهی ان الناس فی المجتمع لابدّ أن یشعروا بالمسؤولیّة بالنسبة للآخرین، ولابدّ ان یكون لكلّ منهم لون من الاشراف والرقابة على البعض الآخر. وهذه الظاهرة موجودة ـ بشكل أو بآخر ـ فی المجتمعات الانسانیّة المتحضّرة مع اختلاف درجاتها فی التحضّر. ولعلّه لا یمكن العثور على أیّ مجتمع یتمتّع بشی من الحضارة لكنّه لا یوجد مثل هذا الشعور بین أبنائه والمنتسبین الیه.
فالانسان لابدّ ان یكون له شعور بالمسؤولیّة بالنسبة لسلوك الآخرین، إلاّ انّ درجات مثل هذا الشعور بالمسؤولیّة تختلف فی المجتمعات المتنوعة حسب النظام القیّمی السائد فیها. ولمّا كانت مصادیق الفعل الحسن والفعل القبیح تختلف فی المجتمعات المتنوّعة حسب أنظمتها القیمیّة فانّ درجة حساسیّة الناس بالنسبة لسلوك الآخرین تتوقّف على نوع رؤیتهم الكونیّة ونظرتهم للانسان والمجتمع الانسانیّ.
وهذا البحث طویل ومفصّل لكنّنا هنا نشیر الیه بشكل مختصر:
إنّ الرؤیة المسیطرة على المجتمعات بالنسبة للناس یمكن تقسیمها بشكل عامّ الى طائفتین: المجتمعات الفردیّة والمجتمعات الاجتماعیّة. ولكلّ واحدة من هاتین الطائفتین توجد مراتبُ ودرجات مختلفة. فبعض الناس ـ فی حیاته ـ لایفكّر إلاّ بنفسه، فاذا أراد الراحة فانه یطلبها لنفسه، واذا أراد التقدّم فانه یریده لنفسه. ولا یختلف الأمر بالنسبة لهذه الفئة ان تكون الراحة ـ أو التقدّم ـ مادیّة أو معنویّة. انّ محور أفكار هؤلاء ونشاطهم هو نفی الضّرر أو كسب المنفعة لأنفسهم.
وفی الطرف المقابل یوجد أشخاص یعتبرون أنفسهم شركاء للآخرین ومرتبطین
بهم فی الحیاة الاجتماعیّة. وتعتقد هذه الفئة ان المجتمع كلٌّ واحد منسجم ویرتبط بعض أفراده بالبعض الآخر. ومن هنا فانّ كل عضو فی هذا المجتمع لایفكّر بنفسه فقط. فانْ طلب الخیر والبركة فانّه یطلبهما للجمیع، وان أحبّ التقدّم فانه یحبّه للجمیع. وحتّى اذا أراد التقدّم المعنویّ والسعادة الاخرویّة فانه یتمنّاهما للجمیع.
انّ الأنبیاء(علیهم السلام) عموماً ونبیّ الاسلام الأكرم(صلى الله علیه وآله) خصوصاً یقوّون جانب الرؤیة الاجتماعیّة. فالدین الاسلامیّ الحنیف یحاول ان یربّی الانسان فی جمیع مراحل حیاته بحیث یصبح مهتمّاً بجمیع الناس ولاسیّما أعضاء المجتمع الاسلامی. فنحن نعلم ـ مثلاً ـ انّ الصلاة عبادة فردیّة، وكل انسان یظهر عبودیته للّه سبحانه بشكل من الأشكال، ونحن المسلمین نظهر عبودیتنا للّه عزّ وجلّ بصورة الصلاة، وفی الصلاة یقرأ المصلّی سورة الحمد، ولكنّه عندما یرید اظهار عبودیته للّه تعالى فانه لا یخاطبه بقوله «ایاك أعبد» وانّما یقول «ایّاك نعبد». فحتّى اذا وقف الانسان وحده یصلّی فی محراب العبادة فی منتصف اللیل فانّه یجب ان یقول: «ایّاك نعبد»، وحتّى لوقطع المسلم الصحراء وحده ووقف للصلاة ولیس معه أحد فانه لابدّ ان یقول: «ایّاك نعبد»، ولا یصحّ له اطلاقاً وفی أیّ حال من الأحوال ان یقول: «ایاك أعبد»، بل لابدّ ان یقول «ایاك نعبد وایاك نستعین». وهذا یعنی انّ المؤمن ینظر الى سائر المؤمنین وهم معه. وكذا الأمر عندما یرید أن ینهی الصلاة فانّه یسلّم على النبی(صلى الله علیه وآله)بقوله: «السلام علیك أیّها النبیّ ورحمة اللّه وبركاته» وذلك لماتتمیّز به شخصیّة النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) من عظمة لا یشاركه فیها أحد، إلاّ انّ الصلاة لا تنتهی بالسلام على النبی(صلى الله علیه وآله) وانّما هی تتمّ بالقول: «السلام علینا وعلى عباد اللّه الصالحین، السلام علیكم ورحمة اللّه وبركاته». فالمؤمن أثناءَ الصلاة كلّها یرى المؤمنین دائماً الى
جانبه، وعندما ینتهی منها فانّه یسلّم على جمیع المؤمنین. هذه هی التربیة الاسلامیّة. ففی جمیع الأحكام الاسلامیّة ـ سواء أكانت عبادات فردیّةً أم عبادات اجتماعیّة، وفی الشؤون الاقتصادیّة والاجتماعیّة والتربویة وحتّى الجهاد والدفاع وغیرهما ـ لابدّ أن یعتبر المسلم نفسه شریكاً لسائر المؤمنین ومرتبطاً بهم. هكذا یربّی الاسلام أبناءه.
