ar_porsesh2-ch3_3.htm

سؤال: ألیسَ إقامة حكومة دینیة وتدخُّل علماء الدین فی السیاسة تكراراً لتجربة المسیحیة فی القرون الوسطى؟

جوابه: جرى مؤخراً ومن خلال بعض المقالات والخُطب تشبیه الاوضاع الراهنة فی ایران الاسلام بحكم المسیحیة فی القرون الوسطى، والایحاء ـ عبر اختلاق عدة وجوه لهذا التشابه بما یلی: مثلما افرزت الحكومة التی حكمت باسم الدین فی الغرب عواقب وخیمة وغدت سبباً فی الضیاع والتخلف، فان مثل هذه الحالة حاصلة الآن فی ایران، ولا مفر للخلاص منها إلاّ فی سلوك ذات الطریق الذی اختُط هناك واستقرت الاوضاع به.

قبل كل شیء ینبغی الانتباه الى أنه ومنذ الیوم الذی بُعث فیه الانبیاء(علیهم السلام) لهدایة البشر، نشط حزب الشیطان لمواجهتهم واخماد نور رسالتهم وتعقیم نشاطاتهم، فقام بما یتناسب من ممارسات مع ظروف كل عصر ومجتمع، وكذا سیفعل فی المستقبل أیضاً.

تشویه صورة الثورة

تتمثل الوصفة التی لفَّقها لنا الاستكبار العالمی وباشر بالتخطیط لها وتطبیقها منذ السنوات الاولى التی اعقبت انتصار الثورة، فی تشویه صورة نظامنا الاسلامی وتشبیهه بنظام القرون الوسطى الذی كان یدار على ید الكنیسة ـ وعلى وجه الخصوص الكنیسة الكاثولیكیة ـ.

یتم بموجب هذه الخطة تصویر الاسلام على انه عقبة بوجه تطور العلم والمعرفة والصناعة والتكنولوجیا، وكذلك عرضه كرؤیة عاجزة ناقصة لا قدرة للنظام الذی یستند الیها على معالجة مشاكل المجتمع وادارته، ومن خلال سردهم لبعض التلفیقات یعتبرونها دلیلا على تماثل هذین النظامین ـ ای النظام الاسلامی ونظام الحكم المسیحی ، للایحاء بان تجارب الصراع التی شهدتها القرون الوسطى ضد مثل هذا النظام هی السبیل الامثل من ناحیة، والادّعاء من ناحیة اخرى ـ ان ما حصل لذلك النظام سیحصل لهذا النظام ایضاً.

ویتم توضیح أول أوجه الشبه بما یلی: ثمة أناس كانوا یحكمون الناس وقتذاك باسم الدین، وان الوضع یسیر حالیاً على هذا المنوال ایضاً لمحاولة البعض التسلط على الناس باسم الله والدین. اذن برز هنا قاسم مشترك. ثم یضیفون: وهذه الفئة تمارس الآن ذات التشدد الذی كانت تنتهجه الفئة التی سبقتها فیما یخص افكارها وعقائدها حیث كانت ترفض حریة الفكر والرأی وتزج المعارضین لافكار الكنیسة فی السجن أو تسوقهم الى المحاكم أو الاعدام، وهؤلاء ایضاً یمارسون ذات الافعال.

البدیل البروتستانتی لمجتمعنا

كانت الخطوة الاولى من ردة فعل العالم الغربی فی مواجهته لذلك النظام، نهضة الاصلاح الدینی أو «البروتستانتیة» أی برز من اوساط القساوسة ورجال الدین أُناس استقبحوا فعل الكنیسة الكاثولیكیة قائلین: ان هذه الطریقة لیست المسیحیة الحقیقیة وعلینا العودة الى المسیحیة الاصیلة. واقترحوا ان یقدَّم الدین بصیغة تخلو من الحكم ویكف عن التدخل بشؤون السیاسة وتقتصر مهمته على تنظیم العلاقة بین الله والانسان، وهكذا انبروا لمقارعة العلماء الرسمیین للمسیحیة، وهذا فی واقع الأمر بمثابة انطلاقة الفكر البروتستانتی الذی تبناه مارتن لوثر فی بدایة الأمر وواصله الآخرون بصیغ مختلفة ونشأت على اثره الطوائف البروتستانتیة.

على أیة حال; مثل هذا الایحاء یرد بشأن نظامنا الاسلامی ایضاً من ان المزج بین الدین والسیاسة واتخاذ الدین اساساً للحكم لن یكون احسن مصیراً مما حصل للكنیسة الكاثولیكیة وستنجم عنه هزیمة كبرى للاسلام، اذن من الافضل فصل الدین عن السیاسة سعیاً لانقاذه.

اضف الى ذلك ان التدخل فی السیاسة یحط من قدسیة العلماء والمتدینین وذلك:

اولا: ان للسیاسة ألاعیبها الخاصة بها.

