الإمكان العقلیّ للارتباط الواعی بالخالق
كانت النتیجة التی خلصنا إلیها من تأملاتنا السابقة هی أنّ الإشباع الكامل للاحتیاجات الفطریّة الإنسانیّة لایتّم إلاّ فی ظلّ الارتباط الكامل الواعی بمبدأ الوجود. و یمكننا أن نثبت إمكان مثل هذا الارتباط بالبرهان الفلسفی العقلی و ملخصه:
إن جمیع الموجودات لها ارتباط لاینفصم بخالقها، و إن حقیقة وجودها هی الربط و التعلق به. و لما كان الإنسان قادراً على العلم الحضوری بحقیقته و ما حقیقته إلاّ عین الربط بالخالق فهو قادرٌ على تحقیق ارتباط واع كامل به. و بعبارة أخرى نقول: هو قادر على المعرفة و المشاهدة الواضحة للارتباط الوجودی الكامل بالخالق.
أما العلم الحضوری بالنفس فهو أمرٌ اتفق علیه كل الفلاسفة الإلهیین فمتى انصرف التوجّه الإنسانی عن الإدراكات الحسّیة و الخواطر النفسیّة و تركز على الذات فإن الإنسان سیدركها إدراكاً حضوریاً.
و یوجد هذا العلم فی سائر الحالات أیضاً و إن لم یكن هناك التفات تفصیلی له على أثر الانشغال بالمدركات الأخرى. و من هنا فیمكن تقویته و إیصاله إلى مرتبة من الوضوح و الوعی عبر تقلیل المیول و التعلّقات المادّیة و التعوّد على النظر إلى النفس و تركیز الانتباه نحو الذات.
و أمّا الارتباط الوجودی و تعلق الموجودات بالخالق فیمكن إثباته من خلال مبادئ الحكمة المتعالیة التی بیّنها المرحوم صدر المتألهین حیث أثبت أن للموجود مراتب طویلة و أن المراتب الدّانیة حسب ترتیبها هی شعاع من المرتبة العالیة و معلولة له و قائمة به، و أنّ العلّیّة الحقیقیة لاتعنی سوى الربط الوجودی لابین شیئین یوجد كلٌّ منهما بشكل مستقل إذ و الحال هذه لایحتاج أیّ منهما فی وجوده إلى الآخر، و إنما الربط الوجودی بین شیء مستقل و شیء آخر غیر مستقل یكون وجوده عین الربط و التعلق بالعلة. و علیه فوجود المعلول بالنسبة للعلة الحقیقیّة التی هی المفیضة للوجود علیه لیس إلاّ الارتباط المحض و الإضافة الإشراقیّة، و إذا شاهد أحدٌ حقیقته وجدها قائمة بالعلة و شعاعاً منها.
و على هذا فلو قام أحدٌ بمشاهدة حقیقته فسوف یرى نفسه قائمة و متعلّقة بالخالق بل یراها عین الربط و التعلق به و مثل هذه الرؤیة لاتنفك عن رؤیة إشعاع من أنوار القیّوم المتعالی، لأن إدراك ارتباط الوجود غیر المستقل لایمكن بدون إدراك ذی الارتباط و الموجود و المستقل القیّوم علیه.
«و أنر أبصار قلوبنا بضیاء نظرها إلیك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة، و تصیر أرواحنا معلقة بعزّ قدسك»([1])
فمشاهدة حقیقة النفس تواكب المشاهدة الاستقلالیة لإشعاع من نور الجمال و الجلال الإلهی: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» و كلما كانت الدائرة الوجودیة للنفس أكثر اتّساعاً، و مرتبتها أكمل و رؤیتها أعمق، و الانتباه و التركیز أشدّ، كان إدراك الأنوار الإلهیّة أشدّ و أوضح.
«و ألحقنی بنور عزّك الأبهج فأكون لك عارفاً و عن سواك منحرفاً»([2]).
و بمقدار وضوح إدراك الإنسان لارتباطه و عدم استقلالیته، یكون التفاته و توجهه إلى صاحب الربط و الموجود الأصیل و المستقل أشد و رشفه من أنوار عظمته أكثر إلى أن یصل إلى مرتبة یكون فیها مرآةً جلیّةً و مظهراً كاملا لذات الخالق جلّت عظمته.
«لا فرق بینك و بینها إلاّ أنهم عبادك و خلقك، رتقها و فتقها بیدك، بدؤها منك، و عودها إلیك»([3]).
و مع الحصول على مثل هذا الارتباط فإن حاجة الإنسان لمعرفة الحقیقة و التوفّر على القدرة سوف تشبع إشباعاً تامّاً و سوف یحصل على أسمى اللذّات عبر وصوله إلى مطلوبه الحقیقی و اكتشاف ارتباطه الوجودی به، و تحصل أعلى مراتبه عندما تفرغ النفس من تدبیر البدن فلا ترى لها أیّ التفات إلاّ للباری ـ تعالى ـ و لا تشغلها الشواغل فی هذا العالم عن رؤیتها و الاستغراق فی هذه الرؤیة.
«و اقرار أعیننا یوم لقائك برؤیتك»([4]).
[1]. المناجاة الشعبانیة.
[2]. المناجاة الشعبانیة.
[3]. دعاء أیام شهر رجب.
[4]. مناجاة الزاهدین.