منهج العلاّمة الطباطبائی فی تفسیر القرآن بالقرآن

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

منهج العلاّمة الطباطبائی فی تفسیر القرآن بالقرآن

كلمة سماحة آیةالله محمّدتقی مصباح الیزدیّ فی المؤتمر الدولی لمناقشة آراء العلاّمة الطباطبائی(رحمه‌الله) فی تفسیر المیزان

 

 

الحمد لله ربّ العالمین والصلاة والسلام على سیّد الأنبیاء والمرسلین حبیب إله العالمین أبی القاسم محمّد وعلى آله الطیّبین الطاهرین المعصومین.

اللهمّ كُن لولیّكَ الحجّة بن الحسن صلواتك علیه وعلى آبائه فی هذه الساعة وفی كلّ ساعة ولیّاً وحافظاً وقائداً وناصراً ودلیلاً وعیناً حتّى تُسكنه أرضك طوعاً وتمتّعه فیها طویلاً.

إلى روح إمامنا الراحل (رضوان الله تعالى علیه) وإلى أرواح جمیع من لهم حقّ علینا من الأساتذة، وإلى أرواح الشهداء نهدی ثواب الصلاة على محمّد وآل محمّد (صلوات الله علیهم أجمعین).

مقدّمة

أودّ، قبل كلّ شیء، أن أتقدّم بالشكر والتقدیر، باعتباری مجرّد خادم فی مؤسّسة، إلى الأساتذة الأكارم والعلماء الأعلام المشاركین فی هذا المؤتمر. ولا أرانی - فی الحقیقة – إلاّ وقد أدّیت واجبی بهذه الكلمات، إذ لیس شأنی، إزاء ما تجشّمه الإخوة الأعزّاء من متاعب، بأزید من ذلك. نسأل الله جلّ وعلا أن یوفّقنا جمیعاً إلى الانتفاع أقصى ما یكون الانتفاع من هذه الموهبة الإلهیّة التی تمثّل الیوم – وببركة عنایات الله عزّ وجلّ، وبفضل جهود النبیّ الأعظم وأهل بیته الكرام (صلوات الله علیهم أجمعین)، ومساعی العلماء الأعلام من بعدهم – تراثاً غایة فی النفاسة جُعِل فی متناول أیدینا (وأقصد القرآن الكریم)، وأن نهتدی بأشّعة أنوار هذا الكتاب السماویّ إلى السبیل المفضیة إلى سعادتنا وسعادة البشر أجمعین، ونمضی فیها قُدماً مستعینین بالله ربّ العالمین.

مواجهة التفسیر بالرأی كان الدافع من وراء تصنیف تفسیر المیزان

الحدیث عن تفسیر المیزان وعن مصنّفه الفذّ، المرحوم العلاّمة آیة الله السیّد محمّد حسین الطباطبائیّ التبریزیّ (رحمه الله) لیس بالمهمّة السهلة. لكن أودّ أن اُشیر إجمالاً إلى أنّه ثمّة فی أطراف هذین الموضوعین المترابطین مساحة لمزید من الدراسة والبحث والتحقیق التی آمل، إن شاء الله، أن یخوض فیها الشباب الأعزّاء الذین یمتازون بالحیویّة النابضة والذوق الرفیع لنصل إلى نتائج أفضل وأكثر نفاسة.

لكن، ما الذی دفع المرحوم آیة الله الطباطبائیّ إلى تألیف هذا التفسیر؟ ومن أین نشأت هذه الفكرة أساساً؟ وما هو العامل الذی حثّه على النهوض بهذه المسؤولیّة، وإنفاق جلّ وقته، أو نصفه على الأقلّ، فی تألیف هذا التفسیر فی حینه، على الرغم من امتلاكه ممهّدات النبوغ فی الكثیر من العلوم الاُخرى؟ ما الذی امتاز به هذا التفسیر من خصوصیّات، والتی لا شكّ أنّها وازت الهدف الذی كان یرمی إلیه سماحته من كتابته؟ وفی النهایة، ما هی المیزات التی رآها هو نفسه فی هذا التفسیر؟ والسؤال التالی: هل تحقّقت هذه الأهداف بالكامل یا ترى، أم إنّه لابدّ لتحقّقها من المزید من الجدّ والاجتهاد؟

لیت اجتماعنا هذا كان قد خُصّص بأكمله لكلمة سماحة حجّة الإسلام والمسلمین الأعرافیّ، إذن لكنّا أفَدنا أكثر من توضیحات سماحته، ولَتعرّفنا أكثر على الأبعاد المختلفة لتفسیر المیزان وشخصیّة العلامة الطباطبائیّ. نسأل الله تعالى أن یمدّه وأمثاله بالتوفیق لخدمة أسمى للثقافة الإسلامیّة، وأداء ما فی رقبته من دَین للحوزات العلمیّة، لاسیّما الحوزة العلمیّة فی قمّ المقدّسة، على نحو أفضل.

