جهاز الإدراك
یتحقق الإدراك فی الإنسان بصورة مختلفة نشیر إلیها إجمالا: فهناك مجموعة من الإدراكات تحصل عبر تفاعلات فیزیوكیماویّة أو فیزیولوجیّة خاصّة بین الموادّ الخارجیّة و الأجهزة الحسّیة مثل الرؤیة و السّمع و الشّم و الذوق و اللّمس.
و هناك مجموعة من الإدراكات الجزئیة تحصل دون أن یكون هناك أیّ تماسّ للموادّ الخارجیّة بالبدن مثل الإحساس بالجوع و العطش، و هناك مجموعة ثالثة من إدراكاتنا تحصل فی الذّهن و بواسطة القوى النفسیة الخاصّة، و لهذه الإدراكات أنواع مختلفة و التحقیق حول هذه الأنواع و المشخصات و القوى المتعلّقة بها و كذلك ارتباطها أو عدم ارتباطها بالجهاز العصبیّ أمرٌ لا یتّسع له صدد هذا البحث.
و إنّما نؤكّد على أنّنا نجد إجمالا فی أنفسنا مدركات تبقى بشكل مّا فی الذهن بعد أن تنقطع الصلة بین حواسّنا مع الخارج و قد تعود بعد الغفلة أو النسیان مجدّداً إلى الخاطر و تنعكس فی شاشة الذهن الواعیة، و هكذا مدركات الحسّ الباطنی و الحالات الانفعالیّة و سائر الأمور الإدراكیّة.
و النوع الآخر من نشاطات الذهن یرتبط بدرك المفاهیم الكلّیّة التی تتحقق عبر تجرید الإدراكات الجزئیّة أو بصورة أخرى و یشبه هذا إیجاد المفاهیم الخاصّة التی یعبر عنها بـ«المعقولات الثانیة» مثل مفهوم الوجود و العدم و الوجوب و الإمكان، و هناك نوع آخر من الفعّالیّة الذهنیة فی مورد الإدراك و هو تركیب و بناء القضایا بإیجاد نوع من الوحدة بین المفاهیم المتعدّدة و كذلك عبر تركیب قضّیتین نصل مع ظروف و شروط خاصّة إلى إدراك قضیّة أخرى تسمّى «نتیجة البرهان».
و هنا فیحسن بنا أن نعطی توضیحاً مختصراً حول القضایا:
تقسّم القضایا الذهنیة من زاویة معینة إلى بدیهیّة و اكتسابیة، و من زاویة أخرى نظریّة و عملیّة و تنسب الإدراكات النظرّیة ـ عادة ـ إلى (العقل النظریّ)، والإدراكات العملیّة إلى (العقل العملی) و یعتبرون العقل العملیّ قوّة تصدر الأوامر و تحرّك الإرادة و قد یتصوّر أنّ الإرادة مرتبطة بالعقل العملّی و حتى یقال إنّها معلولة له. فی حین أنّه ثبت فی محلّه أنّ العقل النظریّ و العقل العملیّ لیسا قوتّین منفصلتین عن بعضهما و أنّه لیس هناك أیّ تفاوت جوهریّ بین الإدراك العملیّ و الإدراك النظری، و أن عمل العقل فی مورد الإدراك العملی هو نفسه فی مورد الإدراكات النظریّة بمعنى أنّ العقل یدرك العلاقة بین الفعل و نتیجته تماماً كما یدرك علاقة العلّیّة بین الأسباب و المسبّبات و الحركة و الغایة، و أنّ هذا الإدراك عندما یصبّ فی قالب المفاهیم الاعتباریّة بمعونة القوى التّی تصوغ المفاهیم فی الذهن یتّخذ لنفسه شكل الأوامر العقلیّة و إلاّ فإنّ عمل العقل فی الواقع لا یعدو الإدراك، و لیس له أیّ علاقة مباشرة بالإرادة و البعث و التحریك، و ما ینسب للعقل فی مجال أفعال الإنسان من «ینبغی ـ و لا ینبغی» هو فی الواقع كمثل الأمور التی یتحدّث علماء العلوم الطبیعیّة و الریاضیّة عن أنّها تنبغی أو لا تنبغی فی مجال بیان قوانین هذه العلوم.
و هناك نوع آخر من الإدراك یتوفّر لدى الجمیع و هو عبارة عن العلم الحضوریّ لنا بأنفسنا و قوانا و أفعالنا و وسائلنا البدنیّة و تأثیراتنا العصبیّة، و یوجد أیضاً نوع من الإدراك الحضوریّ بالنسبة للمبادئ العالیة للمبدأ الأعلى و هو یحصل فی البدء لدى الأفراد العادییّن بشكل لا شعوریّ لذا یجب السّعی الأكید لإیصاله إلى مرحلة الشعور.
و توجد عدا هذه الإدراكات العامّة المعروفة إدراكات أخرى مثل «التلپائی» و العلوم التی تؤخذ من الجنّ أو الأرواح أو تعطى فی حال الهیپوتیسم و المنیاتیسم و التی تؤدّی إلى معلومات لدى المرتاضین، و كذلك الوساوس الشیطانیّة و الإلهامات الملائكیّة و الرحمانیّة.
و فوق كلّ هذه الإدراكات هناك الوحی النازل على الأنبیاء(علیهم السلام) من قبل الباری تعالى و یشبهه الإلهام و التحدیث الذی یخصّ به سائر العباد الخلّص، و ذلك من قبیل تبشیر أمّ موسى(علیه السلام) برجوع ولدها و وصوله إلى مقام الرسالة و كذلك الأمور التی ألقیت إلى مریم(علیها السلام) و العلوم التی ألهم بها الأئمّة المعصومون من أهل البیت علیهم الصلاة و السّلام و لا تعرف حقائقها إلاّ لمن یتلقّونها، علاوة على هذا یمكن أن نذكر كلّ الإدراكات و الصّور الحاصلة فی الذهن دون أن یصحبها أیّ تفسیر منطقیّ و فلسفیّ مثل كلّ الوساوس الشیطانیّة التی قد تعرو أذهاننا و نعرف نتائجها عیاناً فی أنفسنا و لا نعرف ماهیّتها و السّبیل العام للتصدیق بأصل هذه الإدراكات و كیفیّة حصولها ـ بغضّ النظر عن مشاهدة آثارها ـ عبارة عن التعبّد بقول المعصوم(علیه السلام) أو نقل أولئك الذین تلقّوها و نحن نعرف صدقهم فی ما ینقلون.