أمّا التربیة الغربیّة ـ ولاسیّما خلال القرنین الاخیرین ـ فهی ذات اتّجاه فردیّ. ولهذا یهتمّ الانسان فی الرؤیة العلمانیّة (فصل الدین عن الدولة) بمصلحته فحسب، وتسیر العلاقات الانسانیّة والعاطفیّة فیها نحو الضعف، وینهار البناء العائلیّ وینفصل الزوجان عن بعضهما ویهرب الأولاد عن الأبوین ولا یعرف الجار شیئاً عن جاره الملاصق لبیته. ویكون المحور الفكریّ للانسان ـ فی هذه الرؤیة ـ هو مصلحته ولذّاته الشخصیّة.
انّ هذا الاتّجاه الفردیّ مع كلّ مافیه من نقص وقبح ولكنّة فی نفس الوقت لا یمكنه التخلّی تماماً عن المسؤولیّة التنفیذیّة والإشراف على أعمال الآخرین، وذلك لانّ مصالح الانسان ولذّاته وآلامه ترتبط عملیّاً ـ وفی العالم الخارجیّ ـ بالأفراد الآخرین. ومهما كان الانسان مهتمّاً بمصالحه الشخصیّة فإنه یدرك أنّ مصالحه الشخصیّة لا یتیسّر تأمینها إلاّ بواسطة تأمین مصالح الآخرین. فاذا أراد الانسان الظفر بلذّة فی الحیاة فانّه لا یستطیع ان ینالها وحده بل لابدّ من وجود شخص آخر معه حتّى یتمكّن من الظفر بلذّته. وكذا اذا حاول الانسان ان یحرز تقدّماً فی
نشاطاته الاجتماعیّة ـ التجاریّة أو الصناعیّة ـ فانّه لا یستطیع أن یحقّق نجاحاً وحده وانّما هو مرغم على التعاون مع الآخرین. واذا أحبّ الانسان ان یتمتّع بالخدمات الصحیّة وان تكون له بیئة سلیمة فانه لا یمكن ان یتّخذ هذا القرار وحده. فالبیئة لا تكون سلیمة إلاّ اذا أعان الآخرون على سلامتها. مثلاً نحن نعلم الیوم انّ أضرار التدخین فی العالم قد اصبحت واضحة للانسان، ولهذا یمنع التدخین فی الغرف المغلقة وفی الصالات العامّة. فاذا اراد الانسان ان یدخّن سیجارة فلابدّ ان یخرج من المبنى ویدخّن فی الفضاء المكشوف وبعد الانتهاء من التدخین یعود الى داخل المبنى، وذلك لانّه اذا سُمح بالتدخین فی داخل الغرف والصالات فان الآخرین یُضطرّون لاستنشاق الدخان فیلحق بهم الضرر، ومن هنا فانّهم یُرغمون على مراعاة حال الآخرین. ویُطبّق هذا الأمر فی ظلّ سیادة الاتّجاه الفردیّ.
وهناك مثال لطیف یُضرب فی مجال الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر وهو: ان مجموعة من الناس كانت تستقلّ سفینة تمخر میاه البحر، وفی هذه الأثناء لوحظ أحد ركّاب السفینة وهو یثقب جدار السفینة من مكان جلوسه. ولمّا اعترض الآخرون على فعله هذا أجاب قائلاً: انّ هذا المكان تحت تصرُّفی وأنا أثقب مكانی الجالس فیه ولا علاقة لكم به. وتدخّل ركّاب السفینة الآخرون ومنعوه من ثقب السفینة قائلین له: صحیح انك تثقب المكان الذی تجلس فیه أنت، ولكنّه عندما یدخل ماء البحر الى داخل السفینة فانّه لا یمیّز بینی وبینك وسوف یؤدّی بنا جمیعاً الى الغرق.
وكذا الحال فی مجال الحیاة الاجتماعیّة فالانسان لا یستطیع أن یهتمّ بمصلحته فحسب وأن یقصر التفاته الى فعله وأن لا یتدخّل فی أفعال الآخرین، فاذا رأى الانسان شخصاً یُلحق الضّرر بالمجتمع فانّه لابدّ ان یكفّه عن ذلك وان ینهاه عن هذا العمل. وفی هذا المضمار لا یسمح المجتمع لهذا الشخص ان یقول: انّ المكان یتعلّق
بی، فهو بیتی، أو محلّ عملی، أو هی مدینتی، وانّما اذا لاحظ المجتمع انّ الضرر یلحق الجمیع فمهما كان هذا المجتمع ذا اتّجاه فردیّ فانه یتدخّل فی عمله ویمنعه من القیام به حتّى بعنوان المحافظة على مصالحه الشخصیّة أیضاً.
اذن حتّى فی المجتمعات التی یسودها الاتّجاه الفردیّ نلاحظ وجود الإشراف العامّ للناس بشكل أو بآخر.
