البلايا والشرور، خلفيّات امتحانات جديدة

مجلة «فرهنگ پویا» (الثقافة الفعّالة)؛ العدد 42
تاریخ: 
پنجشنبه, 1 اسفند, 1398

البلايا والشرور، خلفيّات امتحانات جديدة

 

إشارة

النص الذي أمامكم هو حصيلة بضع محاضرات مع أسئلة وأجوبة لسماحة العلامة الشيخ مصباح اليزدي (رحمه الله) أدلى بها في العشرين من شباط للعام 2020 في إثر شيوع جائحة كورونا في البلد، والتي نُشرت لأوّل مرّة، بعد إعادة صياغتها، في العدد 42 من مجلة «فرهنگ پویا» (الثقافة الفعّالة).

يشير سماحة الأستاذ في البداية إلى أنّه بالإمكان تناول موضوع البلايا والشرور من ناحيتين: النظريّة، والعمليّة؛ بمعنى أنّنا تارةً نحاول أن نعرف - أساسًا – الحكمةَ والداعي من وجود هذه البلايا من منطلق علم الله تعالى وحكمته. وتارةً أخرى نريد أن نعرف، بصفتنا مؤمنين، أيّ تفاعل نُبديه في مثل هذه الحالات، ولدى وقوع البلايا والأوبئة والحوادث – أو بتعبير آخر: الشرور - سواء من الناحية القلبيّة والعمل الجوانحي (الرضى أو التذمُّر)، أو من ناحية الظاهر والأعمال الجوارحيّة.

ثمّ انبرى سماحته للإجابة على التساؤلين المذكورين باللجوء إلى المقدّمات العقليّة والآيات والروايات، وراح يفُكّ ما اكتنف هذه المسائل من عُقَد ذهنيّة، بأسلوب بليغ وسلس وبأحسن وجه. وأجاب سماحته في النهاية على سبعة من الأسئلة المهمّة لبعض الحضور ممّا ساعد على إلقاء المزيد من الضوء على أبعاد القضيّة.

ونستطيع الزعم بأنّ هذه المقالة، على اختصارها، نادرةٌ أو فريدةٌ من نوعها في مجال دراسة أبعاد البلايا والشرور دراسةً معمَّقة. ولذا ننصح جميع أرباب المعرفة، وكلّ من يهمّهم الفهْم الأدقّ، والعمل الأفضل، بقراءتها بدقّة وبعلميّة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

مقدّمة

يدور الحديث هذه الأيّام عن البلايا والنوائب والأوبئة، ولا سيّما مرض كورونا، الذي انتشر في معظم البلاد، وراح يشيع يومًا بعد يوم بشكل مُطَّرد. وتُطرح حول أمثال هذه القضايا استفسارات جمّة من شرائح شتّى، تختلف في مستوى الفهْم والتحصيل الدراسي والمعرفة والإيمان؛ كأن يسألوا: ما الحكمة من ظهور هذه الآفات والبلايا التي تتّسع رقعتُها أحيانُا لتشمل معظم البلدان، بل وتصيب الأبرياء والأطفال أيضًا؟ وبدا لنا أنّ بالإمكان الخوض في بحث شامل نسبيًّا حول هذا الموضوع، يغطّي أبوابَه على الأقلّ، وإن لم يجرِ البحث في كلّ باب منه بشكل كامل.

إمكانيّة طرح الموضوع من الناحيتين النظريّة والعمليّة

من الممكن طرح هذا الموضوع من ناحيتين: الناحية النظريّة، والناحية العمليّة؛ والمراد هو أنّنا - تارةً - نحاول، عقليًّا وفلسفيًّا، معرفةَ أنّه ما المسوِّغ العقلي لوجود مثل هذه البلايا والآفات، أو ما يُصطلَح عليه بالشرور؟ ولماذا وكيف تتحقّق في العالم؟ (المبحث النظري)، وتارةً أخرى نريد أن نعرف واجبَ الإنسان تجاهها (المبحث العملي). من هنا يسعنا – عمومًا - تقسيم الموضوع إلى مبحثين: 1- النظري، 2- العملي.

