القرآن الكريم دواء أصعب الأمراض

في لقاء لسماحته مع طلبة جامعة أمير كبير؛ التاريخ: 26 كانون الأول 2019م، الموافق: 29 ربيع الثاني 1441هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

اللهُمّ كُن لوليِّكَ الحجّةِ بنِ الحسن، صلواتُكَ عليهِ وعلى آبائِه، في هذهِ الساعَةِ وفي كلِّ ساعةٍ، وليًّا وحافِظًا وقائِدًا وناصِرًا ودَليلًا وعَينًا، حتّى تُسكِنَه أرضَكَ طَوعًا وتمتِّعَهُ فيها طويلًا.

أُرحّب بأنوار العيون، الأعزّة، أمل مستقبل البلد والإسلام والثورة. نوّهتُم بأنّ ميزة مجموعتكم هي حب القرآن الكريم، وفهمه، والتزوّد من إرشاداته وتعاليمه، ولذا أودّ أن أشير إلى بضع نقاط في هذا المجال، ثمّ أحاول، بما يسمح به علمي ومعلوماتي، أن أقترح عليكم بعض المقترحات إن وُجدَت.

دور القرآن الكريم في سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة

الملاحظة المرتبطة بأهمّية القرآن الكريم، والتي أمثالنا أيضًا – ممّن أمضى عمرًا في هذا الدرب - لا يلتفتون إليها كما يجب ولا يؤدّون حقّها مثلما ينبغي، هي ما ينطوي عليه هذا الكتاب المقدّس من قيمة لسعادة الدنيا والآخرة. هنا لا نقاش لنا مع الذين لا يعتقدون أساسًا بكون القرآن كتابَ الله ومرشدًا للبشر، إذ جميعنا يؤمن بأنّ أعظم كتاب يمكن أن يهدي الإنسان إلى سعادة الدنيا والآخرة هو القرآن الكريم، ولو كان هناك كتاب أعلى منه لما تأخّرَ الله تعالى في إنزاله علينا؛ إذ لماذا لا يُنزل ما هو أفضل منه؟! أبَخِلَ بذلك؟! أكان لديه ما هو أفضل منه أساسًا؟! خصوصًا إذا علمنا أنّه ما كان من المقرَّر أن يأتي بعد رسول الله(ص) نبي ولا أن ينزل بعد القرآن كتاب.

باعتقادنا إنّ القرآن الكريم هو أفضل كتاب يوجد في خزانة غيب الله جلّ وعلا وقد أنزله علينا، ولو كان هناك ما هو أفضل منه لكان أرسلَه إلينا لا محالة. لكن المؤسف أنّ تعاملنا مع هذا الكتاب لا ينسجم مع هذه الحقيقة! كلّنا يعلم بذلك، سواء أنا الذي أنفقتُ ثمانين ونيّفًا من الأعوام في هذا الطريق، وكان أكثر من سبعين عامًا منها في معرفة القرآن، أو الآخرون. أكبر إنجاز نقوم به هو أن نجلس يومًا ما فنقرأ منه صفحةً أو صفحتين، أو نختمه مرّة في شهر رمضان المبارك، وأنّ نسخةً من المصحف الشريف تستقرّ في بيوتنا على رَفّ أو في مكتبة، نُقبّلها، ونضعها في مكتبتنا للزينة تبرُّكًا بها. لكن هل القرآن عندنا هو بأهمّية الكتاب الدراسي؟! أنُنفق في تعلّم القرآن الكريم من الوقت ما نُنفقه في قراءة كتاب فيزياء أو جَبر وتعلّمهما؟!

من الواضح أن معتقَدنا ذاك لا ينسجم مع تصرّفنا هذا! فإمّا أنّ معتقدَنا ذاك ضعيف، بل هو كالعدم، وإمّا أنّنا، على مستوى العمل، نتقاعس من دون أن يكون عندنا أي عذر.

ما مدى قيمة القرآن الكريم عندنا؟

أنا أحيانًا أضرب للإخوة مثلًا، فكّرتُ فيه لنفسي، وهو: لو افترضنا أنّه أُعلن في المذياع أو التلفاز أنّ كتابًا اكتُشف بعمق بضع مئات من الأمتار تحت سطح الأرض، مكتوب بخطّ تصعب قراءته؛ كأن يكون بالخط المسماري مثلًا، وفيه علاج لبعض الأمراض المستعصية المنتشرة بيننا؛ كالسرطان، فكيف سيكون تعاملنا مع هذا الكتاب؟ كيف سنتعاطى مع خبر نحتمل بنسبة واحد بالمئة أن لا يكون صحيحًا، أو يكون خدعةً لسرقة أموالنا؟ إنّ مجرّد احتمال أنْ يكون الخبر صحيحًا، من أنّ الكتاب - الذي أُلّف قبل عشرة قرون بالخط المسماري – يحتوي على علاج للسرطان، سيجعلنا نجتهد في تعلّمه والإفادة منه لنعالج به المرضى، أو إن لم يكن ثمّة مريض، نصنع العقار الذي يوصي به ونبيعه ونربح منه.

أفَنرى نحن للقرآن الكريم هذا المقدار من القيمة يا ترى؟! نحن نعتقد أنّ القرآن الكريم كتاب قرأنا كلماته منذ الصِغَر، ثم إنّه يُقرأ على القبور، ونحن نُقَبّله احترامًا له. حقًّا كم نحن نعتمد على القرآن الكريم، وكم حاولنا تعلّم أشياءَ منه تنفعنا لحلّ أزمات حياتنا، ولعمليّة تكاملنا، ولمستقبلنا؟ أجل، إنّ من جملة صنوف احترامنا لهذا الكتاب أيضًا هو أنّنا نتلوه بصوت جميل، بل نحفظ مقدارًا منه، أو كلّه، ونشترك في مسابقات تلاوة القرآن، ونفوز برتبة أفضل القُرّاء. هذه أمور موجودة أيضًا عمومًا، لكن ما النتيجة؟ لنفرض أنّنا أصبَحنا أفضلَ قُرّاء، وحفظنا القرآن كلّه! ثمّ ماذا؟ أفَهل نزل القرآن الكريم لأجل هذا وحسب؟ أفَهل هو كتابُ موسيقى وألحان لنقرأه بصوت أجمل؟ القرآن نفسه يقول إنّه: (هُدًى لِلنَّاس[1] لكنّنا نكتفي بإتقان تلفُّظِ تنوين (هدًى) وإدغامها بشكل صحيح!