انّ حدود الاشراف فی المجتمعات الغربیّة معروفة للجمیع وتتمثّل فی انّ اشرافهم على أعمال الآخرین اذا لم یتحقّق فانّ ضرر ذلك یعود علیهم أنفسهم، ولهذا فانّ المجتمع یبسط اشرافه فی مثل هذه الحالات. وامّا اذا لم یتعلّق بهم عمل هذا الفرد ولم یهدّد بالخطر مصالحهم المادیّة فانّهم لا یعیرونه أهمّیة. وهم یعتقدون انّ الفرد اذا قام بعمل قبیح فانّ ضرره یعود علیه ویخلّ بصحّته، وامّا الأفراد الآخرون فی المجتمع فانّهم یقولون: لا علاقة لی بهذا! ولا علاقة لك به! ومثل هذا التعبیر یدلّ على الاتّجاه الفردیّ. وفی المجال الذی یعود فیه الضرر على سائر الأفراد فانّهم یبدون فیه ردّ فعلهم. امّا اذا كان الضرر عائداً على الفرد نفسه فحسب فانّ المجتمع یقول: «لاعلاقة لی بهذا» دعه یُلحق الضرر بنفسه. وحتّى اذا قیل له بانّ هذا الفعل یضرّ جسمك، لا تدخّن ـ مثلاً ـ لانّ هذا الفعل یمرض الانسان ویضرّ قلبه، فانه یجیب: ما علاقتك بهذا؟! ولماذا تتدخّل فی شؤون الآخرین؟! انّها حرّیتی، فأنا احبّ ذلك!
كان الحدیث فیما مضى عن الاتّجاه الفردیّ والاتّجاه الاجتماعی فیما یتعلّق
بالشؤون المادیّة للانسان، ویأتی السؤال هنا عن موقف الغربیّین بالنسبة للشؤون المعنویّة، فاذا كان سلوك الفرد مؤدّیاً الى الحاق ضرر معنویّ بالمجتمع فهل لابدّ من الإشراف عندئذ على أعمال الآخرین أم لا؟
لقد تحدّثنا عن الاتّجاه الفردیّ والاتّجاه الاجتماعیّ فی الامور المادیّة، فمقتضى الاتّجاه الفردیّ هو اطلاق سراح الفرد واعتباره حرّاً فی كلّ مجال لا یعود فیه على المجتمع نفع أو ضرر عمله الفردیّ. وهذا هو الشیء السائد الیوم فی العالم الغربیّ ویطلق علیه ـ اصطلاحاً ـ اسم المذهب الشخصیّ أو الفردیّ «Individualism».
أمّا أصحاب الاتّجاه الاجتماعیّ فی الغرب فانّهم یرون من الصحیح الاشراف على أعمال الآخرین فی مجال الامور المادیّة فحسب. وأمّا فی المجال الذی تتعلّق فیه أعمال الأفراد بالشؤون المعنویّة، كالكفر والایمان والحقّ والباطل، فانّ أصحاب هذا الاتّجاه یؤكّدون على انّه لا علاقة للآخرین به! انّ هذا یعتبر تدخّلاً فی شؤون الآخرین!
فالغرب ینظر الى أعمال الأفراد المتعلّقة بالدین والأخلاق والمعنویّات على أساس أنّها حقّ الفرد بشكل تامّ ولا یحقّ لأیّ أحد أن یتدخّل فیها.
انّ الاسلام یعارض الرؤیتین السابقتین ویحاول تربیة الناس بشكل یهتمّون فیه بالآخرین. وحتّى فی الصلاة التی هی علاقة بین الفرد ومعبوده یجب ان یقول المسلم «نحن» ولا یقول «أنا». وفی الشؤون الاجتماعیّة ـ حیث یرتبط الأفراد بعضهم ببعض ـ لا یقتصر الاشراف الاجتماعیّ على الامور المادیّة، وانّما یمتدّ لیشمل الامور المعنویّة للأفراد أیضاً. فاذا قام شخص بفعل یؤدّی الى فساد معنویّ فی المجتمع فلابدّ من نهیه، بل انّ النهی عن المنكر فی مجال الامور المعنویّة هو
أوجب وأهمّ، وذلك لانّ الروح الانسانیّة والمعنویّات مفضّلة على البدن والمادیّات، فالمادیّات فانیة وسوف ینتهی أمدها، بینما الامور المعنویّة باقیة الى الأبد. فالذی یرتكب المعاصی فسوف یتورّط فی العذاب الأبدیّ. ولا یمكن تشبیه نار جهنّم بالنار الدنیویّة. ومن الواضح انّنا اذا شاهدنا انسانا یحاول ان یقذف نفسه فی بئر عمیقة أو یلقی بنفسه من جسر شاهق لیغرق فی ماء النهر أو یرید القاء نفسه فی خضّم نار ملتهبة فان ضمائرنا لا تسمح لنا ان نتركه یفعل ما یشاء بذریعة انه قد أراد ذلك والأمر یتعلّق به شخصیّاً. اذن لا یمكننا أن نتركه یفعل ذلك فی مجال النار الدنیویّة التی لایطول الاحتراق فیها سوى سویعات من الألم والعذاب ثمّ یموت ویستریح. أمّا اذا كانت افعاله تؤدّی به الى السقوط فی جهنّم والنار الأبدیّة: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَیْرَها لِیَذُوقُوا الْعَذابَ»(1)
فاللّه تعالى یخبرنا بان الكافرین یُحرَقون فی جهنم حتّى تتحوّل جلودهم الى رماد فیلبسهم اللّه سبحانه جلوداً اخرى لتحرق من جدید وهكذا دوالیك، ویستمرّ هذا الأمر بلاانقطاع. ماذا فعل هؤلاء لیستحقّوا مثل هذا العذاب؟ یقول اللّه تعالى انهم أعرضوا عن أوامره وارتكبوا المعاصی. فاذا شاهدنا من یرتكب مثل هذه المعاصی التی تؤدّی به الى ان یُلقى فی نار تفوق النار الدنیویّة بمئات المرّات ـ لانّ النار الدنیویّة قصیر أمدها بینما العذاب الاخروی ونار جهنم مستمرّة مع الانسان ابداً ـ فانّ ضمائرنا تقتضی أكثر ان نمنع هذا الفرد من القیام بهذه المعاصی حتّى نحمیه من ذلك المصیر المرعب.