الفلاسفة والمتكلّمون تناولوا موضوعَ الشرور منذ القِدم

في الجانب النظري، وفي حدود اطّلاعنا على البحوث العقَديّة والفلسفيّة القديمة، فإنّ من أقدم المباحث المطروحة حول معرفة العالم والوجود هو مبحث الشرور. إذ إنّ في هذا العالم – على أيّة حال – أشياء ينتفع الإنسان منها، ويلتذّ بها، وتجلب له السعادة. كما أنّ هناك أشياء أخرى إمّا أن تتسبّب له بالألم والمعاناة، أو تَحُول دون تحقّق المزيد من الخيرات.

النظرة المادّية في هذه المسألة ونقدها إجمالًا

النظرة المنسوبة إلى الدهريّين، والتي هي مقتضى النظرة المادّية، هي أنّ جميع هذه الأمور هي من لوازم طبيعة هذا العالم. انطلاقًا من هذه النظرة لا يمكن أن تحدَّد للكون خُطّة منظَّمة مدروسة من أنّه كيف كان؟ وكيف هو؟ وكيف سيكون؟ فليس لهذه الأسئلة، وفقَ المبادئ المادّية، أجوبةٌ نهائيّة. فالكون الذي نعيش فيه هو هذا الماثل أمامنا، ولقد كان هكذا منذ الأزل، وسيكون إلى الأبد! وهذا التوجُّه لا يتطرّق أبدًا إلى المباحث الإلهيّة والثيولوجيّة، وحِكَم الخلقة، وما إلى ذلك. وأمثال هؤلاء لا يرون أنّ هناك تدبيرًا ينُمّ عن حكمة يُدير العالم. ونحن من جهتنا ننبذ هذا التوجّه بالكامل ونقول: الموضوع النظري الذي نحن في صدد البحث فيه إنّما هو محطّ اهتمام القائلين بخالقٍ حكيم. أمثال هؤلاء يُقِرّون بسهولةٍ بأنّ خَلق خيرات العالم هو عن حكمة ومصلحة، وأنّ صفات الله الحسنى هي الدافع له سبحانه لخَلْقها. لكن ما إنْ نصل إلى الشرور حتّى تتعقَّد المسألة!

النظرة الثنويّة إلى قضيّة الخير والشر

من أجل ذلك نحا البعضُ، منذ العصور الغابرة، إلى القول بالثنويّة، فقالوا: إنّ لهذا العالم مبدأين: مبدأ خير، ومبدأ شر. فقال بعضهم إنّ هذين المبدأين في عرض بعضهما البعض. ولنا أن نسمّي هذا «الثنويةَ العرَضيّة». وقد نُسب إلى بعض الحكماء القدماء مثلُ هذا التوجّه، وهو القول بمبدأين مستقلّين (أحدهما منشأ الخيرات، والآخر منشأ الشرور)، فالأوّل تقتضي ذاتُه الخير، وهو مبدأ خيرات العالم كافّة، والثاني تقتضي ذاتُه الشر، وهو مبدأ شرور العالم جميعًا. هذا توجّه.

وقال البعض الآخر إنّ الله (أهورا مزدا) قد خلق كلّ شيء، ومن جملة ما خلَق «أَهْرِمَن»[1] وهو مبدأ شرور العالم. مصدر هذه الشرور أَهرِمَن، وإنّ نسبتَها إلى الرب الخالق تكون بواسطة أهرمن؛ فلأنّه خالقُ أَهرِمَن، فهو يُعَدّ خالق أفعاله أيضًا. ونحن نسمّي هذه الثنويّة بـ«الثنويّة الطوليّة». لربّما قال هؤلاء: إنّ الله غير راضٍ عن خَلق أهرِمَن وأفعاله، وهو شبيه بما جاء في التوراة من أنّ الله ندم على خَلق آدم وحوّاء(ع) بعدما أكلا من الشجرة المنهيّ عنها!

مقتضى النظرة التوحيديّة إلى هذه القضيّة

أمّا ما يرتبط مباشرةً بالمعتقدات التوحيديّة والديانات الإلهيّة، ولا سيّما الدين الإسلامي، فهو أن نقول بأنّه ثمّة خالق واحد للوجود كلّه، يتّصف بجميع الكمالات وصفات الخير، وليس في وجوده أيّما نقص أو شر، وأّن كلَّ شيء هو مخلوقُه، وأنّه قد خلق كلّ شيء على أساسٍ من الحكمة والمصلحة.

