النتیجة النهائیة
علمنا أنّ الإنسان یجب أن لایكون مجّرد متفّرج فی قبال العوامل الطبیعیّة و الاجتماعیّة و التضادّ بینها، و إنّما علیه أن یمتلك دور الموّجه المستفید من القوى الإنسانیّة الخاصّة و أن یقوم عبر نشاطاته الإرادیة الواعیة بتحریك كلّ الطاقات فی المسیر الصحیح و توجیهها نحو الهدف الأصلیّ و الكمال النهائیّ.
و لا شكّ فی أن أحد هذه الطاقات الإنسانیّة التی یمكنها أن تعوّد الإنسان لتحقّق هذا السعّی الموّجه هو القوّة العقلیّة، و لتقویتها الأثر الهامّ فی السیر التكاملیّ للإنسان، و حتّى أن سقراط اعتبر أصل الفضیلة هو العقل و العلم و الحكمة (طبق التعبیرات المختلفة المنقولة عنه)، إلاّ أن أرسطو أشكل علیه بأنّ الإنسان الذی یمتلك علماً و حكمة و لا یعمل بهما لیس واجداً للفضائل الأخلاقیة و لذا لا یمكن اعتبارهما أصل كلّ الفضائل.
و نحن مع قبولنا لهذا الإشكال نضیف بأنّ عمل القوى الإدراكّیة لیس البعث و التحریك، بل و حتى الهدایات الإلهیة السماویّة و الأنوار فوق العقلیّة أیضاً لا تستطیع بنفسها أن تحرّك الإرادة و لا یمكنها أن تضمن وصول الإنسان إلى الكمال المطلوب.
«و اتلُ علیهم نبأ الذى آتیناهُ آیاتنا فانسلخ منها فأتبعهُ الشیطانُ فكان من الغاوین ولو شئنا لرفعناهُ بها و لكنّهُ أخلد إلى الأرض و اتّبعَ هواهُ...»([1]).
و الشرط الكافی للسعادة هو سیطرة المتطلّبات السامیة و العبودیّة للّه و تقهقر النزعات المنحطّة النفسیّة و الشیطانیّة، و لكنّا نؤكدّ فی نفس الوقت أنّ القوة الإنسانیّة المفكّرة لها دورها المهمّ جدّاً فی توجیه الإرادة، و إنّ هذه القوة هی نفسها التی تساعدنا فی تهیئة مقدّمات الاختیار و التنظیم و التوجیه لها، و هذه البحوث هی نماذج من آثارها. و على هذا یجب علینا دائماً أن نشخّص سبیلنا فی ظلّ هدایات العقل و نهیّء أنفسنا لتقبّل الأنوار الإلهیّة.
إنّ قوّة العقل لها أهمیّة كبرى لتشخیص الهدف و معرفة المسیر الأصلیّ إلاّ أنّها لا تكفی لمعرفة جزئیّات الطریق و الطروح الدقیقة و من هنا نحتاج إلى الوحی و الاستعانة بنظمه الشاملة.
فتقویة التصوّر الدینی و توسعة الوعی النابع من المنابع الدینیة الأصلیة أمر ضروریّ جدّاً كما أنّ تقویة الإدراك الفطریّ بواسطة التوجّهات القلبیّة و التمرّس فی مجال تركیزها عبر الأشكال المختلفة للعبادات، عامل مهم جدّاً بل هو أشدّ العوامل تأثیراً و أصالة لتحقیق التكامل الحقیقیّ، و من الواضح أنّ معرفة هذه الحقائق كلّها إنّما كانت ببركة العقل و التفكیر العقلانیّ.
إلاّ أنّ المهمّ فی القسم الأخیر من هذا البحث هو أن نعلم كیف نوفّر المقدّمات لإثارة المتطلّبات الإنسانیّة السامیّة و المیل للوصول إلى مقام القرب الإلهیّ و كیف نقوّی هذه المتطلّبات و المیول و نغلبها على غیرها.