إنّ نظرة إلى مقدّمة تفسیر المیزان، التی خطّها المرحوم العلاّمة الطباطبائیّ (رضوان الله تعالى علیه) بقلمه، خلیق بها أن تحكی، إلى حدّ ما، مرادَه من وراء تألیفه. فلقد استعرض فیها تاریخ التفسیر منذ صدر الإسلام وحتّى عصرنا الحاضر لیبیّن ما برز فی علم التفسیر من توجّهات، وما طرأ على البحوث التفسیریّة من تحوّلات، وما تبلور من مذاهب تفسیریّة، وما اتّصف به كلّ مذهب من المیزات ونقاط القوّة ونقاط الضعف. إذ یشیر سماحته إلى أنّ عوامل شتّى، كان من أهمّها اختلاط الثقافات، قد أسهمت فی استحداث مسائل جدیدة للمسلمین. ولما كان القرآن الكریم فی نظر المسلمین مصدرهم الأساسیّ ومرجعهم الرئیسیّ لحلّ معضلاتهم، فقد سعت كلّ فرقة منهم لسدّ حاجاتها من هذا الكتاب المقدّس، مركّزةً فی إفادتها منه على المسائل التی تحظى باهتمامها وتبرع فیها. فعكف المتكلّمون، على سبیل المثال، على الخوض فی الآیات التی تجیب على تساؤلاتهم الكلامیّة، وعمد أتباع كلّ مدرسة منهم – بشكل طبیعیّ – إلى تفسیر الآیات بالشكل الذی ینسجم مع فهمهم وذوقهم؛ فأكّد المعتزلة، مثلاً، على تلك الآیات التی تتناغم مع مذهبهم، وأصرّ الأشاعرة على آیات اُخرى تدعم عقائدَهم. هذا وقد طرحت الثقافات الاُخرى، التی كانت تفد بین الفینة والاُخرى على المسلمین من الشرق، لاسیّما الثقافة الهندیّة، قضایا حاول المفكّرون المسلمون التفتیش عن حلول لها بین طیّات القرآن الكریم، إلا أنّ نزعاتهم الخاصّة كانت، فی الأعمّ الأغلب، تتغلّب على النظرة الحیادیّة فی عملیّة الانتفاع من هذا الكتاب. ثمّ حلّ العصر الحاضر، وخلال القرنین الأخیرین أسهم التقدّم الذی شهده العالم الغربیّ فی العلوم المادّیة والإنسانیّة وفی التكنولوجیا، والذی أوجد مذاهب متنوّعة، أسهم – طبعاً - فی إثارة استفسارات جوهریّة لدى المسلمین، الأمر الذی قاد إلى محاولة فئات معیّنة منهم، تحت وطأة هذه التحوّلات، وانطلاقاً ممّا تحمل من میول خاصّة، التماس ما یؤیّد نزعاتها تلك فی آیات الذكر الحكیم.

ویُلفت العلاّمة الطباطبائیّ إلى وجه مشترك، أو نقطة ضعف مشتركة تقریباً، بین جمیع هؤلاء؛ وهی أنّ ضرباً من التفسیر بالرأی یلاحَظ فی جمیع هذه المذاهب؛ بمعنى أن البعض، وقبل أن یستخرج الرأی القرآنیّ القطعیّ من صلب القرآن الكریم ویتبنّاه، فإنّه یقتنع أوّلاً بجواب ما، وتمیل نفسه إلیه، ثمّ یحاول حمل الآیات علیه، لیدعم تفسیراً أو نظریّة ما وفقاً له. فلقد عدّ العلامة (رحمه الله) ذلك نقطة ضعف، والحقّ إنّها لنقطة ضعف أن یعمد الإنسان، قبل الرجوع إلى نصّ ما، إلى أن یقبل هو بنظریّة أوّلاً، ثمّ یسعى لحمل النصّ المذكور علیها. فهذا، فی الحقیقة، لیس بتفسیر، بل هو تطبیق، ولعلّ سماحته قد ساق نفس هذا التعبیر أیضاً.

ولقد سمعتُ شخصیّاً من لسانه (رحمه الله) أنّ ألوان الزیغ والاعوجاج التی حلّت بالمسلمین فی حقل التفسیر فی القرن الأخیر هی التی أشعَرته بمسؤولیّة الخوض فی البحوث التفسیریّة. ولعلّ ما جرى فی مصر یُعدّ النموذج الأبرز لذلك. فعلاقات مصر بالدول الاوروبّیة كانت أكثر التصاقاً، كما أنّ تسلّط فرنسا ومن ثمّ أخواتها علیها لفترة من الزمن زاد من ارتباط المصریّین ثقافیّاً بالاوروبّیین؛ فقد كانوا یرسلون الكثیر من طلابهم إلى فرنسا للدراسة، وكان أساتذة فرنسیّون یُدرّسون فی جامعاتهم أیضاً، الأمر الذی أدّى إلى تمهید الأرضیّة لظهور المیل إلى العلوم الطبیعیّة المعاصرة والعلوم الإنسانیّة من وجهة النظر الغربیّة. بل وقد ظهر حتّى على بعض أساتذة الأزهر، الذین یُنتظر منهم التصدّی للدفاع عن القرآن والإسلام، نزوعٌ إلى التفسیر بالرأی وتطبیق آیات القرآن على معطیات العلوم الغربیّة. ولم تغب أمثال هذه التوجّهات، بشكل أو بآخر، عن تفسیر المنار كذلك، الذی دُرِّس من قبل اُستاذ یُفترَض أن یكون من كبار علماء الأزهر. والقدر المشترك لهذه التوجّهات هو المیل إلى تفسیر القرآن الكریم وفقاً لمعطیات العلوم التجریبیّة. فمن باب المثال عمد هؤلاء إلى تطبیق حقائق قرآنیّة من قبیل اللوح، والقلم، والعرش، والكرسیّ، والملائكة، وأمثالها على عوامل وموجودات مادّیة. ولم یقفوا عند هذا الحدّ، بل قاموا بتفسیر الوحی، والكرامات، والمكاشفات، وما هو من هذا القبیل أیضاً تفسیراً مادّیاً، نوعاً ما. وعندما وجدت هذه الموجة أتباعاً ومؤیّدین لها فی الدول الإسلامیّة والبلدان الشیعیّة، لاسیّما فی إیران، وبدأت بالنموّ والانتشار، فقد شعر العلامة (رحمة الله علیه) بالخطر المحدق من أن یواصل هذا النهج طریقَه، فنُبتلى بمرض قبول إنجازات ومعطیات العلوم الغربیّة أوّلاً، ثمّ نحاول جاهدین إسقاط الآیات القرآنیّة علیها، أو نستقی منهم نظریّات العلوم الإنسانیّة، من مسائل حقوقیّة وسیاسیّة وغیرها، ومن ثمّ نطیل التفتیش عن آیة فی القرآن الكریم تنسجم معها لنقول: «القرآن أیضاً یقول ذلك»، وهی إسقاطات طالما حصلت.

