سؤال: هل كان الامام الخمینی(قدس سره) یؤمن بولایة الفقیه المطلقة، وهل مارس هذه الفكرة النظریة فی مقام العمل؟
جوابه: لابد فی البدایة من بیان جدال الافكار وتضاربها واتفاقها حول ولایة الفقیه المطلقة لیتسنى من خلال ذلك تحری رؤیة الامام(قدس سره) بهذا الخصوص والقاء نظرة صحیحة على سیرته.
الولی الفقیه باعتباره حاكماً وولیاً منصوباً من قبل الله تعالى لقیادة المجتمع والأخذ بیده نحو الاهداف الاسلامیة عن طریق تطبیق القوانین الالهیة لابدّ له من التطرق بالبحث لاقسام القوانین وفق الرؤیة الاسلامیة، ومن ثم علاقة ولایة الفقیه وحدودها فی اطار كل قسم منها.
القوانین الثابتة والمتغیرة
القوانین فی نظر الاسلام على قسمین: ثابتة ومتغیرة.
القوانین الثابتة: وتشتمل على الاحكام الاولیة والثانویة، وهی تُطلق على القوانین التی لا یحدّها زمان أو مكان وهی ثابتة فی إطار موضوعاتها لا تقبل التغییر الى الأبد، ولیس لأحد حق التصرف فیها، وهذا النمط من القوانین ینقسم الى قسمین: الاول هو المشرَّع من قبل الله تعالى مباشرة، والثانی القوانین التی لم تُشرَّع وتحدّد من قبله تعالى بشكل مباشر، بل انّ الله سبحانه خوَّل نبی الاسلام الاكرم(صلى الله علیه وآله)وسائر
المعصومین(علیهم السلام) صلاحیة سنّها وتشریعها، وهو تعالى قد ألهمهم كیفیة تشریعها فی واقع الامر.
القوانین المتغیرة: وتُطلق على الاحكام والقوانین التابعة لظروف الزمان والمكان. ویتم سنّ هذه القوانین من قبل ولی الأمر فی اطار القوانین الثابتة وفی ظل الالتزام بالاصول والقواعد والقیم الاسلامیة وفی ضوء ضرورات المجتمع الاسلامی ومتطلباته، ویُصطلح على هذه القوانین بـ «الاحكام الحكومیة» أو «الاحكام الولائیة» أو «الاحكام السلطانیة».
طبقاً للرؤیة التوحیدیة وما تقتضیه الربوبیة التشریعیة للحق «جلّ شأنه» فان حق الحاكمیة والتشریع یختص بالاصالة وبالذات بالله سبحانه وتعالى وله أن یأذن لمن شاء وبالقدر الذی شاء بالتصدی لعملیة التشریع والتقنین. وقد مُنح هذا الاذن بشكل تام للنبی الاكرم(صلى الله علیه وآله) والائمة الاطهار(علیهم السلام)، ولكن هنالك اختلافات الى حدٍّ ما بین فقهاء الشیعة فیما یخص «الولی الفقیه»1، وهذا الاختلاف فی وجهات النظر هو نفسه الاختلاف المعروف فی مجال «دائرة وحدود ولایة الفقیه» الذی هو موضع بحثنا.
صلاحیات الولی الفقیه فی نظر الفقهاء
حصر بعض الفقهاء دائرة ممارسة ولایة الولی الفقیه وأمره ونهیه الواجب طاعته على المسلمین فی الحالات الخاصة والمتطلبات الملحة للمجتمع، ولكن فی المقابل ثمة طائفة اخرى ترى هذه الدائرة أوسع مدىً وتعتقد بأن دائرة ولایة الفقیه غایة فی السعة وهی تشمل كافة الشؤون الاجتماعیة ماخلا الامور التی یختص التدخل فیها بالامام المعصوم(علیه السلام).
ولغرض المزید من الایضاح لهاتین الرؤیتین نسوق المثال التالی: ربما یصبح من الضروری توسیع الطرق والشوارع بحیث تتعرض ارواح الكثیرین للخطر ویقع الكثیر من حوادث الاصطدام وبالتالی تلحق خسائر مادیة وبشریة فادحة فی حالة عدم انجازها، ولأجل الحد من حصول مثل هذا الوضع ترى كلتا الفئتین صلاح تدخّل الولی الفقیه وجواز اصداره الحكم بهدم البیوت أو غیرها من البنایات لانجاز عملیة توسیع الممرات والشوارع. أما اذا كانت الغایة من الهدم توفیر المزید من الراحة للناس أو تزیین البلد فان الفئة الاولى تعتقد بعدم مأذونیة الولی الفقیه فی اصدار حكم الهدم; بیدَ ان الفئة الثانیة تقول: حیثما كان الأمر یصب فی مصلحة المجتمع ـ وان لم یبلغ مستوى الضرورة ـ فبامكان الولی الفقیه اصدار الحكم ایضاً لضمان مصالح الشعب مطلقاً، كما فی المثال المتقدم فیكون الآخرون مكلفین بانجاز العمل.