معرفة القرآن الكريم نعمة إلهيّة مميَّزة

هذا التوفيق الذي حظيتم به أيّها الأعزّة، بصفتكم طلبة أفضل جامعات إيران، وهو أن تَستقطِب القضايا القرآنيّة اهتمامَكم، وأن تَعقِدوا العزم وتخصّصوا الوقت من أجل الإفادة الفضلى من القرآن الكريم، هو نعمة مميّزة أنعم الله تعالى بها عليكم، والعلامة على ذلك هي أنّكم شَدَدتُم الرِحال إلى هنا لتعرفوا كيف يمكنكم أن تنتفعوا من القرآن الكريم. الآن وقد تولّدَ عندكم هذا الاهتمام فمن الطبيعي أن نقول: إنّ الخطوة الأولى للانتفاع من القرآن الكريم هي فَهْم لغته. فلو كان محتَّمًا علينا أن نفهَم كتابًا مؤلَّفًا باللغة الانجليزية، أو الفرنسية، ...إلخ لكان لزامًا علينا تعلّم الانجليزية أو الفرنسيّة أو ما إليهما لفهمه. وإذ إنّ لغة هذا الكتاب هي العربية فلا بد إذًا من إتقان العربيّة.

وقد يُطرح هنا تساؤل هو: أنقصد من اللغة المقدار الذي نستعمله منها في الترجمة، أم نجعل النص المترجَم محلّ اللغة الأصليّة؟ فإنّ ترجمات القرآن الكريم موجودة فما الداعي إلى تعلّمنا اللغة العربية؟[2]

الجواب: إنْ دقَّقنا بهذا المقدار لعرفنا أنّ لكل لغة خصائصَ وأسرارًا ودقائقَ لا تعكسها الترجمة. ناهيك عن أنّ تعلّم المفاهيم القرآنيّة لا يقتصر على تعلّم المفردات وما يعادلها في لغة المتعلِّم، بل ثمّة أمور وتعاليم لا بدّ من اصطيادها من بين السطور والألفاظ. كما أنّ هناك مجموعة متفرّقة من الآيات القرآنيّة، توجَد كلّ واحدة منها في سورة، ونزلَت في شأنٍ ما، وبمناسبةٍ خاصّة، وإنّ ارتباط هذه الآيات بعضها ببعض يكشف لنا حقيقةً لا تكشفها ترجمة آية واحدة أو سورة واحدة؛ أي: بمعزل عن تعلّم الترجمة الحرفيّة للقرآن الكريم، فإنّنا بحاجة إلى تفسيره أيضًا، وليس هذا بالأمر المستغرَب؛ فالمواضيع التي يتناولها متخصّصو بلدنا باللغة الفارسيّة لا يفهم دقائقَها جميعُ الإيرانيّين. تلاحظون كيف يُدلي شخصٌ ما بخطاب حول قضيّة سياسيّة فيقول متخّصصون: إنّ قصده من العبارة الفلانية هو كذا، وهي إشارة إلى قضيّة كيت وكيت. فما بالك بكتاب جاء هدًي للناس إلى يوم القيامة، وهي مُدّة لا نعلم إن كانت ستستغرق سنين أو آلاف السنين. أفيُمكن، والحال هذه، أن نكتفي بترجمته الحرفيّة فلا نفهم دقائقه ورموزه؟!

لماذا لا نتعامل مع القرآن بجدّية؟!

إذًا، بالنظر إلى ما ذُكر، يتولّد فينا دافعٌ آخر، إلى جانب تعلّم العربية، هو التوجّه أيضًا إلى تفسير القرآن الكريم لاستخراج ما يمكن أن يفيدنا منه. إلى هنا جميعنا متّفقون تقريبًا. أليس كذلك؟ فهذا هو الطريق، ولا يمكن أن يكون غيره. لكنّنا حين نقرأ القرآن الكريم ونطّلع على لغته وتفسيره نرى أنّه يتعرّض لأشياء لا تنسجم مع عقليّتنا تمامًا، بل هي أشياء أخرى! كالقضايا التي تتعدّى إدراكاتنا وتجاربنا الحسّية؛ على سبيل المثال: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَه[3] فما معنى القلب هنا؟! وما معنى هداية القلب؟! وما صِلة الإيمان بهداية القلب؟! فإن قلنا: آية كذا تهديه، فإنّها مفاهيم يتعّلمها الإنسان فيهتدي، لكن ما المقصود بهداية القلب؟! ذكرتُ هذا من باب المثال، وإنّ في القرآن من مثل هذه الأمور الكثير.

التعاطي الذي يَنُمّ عن جهل مع مثل هذه المواضيع هو القول بأنّها صيغَت بأدبيّات خاصّة، وهي كلام شِعري، ولذا لا ينبغي أن نأخذ ما يبتعد منها عن فَهمنا وتجربتنا الحسّيَّين بجدّية كبيرة! أي نتخيّلها، كما في الأدب، نثرًا أو شعرًا جميلًا. وهذا شيء حسَن، ولا ندّعي أنّه سيّئ، أمّا أن ينطوي حتمًا على حقيقة، وأن نُضني أنفسَنا بالبحث عنها واكتشافها، فلا حاجة إلى مثل هذه الجدّية!