و لقد سلف منّا القول أنّ توعیة میل مّا و إثارته قد یتّم أحیاناً إثر بعض التفاعلات الداخلیّة للبدن، كما قد یتم على أثر التماس مع المواد الخارجیّة، كما قد یتم ثالثة نتیجة النشاطات النفسیّة التی تتحرّك هی بدورها بواسطة المحرّكات الخارجیّة، و إنّنا نجد الغرائز من شعبة حفظ الوجود تثار عادةً بواسطة العاملین الأولین، أمّا حكمة كون إثارتهما غیر منوطة بالفعّالیات الشعورّیة للإنسان فتكمن فی أنّ الحیاة الفردیة و الاجتماعیّة للإنسان فی هذا العالم منوطة مباشرة بفاعلیة هذه الغرائز، فإذا كان عملها منوطاً بإرادة الإنسان و اختیاره فقد تتعطل على أثر غفلته أو أفكاره المغلوطة، و حینئذ تنعدم الأرضیّة المساعدة للسیر التكاملیّ، و لكنّه بعد توفّر الأرضیّة التكاملیّة المساعدة یصل الدور للنشاط الإرادی الإنسانیّ باتّجاه الكمال، و لأنّ التكامل الحقیقی للإنسان إرادی فكلّما كانت دائرة الاختیار الحرّ أوسع كان إمكان التكامل الإرادیّ أشدّ و أكثر، و من هنا فإنّ الشعبة الثانیة من الغرائز و حتّى إیقاظها و تعیین مسیرة إشباعها أوكلت إلى الإنسان إلى حدّ كبیر لكی یوفّر المقدّمات اللازمه لتحقیق النتائج التكاملیّة.
فعندما تصبح حاجة مّا فعلیة فی الإنسان و تشبع هذه الحاجة و تحصل لذّة أو یرتفع ألم، تحصل النفس على توجه أكثر إلیها، و فی المرحلة الثانیة تظهر تلك الحاجة بشكل أشدّ إلحاحاً و هكذا و على أثر التكرار تأنس لها النفس و تتعلق بالموضوع الخارجیّ الذی یتعلّق به الفعل و یشكل بنحومّا وسیلة لإشباع تلك الحاجة، و فی مثل هذه الحالة نقول إنّنا نحب الفعل الفلانی أو الشیء الفلانیّ أو الشخص الفلانی،و لازم حبّنا توجه النفس المستمرّ للمحبوب و القیام بالأعمال المتناسبة معه، فإذا شئنا أن نمنح سیرنا الجهة الخاصة و نعبئ كل قوانا فی سبیل الوصول إلى هدف معیّن كان علینا أن نسعى لتحقیق استمراریّة توجّه النفس للهدف و جهته و أنسها به و التمركز فی خطّ واحد مشروط بعدم التوجه إلى الجهة المخالفة و عدم الالتفات إلى أی مطلب آخر استقلالا، بل تسخّر كلّ الغرائز كخادمة لتحقیق المیل العالی و المتطلّب للكمال و یجعل إشباعها یتبع إشباع هذا المیل العالی، و التوفیق فی هذا العمل رهین البرنامج العملیّ المشتمل على السعی الإیجابیّ و السلبیّ المعیّن فی مجال تقویة المیل نحو الكمال و عبادة الله، و أهمّ الموادّ الإیجابیّة فی هذا البرنامج هی كمایلی:
1ـ العبادة، و خصوصاً الصلوات الواجبة و أداؤها فی وقتها مع حضور قلبی و إخلاص كامل.
«قد أفلح المؤمنون الذین هم فی صلاتهم خاشعون»([2]).
و عند الإمكان یجب أن نخصّص مقداراً من أوقاتنا للتوجّه القلبیّ، و ذلك فی وقت و مكان مناسبین.
«و اذكُر ربّك فى نفسك تضرّعاً و خیفةً»([3]).
و إدامة هذا العمل توجب أنس القلب باللّه و ذوق لذّة المناجات معه و عدم الاهتمام باللذائذ المادّیة، و یجب أن لا ننسى الإنفاق و الإیثار و هما أفضل الوسائل للإعراض عن اللذائذ الدنیوّیة و الزهد فیها و تطهیر النفس من درن الدنیا.
«و من یوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون»([4]).
«لن تنالوا البّر حتّى تنفقوا ممّا تحبّون»([5])
«خُذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم و تزكیّهم بها»([6]).
إنّ الصلاة و الإنفاق یكّمل بعضهما البعض الآخر و ربما كان هذا هو سرّ تقارنهما الغالب فی القرآن الكریم:
«و أوصانی بالصّلاة و الزّكاة مادمت حیّاً»([7]).
2ـ و لنخصّص كلّ یوم مقداراً من أوقاتنا للتفكیر فی صفات اللّه و الآیات الإلهیّة و هدف الخلقة و النعم المتوالیة اللانهائیّة له تعالى و كذلك فی تشخیص السبیل الصحیح و طول المسیر و قلّة الوقت والطاقة و كثرة الموانع و سخف الأهداف الدنیویّة المحدودة و كون لذائذها مشوبة و مسبوقة و ملحوقة بالآلام و المصائب، و كذلك فی كلّ الأشیاء التی تشجع الإنسان فی طیّ طریق العبودیّة و تمنعه من عبادة الذات و الدنیا.
