القدرة و مظاهرها
و من المیول الفطریّة للإنسان المیل للقدرة و التسلط على الموجودات الأخرى، و یبرز هذا المیل أیضا من أوان الطفولة و یسیر مع الإنسان حتى نهایة حیاته طبعاً مع ملاحظة الفروق التی تنتجها اختلاف السنین و فصول الحیاة و الظروف الخارجیّة فی متعلقات القدرة هذه; تحریكات الرضیع السلیم الرتیبة لیدیه و رجلیه و التحرك الذی لا یقبل التعب و الكلل للطفل كلها علامة على هذه الحاجة الفطریّة ثم تتسع دائرة ما یتطلّبه من سیطرة و تمتدّ إلى ما لا نهایة له.
و یتم العمل و الاستفادة من الطاقة و بسط القدرة فی بادئ الأمر بوسیلة الأعصاب الحركیة و عضلات البدن و الاستناد إلى القوى الطبیعیّة لاغیر و نفس هذه الحركات المتتابعة للطفل بمقتضى الغریزة تساعده على تقویة نفسه، و شیئاً فشیئاً تقوى عضلاته و تستعد للقیام بأعمال أكبر و أثقل إلى أن یصل إلى أوج قدرته البدنیّة و شبابه ثم تبدأ مرحلة الركود و التوقف فی هذا المجال ثم مرحلة الضعف و الشیخوخة حیث تبدأ قواه البدنیّة بالتحلّل إلاّ أن المیل الشدید للتسلّط فی أعماق الإنسان لایخبو مطلقا.
و الإنسان فی سبیله للاقتدار و التسلّط لا یكتفی بالقوى الطبیعیّة، بل یسعى بمعونة العلوم و الصناعات لاختراع وسائل أفضل للتسلط و تسخیر الكائنات لصالحه و واضح جدّاً الدور الذی لعبته الاكتشافات و الاختراعات العلمیّة خصوصاً فی العصور الأخیرة و ما ستلعبه فی مجال إشباع هذه المیول الفطّریة. بل إن الإنسان لم یمتنع حتى عن استخدام طاقات أبناء نوعه الإنسانی فی سبیل تحقیق تسلطه إذ عمل بمقتضى قدراته و إمكاناته على استخدام الآخرین و استثمارهم بشتّى السبل و الوسائل.
على أن هذا السعی للحصول على المواقع و المقامات الاجتماعیّة و الاعتباریّة على صعید الشعب الواحد و عمل شعب مّا على استعمار الآخرین و استعبادهم و جعلهم تحت نفوذه إنما یعبّر عن تطبیق لهذا المیل إذ أن تطبیقه قد یتخذ شكلا صحیحاً و معقولا و قد یتخذ شكل التجاوز على حقوق الآخرین بأشكاله المختلفه كالاستعمار و الاستثمار الظالم.
ثم إن هذا السعی المتزاید لتحقیق القدرة الأكبر لایتوقف عند هذا الحدّ بل یحاول شمول القوى اللامحسوسة و المیتافیزیقیة... الأمر الذی توضحه هذه الفروع العدیدة للعلوم الغریبة و تسخیر الجنّ و الأرواح و أنواع الریاضات النفسیّة، مما یكشف عن السعی العجیب لتوسعة القدرة و بسط نفوذها على مختلف الحقول.
و لكن و على فرض حصول القدره لتسخیر كل القوى المحسوسة و غیر المحسوسة، هل یصل الإنسان إلى حدّ كماله و تشبع فی أعماقه حاجته إلى القدرة بشكل كامل؟
و إذا كانت هذه القوى ـ مهما كانت متنوعةً و عظیمةً ـ محكومة لقوى أعلى و سلطة أوسع فهل یمكننا أن نتصور أنّ المیل الإنسانی اللانهائی قد أشبع تماماً؟
إن من الواضح أن هذا العطش الفطری لن یروى تماما إلاّ إذا اتصل الإنسان بمنبع قدرة لانهائیة وإلاّ فإنّ سعی الإنسان الطموح سیبقى مستمراً بلا نهایة.