فالأمر بالمعروف والنهی عن المنكر فی الاسلام لا یتعلّق بالأضرار المادیّة فحسب، وانّما یأمرنا الاسلام بالوقوف فی وجه المعاصی حتّى لا یتورّط المذنب بالعذاب الأبدیّ فی الآخرة.
1. سورة النساء، الآیة 56.
هناك آیات قرآنیّة كثیرة تحدّثت عن الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، لكنّنا هنا قد اخترنا آیتین منها لانّهما تتمیّزان بخصائص مهمّة.
یقول اللّه تعالى: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْض یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ یُطِیعُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَیَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَكِیمٌ»(1).
ویقول سبحانه: «الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْض یَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ یَقْبِضُونَ أَیْدِیَهُمْ نَسُوا اللّهَ فَنَسِیَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِینَ هُمُ الْفاسِقُونَ»(2).
فاللّه تعالى یقول: ان بین المؤمنین ولایةً لبعضهم على البعض الآخر. وفی ظلّ هذه الولایة یأمرون بالمعروف وینهون عن المنكر. ومهما كان معنى هذه الولایة ـ سواء أخذناها بمعنى المحبّة أو بمعنى لون من السلطة والقدرة القانونیّة أو بأیّ معنى آخر ـ فانّها تحمل الانسان على أن یمنع الآخرین عن القیام بالفعل القبیح، فالانسان اذا أراد أن یبعد شخصاً عن المعصیة فی المجتمع فلابدّ ان یكون له لون من التسلّط والحقّ القانونی على ذلك الفرد حتّى یستطیع القیام بهذا المنع.
انّ هذا الحقّ لا یُعطى لأحد فی الثقافة الغربیّة بحیث یستطیع منع أحد آخر من ارتكاب المعصیة أو یستطیع التدخّل فی الشؤون الدینیّة والمعنویّة لسائر الأفراد فی المجتمع. واذا تطوّع أحد بالقیام بهذا العمل فانّه یُعدّ متطفّلاً ویقال له: ما علاقتك بهذا!
أمّا فی الاسلام فانّ الأمر یختلف تماماً حیث یؤكّد الاسلام على انّ المجتمع هو بمنزلة الجسد الواحد، فكما انّ المؤمن یُبعد نفسه عن المعصیة فهو مكلّف أیضاً بأن یبعد الآخرین عنها. فبالاضافة الى ما یقتضیه الشعور الأخلاقیّ والعاطفة الانسانیّة
1. سورة التوبة، الآیة 71.
2. سورة التوبة، الآیة 67.
من إبعاد من نراه مشرفاً على الاحتراق نتیجةً للمعصیة فانّ الاسلام یقول: انّ اللّه تعالى قد أوجب علینا ان لا نتركه یحترق، ویعتبر هذا من أوجب الواجبات حسب الروایة القائلة: «انّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر... فریضة عظیمة بها تُقام الفرائض»(1) فاذا اُهمل الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر فانّ سائر الواجبات سوف تُترك أیضاً. انّ بقاء سائر الفرائض فی المجتمع رهین للقیام بالأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، فان جرى العمل بالأمر بالمعروف والنهی عن المنكر فی المجتمع فسوف یجری العمل أیضاً بسائر الواجبات، وان تُرك الأمر بالمعروف فسوف تُترك بقیّة الواجبات أیضاً.
إذن لكی یتیسّر للآمر بالمعروف ان یأمر الآخر بالكلام أوّلاً واذا لم ینفع معه ذلك فانّه یقوم بمنعه عملیّاً ـ لكی یتیسّر له ذلك لابدّ ان یتمتّع بلون من الولایة علیه، ولعلّ المقصود من قوله تعالى: «المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولیاء بعض» هو إعطاء مثل هذه الولایة للمسلمین حتّى یتمكّنوا ـ فیما بینهمـ من الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر.
والمعنى الآخر للولایة هو «المحبّة». ومعنى ذلك انّ المؤمنین والمؤمنات لمّا كانوا یشعرون بالمحبّة فیما بینهم فانّهم لا یریدون لمن یشترك معهم فی هذه العلاقة ان یعمل عملاً وان یسلك طریقاً یؤدّی به الى العذاب الأبدیّ. فالمحبّة السائدة بین المؤمنین والمؤمنات تقتضی وجود الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر فی أوساطهم.