منهج تفسیر القرآن بالقرآن

كان العلامة (رحمه الله) یؤكّد على أنّه: «لابدّ أن ینصبّ اهتمامنا على اعتماد منهج متقن ورصین فی استنطاق القرآن الكریم لنكون فی مأمن من هذه المزالق». وكما ذكر فی مقدّمة تفسیر المیزان، وكرّره فی سیاقه أیضاً، فإنّه قد استلهم هذه الحقیقة من منهج أهل البیت (علیهم السلام). فالمنهجیّة التی علّمها أهل البیت (علیهم السلام) لأصحابهم، وتبنّوها مع الذین حاولوا الاحتجاج علیهم ومناظرتهم (صلوات الله علیهم أجمعین) كانت تقضی بالإجابة على ما یُطرح من شبهات بخصوص بعض الآیات باللجوء إلى آیات اُخرى هی أكثر وضوحاً فی المضمون؛ أی كانوا، كما فی التعبیر المشهور، یفسّرون القرآن بالقرآن.

لقد جعل العلامة السمةَ الرئیسیّة لتفسیره هی تبنّی هذا المنهج، ألا وهو السعی لإزالة ما یلفّ الآیات القرآنیّة من غموض وإبهام بنفس القرآن الكریم وباللجوء إلى آیاته الاُخرى. فمدلول كلمة: «التفسیر» فی الواقع هو إزالة الإبهام عن المفهوم المبهم. وهذا المنهج هو أوّل أداة ینبغی لنا إعمالها من أجل تفسیر بعض مفاهیم آیات الذكر الحكیم ورفع ما یحیط بها من إبهام. ولعلّ باستطاعتنا أن نستشفّ من كلمات العلاّمة نفسه أنّ أهمّ وأبرز میزة امتاز بها تفسیره المیزان هو اتّباع هذه المنهجیّة.

لكن على الرغم من مضیّ أكثر من نصف قرن على بدء العلاّمة دروسه فی التفسیر وتدوین تفسیر المیزان على هذا النهج، فإنّه لا زالت لدى الكثیر – ممّن لم ینهلوا من معین سماحته الكثیر، واقتصرت معرفتهم به على قراءة آثاره المكتوبة، أو سمعوا بعض الاُمور عنه بالواسطة – بعض الضبابیّة التی تحیط بمعنى ومفهوم وكیفیّة هذا النهج، حتّى إنّهم یستفسرون بدهشة: «ما معنى تفسیر القرآن بالقرآن»؟ إذ یتخیّل البعض أنّه لابدّ لأیّ إبهام یُعثر علیه فی أیّ موضع من القرآن الكریم أن تكون ثمّة آیة اُخرى لرفعه، ویتعیّن علینا التفتیش عنها لإزالة ما التبس. فإن لم یتّضح مبحث ما من خلال آیة اُخرى، فهو ساقط تماماً من الاعتبار، إذ انّ السبیل الوحیدة لفهم القرآن وتفسیره هی اللجوء إلى آیاته الاُخرى. ومن هنا ینبری هؤلاء، تمسّكاً بهذا التصوّر، إلى مناقشة هذا المنهج، بل ویقولون، استناداً إلى آراء كبار العلماء والسابق واللاحق من المفسّرین: «لقد أثبتت التجربة أیضاً أنّ هذا محال، وأنّنا سنواجه بسببه كثیراً من العوائق، وأنّه لیس لهذا النهج فائدة یُعتدّ بها». أمّا البعض الآخر فإنّهم یوسّعون القضیّة قلیلاً ویحاولون، مع شیء من التسامح، تقدیم توضیح لمراد القرآن من خلال الجمع بین فهمهم لآیة ما مع ما یفهمونه من آیة اُخرى؛ بمعنى أنّهم إذا أرادوا حلّ الإبهام الملاحَظ فی آیة ما فإنّهم یفتّشون عن آیة اُخرى، فإن ألْفَوها هی الاُخرى مبهمة لیست واضحة المدلول، اندفعوا إلى معالجة القضیّة الثانیة بتفسیرهم الشخصیّ، فیقولون: «نحن نستعین بهذه الآیة لحلّ إبهام الاُولى، لكن ما هو معنى هذه الآیة المفسِّرة»؟ ولحلّ هذه المعضلة فإنّهم یفسّرونها بأنفسهم. فهذا الحلّ أیضاً لا یداوی جرحاً، إذ لیست لدیهم حجّة على تفسیرهم الثانی. فلو كان من المقرَّر أن نتبنّى تفسیرنا الخاصّ، لَكُنّا فسّرنا الآیة الاُولى بأنفسنا، من دون حاجة إلى الآیات الاُخرى؟! فإن لم تكن هذه الطریقة صائبة، فأنّى لنا أن نرفع ما یشوب الآیة الثانیة من لَبس؟ وما هو قصد العلاّمة من قوله: «إنّ نهجنا فی التفسیر یقوم على أساس تفسیر القرآن بالقرآن» إذن؟