ولا یخفى ان ولایة الفقیه المطلقة لا تعنی أبداً التمرد على الاحكام الالهیة وتعطیل حكم الله احیاناً حیثما شاء ولی الأمر كما
یروج له بعض الاعداء والمغرضین، وذلك لأن ولی الأمر إنما ینتقل عن الحكم الاولی الى الحكم الثانوی لفترة معینة فی بعض الحالات بسبب احاطته بالفقه الاسلامی والمامه بالمصالح الاجتماعیة، وهو فی الواقع انما یرجع من حكم الى حكم آخر ثانوی وهو من الاحكام الالهیة أیضاً، ولهذا الرجوع ضابطته، ویحتاج إلى إذن وتجویز من الله سبحانه وتعالى ولیس ناجماً عن هوى الولی الفقیه ورغبته، فالحكمة فی جعل ولایة الفقیه هی تنفیذ الاحكام الالهیة وتمهید الارضیة لتطبیق الاحكام الاسلامیة السامیة الرفیعة ولیس ممارسة رغبته الشخصیة واتباع اهوائه النفسیة.
كما تقدم القول ان حق التقنین والتشریع مختصٌ بالاصالة بالله وهو الذی بوسعه ان یمنح أناساً الاذن بالتقنین والحكم على العباد، من هنا فان أی نمط من التقنین وممارسة الامر والنهی على الناس دون اذن من الله یُعد غیر جائز ومرفوضاً استناداً للرؤیة الاسلامیة. بناءً على هذا ووفقاً للرؤیة الدینیة فان قوانین أیة حكومة أو دولة ـ سواءً الدستور أو سائر المقررات ـ انما تكتسب الشرعیة والرسمیة متى ما صادق علیها الولی الفقیه ـ الحائز على الاذن بالحكم والتقنین فی عصر الغیبة نتیجةَ التنصیب الالهی العام ـ بنحو من الانحاء، وهذا أمر مسلَّم به دینیاً وموضع اجماع المؤمنین بولایة الفقیه سواء المطلقة أو غیر المطلقة.
ولایة الفقیه المطلقة فی كلام الامام الخمینی(قدس سره)
یقول الامام الخمینی(قدس سره):
واذا نهض بأمر تشكیل الحكومة فقیه عالم عادل فانه یلی من امور المجتمع ما كان یلیه النبی(صلى الله علیه وآله) منها، ووجب على الناس ان یسمعوا له ویطیعوا. ویملك هذا الحاكم من أمر الادارة والرعایة والسیاسة للناس ما كان یملكه الرسول(صلى الله علیه وآله)وامیر المؤمنین(علیه السلام)على ما یمتاز به الرسول والامام من فضائل ومناقب خاصة2
ویقول ایضاً فی «شؤون وصلاحیات الولی الفقیه» من كتاب البیع:
«... فیكون لهم فی الجهات المربوطة بالحكومة كل ما كان لرسول الله والائمة من بعده صلوات الله علیهم اجمعین ولا یلزم من ذلك ان تكون رتبتهم كرتبة الانبیاء أو الائمة(علیهم السلام) فان الفضائل المعنویة أمر لا یشاركهم(علیه السلام) فیه غیرهم.3
وفی نفس الكتاب یقول الامام:
فللفقیه العادل جمیع ما للرسول والائمة(علیهم السلام) مما یرجع الى الحكومة والسیاسة ولا یعقل الفرق، لان الوالی ای شخص كان ـ هو مجری احكام الشریعة والمقیم للحدود الالهیة والآخذ للخراج وسائر المالیات والمتصرف فیها بما هو صلاح المسلمین.4
ویقول(رحمه الله) فی موضع آخر:
وعلى ذلك یكون الفقیه فی عصر الغیبة ولیاً للامر ولجمیع ما كان الامام(علیه السلام) ولیاً له.5
ویقول(رحمه الله) كذلك فی موضع آخر:
ثم ان المستحصل من جمیع ما ذكرناه ان للفقیه جمیع ما للامام(علیه السلام)الاّ اذا قام الدلیل على ان الثابت له(علیه السلام) لیس من جهة ولایته وسلطنته بل لجهات شخصیة تشریفاً له، أو دلّ الدلیل على ان الشیء الفلانی وإن كان من شؤون الحكومة والسلطنة لكن یختص بالامام(علیه السلام) ولا یتعدى منه.6
كلام الامام(رحمه الله) هذا الذی ینبئ عن رؤیته الشامخة فیما یخص ولایة الفقیه، جاء خلال درس خارج الفقه فی النجف الاشرف لسنوات سبقت انتصار الثورة الاسلامیة، وهو الذی اغضب اعداء الاسلام بشدة ودفعهم لمحاولة اطفاء هذا النور الالهی.