ولعلّ كلاّ من هذین المعنیین یمكن استفادته من الآیة الكریمة.
إلاّ ان اللّه سبحانه عندما یتحدّث عن المنافقین فی مقابل المؤمنین فهو یقول: «المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض» ولا یقول «بعضهم أولیاء بعض»، وبدل «یأمرون بالمعروف» یقول: «یأمرون بالمنكر وینهون عن المعروف».
1. تهذیب الاصول، ج 6، ص 181، الروایة 21، الباب 22.
وتطرح فی هذا المجال أسئلة عدیدة نحاول الإجابة على بعضها بمقدار وسعنا وبمقدار مایتناسب مع هذا الكتاب:
نحن نواجه هذا السؤال وهو انّ اللّه تعالى عندما ذكر المؤمنین والمؤمنات قائلاً: «و المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولیاء بعض یأمرون بالمعروف وینهون عن المنكر» لماذا لم یستعمل فی مقابلهم تعبیر «الكافرون والكافرات بعضهم من بعض یأمرون بالمنكر وینهون عن المعروف»؟
یمكننا القول فی الجواب على هذا السؤال: لانّ المنافقین أفراد یعیشون فی المجتمع الاسلامیّ ویتظاهرون بالایمان وهم یعترفون ـ بحسب الظاهرـ بجمیع القیم الاسلامیّة، بینما هم فی الواقع لیس لهم عقیدة قلبیّة بجمیع المسلّمات الدینیّة. انّهم مع المسلمین فی الظاهر ولكنّهم اعداء لهم فی الخفاء والباطن، وفی أیّ وقت تسنح لهم الفرصة المناسبة فانّهم یوجّهون طعناتهم للمسلمین.
وهذا یختلف تماماً عن وضع الكافرین حیث انّهم لا یعیشون فی داخل المجتمع الاسلامی، وحتّى اذا كانوا یعیشون معهم فانّهم یتجاهرون فی إعلان موقفهم ضدّ القیم الاسلامیّة. ولهذا فانّ المسلمین یعرفونهم ویضعون الحدود الفاصلة بینهم وبین الكافرین. أمّا فی مجتمع الكفر فان جمیع الناس كفّار وهم ینكرون القیم الاسلامیّة بصورة علنیّة ولیسوا بحاجة للتظاهر بالایمان.
وبناءً على هذا فالمنافقون یتغلغلون فی أعماق المجتمع الاسلامیّویعترفون ـ باللسان ـ بالقیم الاسلامیّة ویتظاهرون بالایمان، إلاّ انهم یوجّهون سهامهم الى دین الناس ویلجأون الى كل حیلة وخداع لكی یبعدوا الناس عن دینهم، ولهذا یحذّر اللّه تعالى منهم فی القرآن الكریم فیقول: «المنافقون والمنافقات...» فهو سبحانه یُلفت
أنظار المؤمنین لیأخذوا حذرهم من وجود المنافقین فی اعماق المجتمع الاسلامی لانّهم یأخذون على عاتقهم مهمّة الأمر بالمنكر والنهی عن المعروف.
تحدّث اللّه تعالى عن المؤمنین بقوله:
«المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولیاء بعض»
ولكنه سبحانه یقول عن المنافقین:
«المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض»
لماذا یعتبر اللّه تعالى الولایة لبعض المؤمنین على بعض بینما یعتبر المنافقین شیئاً واحداً؟
یمكننا دراسة هذا الموضوع من جهتین:
الاُولى: اذا أخذنا الآیة الكریمة «بعضهم أولیاء بعض» بمعنى الولایة فمعنى ذلك انّ كل مؤمن یتمتّع بالولایة على المؤمن الآخر. فلكی یتمكّن المؤمنون من الأمر والنهی فیما بینهم لابدّ ان یتمتّعوا بمبرّر قانونی وسلطة قانونیّة، والله تعالى هو ولیّ الجمیع ویجعل ولایة وقدرة قانونیة للمؤمنین بعضهم على بعض لیتیسّر لهم الإشراف والتدخل فی أعمال بعضهم البعض، فیقومون بالأمر والنهی كما ینبغی.
أمّا بالنسبة للمنافقین فهم یریدون الهجوم على الدین وتجرید الناس من دینهم بواسطة «الامر بالمنكر والنهی عن المعروف»، وهذا لا یحتاج الى ولایة، لانّ الولایة حقّ قانونیّ، والقانون ـ فی أیّ مجتمع ـ لا یجیز الأمر بالمنكر.
الثانیة: اذا أخذنا «بعضهم أولیاء بعض» بمعنى المحبّة والمودّة فمعنى ذلك انّ كل مؤمن یحبّ المؤمن الآخر ویشعر بالمودّة له، فاذا لاحظ المؤمن انّ ضرراً یلحق بأخیه المؤمن فهو یتألّم ویضطرب ویبذل قصارى جهده لكی یلفت انتباهه لذلك
الضرر. فلأنّ المؤمنین یحب بعضهم بعضاً فهم یقومون بالأمر والنهی فیما بینهم. انّ المؤمنین لا یریدون ان یحترق أخوهم واُختهم فی الدین فی نار جهنّم.
