ar_marefat_zat-ch8_5.htm

دور المیل و الرّغبة فی الإدراك

دور المیل و الرّغبة فی الإدراك

إنّنا نملك حرّیّة الاستفادة من القوى و الوسائل الإدراكیّة إلى حدّ كبیر، فمتى شئنا حدقنا فی منظر معیّن و رحنا نتفرّج، و متى شئنا غضضنا النظر عنه، و هنا یمكن أن نتصوّر أنّه عند انفتاح العین و وجود النور فلیست هناك حالة منتظرة لرؤیة الشیء الذی یتمثّل أمامنا، فی حین أنّ الحقیقة تثبت خلاف هذا التصوّر، ذلك أنّه فی كثیر من الأحیان نجد أنفسنا لا نرى الشیء رغم انعكاس صورة المرئیّ فی العین، و رغم ارتعاش طبلة الأذن بواسطة أمواج الصوت، لكنّها لا تسمع شیئاً و ذلك عندما یتركز انتباهنا على شیء آخر، و من هنا یتضّح أنّ الإدراك لیس ظاهرة فیزیاویّة أو عملا فیزیائیاً فحسب و إنّما هو فی الواقع عمل النفس، فإذا توجهت النفس حصل الإدراك و إلاّ انتفى، أما الانفعالات المادیة فهی تشكل شرائط الإدراك مقدّماته، ثمّ إنّ وجود التوجّه و عدمه فی كثیر من الأحیان یرتبط بالمیل و الشوق الباطنیّ للإنسان بمعنى أنّه حین یمیل الإنسان إلى إدراك خاصّ فإنّ توجّه النفس یتجّه نحوه و یحصل الإدراك مع وجود الشرائط اللازمة، فی حین أنّه على العكس من ذلك عندما لا یوجد المیل لا تتوجّه النفس و لا تدركه بالتالی، فمثلاً قد یرتفع صوت طفل من زاویة فلا یسمعه إلاّ أمّ الطفل، حتى أنّها قد تنهض من نومها على صوت بكاء طفلها و لكنّها لاتنهض على صوت أعلى من شخص آخر، و لیس هناك أیّ تبریر سوى العامل النفسیّ و شوق الأمومة، و لا ینحصر تأثیر المیل و الشّوق فی الإدراك بالإدراكات الحسّیة و إنّما یتوفّر فی التّخیّلات و الأفكار و حتّى أنّه یتوفّر فی الاستنتاجات العقلیّة بصور مختلفة:

فمثلاً یجد الإنسان نفسه ذا ذاكرة قویّة بالنسبة للأشیاء التی یمیل إلیها بشكل أقوى، و تتقدّم النشاطات الفكریة فی مجال الموضوعات التی یألفها و یرتاح إلیها الشخص المفكّر بشكل أحسن، و الأعجب من ذلك أنّ الكثیر من الأشخاص یصلون إلى النتائج الفكّریة التی كانوا یرغبون فیها قلبیّاً فهم یلهمونها و لكنّهم یظنّون أنّهم وصلوا إلیها بشكل طبیعیّ من استدلال عقلی فی حین كان للمیل الباطنیّ لهم الأثر الكبیر فی اختیار مقدّمات الدّلیل أو فی كیفیّة تنظیمها و ربما أوجبت المغالطة: «بل یریدُ الإنسانُ لیفجر أمامة»([1]).

و توضیح ذلك أن عدم میل الإنسان للوصول إلى نتیجة فكریّة ما یراها تتنافى مع متطلباته قد توجب غفلته و عدم تفكیره فیها، و قد توجب الغفلة عن المقدّمات اللازمة للاستدلال أو الشكل الصحصیح لتنظیم المقدّمات، و فی حالة ما إذا وصل إلى هذه النتیجة التی لا یرغب فیها و خلافاً لرغبته الشخصیّة فإنّه یبدأ بالتشكیك و إیجاد الشبهة فی ما توصّل إلیه، فإذا كان الدلیل واضحاً تماماً لا یبقى أیّ مجال للشبهة یصل الدور إلى خیانة الذاكرة فما أسرع ما یسلّمها الإنسان للنسیان، و لو حصل أنّ عاملا مّا ذكّره بها فإنّه سیمتنع عن التسلیم القلبی و الإیمان بها و ینكرها بكلّ لجاجة و ذلك كما أشرنا من قبل إلى مثل هذا فی مقام التفریق بین العلم و الإیمان:

«إن یتّبعون إلاّ الظّنّ و ما تهوىَ الأنفسُ و لقد جاءهم من ربّهم الهدى»([2])

و على هذا فإنّ الإنسان متى ما صان نفسه عن الوقوع تحت تأثیر المیول المخالفة، اطمأنّ إلى نتائجه الفكریّة و إلاّ فما دام الهوى هو الذی یمسك بالزمام فإنّ المیل للمادّیات و الشهوات و الجاه و المقام و باقی المتطلّبات الجامحة سوف تجلب توّجه النفس إلیها، و یقلّ الأمل فی الوصول إلى استنتاجات صحیحة من النشاطات الذهنیة و الفكریّة فی المجالات المتعلّقة بذلك.

و فی مجال العلم الحضوریّ و التّوجه إلى الوجدانیّات یوجد للمیول و الأشواق القلبیّة دور هامّ، فالحالات النفسیّة و الانفعالات الروحیّة الحاضرة لدى النفس قد تدخل عالم اللاشعور على أثر انعطاف التوجّه النفسیّ عنها فیغفل عنها الإنسان فلا یكون لدیه ـ كما یعبّر الفلاسفة ـ العلم بالعلم، و كذلك تلك المرتبة التّی تملكها النفس من العلم الحضوریّ باللّه تعالى فقد تغفل عنها على أثر الانشداد للمادیّات و التعلّق بها اللّهمّ إلاّ إذا انقطعت الوسائل المادّیة المعیقة.

و على هذا فإنّ الاستثمار الصحیح للقوى الإدراكیّة إنّما یتیسر إذا كان القلب طاهراً من أنماط الدّرن المادّی و الهوى النفسیّ، و الذهن خالیاً من الأحكام المسبقة، متزیّناً بالتقوى المناسبة، فالتكامل فی مدارج التقوى هو الذی یجعل الإنسان مستعدّاً لتلقی الأنوار المعنویّة و الإلهامات الملائكیّة و الرّبانیة،

«إنّ فی ذلك لذكرى لمن كان لهُ قلبٌ أو ألقى السمع و هو شهیدٌ»([3])

«ذلك الكتابُ لاریب فیه هدىً للمتّقین»([4]).

«قد أفلحَ من زكّاها و قد خاب من دسّاها»([5]).

«إن تتقوا الله یجعل لكم فرقاناً»([6])

«یا أیّها الذین آمنوا اتّقوا اللّه و آمنوا برسوله یؤتكم كفلین من رحمته و یجعل لكم نوراً تمشون به»([7]).

و فی قبال ذلك یشكّل اتّباع الهوى النفسی و التعلّق بالدنیا سبباً للانخداع و الضّلال و الحرمان من الإدراك الصحیح، بل سبباً للتسلّط الشیطانیّ و مزیداً من الجهل و الضلال و الجهل المركّب و عمى القلب.

«أفرأیتَ من اتّخذ إلهه هواه و أضلّه الله على علم و ختم على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوةً فمن یهدیه من بعدِ اللّه أفلا تذكّرون»([8]).

«كُتب علیه أنّه من تولاه فأنّه یضلّه و یهدیه إلى عذاب السّعیر»([9]).

«و من یعش عن ذكر الرّحمن نقیّض له شیطاناً فهو لهُ قرینٌ و إنّهم لیصدّونهم عن السّبیل و یحسبون أنّهم مهتدون»([10]).



[1]. القیامة: 5.

[2]. النجم: 23.

[3]. ق: 37.

[4]. البقرة: 2.

[5]. الشمس: 9.

[6]. الأنفال: 29.

[7]. الحدید: 28.

[8]. الجاثیة: 23.

[9]. الحج: 4.

[10]. الزخرف: 360.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...