ذروة المیول و غایة الآمال
و النتجة التی تحصل من خلال التأمّلات الماضیة هی أنّ مدى المیول الفطریّة الإنسانیة یمتدّ إلى اللاّنهایة فلا یعرف أیّ منها حداً و لا یقتضی أیّة محدودیة أو توقّف فی مرتبة معیّنة بل إنها جمیعاً تسوق الإنسان نحو اللانهایة; و هذا من خواصّ الإنسان الذی یملك میولا و رغبات غیر محدودة و لا یقتنع بسعادة موقتة محدودة. و الواقع أن هذه الخاصیّة اللاّنهائیّة فی المیول الإنسانیّة أمر یقبله حتى الفلاسفة غیر الإلهیّین بل تعتبر من أهمّ الممیّزات الأساسیة للإنسان عن الحیوان.
یقول راسل:
«إن أهمّ أنماط التفاوت الرئیسیّة بین الإنسان و الحیوان هی أن المیول البشریّة ـ خلافاً للرغبات الحیوانیّة ـ غیر محدودة و لا یتیسّر إرضاؤها بشكل كامل»([1]).
و رغم أن هذه المیول تتعلق بأمور مختلفه إلاّ أنها فی النهایة ترتبط و تلتحم فیما بینها و یتلخص الإشباع النهائی فی شیء واحد هو عبارة عن الارتباط بالمنبع المطلق للعلم و القدرة و الجمال و الكمال. و هذه هی خاصیّة مراتب الوجود فإنّه مهما اشتدّ و قوی و تكامل اتجه نحو الوحدة و البساطة و ذلك كالقوى الإنسانیّة المتفرقة فی مقام تعلقها بالبدن و المتحدة فی حاقّ النفس إذ تكون النفس فی حال وحدتها و بساطتها واجدة لكمالات كل القوى الإنسانیة.
و من هنا یعبّر الفلاسفة عن ذلك بقولهم:
«و النّفس فی وحدتها كلّ القوى»
و هكذا، فإن ما یطلبه أیّ من المیول الفطریّه ـ و الذی یمتد مداه من جهة باتجاه اللانهایة حیث یتحد هناك مع سائر المطلوبات ـ هو فی الحقیقة شیء واحد ینظر إلیه من زوایا نظر مختلفة و یبحث عنه من جهات شتّى و هو عبارة عن الارتباط بالموجود المطلق اللاّنهائى الكامل أی القرب من الله تعالى.
و فی مثل هذا المقام یجد الإنسان ارتباطه الكامل بالخالق و یجد نفسه متعلقاً و مرتبطاً به بل یجدها عین التعلق و الربط به و لا یجد أیّ نوع من الاستقلال و الاستغناء و فی هذه المرتبة بالذات یجد كل الأشیاء قائمة بالذات الإلهیّة المقدسة، و یحصل له علم حضوریّ بحقائق الوجود و ینعم وفق استعداده الوجودی من أنوار الجمال و الجلال الإلهی و یشبع میله الفطری بمعرفة حقائق الوجود.
و كذلك فإنه فی هذه المرتبة التی ینفذ من خلالها إلى منبع القدرة اللاّنهائیة و تبعاً لارتباطه به یمكنه القیام بأیّ عمل یقع فی دائرة إرادته فیمكنه حینئذ إشباع میله الفطری للقدرة.
و كذلك یستطیع فی هذه المرتبة أن یحصل على أسمى درجات الحب لأسمى المحبوبین و ینال نهایة القرب و الوصول و الارتباط الحقیقی به. و بتعبیر آخر فإنه یشاهد قربه و ارتباطه بأروع وضوح و هو بالتالی ینال أفضل اللذات و أدومها.
«فِی مَقْعَدِ صِدْق عِنْدَ مَلِیك مُقْتَدِر» (القمر: 55).
و طبقاً لهذا فإن المیول الفطریّة الإنسانیّة و التی تنبع من الخاصیّة الإنسانیّة و هی مقتضى الفعلیّة الأخیرة و الصورة النوعیة له، هذه المیول كلها تسوقه نحو اللاّنهایة و لا یتم إشباعها الكامل إلاّ بالوصول إلى مقام القرب الإلهیّ و الارتباط بالعالم الأبدى.
فالكمال الحقیقیّ للإنسان هو نفس مقام القرب للباری جل و علا أما سائر الكمالات البدنیّة و الروحیّة فكلها مقدّمات و وسائل للوصول لمثل هذا المقام حیث یستفاد منها بمقدار تأثیرها فی الوصول إلى الكمال الحقیقی ـ طبقاً للمقیاس الذی تحدثنا عنه آنفا ـ و لیس أیّ منها حتى أسماها و ألطفها یعد من الكمالات الإنسانیّة الأصیلة و إن كانت مما یمیز الإنسان فلا نجدها عند الحیوان.
و بعبارة أخرى، فإن الإنسان إنما یصبح ـ حقیقة و بالفعل ـ إنساناً إذا استطاع أن یعبر المرتبة الحیوانیة لیخطو فی سبیل القرب الإلهی، أما قبل أن یخطو فی هذا الطریق فهو إما إنسان بالقوة إن كانت استعدادات الوصول إلى هذا المقام فیه محفوظة أو هو ساقط بشكل كامل و معدود من الحیوانات أو أضل منها إن كانت هذه الاستعدادات قد انتفت من وجوده بسوء اختیاره.
و من هنا نجد القرآن الكریم یعدّ الكافرین الذین فقدوا قابلیة الإیمان و العبودیّة شرّ الدّوابّ و أضلّ من الأنعام.