امّا المنافقون فهم لیسوا كالمؤمنین ـ یحترق قلب بعضهم لبعض ـ وانّما كل واحد منهم یفكّر فی مصلحته فحسب، یقول اللّه تعالى فی كتابه الكریم:
«تحسبهم جمیعاً وقلوبهم شتّى»
فالانسان قد یلاحظ المنافقین مجتمعین فی جبهة مشتركة ویعملون معاً وهناك فیما بینهم ـ حسب الظاهر ـ تعاون وانسجام، إلاّ ان قلوبهم ـ فی الواقع ـ متفرّقة، فهم لا یحبّ بعضهم بعضاً، واذا لم تُؤمّن مصلحة فرد منهم فقد یقوم باغتیال من یعتقد انه حجر عثرة بالنسبة الیه، لانّ كل فرد منهم لا یفكّر إلاّ فی مصلحته، وحتّى اذا شكّلوا تجمّعاً أو قاموا بعمل مشترك فانّ ذلك من أجل ان یؤمّنوا مصالحهم الذاتیّة. واذا حصل تزاحم فی هذا التجمّع وتعرّضت مصالحهم الشخصیّة للخطر فانّ كل شیء ینتهی ویفترس كل منهم الآخر.
وبناءً على ماذكرناه یمكننا ان نستنتج ان المنافقین لا یتمتّعون بالمحبّة فیما بینهم، ولا یملكون أیضاً القدرة القانونیّة على الأمر والنهی.
بینما المؤمنون یحب بعضهم بعضاً ولهذا یهتمّ بعضهم ببعض ویأمره وینهاه، لانّه لا یرید لأخیه واُخته فی الایمان أن یحترقا فی جهنّم. وقد منحهم اللّه سبحانه هذه القدرة القانونیّة لكی یتیسّر لهم القیام بالأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، فبعضهم اولیاء بعض.
الملاحظة الاخرى فی هذا المجال هی ان اللّه تعالى یقول فى المؤمنین: «و المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولیاء بعض یأمرون بالمعروف» فالمؤمنون یحبّ بعضهم بعضاً وقد مُنحوا الولایة فیما بینهم، أمّا بالنسبة للمنافقین فان اللّه تعالى لا یستعمل تعبیر الأولیاء بل یقول «بعضهم من بعض»، وهذا یعنی ان بینهم ارتباطاً
وتعاوناً فی مجال «الأمر بالمنكر» ولكنّ اجتماعهم واشتراكهم یكون على الباطل.
انه سؤال غامض عن كیفیّة قیام فی المجتمع الاسلامی بالأمر بالمنكر والأعمال القبیحة؟ لان المنكر ـ فی كل مجتمع ـ یعنی الأعمال السیّئة والقبیحة، فكیف یتیسّر لاُناس فی المجتمع أن یقوموا بالأمر بالقبائح والامور السیئة؟ فی المجتمع الاسلامیّ الكلّ معترف بالقیم الاسلامیة والكلّ یتظاهر بالایمان، فكیف یمكن ان یظهر أفراد یأمرون بالمنكر؟ كیف یجرؤ أفراد على أن یأمروا الناس ـ فی داخل المجتمع الاسلامیّ ـ بالأعمال القبیحة، ولابدّ أنهم یهدفون الى غایة وانّهم مطمئنون الى انّهم عندما یأمرون بهذه الأوامر فانّ هناك من یستمع الیهم، وإلاّ اذا كان من المقرّر أن یأمر هؤلاء بالأعمال القبیحة ویحثّوا الناس ـ مثلاً ـ على القیام بالسرقة والفسق والفجور ثمّ لا یستمع الیهم أحد فما الداعی لان یقوموا بـ «الأمر بالمنكر»؟ لابدّ انّ أمرهم ونهیهم یؤثّران فی المجتمع ولهذا یبذلون كل هذه الجهود ویریدون للمنكر أن یتحقق فی المجتمع. اذن فالسؤال الغامض هو: كیف یمكن ان یظهر أشخاص من وسط المجتمع الاسلامیّ یأمرون بالأعمال القبیحة بحیث تؤثّر أوامرهم فیه؟
لماذا یفعل هؤلاء هذا الفعل؟
ولماذا یقبل الناس منهم هذا الأمر؟
فی هذا المجال لابدّ أن ندرس ماذا یمكن ان یكون المقصود من المعروف والمنكر؟ اذا كان المقصود من المنكر هو المنكر بالحمل الأوّلی ـ حسب الاصطلاح المنطقیّ ـ بمعنى ان یقوم فرد فی المجتمع بمخاطبة الناس قائلاً: تعالوا اعملوا الأعمال القبیحة ولا تقوموا بالأعمال الحسنة، فانّه من المستبعد جدّاً أن یقوم عاقل بمثل هذا العمل وأن یأمر الناس بالمنكر بهذه الصورة، وحتّى اذا قام بمثل هذا العمل
فانّ احتمال تأثیره فیهم یقرب من الصفر، لانّ الناس یعترفون بالقیم ولا یسمحون لشخص أن یدعوهم صراحةً للقیام بالأعمال القبیحة بمفهوم الحمل الأولىّ الذاتیّ. اذن یعرف من هذا ان مقصود القرآن من قوله ان المنافقین یأمرون بالمنكر لیس هو المنكر بالحمل الأولی الذاتی، وانّما مقصوده هو ان المنافقین یأمرون بمصادیق المنكر وینهون عن مصادیق المعروف، فهم یأمرون بمصداق المنكر ولیس بمفهوم المنكر، اذ یدعون الناس الى القیام بأعمال هی فی الواقع من المنكرات، غایة الأمر انّهم یقدّمون هذه المصادیق من المنكر للناس بعنوان كونها من المعروف ومن الأعمال الحسنة.