«إنَّ فی ذلك لآیات لقوم یتفكّرون»([8]).
3ـ و لیكن لنا برنامج یومیّ لقراءة القرآن الكریم بتوجّه و تدبّر و إمعان، و مطالعة الروایات و المواعظ و الكلمات الملأى بالحكمة و الأحكام الفقهیّة و التعلیمات الأخلاقیّة لیبقى الهدف و سبیله الصحیح ماثلا فی أعماقنا و لتتم توعیة حسن طلب الكمال و تذكیره دائماً.
«و لقد یسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكرٌ»([9]).
أمّا الموادّ السلبیّة فی هذا البرنامج الحیاتیّ فأهمّها ما یلی:
1ـ عدم الإسراف فی إشباع اللذائذ المادّیّة التی توجب أنس النفس باللذّات الحیوانیة و إنما نسعى لكی یكون الداعی إلى الاستفادة من النعم الدنیویّة هو تهیئة المقدّمات للسیر أی السلامة و القوّة و النشاط البدنیّ للعبادة و الشكر، و یشكّل الصّوم و عدم الشبع فی الأكل و قلّة الكلام و قلّة النوم مع رعایة الاعتدال و حفظ السلامة أجزاء لهذه المادة.
«والّذین هم عن اللّغو معرضون»([10])
«و أن تصوموا خیرٌ لكم»([11]).
2ـ السیطرة على القوى الحسیّة و الخیالیّة التی یمكنها أن تكون بالتداعی منشأ للمیول الحیوانیّة، خصوصاً منع العین و الأذن من رؤیة المناظر الشهوانیة و سماع الأصوات الباطلة الملهیة و بشكل عامّ صرف النظر عن كلّ ما لا یرضى به اللّه.
«إنّ السّمع و البصر و الفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولا»([12]).
3ـ الاحتفاظ بالتفكیر عن مهاوی الانحراف الفكریّ، و الامتناع عن المطالعة و البحث فی الشبهات التی لا نقدر على الجواب عنها، و إذا ما طرحت لدینا مثل هذه الشبهات أو سمعناها وجب علینا السعی لتحصیل الجواب المقنع عنها.
«و قد نزّلَ علیكم فی الكتاب أن إذا سمعتم آیات اللّه یكفر بها و یستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى یخوضوا فی حدیث غیره إنّكم اذاً مثلهم إنّ اللّهَ جامعُ المنافقین و الكافرین فی جهنم جمیعاً»([13]).
«من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق یؤدّی عن اللّه فقد عبد الله و إن كان الناطق یؤدّی عن الشیطان فقد عبد الشیطان»([14]).
و النقطة التی یجب أن لا نفغلها عند تنظیم هذا البرنامج و تنفیذه هی رعایة أصل التدرّج و الاعتدال بمعنى عدم تحمیل أنفسنا ما لا تتحمّله من ضغط، إذ أنّ ذلك بالإضافة إلى أنّه یؤدی إلى العصیان و عدم الطاعة من قبل النفس یمكن أن یورد علینا أضراراً بدنیة أو روحیّة لاتجبر، و على هذا فمن الحسن التشاور مع شخص واع خبیر قابل للاعتماد فی وضع مثل هذا البرنامج.
و كذلك من طرف آخر لاینبغى التماهل و التساهل فی إجراء البرنامج الدقیق و التماس الأعذار، ذلك لأنّ أثر هذا البرنامج إنّما یتوقّف على استدامة تنفیذه، و على أی حال یجب أن نتوكّل على اللّه ونلتمس منه العون و التوفیق، و الحمد للّه رب العالمین.
[1]. الأعراف: 175، 176.
[2]. المؤمنون: 2.
[3]. الأعراف: 205.
[4]. الحشر: 9.
[5]. آل عمران: 92.
[6]. التوبة: 103.
[7]. مریم: 31.
[8]. الرعد: 3.
[9]. القمر: 17ـ22ـ32ـ40.
[10]. المؤمنون: 3.
[11]. البقرة: 184.
[12]. الإسراء: 36.
[13]. النساء: 140.
[14]. وسائل الشیعة أبواب صفات القاضى، باب (10ج 139.)