تساؤل مهم حول قضيّة الشرور

بعد عرض النظرة التوحيديّة في هذه القضيّة بشكل مجمل يرِد تساؤل مهمّ هو: «لأيّ شيء خلَق الله الشرور؟» وبتعبير آخر: كيف يتسنّى عقليًّا تسويغ خَلق الشرور بواسطة الله الحكيم، وهو المجرّد عن أيّ قُبح، والخالي وجودُه من أيّ عنصر شر، بل هو خير محض، ولا يريد إلّا الخير؟!

الردّ الفلسفي المشهور على هذا التساؤل

جرَت في هذا المجال بين المفكّرين المسلمين، على مرّ عهود التاريخ الإسلامي، نقاشات غاية في العمق والإسهاب، وكان أشهر الردود الفلسفيّة هو أنّ هذه الشرور – في واقع الأمر – أمور عدميّة لا تَصدُق عليها عناوين «الخلق» و«الإيجاد» و«الصدور»، وأمثالها.

عدم كفاية الجواب المذكور لحلّ المشكلة

مع أنّ هذا التحليل يحلّ الإشكال الفلسفي الدقيق المرتبط بعلاقة العلّة بالمعلول (وهو: كيف يصدر معلول هو شرّ من علّة هي خير محض؟) يبقى التساؤل التالي وهو: لماذا لم يُخلَق العالم بطريقةٍ لا يُنتزَع معها من هذه الأموره عدمٌ؟ فالنار التي تُحرِق، والمرض – كمرض السرطان أو كورونا – الذي يُهلك الإنسان، وأمثال ذلك، هي أمور وجوديّة، وإنْ قلنا، عبر التحليل العميق: إنّ حيثيّة كونها شر تعود إلى العدم. إذ سيُطرح، على أيّة حال، السؤال من أنّه: لماذا خلَق الله هذه الأمور الضارّة وهو الحكيم الرحيم؟

كما أنّ المسلمين جميعًا، بل أصحاب الديانات قاطبة يعتقدون بأنّ هناك في العالم الأبديّ دارَين: دار الجنّة المنزَّهة عن كلّ شر، ودار النار العارية عن كلّ خير. والسؤال الذي يُطرح هو: ماذا لو لم يخلق الله تعالى نار جهنّم؟

تقسيم الشرور إلى دنيويّة وأخرويّة

ويسعنا القول في الردّ على أسئلة من هذا القبيل: المخلوقات التي نطلق عليها شرورًا تنقسم إلى قسمين: طائفة منها الشرور التي تتحقّق في هذا العالم، والأخرى تلك المتّصلة بالعالم الأبدي.

تقسيم الشرور الدنيويّة إلى أوّليّة وثانويّة

ثمّ إنّ شرور هذا العالم تنقسم بدورها إلى فئتين: ففئة تضمّ الشرور التي تظهر دونما دورٍ للإنسان أو أيّ موجود مختار آخر، ولكي نجعل لها مصطلَحًا نسمّيها: «الشرور الابتدائيّة»، وفئة لها طابع ثانوي، أو تكون بمنزلة ردّة فعل؛ أي أنْ يأتي موجودٌ بفعلٍ ما فيتحقّق شرّ في إثر ذلك؛ كأن يذنب إنسانٌ فيُبتلى بالآثار السيّئة لهذا الذنب. ونسمّي هذه «الشرور الثانويّة» أو «الناجمة عن ردّة فعل».

نسبيّة الشرور الدنيويّة

وقد جرت على الشرور الدنيويّة أبحاث مفادها أنّ شرّ هذه الأمور نسبي؛ فالنار مثلًا تحرق الورق لكنّها تؤدّي إلى طهي الطعام، وتدفئة الجوّ، والوقاية من البرد والأمراض المتأتّية منه. فهذه الشرور إذًا نسبيّة؛ أي إنّها خيرٌ لأشياء، وشرّ لأشياء أخرى.