هل مارس معمار الثورة الاسلامیة(رحمه الله) هذه الولایة العظمى عملیاً اثناء فترة حكمه التی استمرت عدة سنوات أم لا؟
الجواب بالإیجاب ونشیر هنا إلى موارد:
1ـ تنصیب المهندس مهدی بازرگان رئیساً للوزراء والحكومة الانتقالیة من قبل الامام الخمینی(رحمه الله).
یقول الامام(رحمه الله) بهذا الشأن: «و حریٌ بی التذكیر مرة اخرى باننی اذ
نصّبته فتنصیبی له انما جاء بفضل الولایة التی اتمتع بها من لدن الشارع المقدَّس، واننی إذ نصَّبته فان طاعته واجبة وعلى الشعب اتباعه، فهذه الحكومة لیست حكومة عادیة بل هی حكومة شرعیة یجب اتباعها، ومخالفتها مخالفة للشرع وتمرُّد علیه».7
كلام الامام(رحمه الله) هذا بالاضافة الى دلالته على ممارسته(رحمه الله) للولایة المطلقة، فهو یدلل بوضوح على ان ولایته تكتسب شرعیتها من الله سبحانه ومن لدن الشارع المقدس، ومثل هذه الشرعیة لا تُنال من الأُمة واصواتها بل هی حكم الهی كسائر الاحكام الشرعیة من قبیل وجوب الصلاة والصوم والحج... الخ ولیس منوطاً بتصویت الأمة ورأیها.
2ـ التصریح بـ «التنصیب» فی نص الاحكام الصادرة عن الامام(رحمه الله)فی تنفیذ احكام رئاسة الجمهوریة لبنی صدر، والشهید رجائی(رحمه الله)وقائد الثورة الاسلامیة «مُدَّ ظلّه» بالرغم من ان انتخاب رئیس الجمهوریة یتم عبر التصویت العام طبقاً للمادة السادسة من الدستور، واستناداً لما تنص علیه الفقرة التاسعة من المادة العاشرة بعد المائة من الدستور ـ التی تحدد واجبات وصلاحیات القائد ـ فان للقائد الحق فی ان یُمضِی وینفّذ حكم رئاسة الجمهوریة فقط بعد انتخاب الشعب له، بید ان الامام(رحمه الله)وبمقتضى الولایة المطلقة الممنوحة له من لدن الباری تعالى یصرِّح بالاضافة الى تنفیذه احكام رؤساء الجمهوریة هؤلاء: «اننی انصّب هؤلاء» وهذا أبعدُ مدىً من الصلاحیات التی ینص علیها الدستور ویأتی بموجب حقِّه فی ممارسة «ولایة الفقیه المطلقة».