مثال واضح على منهج تفسیر القرآن بالقرآن

لا بأس هنا أنّ نشیر إلى مثال واضح من السنّة الشریفة. فنحن نقول فی سورة الحمد: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِیمَ * صِرَاطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ». فمن هم المقصودون من قوله: «الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ»؟ أذكر أن أحد شخصیّات بلدنا البارزة كان قد صرّح ضمن كلام له فی مناسبة ما انّ المراد من النعم هنا هو هذه النعم المادّیة وانّ: «صِرَاطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ» یعنی طریق الذین یمتلكون الثروات والعلوم المادّیة والصناعات المتطوّرة، أی الذین ساروا فی هذا الدرب وبلغوا هذه العلوم والصناعات ویتطلّعون للوصول إلى النجوم و الكواكب، ونحن إنّما ندعو الله فی هذه السورة أن یهدینا إلى هذه السبیل!

أمّا إذا رجعنا إلى نفس القرآن، لاسیّما وأنّه ثمّة روایة تشیر إلى ذلك أیضاً، فسنجد أنّ هناك آیة تقول: «وَمَن یُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَیْهِم مِّنَ النَّبِیِّینَ وَالصِّدِّیقِینَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِینَ وَحَسُنَ أُوْلَـٰئِكَ رَفِیقاً»[1]؛ فالآیة تسمّی أربع طوائف من الناس، وهم النبیّون والصدّیقون والشهداء والصالحون، باعتبار أنّهم الذین «أنعم الله علیهم». ثمّ تقول ترغیباً للآخرین: «وَحَسُنَ أُوْلَـٰئِكَ رَفِیقاً»؛ أی فی میسوركم أن تكونوا من رفاق هؤلاء الذین أنعم الله علیهم، وانّ الطریق إلى رفقتهم والكون معهم هی طاعة الله تعالى وطاعة نبیّه (صلّى الله علیه وآله): «مَن یُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَیْهِم». فعندما تضعون هاتین الآیتین إلى جانب بعضهما البعض فسیظهر بجلاء تامّ مَن هم المقصودون فی قولنا: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِیمَ * صِرَاطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ» فهم الذین یحظون بالإنعام الإلهیّ بشكل مباشر، وهم النبیّون والصدّیقون والشهداء والصالحون. فهذه النعم لیست هی النعم المادّیة، التی یحذّر الله نبیّه من التطلّع إلیها، كی لا تورثه هذه الزخارفُ الدنیویّة العدیمة القیمة الغفلةَ: «وَمَا الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا فِی الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ»[2]، وغیرها من الآیات. إذ لیست النعم المادّیة بشیء كی نطلب من الله تعالى فی سورة الحمد خمس مرّات یومیّاً أن یهبنا إیّاها ویرشدنا إلى السبیل التی سلكها عبّاد الدنیا. فالقرآن إنّما یدلّنا على الطریق التی تجعلنا نلتحق بالأنبیاء والصدّیقین والشهداء والصالحین، ویرغّبنا بأن نكون من رفاقهم، وینبّهنا بأنّهم أصدقاء صالحون، فابذلوا جهدكم لتكونوا معهم.

فهذا مصداق واضح لتفسیر القرآن بالقرآن، ولم یكن مراد العلامة الطباطبائی إلا تطبیق هذا المنهج فی تفسیره للقرآن. فهل یعنی هذا یا ترى أنّ هناك لكلّ آیة قرآنیّة ما یفسّرها فی آیة اُخرى؟ فسماحته لم یدَّع مثل هذا الادّعاء.