لكنّ الشيءَ الذي هو محطّ النقاش، والذي تحوم حوله معظم الشبهات، هو أنّه: لماذا خلقَ الله تعالى في هذا العالم شرورًا تورِث الألم والمعاناة والنكد والأرق والمآسي؟

ضرورة الالتفات إلى فلسفة خلق الإنسان في الدنيا

وإنّما تتّضح الإجابة على هذا السؤال حينما ندرك أنّه لماذا، أساسًا، خلقَ اللهُ الحكيم الإنسانَ في هذا العالم؟

توضيح: بعد أن خلقَ الله تعالى العوالم جميعًا (من العوالم العلويّة، والملائكة المقرَّبين، و«العالين»[2]، مرورًا بالملائكة المتوسّطة ذات الصلة بعالم البرزخ والمثال، ووصولًا إلى الملائكة المرتبطة بهذا العالم)، وحيث إنّ لكلّ فئة من هؤلاء قابليّة معيّنة: (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُوم[3] فقد تفضّلَ عزّ وجلّ عليها بفيض كلٌّ بحسب قابليّته: (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُون‏ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون).[4] ومن خواصّ الملائكة أنّ لها قدرةً محدودةً على فعلٍ ما أو أفعالٍ معيّنة: «منهم سجودٌ لا يركعون، وركوعٌ لا ينتصبون»،[5] ولا يخطر في بالها الذنب والمعصية أبدًا.

وكان ينقصُ موجودٌ يستطيع تلقّي أعلى مراتب الفيض الإلهيّ باختياره هو.[6] وهاهنا قال الله جلّ وعلا للملائكة: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَة).[7] موجود كهذا باستطاعته أن يتكامل إلى درجة أن يصبح خليفةً لله تعالى، ويمارس سلوكيّات إلهيّة، وينال أعلى الكمالات الوجوديّة (ما خلا الكمالات الخاصّة بالحقّ تعالى وواجب الوجود)، ولا يكتسب الإنسان الأهليّة لمثل هذا الفيض إلّا إذا تخيَّر طريقَه باختياره هو.

الشرور تمهّد لاختيار الإنسان

ومن أجل أن يظهر موجودٌ مختار يملك أن ينال درجات مختلفة من الكمال الاختياري في مجالات شتّى، ويصبح، بتعبير آخر: «مظهرَ الاختيار الإلهي» لا بدّ أن يُخلق في عالمٍ تقتضي طبيعتُه تغييرات مختلفة. وإنّما تتجلّى ضرورة هذا الأمر من حيث إنّه لا بدّ لتحقّق الاختيار من وجود طريقَين: طريق الصعود وطريق السقوط، طريق الخير وطريق الشرّ، طريقٌ محبَّذ وآخر منبوذ لكي تتهيّأ الأرضيّة للامتحان والاختيار عن وعي. إذًا فقد خلقَ الله سبحانه هذا العالم ليكون موطنًا لتغييرات متنوّعة تستطيع أن تمهّد أرضيّات لاختيارات شتّى بالغة التعقيد في المجالات كافّة من أجل تحقّق هذا الاختيار المحبَّذ، فيتأهّل الإنسان بهذه الطريقة لنيل أعلى الفيوضات الإلهيّة، ويسمو على الملائكة أيضًا. ولهذا فحين قالت الملائكة: (أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أجابَ الله تعالى: (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُون[8] أي إنّكم لا تعلمون أنّه لماذا باستطاعة هذا الموجود أن يكون خليفة أمّا أنتم فليس باستطاعتكم ذلك، ولا تملكون مثل هذه القابليّة.

وعليه فإنّ باستطاعتنا القول: إنّ أكثر الحِكَم عموميّةً لوجود الشرور والنقائص والآفات والبلايا في هذا العالم هي تمهيد الأرضيّة لاختيار البشر لكي يتمكّنوا، باختيارهم الصائب هم، من أن يختاروا جانب الخير فيكونوا مؤهَّلين ومستحقّين لتلقّي أعلى درجات الكمال الوجودي والفيض الإلهي.

المراد من كون الشرور عرَضيّة

نتيجة هذا الكلام هي أنّ وجود الشرور ليس مقصودًا بالذات، بل مقصود بالعرَض؛ أي هو من أجل أن تتمهّد الأرضيّة للاختيار حتّى يستطيع الموجود ذو القابليّة المتميّزة، وباختياره هو، نيلَ الأهليّة لتلقّي أعلى فيض من الله تعالى. وبتعبير آخر: الجواب على سؤال أنّه: لماذا خلقَ الله الحكيم الشرور؟ هو: أنّ هذه الشرور – كضروب الألم، والمعاناة، والأحزان، والفراق، والعذاب، ...إلخ – مقدَّمة وأداة ليستطيع أناس أن يحسنوا الاختيار فينالوا أعلى الفيوضات الإلهيّة. إذًا حصول هذه الكمالات الإنسانيّة هو المقصود بالذات، أمّا تحقّق الشرور فمقصود بالعرَض.