«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّهِ الَّذِینَ كَفَرُوا فَهُمْ لا یُؤْمِنُونَ»([2]).
ویقول فی آیة أخرى
«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِینَ لا یَعْقِلُونَ»([3]).
و یقول فی سورة الأعراف:
«أُولئِكَ كَالأنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ»([4]).
هل یمكن إشباع المیول الفطریة بشكل كامل؟
و هنا یمكن أن تثور شبهة فی الذهن حاصلها: أنّه و إن كانت المیول الفطریّة تتّجه نحو اللانهایة و لكن أنّى لنا أن نعرف أن الإشباع الكامل لها أمر ممكن الحصول؟ خصوصاً مع الالتفات إلى أن الإنسان نفسه موجود ضعیف له قدرات طبیعیّة و اكتسابیّة محدودة و هی مهما قدر لها من توسع لابد أن تتناهى من حیث الزّمان و تفنى بالتالی عند الموت.
و حلّ هذه الشبهة ـ بالبیان الذی یناسب هذا البحث ـ هو أن دلیل إمكان مثل هذا الإشباع هو الفطرة نفسها. ذلك أن المیول الفطریّة هی من الواقعیّات العینیّة و هی جزء من قوانین الوجود و نوامیسه فهی من قبیل الجاذبیّات التی تقوم بنفسها دلیلا على وجود القوّة الجاذبة، لا من قبیل الصور الذهنیّة التی تحصل بواسطة الحواسّ أو القوى الذهنیّة و تكون نسبتها إلى الحقائق العینیّة نسبة الكاشف إلى المنكشف لیأتی فیها احتمال المخالفة للواقع.
أمّا مسألة محدودیّة القوى الإنسانیّة و انتهائها بالموت فهی مبتنیة على أصالة المادة و انحصار الحیاة بالحیاة الدنیویّة و كلا هذین المبدأین یخالفان الفطرة و إن المیل الفطری الإنسانی للكمالات فوق الطبیعیّة و للحیاة الخالدة هو بنفسه مما یبطلهما و یشكل دلیلا كافیاً لإثبات ماوراء الطبیعیة و إثبات الحیاة الأخرویّة.
و طبیعی أن دلیل هذا الموضوع لاینحصر بالفطرة إذ یمكن إقامة براهین عقلیّة و نقلیّة متعددة علیه وها نحن نكتفی بإحداها مشیرین إلیه فیما یلی:
إن التأمّل فی نظام الخلقة یوضح حقیقة هامّة هی أن المخلوقات من أصغر ذرّة فیها إلى أكبر مجرّة تتبع نظاماً بدیعاً محیّراً للعقول، و أن بقاء العالم و حصول الظواهر اللامحدودة رهین بهذا النظام المتقن المقدر الدقیق و مهما سمت العلوم فإنها تستطیع أن تحدّد بشكل أكبر مدى العظمة فی هذا النظام و الدقّة فی أسراره و حكمه، و أن الاختراعات المحیرة للإنسان إنما نمت فی ظل كشف هذه الأسرار و الروابط بین الموجودات.
و على هذا فلا یمكننا أن ننسب حصول أی ظاهرة فی العالم إلى الصدفة العمیاء و نتصوره أمراً لغواً لا فائدة فیه لأن حصولها معلول لهذا النظام و هی بدورها جزء منه و قطعة من جهاز الخلقة العظیم، و مؤثرة فی حركته نحو هدفه و غایته المنشودة. و الواقع إن مجرد وجود عنصر لاغ لا فائدة فیه یؤدی إلى الفوضى و الفساد.
و على هذا، فإن وجود المیول الفطریّة فی الإنسان أیضاً لیس أمراً لغواً و باطلا بل هو على العكس عامل مهم لرقیّة و تكامله و وصوله إلى السعادة و لو كانت سعادة الإنسان و كماله منحصرة بالسعادة المادّیّة المحدودة فإن وجود المیول اللامحدودة سوف یصبح أمراً لغواً بلا فائدة.
و من هنا، فإن إیجاد هذه المیول فی أعماق الإنسان عندما لا یكون إشباعها ممكنا ـ یشبه هدایة الإنسان إلى طریق معین و إشعاره بأنّه طریق طویل بعید بحیث أنه یستجمع كل قواه لطیّ هذا الطریق و یتحرك نحو هذا الهدف الموهوم و لكنه أثناء حركته السریعة یصطدم فجأة بصخرة تعلمه أن الطریق مغلق لا منفذ له.
و طبیعی أن مثل هذا الخداع لا یناسب شأن الخالق الحكیم و إنما هو من عمل الحمقى الذین یلتذون نتیجة عقدهم النفسیة ـ بخداع الناس و عذابهم و هزیمتهم، فإذا بدى لهؤلاء المخدوعین السراب راح أولئك الحمقى یضحكون بملء أفواههم من ذلك.
یقول القرآن الكریم:
«أَ وَ لَمْ یَتَفَكَّرُوا فِی أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللّهُ السَّماواتِ وَ الأَْرْضَ وَ ما بَیْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ»([5]).
«وَ یَتَفَكَّرُونَ فِی خَلْقِ السَّماواتِ وَ الأَْرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ»([6]).
«وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الأَْرْضَ وَ ما بَیْنَهُما لاعِبِینَ»([7]).
«أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَیْنا لا تُرْجَعُونَ»([8]).
[1]. القدرة، ص 19.
[2]. الأنفال: 55.
[3]. الأنفال: 22.
[4]. الآیة 179.
[5]. الروم: 8
[6]. آل عمران: 191.
[7]. الأنبیاء: 16.
[8]. المؤمنون: 115.