شبيه بهذا ما يتّصل بثواب الآخرة وعذابها، فنحن لا نتعامل معهما بجدّية كبيرة؛ يقول تعالى: (فيها ما تَشْتَهيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُن[4] ويقول في موضع آخر: (وَلَدَيْنا مَزيد).[5] حين يقول: (فيها) يعني: يصبح في متناول أيديكم وتبلغونه أنتم، وإلّا فإنّه الآن أيضًا موجود فيها، فما الذي يعنينا نحن؟! ثم يقول: مضافًا إلى أنّ لديكم في الجنّة كل ما تشتهيه أنفسُكم وتلَذّ أعينُكم، فإنّ لدينا المزيد أيضًا! هذا ما معناه؟! يتوافر فيها لكل شخص كل ما يتخيّله وكل ما يهوى قلبُه! أيّ قابليّة وأيّ فرصة هذه التي تضمن إمكانيّة ذلك؟! أيّ مكان وأيّ عالَم هذا بالنسبة للأشخاص؟! ثم ما هو الأزيد من ذلك إذ يقول: (وَلَدَيْنا مَزيد)؟!

في القرآن الكريم نحن نواجه مثل هذه الأمور، والتي تجعلنا - بعض الشيء - لا نأخذ مثل هذه التعابير على محمل الجدّ ونصنّفها في خانة الأدبيات والشعريّات. من ناحيةٍ يثير هذا الأمر لدينا تساؤلًا مفاده أنّه: حقًّا إلى أيّ مدًى هذه الأمور واقعيّة؟ وكم علينا أخذها بجدّية؟ وهل نتعامل معها كتعاملنا مع شعر "سعدي الشيرازي" مثلًا؛ من أنّه شعر جميل، وفيه التفاتات بديعة نستفيد منها، لكنّ جماله يقتصر على تركيبه الشعري وحسب؟ أم لا، إنّها تنطوي على أمور تفوق ذلك، وحقائق أعلى ممّا نفهمه نحن الآن، ولا بد أن ندركها؟ هذا أحد التساؤلات التي تُطرح.

التساؤل الثاني هو أنّنا إن أردنا أخذَ بعض مواضيع القرآن الكريم على محمل الجدّ والعمل بها فإنّها لا تنسجم مع روتين حياتنا اليوميّة الذي نعيشه، ومع هذا الجوّ الثقافي الذي يسود العالم اليوم، وطبيعة التواصل التي تتيح للمرء دائمًا، وفي أيّ مكان، الاتّصال بأناس من أيّ عِرق وثقافة، ومُشاهَدة صور ومشاهِد لم يشاهدها من قبل وصارَت مشاهدتُها متاحة عبر الحاسوب والإنترنيت! ومن الطبيعي، في مثل هذه الحالة، أن يُطرح السؤال التالي: أيستطيع القرآن الكريم، في مثل هذه الظروف، إرشادنا إلى سواء السبيل؟ فالمواضيع التي يطرحها القرآن تنفع لغابر الأيّام وقتَ كان بعض العرب البؤساء لا يفهمون شيئًا، فجاء ببضع آيات ليحفّز فيهم بعض التحرّك! هذه هي النقطة الثانية التي تشكّل هي الأخرى آفةً تمنعنا من أخذ القرآن الكريم بجدّية.

النقطة الثالثة، التي تثير عندنا أيضًا بعض الإبهام، هي أنّه كيف نتعامل مع الدين ومع القرآن الكريم؟ فهناك أمور وصلَتنا عبر النقول التاريخيّة القطعيّة حول ارتباط النبي الأكرم(ص) والأئمّة الأطهار(ع) أنفسهم بالقرآن. فإن كانوا(ع) لنا أسوةً حقًّا وأنّ علينا تعلّم التعامل مع القرآن الكريم منهم، فإنّنا حين نشاهد بعض صور تعاطيهم مع القرآن الكريم تُثار لدينا بعض الإبهامات!

اشتياق الأئمّة(ع) وأولياء الدين للعبادة

في مضمون رواية معتبرة عن أحد أصحاب الإمام الصادق(ع) أنّ الإمام استيقظ في جوف ليلةٍ فدعا بإناء ماء ليتوضّأ. ولـمّا جيء إليه بالإناء وأدخل(ع) يده في الماء ليغترف منه ويريقه على وجهه، بقيَ على هذه الحال كالتمثال ولم يرفع يده من الماء. بعد مدّة رأيتُ الدموع تجري من عينيه. ما هذا؟! أوَيتطلّب التوضّؤ بكاءً؟! قلتُ: يا سيدي، لماذا لا تواصل الوضوء؟ وضعتَ يدك في الماء ولا ترفعها!...

وروايات كثيرة مثلها؛ مثلًا كان الإمام الحسن المجتبى(ع) إذا توضّأ أو اقترب من المسجد ارتعدَت مفاصله واصفَرّ لونه![6] فما معنى هذا؟! إنّه بيت الله، وأيّ إله؟ إنّه الله المحبوب! فما بال يديه أخذَت ترتجفان وتغيّر لونه؟! ماذا يعني ذلك؟! أيعني أنّ علينا أن نكون هكذا مثلًا؟! بأيّ صورة نعيش؟ هذه القصص التي أنقلها هي من يقينيّات التاريخ!

أو ما ينقل عن أمير المؤمنين(ع) أنّه كان في أغلب الليالي يقصد بستان نخيل وينشغل بالعبادة، ثم كان يسقط على الأرض مغشيًّا عليه ساعات، حتّى يصدر صوت من أحد، أو يأتيه أحدهم لحاجة فيوقظه، أو يعود هو إلى وعيه شيئًا فشيئًا!