انتهاج قواعد اللغة والمبادئ العقلائیّة، أوّل خطوة فی التفسیر

السؤال الآخر المطروح هو: ألا یوجد منهج آخر لتفسیر آیات القرآن غیر تفسیرها بالآیات الاُخرى؟ وهذا أیضاً ممّا لم یقله العلاّمة على الإطلاق. بل إنّ المراد من هذا المنهج هو أنّه یتعیّن الإفادة من نفس القرآن لرفع اللبس عن الآیات المبهمة مهما أمكننا ذلك وطالما فهمنا مدلول الآیات وأدركنا ارتباطها ببعضها بشكل واضح ومقبول للعقل، لا أن نفرض على القرآن شیئاً بتكلّف. فهناك آیات إذا وضعها العقلاء الخبراء باللغة والعارفون بالمبادئ العقلائیّة المتبنّاة فی الحوار، إلى جانب بعضها البعض فهم یفهمون أنّ إحداها تشیر إلى الاخرى وتفسّرها. فما دمنا نملك مثل هذه الآیات، فلا ینبغی التفتیش عن منهجیّة اُخرى. وهنا یتبیّن ما هو مقدار المعارف التی یرید الله تعالى أن یبلغها إلى عامّة الناس بواسطة هذه الآیة. ولضیق الوقت فسأكتفی بمجرّد الإشارة لتوضیح هذه النقطة:

ففی محاوراتنا العقلائیّة أیضاً، كاستفادتنا من درس إستاذ أو محاضر أو خطیب ماهر – على سبیل المثال – فإنّنا نواجه أحیاناً تعابیر مطلقة یتعیّن التفتیش عن مدلولاتها بین القرائن الاُخرى الموجودة فی كلامه. فلعلّنا سمعنا مراراً إمامنا الراحل (رضوان الله تعالى علیه) یقول فیما یتّصل ببضعة امور: «هذا الأمر هو على رأس الاُمور كلّها» (أی فی مقدّمة الأولویّات). فهل یعنی ذلك – یا ترى - أنّ هذا الأمر هو أشبه بالنقطة الواحدة التی تنمحی جمیع الأشیاء فی ظلّها؟ بالضبط كالمخروط أو المنشور الذی له رأس واحد لیس غیر؟! إذن لماذا جعل (رحمة الله علیه) عدّة اُمور فی رأس قائمة باقی الاُمور وفی مقدّمة الأولویّات. الجواب: إنّ هذا الكلام لیس هو فی مقام الإطلاق. وبعبارة اخرى فإنّ الرأسیّة هذه هی رأسیّة نسبیّة وإضافیّة، وقیلت نسبةً إلى المواضیع محطّ البحث. فإنّ مبادئ فهم المحاورات العرفیّة تقتضی فی مثل هذه المواطن ملاحظة القرائن التی تحفّ بالكلام. إذ خلیق بهذه القرائن أن تقوم مقام المبیِّن لفهم آیة ما. كیفما كان فإنّ من الممكن أن تنطوی نفس الآیة، التی نرید اتّخاذها كمفسِّر لآیة اُخرى، على قرائن حافَّة. ولا یعنی هذا أن نصرف النظر عن هذه القرائن؛ فممّا لا شكّ فیه أنّ لكلّ كلام یُلقى فی أیّما مكان - بالنسبة لنا نحن البشر - قرائنَ لفظیّة أو مقامیّة، وهی قرائن یفهمها الجمیع. كما أنّ هناك قرائنَ عقلیّة أیضاً تحتاج إلى تدبّر وتمعّن ولا یلتفت إلیها الجمیع: «مَا یَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعالِمُونَ»[3]. لكن، على أیّة حال، فإنّ للكلام قرائن حافّة هی ملازمة له، وإنّ الالتفات إلیها مفید، بل لازم، لإدراك معناه.

بناءً على ما تقدّم فإنّ تفسیر القرآن بالقرآن لا یعنی بالضرورة أنّنا كلّما أردنا فهم آیة من القرآن الكریم فإنّ علینا التفتیش عن آیة مفسِّرة لها. فقد یكون معنى آیة ما – أحیاناً - واضحاً ومحكماً وصریحاً تماماً ولیس بحاجة إلى آیة مفسِّرة. وفی المقابل، فقد یحاط معنى آیة ما بالضبابیّة ممّا یحتّم علینا الرجوع إلى الآیات المحكمة. إذ یتعیّن علینا هنا التنقیب فی آیات القرآن، حتّى إذا وقعنا على آیة تبیّن لنا معنى الاُولى بشكل كامل، وموافق للعرف، ومطابق لاُصول الحوار التی یقرّها العقلاء، عمدنا إلى استعمالها كمفسِّر للاُولى. فإن لم نعثر على مثل هذه الآیة، فلعلّ ثمّة قرائن تحفّ بالكلام، ولابدّ من كشفها. وهناك من القرائن ما یدركه جمیع الناس فی كلّ زمان، ویقال لها القرائن العقلیّة أو اللبّیة. وهذه المبادئ هی التی تُستخدم فی اُصول الفقه فی منهجیّة فهم النصوص الدینیّة. إذن یتعیّن علینا كشف القرائن المصاحبة للكلام، حتّى وإن كانت عقلیّة. لكن یتحتّم - بطبیعة الحال - أن تكون من الوضوح بحیث یمكن الاعتماد علیها، لا أن تحتاج هی نفسها إلى بضعة براهین. فقرائن عقلیّة من هذا القبیل هی التی تعین على فهم الآیة، أمّا إذا لم یكن الأمر كذلك، فسیصبح من المعلوم أنّ الآیة، فی نفسها، لیست فی صدد بیان تفاصیل أكثر. واُلفت انتباهكم هنا إلى المثال التالی:

سوء استغلال منهجیّة تفسیر القرآن بالقرآن

یأمر القرآن الكریم فی مواطن متعدّدة بإقامة الصلاة، أو یثنی على مقیمیها، أمّا عدد الركعات وتفاصیل الصلاة فلم یصرَّح به فی أیّ آیة، ولیس فی میسورنا العثور حتّى على آیة واحدة تدلّنا على كیفیّة أداء الصلاة ذات الركعتین. لكن هل یعنی هذا عدم اشتراط أیّ شیء فی الصلاة، وأنّ صِدْق اسم الصلاة على عمل هو كاف لصیرورته صلاةً؟ وهل نستنتج من إطلاق قول القرآن الكریم: «أَقِمِ الصَّلَوٰةَ»[4] أنّ الصلاة لا تتطلّب أیّ شرط، وأنّ مجرّد المناجاة مع الله كافیة؟ فلقد أدّى تبنّی مثل هذه الآراء إلى انحراف لدى بعضهم حتّى قالوا: «صلّ صلاتك وناجِ ربك كیفما تشاء! فلم یتطرّق القرآن إلى كیفیّة ركوعها وسجودها وشروطها وقراءتها. كما أنّ ما أفتى به الفقهاء العظام من أحكام فی رسالاتهم العملیّة (كصیرورة الصلاة قضاءً – مثلاً - حتّى وإن تأخّرت لحظة واحدة عن شروق الشمس، وما إلى ذلك) لم یذكره القرآن الكریم، ولذا فهو ساقط عن الاعتبار». وحسب التعبیر الدارج فإنّ «هذه الامور هی من صنیعة المعمّمین، فلیس المهمّ بأیّ لغة نصلّی، كما أنّه لا بأس بالمناجاة بأیّ لغة كانت، ذلك أنّ القرآن لم یذكر أبداً ضرورة الصلاة باللغة العربیّة»! لكن أَوَتكون القضیّة هكذا حقّاً، وهی أنّه طالما لم یتطرّق القرآن الكریم إلى هذه القیود فی أیّ موضع فیتعیّن القول: إنّها لا تمثّل غایة الله والقرآن؟ كلاّ!

الجواب على هذه الشبهة هو أنّ هذه الآیات لیست فی صدد بیان تفاصیل أحكام الصلاة. فقد عهد القرآن الكریم بهذه المهمّة إلى آخرین، وذلك بقوله: «وَأَنزَلْنَا إِلَیْكَ الذِّكْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیْهِمْ»[5]. إنّها مهمّة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) أن یبیّن للناس تفاصیل الأحكام. ومن أجل ذلك قال (صلّى الله علیه وآله) كما روى الفریقان: «صلّوا كما رأیتمونی اُصلّی»[6]. فهذا الحدیث هو محطّ قبول الجمیع، واعتماداً علیه فإنّ واجبنا هو تعلّم كیفیّة الصلاة من النبیّ نفسه، وإن لم تذكر أیّ آیة تفاصیل أحكامها.

نماذج من هذه الانحرافات فی زماننا

أمثال هذه الانحرافات موجودة فی زماننا بدوافع مختلفة. وقد یُصرَّح بها حیناً، وقد یُحتاط ولا یُفصَح عن النیّات الحقیقیّة حیناً آخر. فهناك من یقول: «علینا أخذ كلّ شیء من القرآن، فلیس للروایات اعتبار». ویسوقون لذلك شواهد توحی بأنّ بعض الأحادیث موضوعة ومن الإسرائیلیّات. لكن الواقع هو أنّه لا یمكن إثبات موجبة جزئیّة بموجبة جزئیّة اُخرى، كما أنّه لا یصحّ تخصیص قضیّة كلّیة أكثر من الحدّ المعقول. نعم، إذا علمنا بأنّ الروایة الفلانیّة لیس لها سند معتبر، أو أنّها موضوعة، فهی غیر معتبرة. لكن هذا لا یعنی ضرب جمیع الروایات عرض الحائط. فإن أزحنا الروایات جانباً فما الذی سیبقى من الإسلام حینئذ؟!

أنا شخصیّاً حصلت معی قصة أودّ أن أحكیها لكم. لقد سافرت قبل أربعین عاماً إلى إحدى المدن الإیرانیّة الكبیرة حیث برزت فیها أمثال هذه التوجّهات، وظهر فیها من یقول حسبنا كتاب الله وبضرورة أخذ كلّ شیء من القرآن وأنّه لیس للروایات قیمة واعتبار. فقدم أحدهم، ممّن بحث ونقّب بعض الشیء فی هذا المجال، لیجلس معی على طاولة النقاش والجدال، وتمّ الإعداد لندوة وجلسنا للحوار.

قال: «أیّها الشیخ! لی بعض الأسئلة، واُرید أن تجیبنی علیها من القرآن».

قلت: «استمیحك عذراً! فأنّا عندی لك سؤال واحد وأودّ أن تجیبنی علیه من القرآن، فإن أجبتنی، فسوف أردّ على كلّ ما تشاء».

قال: «حسن جدّاً».

قلت: «هل الكلب فی شریعة الإسلام طاهر أم نجس، وهل أكل لحمه حلال أم حرام»؟

قال: «هذا واضح؛ فالكلب نجس العین، ولحمه حرام».

