ar_marefat_zat-ch6_3.htm

القرب الإلهی

القرب الإلهی

لیس المقصود بالقرب من الله تعالى ـ و هو المطلوب النهائی للإنسان و الذی یناله الإنسان بحركته الاختیاریّة ـ هو قصر الفواصل الزمانیّة و المكانیة ذلك لأن الله تعالى هو خالق الزمان و المكان و المحیط بكل الأزمنة و الأمكنة و لانسبة زمانیة أو مكانیة له مع أیّ موجود.

«هو الأوّلُ و الآخرُ و الظاهرُ و الباطنُ»([1])

«و هو معكُم اَینما كنتم»([2])

«فأینما تولوّا فثمَّ وجهُ الله»([3])

هذا بالإضافة إلى أنّ قلّة الفواصل الزمانیّة و المكانیّة بنفسها لا تعتبر كمالا فما هو المقصود من هذا القرب إذن؟

من الطبیعیّ أن تكون لله تعالى إحاطة وجودیّة بكل العباد و المخلوقات. «ألا إنّهُ بكلِّ شیء محیطٌ»([4])

و أن یكون الوجود و كل الشؤون الوجودیّة للموجودات فی قبضة قدرته و متعلقة بإرادته و مشیئته بل إنّ الوجود و كل شیء هو عین الارتباط و التعلق به، و على هذا، فهو إلى كل شیء أقرب من أیّ شیء آخر.

«و نحنُ أقربُ إلیهِ من حبلِ الوریدِ»([5])

«و نحنُ أقربُ إلیهِ منكم ولكنْ لاتبصرون»([6])

و هذا القرب قرب وجودی حقیقی و لكنه لیس كسبیّاً و من هنا لا یمكن أن یعتبر غایةً و هدفاً للسیر التكاملی و یمكن أن یتصور للقرب معنى اكتسابیّ یقبل الانطباق على الكمال النهائی للإنسان و هو القرب الاعتباری و التشریفی بمعنى أن یكون الإنسان مورداً للعنایة الإلهیة الخاصة بحیث تجاب له كل طلباته.

«إن دعانی أجبته و إن سألنی أعطیته»

و العبد الذّی یصل إلى هذا المقام یكون قد وصل إلى مطلوبه و هذا الاستعمال شائع لدى العرف أیضاً حیث یقال للشخص الذی یقع مورداً لمحبّة شخص عظیم بأنه (مقرب) و قد أطلق القرآن الكریم عنوان المقربین على الذین هم فی طلیعة المسیرة التكاملیّة الإنسانیّة.

«والسابقونَ السابقونَ أولئكَ المقرّبون»([7])

إلاّ أن بحثنا هنا لیس بحثاً لفظیّاً و لا نرمی لمعرفة المعنى المناسب للفظ (القرب) و إنما نقصد الدّقة الأكثر فی الهدف النهائی للإنسان لنعرف من خلال ذلك الطریق الكلی و المسیر الأصلی للتكامل فیجب أن نركز على الحقیقة الكامنة وراء التشریف و الاعتبار:

إنّ الحقیقة التی تعتبر هی الكمال النهائی و نسمیها بـ(القرب الإلهی) هی مرتبة من الوجود تصل فیها الإمكانات الذاتیّة للشخص بسبب سیره و حركته الاختیاریّة إلى المرحلة الفعلیّة، سواء كانت حركة سریعة ـ كسرعة البرق مثل حركة بعض الأنبیاء و الأولیاء الذین یبدأون بالسیر التكاملی من اللحظات الأولى لحلول الروح فی البدن و یصلون خلال مدة قصیرة إلى الكمالات العظمى مثل عیسى بن مریم حیث یقول فی المهد:

«إنّی عبدُاللّه آتانیَ الكتابَ و جعلنی نبیّاً»([8])

و قد جاء فی روایات الشیعة أن القادة من أهل البیت علیهم السّلام كانوا یسبحون الله فی بطون أمّهاتهم و أنهم یولدون ساجدین و هم «السّابقون» ـ أو كانت حركة عادیة أو بطیئة مثل حركة سائر المؤمنین فی قبال الحركة الهابطة و السیر المتراجع للكافرین و المنافقین.

و الكمال الّذی یحصل إثر هذا السیر الاختیاری لا یتبع الموضع الزمانی و المكانی و الأوضاع المادّیة و الجسمانیّة بل یرتبط بالروح و القلب الإنسانیین أما الظروف المادیّة فلها دور تهیئة الأرضیّة المساعدة للسیر و السلوك المتكامل وإلاّ فإنّ الحركة الكمّیة و الكیفیّة للبدن أو الانتقال من مكان إلى مكان آخر لا تأثیر لها فی تكامل الإنسان إلاّ بمقدار المساعدة التی یقدمه للسیر الروحی و المعنوی فیؤثر بشكل غیر مباشر فی السیر التكاملی للإنسان.

فالتكامل الحقیقی الإنسانی عبارة عن السیر العلمیّ للروح فی أعماق ذاته إلى الله التصل إلى مقام تجد فیه نفسها عین التعلّق و الارتباط و لا تجد لها و لا لأیّ موجود استقلالا فی الذات و الصفات و الأفعال و لا یمعنها أیّ عارض عن المشاهدة و تقوم العلوم و المشاهدات فی هذا المسیر بتعمیق المرتبة الوجودیّة للإنسان و تجعل جوهر ذاته بالتدریج أكمل فأكمل.

و على هذا فبالمقدار الذی یتصور الإنسان نفسه أقّل احتیاجاً للمدد الإلهی و أكثر استقلالا فی تدبیر أموره و تهیئة الأسباب و الوسائل الحیاتیّة و القیام بالأعمال البدنیّة و الفكریّة و كذلك بالمقدار الذی یرى فیه للأشیاء الأخرى تأثیراً استقلالیاً أكبر، یكون أشدّ جهلا و نقصاً و أبعد عن الله و فی قبال ذلك فإنه بالمقدار الذی یحس بحاجته الشدیدة لله، و یرفع حجب الأسباب و یجلی الحجب المظلمة و المنیرة عن عین قلبه سوف یكون أعلم و أكمل و أقرب إلى الحد الذین لا یكون فیه موحداً فی الأفعال و التأثیرات فحسب بل لا یرى للصفات و الذوات أیضاً أیّة استقلالیة فی البین، و هو مقام یناله العباد الصالحون و المنتجبون المخلصون و العباد المختارون من قبل الله تعالى فلا یبقى حجاب بینهم و بین معبودهم فالقرب الحقیقی إلى الله هو أن یعی الإنسان أنه یملك بالله كل شیّ و أنه بدونه لا شیء.



[1]. الحدید: 3.

[2]. الحدید: 4.

[3]. البقرة: 115.

[4]. فصلت: 54.

[5]. ق: 16.

[6]. الواقعة: 85.

[7]. الواقعة: 11.

[8]. مریم: 3.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...