هناك قصة سمع بها أكثركم حتمًا ومضمونها أنّ مولاتنا فاطمة الزهراء(ع) كانت يومًا في الدار إذ أقبل أبو الدرداء مبادرًا جزعًا وطرق الباب، وحين فتحته ورأته مضطربًا قال لها: أدركي عليًّا(ع)! وحين سألَته عن حاله قال: رأيتُه مطروحًا على الأرض مغشيًّا عليه في بستان نخيل! «فقالت: هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذُه من خشية الله»،[7] هذا دأبه كل ليلة، وأنت رأيته مرة واحدة. هذه الحالة دأبه!

ما معنى هذا؟! إمّا أن نقول: كل هذه الروايات مختلَقة! وهذا غير ممكن؛ فمن المستبعد جدًّا أن تكون كلها مختلَقة. إذ ما الداعي إلى اختلاق كل هذا الكلام؟! ولا باستطاعتنا أن نصدّق تمامًا أنّه ما هذه الحالات؟ لكن إذا شاهدنا نماذج مصغَّرة لها في بعض أشخاص زماننا، فعندها يزداد عندنا قليلًا احتمالُ أنّه من الجائز أن تكون صحيحة. ما معنى هذا؟ أي حال هي هذه؟!

إجمالًا ستُطرح في أذهاننا تساؤلات من أنّه: حقًّا ما هذه الحياة؟ لأيّ شيء خُلقنا نحن أساسًا؟ ما الذي يتحتّم علينا صُنعه في هذا العالم؟ أيتحتّم علينا الذهاب ليلًا للانتحاب في بستان النخيل حتى يُغمى علينا؟! ما معنى هذا؟! أم يجب أن يصفَرّ لوننا وترتعد فرائصنا إذا وصلنا إلى المسجد؟! لكنّ الإنسان السليم البدن ليس هكذا! إنه يذهب ويجيء بكل قوة من دون أي رعشة. أكان أولئك مرضى إذ تنتابهم مثل تلك الحالات، أم نحن هم المرضى؟!

المواقف المختلفة إزاء الدين والخلقة

هذه وأمثالها من الشبهات - مما لو ذكرتُه لطال بنا المقام – تثير في ذهن المرء أحيانًا تساؤلًا مُلحًّا هو: حقًّا ما هو الدين؟ ثم، من وجهة نظر الدين من أجل ماذا نحن خُلقنا، وما الذي يتعيّن علينا صنعه إذ أتينا إلى هذا العالم؟ أكان هذا صدفة؟

هذا أحد الأجوبة: الجواب الذي كان يجيب به المادّيون، والذي يوجد له اليوم أنصار أيضًا، هو أنّ العالم كان كتلة من المادّة حصل فيها انفجار فتناثرَت، فظهرَت هذه الأجرام، ثم بعد آلاف السنين ظهرَت آثارُ الحياة في أحدها. ثم شيئًا فشيئًا ظهر نبات، ثم بعد مرور آلاف السنين ظهرَ حيوان. ثمّ تطورَت هذه الحيوانات، فظهر القرد. وبعد حين تحوّلَ أحدُ هذه القردة إنسانًا، فصرنا نحن من سلالته. أو كان ثمة عشرات القردة، ونحن من سلالة أحدها. كل هذا حصلَ صدفة. ثم صدفةً ظهرَ إنسان وادّعى أنّ هذا القرآن أُوحِيَ إليه، وظهر آخرون فصدّقوا به. صدفة محضة! أهذا كل ما في الأمر؟!

في مقابل هؤلاء ثمّة متديّنون يقولون: كلّا، إنّ للعالم إلهًا حكيمًا وقد خَلَق كل شيء بحساب وحكمة؛ فورقة الشجر لا تتحرّك من دون ضابطة وبلا قاعدة. كل شيء منظَّم خاضع لقوانين.

أنَقبل نحن هذا الجوابَ أم ذاك؟ ثم ماذا يقول القرآن الكريم في ذلك؟ السؤال الأوّل الذي طرحناه هو: أيَطرح القرآن الكريم هذه الأمور بصفتها حقائق، أم من باب الكلام الأدبي الشِّعري؟ فما أكثر ما يقوله الشعراء – والعياذ بالله - ولا أحد يعترض عليهم أنّه: لماذا قلتم هذا؟!

هذه الأمور لا يمكن طرحها لأيٍّ كان، بل يتسنّى قولُها للشبّان الذين يسيرون في مسار التكامل الإنساني السليم، والذين تفجّرَت طاقاتُهم، وأصبحوا على استعداد لعمل قفزات في حياتهم؛ فأمثال هؤلاء يأخذون مثل هذه الأسئلة على محمل الجد، ثم يجتهدون في العثور على أجوبة لها. أما غيرهم فيقول: "أوه! وما شأننا نحن؟! إنّ غداءنا مرهون بعشائنا! وتريد أن نجلس ونفكّر في مثل هذه الأمور! ما فائدة هذه الأمور؟!"

نحمد الله تعالى على أن كَثُر أمثال هؤلاء الشبّان في بلدنا ببركة الثورة الإسلاميّة، بعد أن كانوا قلّة في السابق. إنّ الأمل الكبير الذي يَعقِده سماحة الإمام القائد الخامنئي(دام ظله) على الشباب يرجع إلى أنّه يرى لهم نماذج لا يهدأ لهم بال حتى يكتشفوا الحقائق، وهم لا يمرّون من أمامها مَرّ الكرام.

لو رغبنا - إجمالًا - في أن يجاب على جميع هذه الأسئلة دفعة واحدة في يوم واحد، بل في لحظة واحدة، فهل هذا برأيكم توقُّع ينُمّ عن عقل؟! في أيّ علم تسير الأمور هكذا؟! أوَتستطيع أنت أن تدرس نظريّة إنشتاين النسبيّة إن كنتَ لم تتقن بعد العمليّات الحسابيّة الأربع؟! لا بد لذلك من مراحل، وإن على المرء أن يجتازها بشكل تدريجي.

