الفصل الثالث/ الحكومة الدینیة
سؤال: حدثونا عن تاریخ العلمانیة وخصائصها ودوافع ترویجها
جوابه: العلمانیة اتجاه فكریٌّ له معالمه منها فصل الدین عن الدولة، وتبلور الدولة على اساس وطنی، والتقنین وفقاً لارادة البشر; والتركیز على الشؤون المادیة، وسیادة العلوم التجربیة بدلا عن العلوم الالهیة.
بناءً على هذا فان العلمانیة تركز على انفصال دائرة الدین عن السیاسة، ویُعتبر الدین فی هذا النظام أمراً فردیاً رسالته بلورة العلاقة بین الانسان وربه فقط ولا دخل له فی السیاسة وإدارة امور المجتمع أبداً.
تاریخ العلمانیة
الغرب هو مهد هذه الفكرة ویمكننا القول ان العلمانیة افرازٌ طبیعی للاحداث التی سبقت عصر «النهضة» ففی القرون الوسطى ظهرت الكنیسة الكاثولیكیة عملیاً على انها قوة امبراطوریة، وكان المذهب الكاثولیكی یمثل انموذجاً تاماً للدین الكامل داخل المجتمع الاوربی، لذلك كانوا یلقون بتبعات نواقص المذهب على الدین، ونتیجة لحكم الكنیسة فان الامور التی تؤید نظریات الانجیل وتعالیمه كانت هی التی تحصل على الاذن بنشرها، وقد جرى فی تلك الحقبة التصدی لكل انواع الابداع، اذ أُعتُبر العلم هو الشجرة المحظورة فنشأ تعارضٌ بین العلم والدین.
لقد ادى الحكم على النظریات العلمیة استناداً الى الانجیل المحرَّف الى انحطاط المجتمعات المسیحیة، ومن جانب آخر جرى القبول وفقاً للنص المحرَّف فی الانجیل بنوع من تقاسم الاعمال بین الكنیسة والقیصر فاستناداً لتصریح الانجیل: ما لقیصر یجب ان یُترك لقیصر وما لله یجب ان یُترك للكنیسة. من هنا قال بعض الكتّاب: فی المسیحیة تتبلور الارضیة المساعدة لنمو العلمانیة، أی إن عجز تعالیم الانجیل والمسیحیة كان أحد الاسباب المؤثرة فی نشوء العلمانیة.
من العناصر الاخرى المؤثرة فی نشوء العلمانیة فی الغرب هی نهضة الاصلاح الدینی أی الحركة التی جرى خلالها تقلیص نفوذ الدین فی شؤون الحیاة تدریجیاً، وكان مارتن لوثر (1483 ـ 1546 م) من طلائع هذه الحركة، فلقد طرح آراءً جدیدة بشأن المسیحیة بغیة اصلاح الدین واقرار الانضباط فی الكنیسة، فكان فصل الدین عن السیاسة أحد الاصول التی اعتمدها، فقال: ان الملوك یستمدون سلطتهم من الله مباشرة وواجب الكنیسة العنایة بالامور المعنویة والروحیة فقط.
لقد ادت نهضة الاصلاح الدینی الى زعزعة حكم الكنیسة وبروز فلسفة سیاسیة جدیدة، فكان من افرازات هذه الحركة صراع الطوائف الدینیة الذی افضى الى اضمحلال وزوال قدسیة الدین والتمهید لقیام العلمانیة.
على العموم یُمكن تقسیم دوافع رواج العلمانیة فی الغرب الى طائفتین هما:
1ـ الدوافع الخیّرة لترویج العلمانیة
وهی التی كان یقف وراءها بعض المتدینین ممن كانوا یریدون الحفاظ على قدسیة الدین، وانهم ـ من جانب آخر ـ كانوا یرون تناقض الدین مع بعض القیم السائدة فی المجتمع الغربی ولحل المشكلة قالوا: ان دائرة الدین بمعزل عن دائرة العلوم والفلسفة.
ان التعارض انما یُفترض اذا ما التقى شیئان عند نقطة معینة، أما اذا سارا فی خطین متوازیین ولا یلتقیان عند أیة نقطة فانه لا یحصل التعارض حینذاك. من هنا ولغرض المواءمة بین الدین من ناحیة، والعلم والفلسفة والعقل من ناحیة اخرى; قالوا: ان دائرة الدین تمثل مجموعة من الامور الشخصیة التی تخص علاقة الانسان بالله، وقالوا ایضاً بشأن القیم والواجبات والمحظورات: أیّ واجب ومحظور یُطرح فی اطار علاقة الانسان بالله فهو یخص الدین ولا تعارض للعلم معه، أما اذا تعلقت الواجبات والمحظورات بالحیاة الاجتماعیة للانسان فلیس للدین ان یتدخل فیها، فعلى سبیل المثال: العقوبات التی ینص علیها الدین بحق المجرمین مرفوضة لتناقض العقوبة مع كرامة الانسان، فكل مجرم مریض، والمریض یجب ان یُعالج لا أن یعاقب!
2ـ الدوافع المغرضة لترویج العلمانیة
كانت هنالك دوافع مغرضة تثار من قبل مَنْ كانوا یرون الدین عقبة فی طریق مطامعهم ومصالحهم، ومن بینهم ارباب الحكم الذین كانوا یرددون نغمة فصل الدین عن السیاسة بغیة نیل المزید من المصالح الشخصیة، وعلى الطرف الآخر فقد اتفق معهم العلماء الذین كانوا یتصورون تعارض الدین مع اكتشافاتهم العلمیة فكانت المحصّلة أن اشتد عود العلمانیة.
الملاحظة الجدیرة بالاهتمام هی ان العلمانیة وخلال مسیرتها التاریخیة فی عالم الغرب قُسِّمت الى مرتبتین حسب الضعف والشدّة، وبتعبیر آخر انها مرّت بمقطعین تاریخیین انتقلت خلالهما من حالة الضعف الى حالة من القوة والافراط:
یعود المقطع الاول الى مرحلة نهضة الاصلاح الدینی وفیها نشأت البروتستانتیة بدافع اصلاح الدین، والعلمانیة بصیغتها هذه لا تنفی الدین وانما تحصره بالامور الفردیة وتبعده عن القضایا الاجتماعیة.
أما فی المقطع التالی فقد آل هذا التیار الى عصر «النهضة» وهی مرحلة الانفصال عن الدین وطُرحت العلمانیة بصیغتها الافراطیة، وقد تفشى خلال هذه المرحلة الاعتقاد بوجوب التنكّر لماوراء الطبیعة والتركیز على الحیاة الدنیویة واستبدال الانسان بالله، فاساس النهضة انما یرتكز على محوریة الانسان الذی یعدّ محوراً لكل شیء بدءاً من العلم والمعرفة وانتهاءً بالقیم والاخلاق والسیاسة والحقوق والحكم.
* * * * *