أَحكام الامام(رحمه الله) فی تنصیب رؤساء الجمهوریة
أ ـ حكم تنفیذ رئاسة الجمهوریة لبنی صدر (1358/11/15 هـ .ش)
«بسم الله الرحمن الرحیم: بناءً على انتخاب الشعب الایرانی الشریف وبأغلبیة ساحقة للدكتور السید ابی الحسن بنی صدر لرئاسة الجمهوریة الاسلامیة فی ایران، وبما ان شرعیته منوطة بتنصیب الفقیه الجامع للشروط، فاننی وبموجب هذا الحكم أنفّذ رأی الشعب وانصّبهُ بهذا المنصب، بید ان مصادقتی وتنصیبی هذا وانتخاب الشعب الایرانی المسلم منوط بعدم تخلفه عن الاحكام الاسلامیة المقدسة وإتباعه لدستور الجمهوریة الاسلامیة فی ایران».8
ب ـ حكم تنفیذ رئاسة الجمهوریة للشهید محمدعلی رجائی; (1360/05/11 هـ .ش)
«بسم الله الرحمن الرحیم: الحمد لله حمداً لا حصر له على سابغات نعمائه ولما وفَّق الیه شعب ایران المؤمن الشریف... وبالرغم من دعایات الاعداء فی الخارج والداخل فقد اختار باغلبیة ساحقة تفوق ما قبلها السید محمدعلی رجائی «أیّده الله تعالى» لرئاسة الجمهوریة الاسلامیة فی ایران منیطاً به هذه المسؤولیة الجسیمة والعبء الثقیل، ونظراً الى ان شرعیته منوطة بتنصیب الولی الفقیه فاننی أُنفّذ رأی الشعب وأُنصبه رئیساً للجمهوریة الاسلامیة فی ایران».9
ج ـ حكم تنفیذ رئاسة الجمهوریة لآیة الله الخامنئی «مُدّ ظله العالی» (1360/07/17 هـ .ش)
«تبعاً لارادة الشعب العظیم وبعد معرفتی بمكانة ومنزلة المفكر والعالم المحترم سماحة حجة الاسلام السید علی الخامنئی «أیّده الله تعالى» فاننی انفّذ رأی الشعب وانصّبه رئیساً للجمهوریة الاسلامیة فی ایران».10
وقال(رحمه الله) فی الدورة الثانیة لتولی سماحة آیة الله الخامنئی لرئاسة الجمهوریة (1364/06/13 هـ .ش):
«تبعاً لآراء الشعب العظیم... أنفذ رأی الشعب حتى نهایة الدورة الحالیة وانصبّه رئیساً للجمهوریة الاسلامیة فی ایران»11.
3ـ مرسوم الامام الراحل(رحمه الله) بتشكیل مجمع تشخیص مصلحة النظام بتاریخ 1366/11/17 هـ .ش
فی الوقت الذی لم یكن قد ورد نصٌ فی الدستور وفی صلاحیات القائد بشأن وجود مثل هذا المجمع أو صلاحیة تشكیله قبل اعادة النظر بالدستور عام 1368، بید ان الامام(رحمه الله) أصدر مثل هذا المرسوم، وهذا الامر بدوره صورة اخرى من ممارسة الولایة المطلقة.
الملاحظة الجدیرة بالاهتمام التی تبدو للعیان فی هذا الحكم ونظائره ـ كالمورد السابق ـ هی:
ان الفقرات المدرجة فی المادة 110 من الدستور التی تفصّل وظائف القائد وصلاحیاته لیست «من باب الحصر» فی الحقیقة، وانما هی «من باب التمثیل»، وبتعبیر آخر: أن یتم العمل بما جرى بیانه فی الدستور وبهذا الاطار مادام البلد یعیش اوضاعاً عادیة ـ ومن شأن القانون فی الواقع بیان الحالات المتعلقة بالاوضاع العادیة فی كافة المواطن أما اذا طرأت حالة استثنائیة لم تكن متوقعة فی اوضاع البلاد أو إدارته فان القائد وبموجب الولایة المطلقة الممنوحة له من الشارع المقدس بامكانه المبادرة والتدخل لعلاج الازمات وضمان مصالح المجتمع.
على امل ان نبتعد ـ بعد المعرفة الصحیحة والدقیقة لرؤى امامنا العظیم(رحمه الله)المنبثقة عن القرآن والسُّنة ـ عن التفسیرات الذوقیة والمغلوطة لآرائه والسیر باتجاه تحقیق فكره النیِّر بعونه تعالى.
* * * * *
1. لكن اصل ولایة الفقیه من مسلّمات الفقه الشیعی ولم ینكره فقیه قط على امتداد تاریخ التشیع.
2. راجع كتاب الحكومة الاسلامیة للامام الخمینی: ص 49.
3. راجع «ما یعتبر فی الولی الفقیه»، كتاب البیع للامام الخمینی: ج 2/466.
4. نفس المصدر: ص 467.
5. نفس المصدر: ص 496.
6. نفس المصدر: ص 496.
7. صحیفة النور: 6/31.
8. صحیفة النور: 11/260.
9. نفس المصدر: 15/76.
10. نفس المصدر: 15/179.
11. نفس المصدر: 19/221.