ثانیاً: فی حال تدخُّل هذه الفئة ربما تبرز مشكلات ونواقص فتلحق اثارها السلبیة بهم مما یؤدی الى زوال حرمة علماء الدین فی المجتمع، إذن خیرٌ لهم الاهتمام بعلاقتهم مع الله ووعظ الناس وترك النشاطات السیاسیة لاهلها.

تاریخ البروتستانتیة فی المجتمع الاسلامی

حریٌّ القول: ان هذه الوصفة لیست نمطاً مستجداً بل لها تاریخ طویل فی هذا البلد، فقبل انتصار الثورة أثار البعض ـ ومنهم من كان ذا میول دینیة ـ هذه الافكار، وبالوسع الاشارة ـ على سبیل المثال ـ الى كراس «الحدود بین الدین والسیاسة» تألیف المهندس مهدی بازرگان، وسبقه فتح علی آخوند زاده فی اقتراحه بانشاء بروتستانتیة اسلامیة كسبیل لتلافی التخلف الذی تعانیه ایران ثم اخذ الآخرون بتردیده فیما بعد.

على أیة حال، ان الدراسة المفصلة لهذه المقارنة بین الاسلام والمسیحیة، وكذلك تحرّی جذور الاسباب التی آلت الى نهضة الاصلاح الدینی فی أوربا، وبیان حقیقة عدم وجود مثل هذه التلفیقات فی الاسلام والحكومة الاسلامیة من الاساس، وان الاسلام یختلف كثیراً عن المسیحیة المحرّفة، یستدعی المزید من الوقت، ولكن ما یسع قوله على نحو الاجمال هو:

ان الاسلام هنا لم یأتِ برسالة ضیقة من شأنها تنظیم العلاقة بین الله والانسان فقط، بل هو دین شامل وواسع ذو قانون ورسالة لكافة شؤون حیاة الانسان سواء الفردیة من قبیل علاقة الانسان بالله وعلاقة الانسان بنفسه; أو الشؤون الاجتماعیة ومن بینها الحقوق والسیاسة والاقتصاد والأُسرة والتجارة... الخ. وتصب كافة هذه القوانین والاحكام باتجاه تحقیق الكمال النهائی للانسان أی القرب الى الله والسعادة الاخرویة وكذلك ضمان المصالح الفردیة والاجتماعیة وسعادة الانسان فی حیاته الدنیویة هذه.

كما ان التدخل فی السیاسة بمفهومها الاسلامی لیس من شأنه المساس بقدسیة العلماء والمتدینین وانما یُلقی على عواتقهم مسؤولیة جسیمة وحتمیة باعتبارهم مطبّقین للاحكام الاسلامیة وخادمین للمسلمین، وان تطبیق أىٍّ من الاحكام الالهیة فی هذا المضمار ومعالجة مشاكل الناس بمثابة خطوة كبرى باتجاه السمو الروحی والقرب من الله وتوفیر السعادة للبشر وتأمین مصالحهم الحقیقیة وسط المجتمع.

وخلاصة القول ان العدوّ یسعى وبعون من مرتزقته فی الداخل الى بث فكرة «البروتستانتیة الاسلامیة» فی اوساط المثقفین والشباب وجرفهم نحو ما یسمى بـ «القراءة الجدیدة» للدین التی لا یُطیقها القرآن والسنّة1 ولا شعبنا المسلم المؤمن. یقول الامام الخمینی(رحمه الله): «من المصائب ان ینبری من لا معرفة له بالاسلام أهوَ یُكتب بـ «السین» ام بـ «الصاد»، وهو جاهل بالاسلام ولا علم له بنصوصه، فینقل كلاماً ویردده بین الشباب صارفاً هاتفاً فیدفع الشباب لارتكاب عمل ما... یتوهم امثال هؤلاء بما ان ثورة قد قامت الآن ـ مثلاً ـ فلابد من قیام ثورة داخل الاسلام ایضاً، ألا یفهم هؤلاء؟ ان اغلبهم ممن هم على معرفة لكنهم یحاولون القضاء على القاعدة»2

مقترح النهضة الاسلامیة

تتمثل الخطوة الثانیة للعدو بمقترح النهضة الاسلامیة، بمعنى ان یولد مجتمعنا من جدید بثقافة جدیدة لا أثر فیها للمعتقدات والمتبنیات الدینیة ومن شأنها عزلة الدین. وبالرغم من ان هذه المهمة على قدر من الصعوبة فی مجتمع دینی من قبیل مجتمعنا ولكن ربما یتسنى العثور على مقومات یتم من خلالها بلوغ الهدف المنشود. ومن غیر الممكن ـ بطبیعة الحال ـ بناء الآمال على تلك الفئة التی ذاقت شدائد النظام البائد وظلمه وفساده وقامت بالثورة، ومن غیر الممكن ایضاً تعلیق الأمل بمن توجهوا الى الجبهة من الشباب والذین تجرعوا الشدائد فی سبیل الاسلام والثورة. اذن لابد من التوجه نحو الجیل الذی وُلد بعد انتصار الثورة ولم یشهد الصعوبات التی سبقت انتصار الثورة ولم یتجرع مشاق الایام الاولى للثورة وفترة الحرب المفروضة، الجیل الذی وُلد فی ظل اجواء اسلامیة ویحمل تطلعات من قبیل الرفاهیة والاستقرار والمستقبل الزاهر والمنصب والجاه وما شابه ذلك.