عدم كفاية غلبة الخير على الشرّ كَمًّا

وليس من غير المناسب هنا أن نشير إلى كلامٍ نُقل عن بعض الحكماء وهو قولهم: مع أنّ وجود الشرور في هذا العالم ينطوي، إجمالًا، على حِكَم لا بدّ لعدد الخيرات – في النهاية – أن يزيد على الشرور ولا ينبغي العكس. لكن يبدو أنّ هذا الجواب هو الآخر ليس كاملًا؛ لأنّ معيار الغلبة ليس الكَمّ وحسب؛ إذ لو وجد إنسانٌ يمتلك الأهليّة لتلقّي أعلى درجات فيض الوجود باختياره هو، مثل النبي الأعظم(ص)، لكان يوازي أهل العالم كلّهم، وكان من المناسب أن يضحَّى بهم جميعًا في سبيل ظهور إنسانٍ كهذا، ولـمَا كان من اللازم أن يكون هناك عددٌ كبير من مثل هذا الإنسان. على أيّة حال قلنا هذا بين هلالين، من أنّ البعض اشترط غلبة الخير على الشرّ كَمًّا، ويبدو أن لا برهان على هذا القول.

الشرور الخاصّة إلى جانب الشرور العامّة

وتُطرح في هذا المسار، على أيّة حال، قضيّة فرعيّة هي أنّ البشر تتيسّر لهم درجات مختلفة من التكامل، وإنّ قابليّاتهم متباينة، كما أنّ مجالات تكاملهم شتّى، لذا تقتضي الحكمة أن يتبَعَ التفاعلاتِ وعمليّاتِ التأثير والتأثّر المتبادَلة ظهورُ مجالات مختلفة من الخير والشر من أجل أن تتمهّد ظروفٌ شتّى للتكامل الطولي والعرضي. كما أنّه بالالتفات إلى المؤهّلات المختلفة الموجودة في كيان الإنسان، حتّى ليتسنّى أن يختار سبيل الخير ردحًا من الزمن، ثمّ يغيّر وجهَته بعد ذلك، والعكس أيضًا ممكن، فلا بدّ لظروف الاختيار أن تكون دائمًا قابلة للتغيير، بحيث حتّى لو عبدَ الإنسانُ الله عشرات السنين يكون من الممكن له أن يُبتلى في نهاية المطاف بالمعصية وتخيُّر طريقِ الشر، وكذا العكس. وعليه لا بدّ من وجود أنواع من العوامل التي تسبدل أرضيّاتِ الخيرات بالشرور وبالعكس.

إذًا فما خلا الشرور الابتدائيّة المجعولة للعالم أجمع بشكل عام، جُعلَت للأشخاص أيضًا شرورٌ خاصّة تمهيدًا لأرضيّات امتحانات جديدة.

البلايا والشرور المُعَدّة لقطع تعلّق الإنسان بالدنيا

من القضايا الفرعيّة الأخرى هي أنّ هناك أناسًا، وبسبب انبهارهم بملذّات الدنيا ومن ثمّ التعلّق بها، يخطئون الاختيار، مع بقاء أصل الإيمان والمعرفة في سويداء قلوبهم، وإنْ بشكل خافت جدًّا. فيقتضي اللطف الإلهيّ أن يهيّئ أرضيّةً لظهور الكمال والنضج حتّى لأمثال هؤلاء. وإنّ من الطرق إلى ذلك هو ابتلاؤهم بالبلايا أو الشرور ليدركوا أنّه أيّ شرورٍ تستلزم هذه الدنيا! فيَضعف بذلك تعلّقهم بالدنيا، ولربّما يقودهم إلى التوبة عن سالف معاصيهم أيضًا؛ (وَلَنُذيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى‏ دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون).[9]