قلت: «أثبت لی ذلك من القرآن»!

قال: «هذا من الواضحات».

قلت: «لقد اتّفقنا على إثبات كلّ شیء، حتّى الواضحات، بالقرآن الكریم».

قال: «كلا، لم یكن هذا قصدی».

قلت: «فكیف إذا أثبتُّ لك بالقرآن أنّ لحم الكلب حلال أساساً»!

قال: «ما هذا الكلام»؟!

قلت: «أعوذ بالله من الشیطان الرجیم، «قُل لا أَجِدُ فِی مَا أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن یَكُونَ مَیْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَیْرِ اللهِ بِهِ»[7]. فإنّ لدینا من المحرّمات أربعة: لحم الخنزیر، والمیتة، والدم، وما یُذبح للأصنام أو باسمها من قرابین. فلیس من بین اللحوم المحرّمة إلاّ هذه الأربعة، ولم تذكر الآیة لحم الكلب. بل هی تقول: لا أجد ما هو محرّم علیكم إلاّ هذه الأربعة، ولیس لحم الكلب من ضمنها. إذن نستنتج – وفق منطقك – أنّ لحم الكلب حلال»!

فلم یستطع أن یتفوّه بكلمة. فأردفتُ: «إذا أثبتَّ لی حرمة لحم الكلب بأیّ آیة وفی أیّ موضع من القرآن، فأنا على استعداد لإثبات ما تقوله من الآیة التی تجاورها»!

وقبل بضعة أیّام، وفی حرم الإمام الرضا (علیه السلام)، اقترب منّی رجل مستفسراً: «القرآن یأمرنا بالصلاة على النبیّ بقوله: «یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیْهِ»[8]، لكن ما الدلیل على أنّه ینبغی لنا الصلاة على آل النبیّ أیضاً»؟

قلت: «وما الدلیل المتوفّر لدینا على كون صلاة الصبح ركعتین؟ فتلك الآیة التی تصرّح بأنّ صلاة الصبح ركعتان، ستجد مكتوباً إلى جانبها أنّه یتعیّن الصلاة على أهل البیت أیضاً»!

دور المعصومین فی تفسیر القرآن الكریم

كما أسلفنا، فالقرآن نفسه یقول: «وَأَنزَلْنَا إِلَیْكَ الذِّكْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیْهِمْ». فتلاوة الآیة أمر، وتوضیحها وتفسیرها أمر آخر. فإنّ إحدى وظائف النبیّ (صلّى الله علیه وآله) هی تلاوة ما اُنزل إلیه من القرآن وإبلاغه للناس: «یَتْلُواْ عَلَیْهِمْ ءَایَاتِهِ»[9]. لكن ما معنى: «یُعَلِّمُهُم»؟ فإلى جانب تلاوة وإبلاغ نصّ الآیات فإنّ مهمّة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) تقتضی أیضاً توضیحها وكشف تفاصیلها وتبیین تفاسیرها. فلو كان من المقرّر أن یبیّن نفس القرآن كلّ ذلك، لأصبح موسوعةً فی مائة مجلّد، وهذا خلاف الحكمة الإلهیّة. فالقرآن نفسه یوصی بالرجوع إلى النبیّ (صلّى الله علیه وآله)، ورسول الله نفسه یقول، وفقاً للحدیث المتواتر لدى الفریقین: «إنّی تاركٌ فیكم الثَّقَلَین؛ كتاب الله، وعترتی»[10]، فإلى جانب القرآن، فإنّه ذكَر العترة. إذن استناداً إلى الآیة التی تقول: «مَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ»[11]، فعندما یعرّفنا (صلّى الله علیه وآله) بعترته ویوصینا بطاعتهم واتّباعهم فیتعیّن علینا امتثال أمره هذا وطاعة عترته. فهذه الاُمور تمثّل حجّة علینا. أمّا إذا قلنا: «حسبنا كتاب الله»، وأنّنا نقبل بكلّ ما جاء به القرآن الكریم، ولا نأخذ بأیّ شیء عداه، فإنّه یتحتّم علینا أكل لحم الكلب، والكثیر من الأشیاء التی تشمئزّ النفوس من ذكرها، والإقرار بحلّیتها وجواز أكلها.

فهل أراد العلاّمة الطباطبائی، إذ أوصى بالاستناد إلى نفس القرآن، نبذ هذه الروایات والقرائن كلّها؟ وهل یُحتمل مجرّد احتمال أنّه قصد ذلك فعلا؟! فعندما یقول القرآن الكریم: «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ یُنْفِقُونَ»[12]، أو: «ءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ»[13]، فماذا یعنی بالزكاة، وما هو مقدارها؟ وإن تصدّق الذی یكسب ملیار دولار فی الیوم الواحد بدولار واحد سنویّاً، فهل یكون قد آتى الزكاة وقد سقط عنه هذا التكلیف یا ترى؟ قد یكون هذا الرقم مبالغاً فیه بعض الشیء، لكن هناك، فی الدول الثریّة والرأسمالیّة، من یستولی فی الیوم الواحد على مبالغ طائلة من أموال الناس. فعندما كنت فی إحدى رحلاتی فی الولایات المتّحدة أرانی أحد الأصدقاء هناك مصنعاً للسیّارات وقال إنّه ینتج فی الیوم الواحد تسعمائة سیّارة. نعم، هناك مثل هذه الثروات فی العالم. فلو امتلك مسلم ثروة من هذا القبیل وأنفق فی كلّ عام دولاراً واحداً، فهل لنا أن نقول: «إنّ آیة «ءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ» لم تصرّح بإیتاء أزید من ذلك، ولم تعیّن مقداراً محدّداً للزكاة»؟! فهل لنا أن نفسّر القرآن الكریم بهذه الطریقة؟