إن أردنا العثور على جواب مقنع لجميع المشاكل، التي عجزَ عنها فطاحل العلماء، وشكّك فيها أُناس ليسوا بالبسطاء، فلا بد أوّلًا من الصبر. فهذه القضايا في منتهى الجدّية، ولا بد من إنفاق الوقت من أجلها. علينا أن نطرح هذه القضايا أمام مَن نأمُل فيهم خيرًا، وندخل معهم في حوار ونقاش علّنا نخرج بنتيجة ما. فإن فُتح هذا الباب قليلًا وحَدانا أمَلٌ بالنتائج فلنواصل الطريق بجدّية أكبر. نعم، إنْ مَضينا في هذا الطريق مسافةً فلم نصل فيه إلى شيء، بل زادَت مجهولاتُنا مجهولات أخرى، فعلينا أن نتركه؛ أما إذا انفتحَت أمامنا نافذةٌ على طريق آخر، فلنسعَ فيه بجدّية. فإن فتحَ الله لنا هذه النافذة وسلَكنا الطريق الـمُفضية إليها بجدّية، فسيظل الطريق يتّسع كما لو كنّا نتّجه من رأس مخروط إلى قاعدته، ويكون كقوله تعالى: (مَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ[8] وسيتعاظم حبُّنا لمعرفة الحقيقة واللذّةُ التي نجنيها من العمل بها.

معالم الحب الإلهي

إذا نقلَ لكم شخصٌ، مثلًا رجلٌ عمره ثمانون ونيّف من السنين، أنّ الإمام علي(ع) حين كان يُغمى عليه وسط النخيل، كان يحصل له ذلك من فرط فرحه! أفتصدّقون ذلك؟ أنتم ترون دموع عينَيه فتظنّون أنه يبكي خوفًا من احتراق بدنه في النار، في حين أنه يبكي ولهًا بمحبوبه، وأنّه بسبب وصاله بالمحبوب كان يبلغ من الدهشة حدّ فقدان الوعي! إنّنا لا ندرك ما تعني هذه المفاهيم أصلًا!

المكتوون بنار الحب يفهمون شيئًا ولو يسيرًا من هذه الأحاسيس؛ فالعاشق على استعداد لأن يُمضي ثمانية أشهر، بل ثمان سنوات في التجوال علَّ محبوبَه يراه لحظة في تلك الحالة؛

أمُرُّ على الديارِ ديارِ ليلى      أُقَبِّل ذا الجدارَ وذا الجدارا

وما حبّ الديارِ شغَفنَ قلبي      ولكن حُبُّ من سكنَ الديارا

قيس العامري كان عربيًّا من قبيلة بني عامر، وهذان البيتان منسوبان إليه. لا أدري مدى صحّة قصّة ليلى وقيس هذا المجنون بحبّها، أو سائر قصص الحب الشهيرة، لكنّ البيتَين المذكورين منسوبان إلى قيس هذا، "مجنون ليلى". يقول: حين أمرّ بحَي ليلى أبدأ بتقبيل جدران الدُور دارًا دارًا من أوّل دار حتى أصل إلى دار ليلى. ثم يقول: ليست الجدران هي التي أعشقها، لكن لكونها جدران حَيّ ليلى فإنّها لَغاية اللذّة لي أن أبدأ بتقبيلها من أوّل جدار!

الذي شَمَّ نسيمًا من هذه العوالم يستطيع أن يتصوّر كيف سيكون محبوبُه إذا كان في منتهى الكمال؟ فإن كان يفعل هذا لحُسْن مُحيّا الحبيب فماذا تراه سيصنع لو كان كمالُ محبوبه وجمالُه ما لا نهاية ولا حدّ له؟!

على أيّة حال، ثمّة تساؤلات تتبادر إلى ذهن المرء شريطةَ أن يترفّع قليلًا عن لذّاته المادّية والبهيمية. أمّا إذا كنّا لا نستمتع بغير لذّة الأكل وما فوق البطن ودونها فلن نلتفت إلى مثل هذه الأمور قطّ، بل إن حدَّثَنا بها أحد ضحكنا وقلنا: "بالله عليك دعك من هذا! عليك بنفسك! ما شأننا وهذا!"

إنّ مَن جرّب شيئًا من هذه اللذّات سيعرف أنّه ثمّة، ما خلا الأكل ومقدّماته وتبعاته، لذّاتٌ أخرى أيضًا، وأنّه إذا كانت هي هكذا في مجازاتها، فكيف ستكون حقيقتُها؟! حينذاك لربّما ستُفَكّ عند شخص كهذا عقدة أنه: كيف يمكن لعلي بن أبي طالب(ع) أن يقع وسط بستان النخيل مغشيًّا عليه ثم لا تقلق الزهراء(ع) عليه بسبب ذلك؟!

الغرض من كل هذا هو أن نتعاطى مع أصل الدين والقرآن الكريم بجدّية أكبر ونحاول التفتيش عن أجوبة على هذه التساؤلات. نعم إن لم نعثر على جواب قطعي مئة بالمئة فلنتوصّل، على الأقل، كشأننا في سائر القضايا العلميّة، إلى جواب مُقنع بنسبة خمسين أو ستّين بالمئة. هذه الدروس التي تدرسونها أو ستدرسونها أتحصلون منها في كل قضية على جواب حاسم مئة بالمئة؟! في ذات الوقت الذي تدرسون فيه هذه المذاهب الفكريّة هناك نظريّات معارضة تدحض هذه المذاهب بالكامل! إن كنتم في بلد تلك النظريّات هي المتداولة فيه فإنّهم يدرسّونكم إيّاها أوّلًا. هنا في بلدنا، ولأسباب ما، تُطرح بدايةً نظريّات خاصّة، فنتصوّر نحن أنّها وَحي مُنزَل، وأن فيها الإجابة الكاملة على تساؤلاتنا، لكنّنا نكتشف فيما بعد أنّ هذه أيضًا لم تكن إلّا واحدة من الاحتمالات.