فالمنافقون یأمرون بالمنكر عن طریق سوء استخدام المفاهیم وبالإعتماد على أسالیب المغالطة والإعلام الشیطانی المضلّل. فهم فی البدایة یوفّرون الأرضیّة لتصویر مجموعة من الأعمال على أساس انها «حسنة»، فیتقبّلها الناس بهذا العنوان، ثمّ یحثّون الناس على القیام بهذه الأعمال الحسنة والتی هی فی الواقع مصادیق للأعمال السیّئة والقبیحة. ومن ناحیة اخرى ینشط إعلامهم فی مجال بعض الأعمال الحسنة لیصوّرها للناس على أساس أنّها أعمال قبیحة، ثمّ ینهون الناس عن القیام بهذه الأعمال القبیحة والتی هی فی الواقع مصادیق للأعمال الحسنة. وإلاّ فمن الواضح انّ أیّ عاقل لا یأمر بالشیء القبیح بعنوان كونه قبیحاً، وأنّ أیّ عاقل لا یستمع الى مثل هذا الأمر.
إذنْ هم یتناولون بعض مصادیق الأفعال المنكرة ویقدّمونها للناس بعنوان انّها حسنة ثمّ یأمرونهم بفعلها.
وعندئذ نواجه هذا السؤال: كیف یمكن تصویر المعروف بعنوان أنّه منكر وتصویر المنكر بعنوان أنّه معروف؟
الجواب: لا ینبغی أن یصیبنا العجب من ذلك فنحن نلاحظ ـ فی مجتمعنا الذی نعیش فیه الیوم ـ وجود مصادیق كثیرة لهذا الأمر، لانّ جذور النفاق فی هذا البلد
تمتدّ هنا وهناك فیظهر أشخاص یقومون بهذه الأعمال.
ولكی یتّضح البحث جیّداً أذكر بعض الأمثلة: فی السابق كنّا نلاحظ النساء فی مجتمعنا یتمتّعن بمفهوم قیمیّ یُسمّى «الحیاء»، فنحن نعلم جیّداً ان من الصفات الحسنة للنساء هو «الحیاء». ویعتبر الحیاء حسناً حتى للرجال ولكنّه بالنسبة للنساء یعتبر من أبرز میزاتهنّ. والقرآن الكریم أیضاً یستخدم هذا المفهوم ویثنی علیه. وقد ورد ذلك فی قصّة ابنتی شعیب(علیه السلام)حیث اُرسلتا من قبل ابیهنّ لدعوة موسى(علیه السلام) الى بیتهم فیقول تعالى:
«فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِی عَلَى اسْتِحْیاء قالَتْ إِنَّ أَبِی یَدْعُوكَ...»(1)
فاللّه سبحانه یمدح هذه الصفة فی المرأة وهی ان تتعامل مع الرجل الأجنبیّ عنها وهی تشعر بالحیاء. فالحیاء إذنْ یحتلّ مكانته الرفیعة فی ثقافتنا وقیمنا. ولكنّ المنافقین الیوم یزعمون انّ الحیاء هو نفسه الشعور بالخجل، والانسان الخجول لا یستطیع أن یقوم بأیّ عمل فی هذا العالم الحدیث. فالانسان الخجول یبقى منطویاً على نفسه، ویؤكّد علم النفس على أنّ الشعور بالخجل أمر سیّئٌ، فاذا شعرت فتاة بالخجل من شابٌّ فهذا أمر سیّئٌ، لانّها تعجز عندئذ عن أن تبیّن له رغبتها وبالتالی تعجز عن أن تأخذ منه حقّها، اذن فالفتاة لا ینبغی لها أن تشعر بالخجل من الشاب. ومایقوله الناس من انّ الانسان لابدّ ان یتّصف بالحیاء وان الفتاة لا ینبغی لها ان تنزع الحیاء فی مقابل الرجل الاجنبیّ عنها انّما هو قول لا أساس له من الصحّة ویعدّ من الأخطاء الخطیرة النتائج. فالفتاة لابدّ ان تكون جریئة حتى تستطیع ان تقول ما تشاء فی مقابل الآخرین وأن تفعل ما ترید وأن تدافع عن نفسها كما یحلولها. وفی بعض الأحیان یلجأ هؤلاء الى ذكر بعض النماذج التاریخیّة من حیاة أهل البیت(علیهم السلام) مثل حركة زینب(علیها السلام). أجل، إنّ الفتاة لابدّ أن تدافع عن نفسها وأن
1. سورة القصص، الآیة 25.