الحقّ انّ علینا التفتیش عن تفسیر هذه الآیة فی موضع آخر. وقد أشارت أحادیثنا إلى هذا المعنى. فأئمّتنا الأطهار (علیهم السلام) كانوا یُسألون أحیاناً عن مثل هذه المسائل، فیجیبون: «كما أنّ القرآن الكریم بیّن أصل الصلاة والزكاة وعهد ببیان تفاصیلهما إلى النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله)، فإنّه - فیما یتّصل ببعض المسائل الاُخرى أیضاً – قد تحدّث عن أساسها ولم یتطرّق إلى تفاصیلها». فلا یسعنا القول فی مثل هذه الأمثلة بضرورة اللجوء إلى آیات القرآن الاخرى لتفسیر هذه. ففهْم آیة ما یمثّل – فی الحقیقة - فهم الشیء الذی تتصدّى الآیة لبیانه. إذن فلجوؤنا إلى الأحادیث لتفسیر القرآن الكریم إنّما یعنی الإفادة منها لتوضیح وتفصیل تعالیم الآیة وأحكامها.

ضرورة الإفادة من القرآن لفهم القرآن

وكذا الحال بالنسبة للقرائن الزمانیّة. فالقرآن الكریم یقول: «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِینَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ»[14]. لكن عن أیّ یوم تتحدّث الآیة؟ إذ أنّ القرآن لم یحدّد ذلك فی أیّ موضع منه. لكن الجمیع فی ذلك الزمن كانوا قد فهموا لحظة نزول الآیة أنّها ترتبط بغزوة أحد. فإذا أحببنا أن نعلم الیوم الذی تعنیه هذه الآیة، فهل یتعیّن بالضرورة العثور على آیة اخرى من القرآن لتخبرنا بذلك؟ كلا، لأنّ الآیة المذكورة لیست فی صدد بیان ذلك الیوم تحدیداً. فالذین عاشوا فی ذلك الحین كانوا على علم بالزمان الذی قصدته الآیة، غیر أنّ الأخیرة لا تبغی تعریفنا بالیوم الذی نشبت فیه غزوة احد. فالموضوع الذی تهدف الآیة إلى بیانه، إمّا أن تبیّنه هی بنفسها، أو تبیّنه آیة اُخرى إذا كان فی الاولى بعض اللبس. أمّا إذا أحببنا التعرّف على القضایا والمسائل الاخرى المحیطة بالموضوع فلیس بالضرورة العثور علیها فی آیات اُخرى. إذ بإمكاننا الوقوف على هذه الامور فی كلام النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) أو أهل بیته الذین هم عترته (صلوات الله علیهم أجمعین)، أو التعرّف علیها من الشواهد التاریخیّة القطعیّة وما إلى ذلك. فجمیع هذه الامور تمثّل حجّة وهی معتبرة أیضاً، وهی ذات قیمة فی محلّها، ولابدّ لنا من تعلّمها والإفادة منها، لكن لیس بعنوان كونها تفسیراً لهذه الآیة. فتفسیر الآیة هو فی حدود هذا المعنى الذی تحاول الآیة إلقاءه فی أذهاننا عبر هذه الجملة تحدیداً.

أستودعكم الله جمیعاً وأقدّم لكم أعزّتی، باعتباری خادم هذه المؤسّسة، خالص شكری وتقدیری على مشاركتكم فی هذا المؤتمر. أجرُكم جمیعاً، بفضل عنایات صاحب العصر «أرواحنا له الفداء»، على ربّ القرآن. أسأل الله تعالى أن یتفضّل على علمائنا وأساتذتنا وكلّ من له حقّ علینا، لاسیّما المرحوم العلاّمة الطباطبائیّ (رحمة الله علیه)، بالأجر الجزیل من خزائن كرمه، ویمدّ الحاضرین منهم بمزید من التوفیق، وأن ینفعنا أكثر من ذی قبل بأنوار القرآن الكریم لتكون رافداً لسعادتنا وسعادة المجتمع.

والسلام علیكم ورحمة الله 


[1]. سورة النساء، الآیة 69.

[2]. سورة الرعد، الآیة 26.

[3]. سورة العنكبوت، الآیة 43

[4]. سورة الإسراء، الآیة 78.

[5]. سورة النحل، الآیة 44.

[6]. بحار الأنوار، ج82، ص279.

[7]. سورة الأنعام، الآیة 145

[8]. سورة الأحزاب، الآیة 56.

[9]. سورة الجمعة، الآیة 2.

[10]. مستدرك الوسائل، ج3، ص355.

[11]. سورة الحشر، الآیة 7.

[12]. سورة البقرة، الآیة 3.

[13]. سورة النور، الآیة 56.

[14]. سورة آل عمران، الآیة 121.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...