الحبّ و العبادة
یوجد فى الإنسان میل فطری آخر لیس هو من سنخ المعرفة و القدرة بل هو میل للتجاذب و الاتصال الوجودیّ و الإدراكی. و لمّا لم یكن هذا المیل معروفاً لدى علماء النفس و المحلّلین النفسانیّین، فإنهم لم یبحثوا حوله بالمقدار الكافی و لذا فإن توضیحه لیس بالأمر السهل.
إن أیّاً منا یجد فی نفسه میلا و تعلقاً بشیء ما یجذبه إلیه كما یجذب المغناطیس الأشیاء الصلبة إلیه; و لهذا الجذب مراتب و آثار مختلفة، و قد یصل اختلاف المراتب إلى حد یوجب التشكیك فی وجود جامع بین هذه المراتب و هل أنها من ماهیة واحدة أم لا؟
و إنّ أوضح تجلّ للمحبّة الفطریّة یكمن فی الأمّ حیث تغرق فی عالم اللذّة عند ما ترى طفلها و تتلقفه بالأحضان و تلاعبه و تراقبه. إن حبّ الأمّ هو من أروع تجلیات المحبّة الفطریّة التی ألهمت مظاهرها ـ على مدى التاریخ ـ الكُتّاب و الشعراء فأنتجوا فی ذلك أروع النتاج، و هكذا محبّة الأب لولده.
و على غرار هذا الحب توجد روابط الحب أیضا بین الابن تجاه أبویه، و بین الإخوة و الأخوات و سائر أفراد العائلة التی تترابط فیما بینها بوشائج طبیعیّة. و كمظهر آخر للحب و المیل الفطری ما نجده بین أبناء النوع الواحد كالترابط الإنسانی العام الذی یشد الناس بعضهم إلى الآخر حیث تشتد هذه الرابطة كلما أضیف إلیه عناصر أخرى كرابطة المدینة الواحدة، أو الجوار، أو وحدة السن، أو الزّواج، أو اتحاد المعتقد و المسلك و غیر ذلك.
و كما أن هناك تجلیاً آخر لهذه المحبة یبدو فی میل الإنسان لبعض الأشیاء التی یستفید منها فی حیاته المادّیّة و التی لها دخل فی تأمین حاجاته فیها و تلك من مثل المال و الثروة و اللباس و المسكن.
و من تجلیاته شوق الإنسان و میله بالنسبة للكمال و الجمال و الأشیاء الجمیلة و خصوصاً الأناسی ذوی الحظّ من الجمال، فالإنسان یمیل للأشیاء التی تروّی ظمأه للجمال و تألفها روحه و نفسه.
و على هذا النسق نلاحظ المیل الإنسانی لأنماط الجمال المعنوی مثل جمال المفاهیم و التشبیهات و الاستعارات و الكنایات و جمال الألفاظ و العبارات النثریّة و الشعریّة التی یعشقها أرباب الذوق المرهف.
و كذلك من مثل الكمال و الجمال الروحی و الأخلاقی الذی یهیم فیه علماء النفس و علماء الاخلاق و یؤكدون على مجالاته، و هكذا الجمال العقلانی مثل روعة التنظیم فی هذا الوجود الذی یسحر ألباب الحكماء و الفلاسفة، أو الجمال الوجودی الذی یدرك عبر الشهود العرفانی حیث یصل الأمر إلى درجة لا یعنی الوجود فیها سوى الجمال. «الَّذِی أَحْسَنَ كُلَّ شَیْء خَلَقَهُ»
و كلما قویت حصّة الموجود من الوجود، و تأصل الوجود فیه كانت مشاهدته و جماله أشدّ إعجاباً و أروع تأثیراً.
و بعبارة أخرى، فإنّ أیّ موجود یعبر ـ مقدار سعته الوجودیة و قابلیّته ـ عن إشراق للنور الإلهیّ، و كلما تكاملت حصّته الوجودیة أمكنه أن یعرض إشراقاً أشدّ و روعة أعظم.
و بشكل عام یمكننا أن نتصور للحب، من حیث الشدّة و الضعف ـ مراتب ثلاث هی:
الأولى: المرتبة الضعیفة التی تقتضی القرب إلى المحبوب فی الظروف العادیة دون أن یصحب ذلك أیّ نوع من أنواع التضحیة و الإیثار.
الثانیة: المرتبه الوسطى التی تتضمن ـ بالإضافة لإرادة القرب من المحبوب ـ نوعاً من التضحیة فی سبیله ولكن إلى المستوى الذی لایتنافى مع المصالح الكلیة الأساسیة للشخص.
الثالثة: مرتبة الإعجاب العمیق التی لاتمنع الإنسان من تقدیم أی نوع من أنواع التضحیة فی سبیل المحبوب، فلا لذة له إلاّ فی اتباعه و تحقیق رغباته فی مختلف الحالات بل یعتبر كمال التذاذه فی تعلقه و ارتباطه الوجودیّ و بالتالی فی الفناء و نسیان النفس أمامه و لذا فهو یعیش غایة اللذّة عندما یخضع لمعبوده و یقدم له فروض الولاء فتلك هی آیة هذه المرتبة من المحبة التی تؤدّی بالإنسان لأن یقدّم إرادة المحبوب على أیّ شیء سواها بلا أیّ تحفظ.
و من الواضح أنّ المحبّة و الشوق بالنسبة لشیء كلما تأجّجت و اشتدت كانت اللذّة الحاصلة من تحقیق ذلك الشیء و الوصول إلیه أكبر و أشدّ و من جهة أخرى نجد أنّ كمال اللذة یرتبط بمستوى المطلوبیّة و القیمة الوجودیّة للمحبوب إذن فلو أن شخصاً امتلك أشدّ أنواع الحبّ بالنسبة لأعظم الموجودات و أكبرها قیمة، و أدرك هذه القیمة الوجودیّة بدقّة فإنه بالوصول إلى محبوبه هذا یكون قد حاز أروع اللذّات فإذا افترضنا أن هذا الوصول غیر محدود بالظروف المكانیّة و الزمانیّة بل كان وصولا دائماً و فی أیّ مكان فإنّ هذه الحاجة الفطریّة سوف تكون قد أشبعت بشكل تام و لم یبق فی إشباعها أیّ قصور.
و على هذا، فإنّ هذا المیل الفطریّ اللانهائیّ یتّجه نحو حب متأجّج لمحبوب كامل جمیل، كمالا و جمالا مطلقاً له أشدّ الروابط الوجودیة بالإنسان بحیث یمكن للإنسان أن یرى وجوده هو قائماً به و فانیاً فیه و متعلقاً تمام التعلق به و بالتالی فهو یحقق الوصول الحقیقی إلى محبوبه فلا یستطیع أی شیء أن یفصل بین هذین الحبیبین.
أما محبة أی موجود آخر لایملك هذه الأمور فإنها لایمكن أن تشبع هذا المیل الفطری إشباعاً نهائیّاً و إنما یقترن بها الهجران و الهزیمة و الفراق و العذاب.