تتمكّن من القیام بواجبها الشرعی وأن تتمكّن من الخطابة كما فعلت السیدة زینب(علیها السلام)وتعتبر هذه الامور نقاطا ایجابیّة فی حیاتها فی الجوّ الاجتماعیّ بشكل عامّ. ولكنّ الفتاة التی لم تتزوّج بعد لابدّ ان تشعر بالحیاء فی مقابل الرجل الاجنبیّ عنها، ویعتبر هذا من جملة القیم الانسانیّة.
ویقوم المنافقون بالخلط بین هذین الأمرین فیقولون إن الحیاء هو نفسه الشعور بالخجل، والشعور بالخجل یعنی انعدام الشخصیّة. فلكی یخرج الانسان من حالة الخجل لابدّ ان ینزع الحیاء ویتركه جانبا. ولكی تصبح الشجاعة ملكة للأولاد لابد ان یختلط الشباب والفتیات فی المعاشرة وان تُلغى الحدود فی هذا الاختلاط، فیذهب الشباب والفتیات للرقص معاً فی المناسبات الوطنیّة حتّى لا ینشأوا على الشعور بالخجل.
فالمنافقون اذن یبدأون بتصویر الاختلاط بین الشباب والفتیات بصورة أمر ثقافی تقتضیه الحضارة، ویبثّون هذه الأفكار بین الناس ویؤكّدون ان الحیاء والخجل یعنی انعدام الشخصیة ولابدّ من إزالته، والطریق الى ذلك هو الاختلاط بین الشباب والفتیات، ثمّ یدعون الى ترك الرجال والنساء أحراراً لیفعلوا مایحبّون.
فی هذه الحالة یتحقق مصداق لقوله تعالى: «یأمرون بالمنكر». ویبذل المنافقون قصارى جهدهم لیتسلّلوا الى داخل الأجهزة الحكومیّة وان یأمروا بالمنكر مستغلّین تلك الاجهزة فیحثّون الناس على إحیاء الحفلات الراقصة ویدعمونها بأموال مأخوذة من المیزانیة العامّة لبیت مال المسلمین.
ولا ینبغی ان یتصوّر أحد انّ المنافقین یقولون للناس افعلوا الأعمال القبیحة، وانّما هم یوفّرون الارضیّة اولاً ویصوّرون للناس ان هذا الفعل حسن ثم «یأمرون بالمنكر»، أو انّهم یوفرون الارضیّة الثقافیّة ویصوّرون للناس ان المعروف الكذائی قبیح ثم «ینهون عن المعروف». وهذا االأمر یحتاج الى النفاق ولیس الى الكفر، لان
الكافر یقول صراحةً مایرید ان یفعله. فاللّه تعالى قال «المنافقون والمنافقات» ولم یقل «الكافرون والكافرات» لانّ هذا الأمر یتمّ بواسطة النفاق، فلابدّ ان یظهروا انّنا نحبّ الاسلام أیضاً ونعتقد به ولابدّ من القیام بالأعمال الحسنة، إلاّ انّ الحیاء لیس فعلاً حسناً لانه یجعل الانسان خجولاً، وهذا أمر قبیح ولابدّ من مقاومة الأفعال القبیحة. وبناءً على هذا لا یكون الحیاء من الاسلام، أو على أقلّ تقدیر فان قراءتنا للاسلام لا تتضمّن ان الحیاء قیمة. بینما القراءة القدیمة للدین كانت تقول ان الاسلام یحبّ الحیاء ویحثّ علیه. والقراءة الحدیثة للاسلام تصرّح بانّ الحیاء امر سیّئٌ للغایة.
إذنْ ما لم تُمهّد الأرضیة الثقافیّة فانّ الأمر بالمنكر لا یصبح ذا معنى. ومن ناحیة اخرى فانّهم یقومون بنشر المفاهیم والقیم التی لا تترك مجالاً للأمر بالمعروف. بمعنى انّهم یكتبون المقالات فی الصحف والمجلات ویخطبون فی المناسبات المختلفة ویستغلّون سائر وسائل الإعلام لیلقّنوا الناس أنّ التدخّل فی شؤون الآخرین العقائدیّة والقیمیّة والأخلاقیّة هو تطفّل واضح، والتطفّل أمر قبیح وسیّئٌ. ونتیجةً لهذا التلقین اذا قیل لأحد لماذا لا تصلّی؟ فانّه یجیب: هذا الأمر لا یتعلّق بك! لیس من حقّك ان تتطفّل وتتدخّل فی شؤون الآخرین!
أو انّهم یذهبون الى الحدائق العامة ویتناولون الخمره فیغلبهم السكر ویتشاجرون وقد یضرب بعضهم بعضاً بالقنانی الفارغة، واذا اعترض علیهم احد قالو له: انّك متطفّل!
إذنْ هم فی البدایة یمهّدون الارضیّة الثقافیّة بان هذا العمل تطفّل، والتطفّل أمر قبیح ثم «ینهون عن المعروف»، ویصل الأمر الى الحدّ الذی تترك فیه القیم مكانها لتحلّ محلّها المضادّات للقیم.
لعن اللّه الذین یسعون لإیجاد هذا الجوّ الملوّث فی مجتمعنا وهم یحاولون باستمرار ان یوسّعوا مجاله وان یمحوا القیم الاسلامیّة الأصیلة من هذا المجتمع الاسلامی الوفیّ.