التمهيد لابتلاء الآخرين بالخير أو الشرّ

القضيّة الفرعيّة الأخرى هي أنّ الشخص نفسه قد لا يكون ارتكب ما يوجب الشرّ لكنّ شرَّ شخص آخر يسري إليه، كما في الشرور الاجتماعيّة، وعكس هذا يصدق في الخيرات؛ أي أنْ لا يفعل الشخصُ نفسه ما يوجب التنعّم بالنعم، بل أن يفعل غيرُه فعلًا يمهّد للأوّل الأرضيّة للاختيار المحبَّذ. وهذا في الواقع هو أيضًا ضَرب من الامتحان: (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئات).[10] الحسنات كذلك يمكن أن تكون عنصرًا للاختبار: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة).[11] إذًا لربّما يشكّل سلوكُ شخص ما خلفيّة للاختيار والاختبار لغيره، مثلما أنّ السلوك الصالح للسلَف ربّما يهيّئ أرضيّات لصالحات الأجيال القادمة؛ كما في قوله تعالى: (وَكانَ أَبُوهُما صالِحًا).[12]

الشرور بمنزلة لوازم التكامل الاختياري للإنسان

حاصل الجواب الكلّي هو أنّ شرور هذا العالم (بذلك المعنى للشر الذي يطلَق على الأمور الوجوديّة[13]) مقصودة بالتبَع؛ بمعنى أنّ إرادة الله الحكيمة تعلّقت أوّلًا وبالذات بظهور موجود مثل الإنسان يستطيع باختياره الشخصي أن ينال أعلى الكمالات الإمكانيّة، وإنّ صفة الاختيار عند الإنسان تقتضي وجود نظامٍ يوجد فيه الحسَن والقبيح، والخير والشر معًا. والنتيجة هي أن يكون هذا العالم بشروره متعلّقًا هو الآخر بالإرادة الإلهيّة. بتعبير آخر: إنّ إرادة الحقّ تعالى لا تتعلّق أصالةً وبشكل مستقلّ بهذه الشرور بما هي شرور، بل إنّ وجودَها مُرادٌ له عزّ وجلّ بالتبَع من حيث كونها من لوازم التكامل الاختياري للإنسان.

واجب الإنسان إزاء الشرور

الدور الآن للقسم الثاني من البحث، وهو القسم العمليّ، وهو الردّ على سؤال أنّه: «ما الموقف الواجب اتّخاذه إزاء هذه الشرور، وما السلوك الاختياري الذي يتعيّن تبنّيه؟»

ويُطرح هذا الجزء أحيانًا بصورة بحث فلسفي وعقلي خالص فيُجاب عنه باعتماد الأدلّة العقليّة وبالالتفات إلى المصالح والمفاسد التي يمكن إدراكها عقليًّا. لكنّ مستوى البحث، وبالنظر لوجود المعارف الدينيّة، سيرتفع جدًّا. لذا، ومن أجل الإجابة، سنتحوّل في البحث من الجانب النظري إلى العملي. ولأنّ هذه الشبهات تطرأ أكثر ما تطرأ للمتديّنين أو في مواجهتهم فسنعمل – بمقدار وسعنا وبما أوتينا من توفيق – على توضيح ارتباطها بالقضايا الدينيّة والإرادة الإلهيّة التشريعيّة.

أثر العمل على تكامل الإنسان

سبق أن قلنا: إنّ كمال نظام العالم (النظام الذي يشمل المخلوقات جميعًا) يكمن في وجود مخلوق يتخيّر طريقَه باختياره وإرادته الشخصيّة ويبلغ، في إثر حُسن اختياره، أعلى مقامٍ يمكن أن يبلغَه مخلوق. وحين نقول: «يتخيَّر (الشيءَ) باختياره هو»، يعني أنّ هناك «عملًا» في القضيّة. ولا بدّ من وجود خير وشر ليتخيّر أحدَهما باختياره هو، سواء بالاختيار الباطني وفي نطاق روحه ونفسه، أو ضمن النطاق الخارجي المرتبط بالأعمال الجوارحيّة. وحين تكون القضيّة قضيّة اختيار، تُطرح مسألة «الفعل» بمدلولها العام. على هذا الأساس فإنّ كلّ ما يستدعي حرمان الإنسان من أصل هذا الكمال أو من درجات منه فإنّه يتّصف بـ«كونه شرًّا»، وعلى العكس: كلّ ما يوجب نيل أصل هذا الكمال أو درجاته الأعلى فإنّه يتّصف بـ«كونه خيرًا»، ويسمّى كلّ واحد من الاثنين بـ«العمل الاختياري» بمعناه العام، ويُقسم إلى قسمين: جوانحي وجوارحي.