إنّ ما يزرع فينا الأمل، أكثر من أيّ شيء آخر، هو أنّ الله نفسه أخبرنا بأنّكم إن قدَرتُم النعمة التي أنعمتُ بها عليكم حقّ قَدْرها ولم تكفروا بها فسأزيدكم منها لا محالة؛ (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزيدَنَّكُمْ).[9] إن توصّلتم إلى شيء يسير من هذه الحقائق وأحدثَت في أنفسكم لذةً ما فتابعوا الطريق. لا تقولوا: "عرفنا، يكفينا هذا." فعرفان جميل هذه النعمة يكمن في استعمال المرء إيّاها على أرض الواقع، وحينئذ سيرى كيف أن هذه النعمة ستزداد وتنمو باطّراد. من مؤيّدات ذلك أنّه من المستبعَد أنّ أمير المؤمنين(ع) ببكائه وأنينه ذاك كان يمزح معنا! ذلك الرجل نفسه الذي كان في الجِلاد وضرب السيوف بطلًا لا نظير له، لم يكن له نظير أيضًا في البكاء في جوف الليل! فمن المستبعَد على شخص بهذه البطولة أن يبكي بكاء الأطفال حين يجِنّ الليل! من المستحيل أن لا يكون ثمّة سبب ما! سبب نحن لا ندركه!

الإخلاص سرّ عظمة الإمام الخميني(رض)

ثمّ إنّ ما يُضفي على هذه الأمور قيمةً مضاعَفة هو أنّه ناهيك عن كون معرفتها والعمل بها نافعًا جدًّا لحياتنا الأبديّة وأنّه يوصلنا إلى أرقى الكمالات، فإنّها مفيدة أيضًا لحياتنا الدنيا القصيرة هذه، وهي حياة اختباريّة جُعلَت لامتحاننا؛ ففي هذه الحياة الدنيا أيضًا تمنحنا هذه الأمور السَّكينةَ، والنجاحَ، والمحبوبيّةَ، والقيمة. إن أنكرتم ذلك فهذا سماحة الإمام الخميني الراحل(رض) مثلًا! قد لا يكون أيّ واحد منكم أدرك زمانَه وشاهده؛ كان رجلًا معمَّمًا يدرس العلوم الدينيّة بقم، حاله حال العشرات بل المئات من طلبة العلوم الدينية الآخرين، يعيش حياةً ضنكة. ما كان له عقارات، ولا مناجم، ولا سلطة عسكريّة، ولا أي شيء آخر. ما فعلَه أنّه قامَ لله، فأصبح الرجلَ الأوّل في العالم! وإلى يومنا هذا ليس في العالم من هو أشهر منه ولا أكثر استقطابًا للاهتمام. أنا لديّ شواهد، لا مجال الآن لإخباركم بها، بأنّه اشتُهر في ذلك الحين أنّ خطابات الإمام(ره) كانت تترجَم ترجمةً آنيّة، وكان جيمي كارتر، الرئيس الأمريكي الأسبق (في ذلك الحين)، يعطّل برنامجه اليومي ويجلس ليصغي إلى ما يقوله سماحة الإمام(ره) في خطابه. ثم هنالك فيما بعد نماذج من مدى تبجيل سائر رؤساء العالم والشخصيات الأخرى له. أنا شخصيًّا شاهدتُ بعيني أنّ ضبّاطًا أمريكيّين ذوي رُتب عالية أيضًا كانوا يوقّرون المعمَّمين المتَزَيّين بزيّ سماحة الإمام(ره). مثل هذه العظمة كانت لسماحة الإمام(ره). كان طالبُ علوم دينية حاله حال سائر الطلاب. ما ميّزَه عن الآخرين هو ما كان يحمله في قلبه من إخلاص يندر أن يوجد نظير له في غيره. كان شغله الشاغل هو: "ما الذي يريده الله مني؟" وبمعنى من المعاني كان عاشقًا لله تعالى. وقد فعل ذلك العشقُ فعلتَه، فأوصلَه إلى ما وصل إليه. وإن نحن تعلَّمنا هذا أيضًا وتشبَّهنا به قليلًا للَمسنا آثار ذلك.

أسهل الطرق لمعرفة القرآن الكريم

لربما قلتم: "نحن نعرف هذا كله، ما نريد معرفته هو: ما الطريق الأفضل لمعرفة القرآن الكريم؟"

أوّلًا: معرفة لغته. وثانيًا: الاطّلاع على تفسيره. لكنّنا إذا أردنا الإلمام بلغة القرآن الكريم وتفسيره بشكل كامل فلن نجد وقتًا لأي عمل آخر! كم عامًا إلى الآن وسماحة آية الله الجوادي الآملي يدرّس تفسير القرآن الكريم؟ يبدو لي أكثر من ثلاثين عامًا. ومع ذلك هو لم يُتمّ تفسيره إلى الآن! فإن أحبَبنا أن نكون مفسّرين بارعين مثله فلن نجد الوقت لأيّ عمل آخر. فماذا نصنع إذًا؟

لحسن الحظ تتوافر الآن، بفضل الثورة الإسلاميّة، طرق مختصرة للراغبين في الانتفاع بسهولة من نتائج أبحاث الآخرين. هذه المؤسسة، التي تأسّسَت منذ أكثر من أربعين عامًا، كان اسمها في البداية "در راه حق" (في طريق الحق). وبعد قدوم سماحة الإمام الراحل(ره) من باريس وما قدّمه لهذه المؤسسة من أنواع الدعم تغيّر اسمُها إلى "مؤسّسة الإمام الخميني(ره) للتعليم والأبحاث".

