ar_marefat_zat-ch8_6.htm

الإرادة و الاختیار

الإرادة و الاختیار

عند التّوجّه إلى القوى الإدراكیّة و التحریكیّة المختلفة و كیفیّة تأثیرها و تأثّرها یتّضح كیفیّة حصول مبادئ الإرادة فی النفس و كیف یحصل الفعل الإرادیّ، بمعنى أنّ الإنسان بادئ الأمر یحسّ فی نفسه نوعاً من الحاجة فیتألّم لذلك أو یجد نفسه خالیة من لذّة معروفة فیسعى نحوها، و الاحساس بالألم أو انتظار اللذّة یحرّكه للسعی لیشبع عبر القیام بعمل مّا جوعه و لیرفع ألمه و یؤمن لذّته المنشودة، إذن فأعمال الإنسان فطرة تتّجه نحو رفع النقص و تحصیل الكمال، و الدافع نحوها هو رفع الألم أو الحصول على اللذّة المطلوبة و ذلك سواء كان العمل فعّالیّة نفسیّة أو ذهنیة محضة مثل توجّه القلب و الفكر أو كان متوقّفا على تحریك العضلات و الأجهزة البدنیّة عبر الاستفادة من الموادّ الخارجیّة أو بدون ذلك، و إذا لاحظنا الأعمال التی یؤدیها الإنسان لصالح غیره نجده فیها أیضاً یندفع للحصول على لذّته هو و إن كان ألمه أو التذاذه لتألّم الآخرین و التذاذهم، و من الطّبیعیّ أنّ الإنسان لا یستطیع أن یحصل على كلّ ما یتمنّاه لأنّ موفّقیّته فی ذلك بالإضافة للزوم حصول الظروف الخارجیّة المطلوبة مرهونة بسلامة قواه الإدراكیّة و صحّة تشخیصه، و كذلك المعرفة الصحیحة لكیفیّة رفع نقائصه و مدى استفادته من القوى و قدرته على التصرّف فی المواد الخارجیّة فإن التفات الإنسان قد یحصل تارة بشكل طبیعیّ و على أثر التفاعلات البدنیّة مثل الإحساس بالحاجة للطعام و الشراب، و أخرى على أثر المماسّة مع الخارج مثل مشاهدة وضع خطیر یوجب فراره أو استعداده للدّفاع، أو یؤدّی به رؤیة منظر مثیر للعواطف إلى التّأثّر الشدید لكی یتألّم من محرومیّة الآخرین و یعمل على مساعدتهم.

و فی المورد الأوّل ربما أدّت العوامل الخارجیّة بنحو التداعی إلى ظهور المیل المكنون، و ذلك كما أوضحنا من قبل، كما أنّ العوامل الخارجّیة یمكنها أن تلعب دوراً فی إیقاظ المیول الفطریّة و الجواذب النفسیّة المحضة فإنّ دعوة الأنبیاء توقظ الدافع الفطریّ للإیمان باللّه بعد أن غطّتها عوامل الغفلة و هكذا نجد رؤیة آثار اللّه و سماعها تمتلك نفس الأثر.

و لو أنّا فرضنا أنّه كانت هناك غریزة واحدة قد استیقظت و وجد میل واحد فی النفس فإنّ الإنسان سوف یتحرّك فی سبیل إشباعه، و فیما إذا توفّرت الظروف و ارتفعت الموانع الخارجیّة فإنّه یقوم بالعمل المناسب لذلك، إلاّ أنّه فی حالة وجود میول متعدّدة و لم یتیسّر له إشباعها جمیعاً، فإنّه یقع التزاحم لا محالة، و عندئذ تسیطر ذات الجاذبیّة الأكبر على النفس لتقوم بإشباعها أوّلا، فهناك بعض الأطفال الذین یفضّلون لعبهم على أكلهم، أو الأمّهات الجائعات یقدّمن غذائهن لأطفالهنّ أو الشباب الذین یرجّحون المطالعة، أو الأتقیاء الذین یفضّلون العبادة على النوم، و كذلك الجندیّ المضحیّ فی سبیل اللّه براحته و راحة عیاله، و فی مثل هذه المجالات تبدو القیمة الحقیقیّة للإنسان و تظهر استعداداته الخفیّة و تصل سعادته أو شقاؤه إلى حدّ الفعلیّة و التحقّق، و الواقع أنّ حكمة خلق الإنسان فی عالم من التزاحمات و الأمور المتضادّة تكمن فی هذا المعنى ـ و كما أشرنا إلى ذلك مكرّر ـ و هنا ینطرح هذا التساؤل:

هل للإنسان أن یكون مجرّد مفترّج فی عالم تزاحم المیول فمتى ما تغلب میل مّا بمقتضى العوامل الطبیعیّة و الاجتماعیّة سار خلفه أو أنّ علیه أن یمتلك زمام الأمر و یكون له عبر نشاطه الفكریّ و الإرادیّ دور المتوجّه المعیّن للمسیر، حتّى أنّه یقوم أحیاناً بالامتناع عن إشباع حاجیاته الطبیعیّة؟ إنّه فی الحالة الأولى سوف یسلّم الأمر طائعاً أعمى أبكم للغرائز تماماً كما یسلّم نفسه أحیاناً للعاصفة أو السیل و یستقیل من إنسانیته و یهمل القوى الإنسانیّة الخاصة، إنّ هذه الحالة تدعى بالتعبیر القرآنیّ بـ«الغفلة».

الغفلة التی تدع الإنسان یسف حتّى یتنزّل عن مراتب الحیوان.

«أُولئك كالأنعام بل همّ أضلّ أولئك هم الغافلون»([1]).

أمّا فی الحالة الثانیة فإنّه ینطرح تساؤل آخر عن المعیار الذی به یرجّح الإنسان بعض حوائجه و متطلّباته على الأخرى، و لأنّ هذا السؤال یشمل الدین أیضاً وجب أن یجاب علیه بجواب بغضّ النظر عن المقاییس التعبّدیة.

یمكن الإجابة على السؤال الآنف بثلاثة أجوبة:

الأوّل: مقیاس الأكثریة فی اللذة، فمتى كان عمل مّا أكثر لذّةً انتخبناه عند التزاحم، و من الطبیعیّ أنّه لا یمكن جعل الملاك هنا اللّذّة الفعلیّة فقد تكون لعمل مّا لذّة فعلیّة لكنّها مشفوعة بعد ذلك بألم شدید، علاوة على أنّه من الممكن أن لا نكون قد ذقنا من قبل لذّة بعض الأعمال حتى نقارنها إلى غیرها، فالسبیل الصحیح لتشخیص الألذّ هو معرفة حقیقة اللّذة و ملاكها ثّم نعمل على معرفة الأكثر لذّة من خلال المقارنة و الحساب العقلیّ، و نحن قد قمنا من قبل بمثل هذه المحاسبة و وصلنا إلى هذه النتجیة و هی أنّ لذّة القرب إلى اللّه لا تعدلها لذّة و لا تبلغها رغبة «و اللّه خیرٌ و أبقى».

الثانى: أن نقارن بین الغرائز على أساس غایاتها ثمّ نعمل على ترجیح الأفضل غایة، و قد قلنا من قبل أنّ للغرائز شعبتین:

الأولى حفظ الوجود، و الثانیة تحصیل الكمال، و غایة الشعبة الاولى بقاء الإنسان فی هذا العالم لكی یطوی طریق تكامله فمثلاً غایة الأكل و الشرب تأمین الاحتیاجات البدنیّة للإبقاء على الحیاة الدنیویّة، و غایة غریزة الدفاع الصیانة من الأخطار لإدامة الحیاة، و غایة الغریزة الجنسیّة و العواطف العائلیّة و الاجتماعیّة هی بقاء النوع الإنسانیّ، إلاّ أنّ غایة الفرع الثانی غایة لامتناهیة و خالدة، و من الواضح أنّها الغایة الأسمى و الأبقى «و الآخرة خیرٌ و أبقى».

الثالث: إنّ غرائز الشعبة الأولى لها بالطبع جانب مقدّمی لأنّ دورها تهیئة الأرضیّة المناسبة و تحقیق إمكانات التكامل فی حین أنّ الشعبة الثانیة تمتلك أصالة بالنسبة للأولى، و من الواضح أنّ قیمة المقدّمة بقیمة ذی المقدمة، و لا یمكن استبدال هذا بتلك، و بعبارة أخرى: فإنّ غرائز الشعبة الأولى لیست لها أیّة حاكمیّة بالنسبة لغرائز الشعبة الثانیة، و إنّما لكلّ منها حركة خاصّة بها، إلاّ أنّ غرائز طلب الكمال ناظرة و حاكمة على سائر الغرائز، ذلك لأن مقتضاها تعبئة كلّ الطاقات فی سبیل التكامل، علیه فیجب أن نعدّها حاكمة ـ عملا ـ و نجعلها معیاراً لتحدید و توجیه سائر المتطلّبات و من البحوث السّابقة عرفنا أنّ الكمال النهائیّ للإنسان و الذی یجب أن تعبأ كلّ الطّاقات للوصول إلیه هو القرب إلى اللّه تعالى:

«و أنَّ الى ربّكَ المُنتهى».



[1]. الأعراف: 179.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...