هل یمكن معرفة الكمال الحقیقیّ للإنسان بالتجربة؟
یمكن أن یتصوّر أحد أنّه كما یمكن معرفة كمال شجرة أو حیوان عن طریق التجربة فإن من الممكن حلّ هذه المسألة فی مورد الإنسان بمعونة التجارب العلمیّة، أی یمكن دراسة أفراد كثیرة فی أزمنة و أمكنة مختلفة و ملاحظة الكمالات التی یحصلون علیها و حدودها القصوى و بالتالی معرفة شرائط الكمال و سبیل الوصول إلى الكمال النهائی.
و لكن أدنى تأمل یوضح أنّ الأمر لیس بهذه السهولة فی مورد الإنسان; وذلك أوّلا: لأن النباتات و الحیوانات من حیث الكمالات الوجودیّة هی فی درجة أدون من الإنسان و من هنا فإنّ كل إنسان یمكنه أن یعرف كمالاتها و یدرسها و لكن الأفراد الذین لم ینالوا الكمال الحقیقی للإنسان لایستطیعون معرفة سنخ هذه الكمالات و من هم الواجدون لها، و هم فی هذه الجهة كالأطفال الراغبین فی معرفة الكمالات الخاصّة بالأفراد البالغین; و لا یمكن أن یسهم فی ذلك إلاَّ نخبة وصلت على الأقلّ إلى المراتب الأولیة للكمال الحقیقی للإنسان.
ثانیاً: إنّ كمال أیّ نوع من أنواع النباتات و الحیوانات له حدٌّ معین یمكن تجربته و معرفته بكل سهولة، و لما لم تكن هناك فروق بین أفراد نوع واحد منها خلال قرون من حیث نوع الكمال و الحدّ النهائیّ له فإنه بملاحظة و دراسة عدد منها یمكن الاطمئنان إلى أنّ كماله النوعیّ هو ما أدرك لاغیر; فكمال شجرة التفّاح یكمن فی إعطائها ثمرةً لها طعمٌ و لونٌ و رائحةٌ خاصّة و فی حجم معیّن; و كمال النَّحلة فی أن تعیش بنظام معین و تهىّ سائلا حلواً معطراً یسمى (العسل).
و طبیعیّ أنّه من الممكن أن تكون للتفّاح و العسل خصائص أخرى و منافع لم یتوصّل البشر إلیها تماماً و لكن مثل هذه الفوائد أیّا كانت هی من صفات التفّاح و العسل التی كانت تلك الشجرة أو النحلة تمتاز بها خلال قرون. و لكن عندما نلاحظ الإنسان، هذا الموجود العجیب الملیء بالأسرار نجد أنّه رغم صغره النسبی فی الحجم و شبهه فی كثیر من الأمور المادّیة مع سائر الحیوانات، رغم ذلك یمتلك خصائص تمیزه عن غیره تماماً.
إنّه الإنسان الذی ینكشف لنا یوماً بعد یوم جانبٌ من أسرار وجوده و تعرض لنا صفحة جدیدة من فنونه الرائعة، إنّه الإنسان الذی لم یتوقف من بدء خلیقته إلى الآن عن التحرك و التغیر، لیعرض كل یوم هذه المظاهر المختلفة من العلوم و الصنائع على مسرح العالم الواسع.
على أنّ هذا التقدّم العجیب إنما هو من الثّمار المادّیَة لهذه الشجرة المحیرة، أمّا معرفة الثّمار المعنویّة فلیست میسّرة بمثل هذه السهولة و قد تكون العجائب الرّوحیّة و المعنویّة أعظم من العجائب المادّیّة.
و نحن نجد سالكی سبیل العالم المعنویّ یبدون بعض الأمور التی لایفهمها الآخرون و یقومون بأعمال لایمكن أن نفسّرها بقوانیننا المادّیَة كما لایمكن إنكارها مطلقاً.
و مع كل هذا فهل یمكننا أن نقول أنّ معرفة الحدود الوجودیّة للإنسان ـ بنفس الأسلوب الذی تعرف به كمالات النباتات و الحیوانات ـ شیء عملیّ؟
و ثالثاً: فإنّ ما یقبل التجربة مباشرةً هو الأشیاء التی تقبل الإدراك الحسّی، أمّا الكمالات الرّوحیّة و الفضائل المعنویّة فلا یمكن تجربتها بشكل مباشر و معرفة موازینها، و لو قلنا إنّ آثار الكثیر منها مما یقبل التجربة إلى حدّ مّا فإنّ معرفة منابعها النفسیّة التی انطلقت منها هذه الآثار و تقییم كمالها مما لایقبل التجربة.
بملاحظة ماسبق، فلا عجب إن رأینا الفلاسفة و العلماء یختلفون حول تشخیص الكمال الحقیقىّ للإنسان.