طرق تسلل العدو بین الشباب

ولكن كیف التغلغل وتغییر الافكار وتوفیر الظروف المناسبة لاحداث التغییر؟ لقد قاموا ویقومون بعدة امور منها:

1ـ اهمال القیم الاسلامیة والثوریة من قبیل الجهاد والشهادة والتضحیة والزهد والورع والحدیث عن مفاهیم جدیدة من قبیل الدیمقراطیة والتنمیة والحریة... الخ الجذابة بالنسبة للجمیع لاسیما شریحة الشباب من ناحیة، واتخاذها مقدمة وممهدات للقضاء على المُثُل الاسلامیة ومحوها من ناحیة اخرى.

2ـ وصف العلماء بانهم السبب فی المشاكل الاقتصادیة التی تعانیها الجماهیر، والغلاء والتضخم والشحة فی مستلزمات الرفاهیة ونشوب الحرب وتبعاتها والایحاء بان المسؤول عن هذه المصاعب هم مسؤولو النظام، ولیسوا سوى العلماء. اذن طبقة العلماء ولیس غیرهم السبب فی المشاكل والمعضلات. یقول الامام(رحمه الله) ایضاً: «ان هؤلاء یریدون مصادرة القاعدة ویریدون لكل شیء ان یصبح غربیاً، وهذا ما یریده هؤلاء ولیس انهم یعادون عالِم الدین، بل لانهم یعادون الاسلام وانهم لیشاهدون ما ینهض به عالم الدین من اجل الاسلام، لیكن بضعة من علماء الدین سیّئین فإلى جهنم، لكنهم لا یقولون ان هذه الحفنة سیئة وانما یقولون ]كافة[ علماء الدین، اذ یتعین علیهم التقدم خطوة خطوة حیث یتخندقون بعد كل خطوة یتقدمونها»3

3ـ القضاء على المشاعر والحمیّة الدینیة: ان السیرة العملیة للنبی الاكرم(صلى الله علیه وآله)والائمة الاطهار(علیهم السلام) وحمیتهم لاسیما ثورة ابی عبدالله الحسین(علیه السلام) بوجه حالات التمرد على الدین والتحریف والبدع لهی خیر انموذج یتأسى به شعبنا المسلم، فمتى ما احسوا بالخطر یُداهم الاسلام هبّوا لدرئه بكل كیانهم باذلین الارواح والاموال. والعدو بمعرفته لهذا العنصر الحیوی والمصیری فهو یسعى جاهداً للقضاء علیه واخماده.

4ـ وصف الدین والتدین بأنه سبب الاختلاف: یسعى البشر فی العصر الحدیث للانتفاع من حصیلة التعاطی والتعاون المتبادل ونیل التطور على الصعید العالمی، وبما ان الناس لیسوا جمیعاً على دین واحد فان الدین سیصبح سبباً للاختلاف والعداوة، بینما لا سبیل أمامنا للانضمام الى المجتمع الدولی وقبولنا من قبل الآخرین سوى مجاملتهم والتسامح والتساهل فی الدین والاحكام المتعلقة به، بناءً على هذا یتعین تنحیة الدین جانباً أو تبنیه كأمر ذوقی وكما نتحمل تعدد الاذواق لدى الآخرین فی امور من قبیل لون الملبس وفصاله، نتحمل أذواقهم فی اصل الدین وطبیعته، وان نتحلى بهذا التساهل ازاء التوجهات الجدیدة أو ما یسمى بالقراءات الجدیدة للدین داخل البلاد ایضاً.

المسؤولیة الجسیمة التی یتحملها الغیارى على الاسلام والثورة

بید ان المهم هی المسؤولیة الخطیرة التی ینهض بها الغیارى على الاسلام والثورة من علماء الحوزات العلمیة والجامعات بان یشخّصوا جیداً مؤامرات الاعداء فی البدایة ومن ثم وضع الخطط المتجانسة المدروسة لمواجهتها والعمل من خلال جهادهم الفكری والثقافی على سدّ الطریق بوجه المناهضین للدین، والایفاء بما علیهم من دَین لیتسنى للشباب لاسیما الطلبة ـ الذین تستهدفهم مثل هذه الحملات ـ تشخیص صالح الطریق من طالحه، ولیزداد شعبنا العزیز مرة اخرى رسوخاً فی ارادته على سیادة الاسلام والقرآن وشموخ الدین فی وطننا.

* * * * *




1. قال نبی الاسلام(صلى الله علیه وآله): انی تاركٌ فیكم الثقلین ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتی اهل بیتی وانهما لن یفترقا حتى یردا علیَّ الحوض.

2. صحیفة النور: 13/175ـ182.

3. صحیفة النور: 13/175ـ182.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...