من بين الأمور التي جرّبناها في هذه المؤسسة والطرق التي اقترحناها هو تأليف سلسلة تفسير موضوعي للقرآن الكريم كلّه؛ وهو أنّه: ما الذي في جعبة القرآن حول موضوع معيَّن، وبأيّ ترتيب؟ على أن تُطرح الآيات المرتبطة بكل موضوع بشكل مبسَّط، وتخضع موضوعاتها لترتيب منطقي، وسُمّيت: "سلسلة المعارف القرآنيّة." أظنّ أنّها تظمّ عشرة مجلّدات أو اثني عشر مجلّدًا، وقد اجتُهِد على أن تكون مُتقَنةً علميًّا، ولا يُتطرَّق فيها إلى الاحتمالات والأمور البعيدة كل البعد عن الذهن؛ فتكون بسيطة للفهم، سلسلة الأسلوب، فصيحة، منطقيّة الترتيب في آن معًا بحيث إذا قرأ المرء القسم الأول منها يجد في نفسه الرغبة في الانتقال إلى الثاني. أتصوّر أنّكم لو خصّصتم من كل أربع وعشرين ساعة من برنامجكم اليومي نصفَ ساعة فقط لقراءة هذه السلسلة، ولو من أجل تغيير الروتين، فإنّ ذلك سيكون ذا أثر بالغ. فالمرء قد يتفرّج فلم أنيميشن لتغيير الروتين، فما الضير من تخصيص نصف ساعة يوميًّا، ولو من أجل التغيير، لقراءة هذه السلسلة؟! الكتاب ليس تخصّصيًّا جدًّا، ولا يَستعمل المصطلحات المعقّدة. نعم قد يحوي بعضًا منها، وفي وسع المرء هنا أن يدوّن المصطلح الصعب حتى يجد من يشرحه له، لكني أخمّن أن بإمكانكم جميعًا أن تفيدوا من مضامينه أحسنَ الإفادة، ولا يأخذ من وقتكم الكثير. ولربما اجتذبَكم حتى إذا بدأتم بقراءته وجدتُم في أنفسكم ميلًا أكثر للاستمرار. وليس هو بحاجة إلى تخصّص عميق في قواعد اللغة العربية؛ إذ إنّ الآيات موضوع الحاجة فيه مُرفَقة بالترجمة[10] والتفسير من ناحية وإنّ الترابط بين المباحث نفسه ممتع للقارئ، لكونه سيتلقّى نظامًا علميًّا كاملًا. وهذا غير أن يعرف المرء شيئًا ما في قضيّةٍ ما، ويعرف – بشكل منفصل - شيئًا آخر في قضيّة أخرى لا صلة له بالأوّل. فحين ترتبط هذه الأشياء المتبعثرة بعضها ببعض يشعر المرء أكثر بمطلوبيّة الكتاب؛ إذ سيرى أن مشكلاتنا العالمية عولجَت بسلسلة كتاب واحدة، فهو لا يختصّ بزاوية واحدة أو شيء واحد.

هذه من البركات التي حظيَت بها هذه المؤسسة ببركة انتصار الثورة الإسلامية ودعوات سماحة الإمام الراحل(ره)، ونسأل الله أن ينتفع منها الآخرون أيضًا. بالطبع، إن وجدتم بعض الفائض في وقتكم فباستطاعتكم، إلى جانب هذا الكتاب، أن تنهلوا من كتاب تفسير آخر، خصوصًا مؤلّفات آية الله الجوادي الآملي (حفظه الله) التفسيريّة، ففتّشوا عن تلك المرتبطة بهذه المواضيع. أمّا إذا أحببتم مطالعة سلسلة من المباحث المنظَّمة فأنا شخصيًّا لا أجد بين الطرُق التي أخبُرُها طريقًا أفضل من هذا. في حدود علمي، ولكي لا يبقى سؤالكم من دون إجابة، أقول: هذا الطريق موجود. اقرؤوا مجلّدًا واحدًا منه للتجربة وانظروا ما إذا عثرتم فيه على ضالّتكم، أم كان مضيعة للوقت.

قيمة التوسّل الصادق بأهل البيت(ع)

ثم أوصيكم وصيةً من جنس وصايا العوام، وهي أنّ الله تعالى يحب أن يتوسّل المرءُ بأوليائه احترامًا لهم. أقول: الآن وقد وفَدتُم على قم، اقصدوا ضريح السيدة فاطمة المعصومة(ع) واطلبوا منها حاجاتكم بصدق من نيّاتكم. قولوا: "نحن سائلون، وقد وقفنا بباب بيتكِ نستعطيكِ. الله أعطاك كل هذا العز، والعلم، والمعرفة، والجاه، فخذي بأيدينا نحن أيضًا."

ما أود أن أؤكّد عليه هو: خاطبوها بهذا الكلام بصدق ومن دون مجاملة! لنعلم أن بإمكاننا، ببركة دعائهم(ع) لنا واهتمامهم بنا، أن نبلغ مراحلَ مما لو أجهَدنا أنفسنا عامًا كاملًا لبلوغها لما كان له أثرُ هذه اللحظات من التوسّل والاستعطاء!

هذه هي نصيحة العوامّ خاصّتي. أنا جرّبتُ هذه الطريقة وأظن أنها ناجحة، فجربّوها أنتم أيضًا وانظروا كيف هي؟ فإن لمستم منها الأثر المطلوب، فواظبوا عليها، والمواظبة عليها تتمثّل في شكر هذه النعمة. ثمّ ادعوا للمسلمين جميعًا، ولانتصارهم، ولظهور الإمام صاحب الزمان(عج). واشملوا بدعواتكم أيضًا الشيوخ والعجَزة المنهَكين الذين بات وجودهم عالةً على المجتمع ولا نفع منهم. فكلما دعوتم لأمثال هؤلاء يستجيب الله لدعواتكم أكثر.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

 

