الاستنتاج من البحوث الماضیة
من خلال التأملات التی مرت فی البحوث الماضیة نستنتج ما یلی:
إن النشاطات الحیاتیّة فی مختلف الحقول العلمیّة و العملیّة، الفردیّة و الاجتماعیّة إنما تعتبر نشاطات إنسانیّة إذا كانت فی إطار السیر بالإنسان إلى كماله الحقیقی.
و بعبارة أخرى، إن الحركات و النهضات التی یجب أن تتخذ لها اتجاهاً معیناً إنّما تعتبر من نشاطات الإنسان ـ من حیث كونه إنساناًـ إذا اتجهت باتجاه الكمال الإنسانی. و إنما یمكن إعطاؤها هذا الاتجاه الإنسانیّ إذا أمكن معرفة النقطة النهائیة للسیر التكاملی للبشریّة ذلك لأن حركته الكمالیّة حركة علمیة و إرادیّة فهی بالتالی تحتاج لمعرفة الهدف و السبیل نحو الهدف. ثم إن معرفة الهدف بمعنى وجدانه و إدراكه إدراكاً وجدانیاً شهودیّاً لا یتم قبل الوصول إلیه و لذا فلا مناص من كون معرفة الهدف بشكل صورة ذهنیّة. و كلما كانت هذه المعرفة أوضح و أوعى كان إمكان التكامل الإرادی الاختیاری أكثر.
على أن السیر التكاملی للإنسان یتم ـ بلا ریب ـ بمعونة القوى الداخلّیة و الدوافع النفسیّة الموجودة فی أعماقه. و علیه فإن اتجاه المیول الفطریّة یعتبر أفضل سبیل لمعرفة الهدف النهائی و الكمال الحقیقی للإنسان. و من خلال التأمل فی الوجهة التی یشیر إلیها أی من هذه المیول نعرف أنها جمیعاً تسوق الإنسان نحو اللانهایة، و أنّ إشباعها بشكل موقت و محدود لدیقنح الانسان بشكل كامل و لا یتم إشباعها تماماً إلاّ بالاتصال بمنبع العلم و القدرة و الارتباط بمعدن الجمال و الكمال اللانهائی. و علیه فالتعلق بنور العظمة الإلهیّة لوحده هو الجمال الذّی یشاهد الإنسان من خلاله حقیقته هو و كل عوالم الوجود قائمةً بالذات الإلهیّة المقدّسة.
«و أفتح عین قلبه إلى جلالی و عظمتی فلا أخفی علیه عِلم خاصة خلقی».
و عندئذ یشبع میله لاستطلاع الحقیقة و كذلك یصل إلى حقیقة نفوذ القدرة الإلهیّة اللانهائیّة من خلال إرادته فهو یفعل ما یرید بإذن الله تعالى.
«أجعلك تقول للشیء كن فیكون».
فیشبع میله للقدرة التی لا تقهر. و فی هذه المرتبة یصل إلى محبوبه ذی الجمال و الكمال اللامتناهی و یجد نفسه فی أحضان اللطف و العنایة اللامحدودة فیروّی بذلك كل ظمئه و حاجاته و ما أروع هذا الإشباع بید المعشوق یصحبه اللطف الغامر و الحب العمیم.
«فإذا أحببته كنت سمعه الذی یسمع به»
و عندئذ فلا ینشغل إلاّ بوصاله و لا یفكر إلاّ برضاه
«فأنت لا غیرك مرادی و وصلك مُنى نفسی... و رضاك بغیتی» «و رضوان من الله أكبر».
فلا یحصل بینٌ بینه و بین محبوبه و لایبتلى بفراق أو هجران «ثم أرفع الحجب بینی و بینه فأنعمه بكلامی و ألذّذه بالنظر إلی» «و أعذته من هجرك و قلاك».
و بالتالی فإنه سیتجد نفسه فی هذا المقام و هو واجد للكمال النهائی و قائم بمفیض الوجود و حینئذ ینال أسمى اللذائذ. و لأنه لا یجد لنفسه استقلالا فإن حب ذاته سیفقد استقلالیته و تتعلق المحبة الأصیلة بالخالق و بدلا من أن یرید الله لذاته فإنه یرید ذاته لله بل سوف لایلتفت لذاته و إنما یغیب فی عالم من جمال المحبوب.
«و لأستغرقن عقله بمعرفتی و لأقومن له مقام عقله».
و علیه فإن المطلوب الحقیقیّ و المحبوب الذاتیّ للإنسان هو الخالق جل و علا، و یكمن الكمال الحقیقی للإنسان فی التقرب إلیه و یجب أن تستثمر سائر الكمالات المادّیّة و المعنویّة فی سبیل الوصول إلى هذا الكمال، و تتلاحم كل القوى لتحقیق هذا الهدف، و كل خطوة فی غیر هذا الصراط تبعده عن الهدف، و كل قوة تصرف فی ما عدا سبیل الرضا الإلهی سوف تؤدی إلى خسارته و ضیاعه.
«و أستغفرك من كل لذّة بغیر ذكرك و من كل راحة بغیر أنسك و من كل سرور بغیر قربك و من كل شغل بغیر طاعتك.»