سؤال: الذين دخَلوا بدايةً سلك الدراسة الجامعيّة من الطبيعي أن تُفتح أمامهم فيما بعد أبواب شتّى، سواء من حيث اختيار الفرع الدراسي، أو من حيث اختيار المهنة وفُرَص العمل. هذا وإنّ بعض المواهب كامنة في داخلنا ولربما نكون نحن أنفسنا غافلين عنها، والطرق أمامنا مختلفة. سؤالي هو: كيف أكتشف مواهبي، ومن ثم أحدّد، بما يتناسب مع هذه المواهب، ما أفضل موضع أختاره في المجتمع بحيث أقدّم من خلاله أفضل خدمة لمولاي صاحب الزمان(عج)؟ كيف لنا تحديد ذلك، وبلوغه؟

ج: أظن أنّنا - في هذه المحاضرة على الأقل – توصَّلنا إلى أنّ الأمر المسَلَّم هو أنّ ما يجب أن يحظى بالأهمّية الأكبر عندنا هو: ما رأي القرآن الكريم في هذا المجال؟ فما من أحد يحبّنا أكثر من الله تعالى، ولا أحد بوسعه أن يرشدنا أفضل من الله سبحانه، كما أنّه ليس ثمة مُرشد ودليل أفضل من القرآن الكريم، إذًا لنحاول أن نستفيد منه أكثر ما يمكن. هذا جواب عام على سؤالك، أما فيما يخص التفاصيل؛ من اختيار الجامعة، إلى الفرع الجامعي، وصولًا إلى اختيار العمل والمهنة، ...إلخ، فإنّ حُسن هذه الأمور هو في أنّها لا تأتي دفعةً واحدة، بل بالتدريج. ففي هذه الفرصة المتاحة للجميع على المرء أن يستشير مَن لديه اختصاص من جهة، وشفيق من جهة أخرى، وسلوكه معتدل وسليم، خالٍ من الإفراط والتفريط، من جهة ثالثة. فالاستشارة طريق يُعِين المرءَ ويرفع بعض ما يلُفّ القضية من إبهام. فإن دخلَ مُعترَك التجربة العملية، أو شاهدَ آخرين مرّوا بهذه التجربة، وكم تطوّروا؟ وماذا تركوا من بصمات؟ وما الخدمات التي استطاعوا تقديمها لبلدهم؟ فهذه أمور تساعده هي الأخرى.

وكان آخرها ما قدّمتُه من نصيحةٍ من منطلق ما لديَّ من حَميّة العوام؛ وهو أن يلجأ المرء للتخضُّع والتوسّل عند أعتاب أهل البيت(ع)؛ فيقول لهم: "لقد فعلتُ ما فعلتُ عملًا بواجبي، لكن أنتم مَن ينبغي أن تأخذوا بيدي لتقودوني إلى ما هو الأفضل، وتُهيِّئوا لي أسبابه."

ألم يحدث في حياتكم أن يُفتح لكم باب، أو تتهيّأ لكم أرضية لم تكونوا قد فكّرتم فيها أبدًا؟ ألم يحدث ذلك؟ دعوني أخبركم، وأنا في هذا العمر، أنّه لطالما حصل، لعشرات، أو لمئات، لا بل لآلاف المرات أن هيّأ الله تعالى لنا سببًا لم يكن قد خطَرَ ببالنا أبدًا. فإن كان هذا الطريق سالكًا، وكانت هذه الأمور من الله، وكان السبيلُ إليها توقيرَ أوليائه عزّ وجل والتوسّلَ بهم فلماذا نغفل عن ذلك؟! نعم العمل بالتكليف لا بد منه؛ من السؤال، والاستشارة، والبحث، والإفادة من التجارب.. كلّها واجبات يجب القيام بها، لكن – إلى جانب ذلك - لنكن مطمئنين من أعماق قلوبنا من أنّنا أوكَلنا أمرنا إلى الله؛ (ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه فَهُوَ حَسبُه).[11]

التوكّل على الله تعالى هو الطريق الرئيس لبلوغ الهدف المنشود

التوكّل يعني تفويض الأمر إلى الله تعالى. نقول: وَكَلَ الأمرَ إلى الله. يقول الله لنا: "يا عبادي، فوِّضوا أمركم إليّ، وأنا سأنجزه أفضل منكم. ولن تحتاجوا بعدها لأيّ شيء آخر"؛ (فَهُوَ حَسبُه)، حسبه يعني: هذا فقط كافٍ له وليس هو بحاجة إلى شيء آخر. افعلوا تلك الأمور بصفتها واجبًا؛ اسعوا لها، واصلوا التحصيل الدراسي، استشيروا، ابحثوا، هذه لا بد منها في محلّها، إنها أداء تكليف، لكن أَسَتَصِلون من خلالها إلى ما يجب أن تصلوا إليه أم لا؟ كثيرون فعلوا هذه الأمور لكن لم يخرجوا منها بنتيجة. فإنْ توكّلتم على الله تعالى، وتوسّلتم بأوليائه فإنّ الله سيهيِّئ الظروف بطريقة لم تخطر ببالكم أصلًا؛ إذ ستُفتَح مداركُكم أفضل، وتتأكّدون أكثر، وستتهيّأ أسباب الأمور لكم على نحو أفضل. هذه تجربة أقترحُها، فجرّبوها وانظروا كيف هي، ألها أثر أم لا؟ فإن كان لها أثر، فواظبوا عليها، ولا تتركوها، إنها معجزة.

أستودعكم جميعًا الله

 


[1]. البقرة: الآية185.

[2]. ملاحظة: المتكلم والحضور هم من المتكلمين باللغة الفارسية. [المترجم]

[3]. التغابن: الآية11.

[4]. الزخرف: الآية71.

[5]. ق: الآية 35.

[6]. انظر: ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب(ع): ج‏4، ص14.

[7]. انظر: الصدوق، الأمالي: ص79.

[8]. التغابن: الآية11.

[9]. إبراهيم: الآية7.

[10]. الحضور طلبة إيرانيون ومن الطبيعي أن تكون ترجمة الآيات بالفارسية لهم مهمة. [المترجم]

[11]. الطلاق: الآية3.

 

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...