تدريجيّة وجود الإنسان لتهيُّؤ أرضيّات أوسع للاختيار

من أجل أن تكون أمام الموجود المختار أرضيّةٌ واسعة للاختيار وتغيير المسار لا بدّ أن يكون وجودُه تدريجيًّا، وأن تستجدّ له دومًا ظروف للاختيار، في المجالات المختلفة، وللرُقِيّ والهبوط، وهي أمور تتيسّر في عالم الطبيعة هذا فقط.

ضرورة الإدراك العقلي من أجل اختيارٍ واعٍ

من ناحية أخرى يتطلّب الاختيار الواعي إدراكًا للكمال والنقص والحسَن والقبيح، وهذا ما لا يحصل في المراحل الأولى من العمر (مثل مرحلة الرضاعة). فلا بدّ للمرء أن ينضج تدريجيًّا ليبلغ مرحلة العقل، التي لها هي الأخرى مراتب، وهي تنتقل تدريجيًّا من القوّة إلى الفعل. ومن الواضح أنّ تكامل العقل يختلف من إنسان لآخر، وإنّ نظرةً إلى المجتمع والتاريخ لكافية لاكتشاف أنّ الناس مختلفون فيما بينهم اختلافًا كبيرًا من حيث الاستعدادات الذاتيّة للتعقّل من جهة، ومن حيث سرعة التكامل من جهة أخرى. وهذه المراتب هي من الكثرة ما لا يمكن إحصاؤه، ولا يتسنّى تصنيفها إلّا عن طريق مفاهيم عامّة ومبهَمة.

ضرورة الوحي لتمييز الحسَن من القبيح والخير من الشر

إذا أمكنَ وجودُ سبيلٍ أخرى أمام الناس، غير العقل، يستطيعون بمساعدته تبيُّن طريق الخير والشر أكثر وعلى نحو أفضل فستقتضي الحكمة الإلهيّة وضع هذه السبيل في متناولهم. وهاهنا تحديدًا يتّضح دور الدين في تكامل الإنسان؛ أي: ناهيك عن ضروب الإدراك التي يهبها الله تعالى للإنسان عن طريق العقل يتعهّد عزّ وجلّ بنفسه ببيان حقائقَ ومعارفَ تفوق الإدراكات العاديّة والعقليّة فيبيّن للإنسان، عن طريق الوحي، أيَّ الطرق تقود إلى الكمال والسعادة، وأيّها تؤدّي إلى العذاب والشقاء. وهنا بالذات يأتي دَور الشريعة، والأحكام الشرعيّة، والإرادة التشريعيّة لله جلّ شأنه.

مراتب الواجبات والمحرّمات

مضافًا إلى تقسيم الأمور في الشريعة إلى مطلوب وغير مطلوب، فقد وُضعَت للمطلوبيّة وعدم المطلوبيّة درجات وأُعير اهتمامٌ مميَّز للحدود، والضرورات، والتزاحمات، والظروف المتغيّرة. وقد جعل الله تعالى مرتبةً من مراتب المطلوبيّة لا تتيسّر حركةُ الإنسان التكامليّة من دونها، بل ويستوجب تركُها حرمانًا جذريًّا، فأوجَبها على الإنسان. اسم هذه المرتبة في لسان الشرع «الواجبات» وهي بدورها تنطوي على مراتب أيضًا، ولا بدّ من تقديم أهمّها عند التزاحم. وفي مقابل ذلك هناك «المحرّمات» ودرجاتها. فمَن يروم السير في طريق الكمال عليه مراعاة الحدّ الأدنى من الواجبات، والحدّ الأدنى من المحرّمات. على أنّ مثل هذه المراتب موجودة للعقليّات كذلك، لكنْ جرى فرزُها في الشرع بشكل كامل وجُعلَت في متناول عامّة الناس.

الإنذار والتبشير من الأنبياء إلى جانب الهداية التشريعيّة

أساسًا إنّ للهداية الإلهيّة التشريعيّة، التي تجري عبر إرسال الرّسُل وإنزال الكتُب، طابعًا تعليميًّا؛ أي كما أنّ العقل يدرك الخير والشرّ بنفسه، فإنّ الوحي ينوب عن العقل فيعرِّف بالخير والشر. لكنّ هذه المعرفة بالخير والشر هي الأخرى غير كافية لينتفع الناس أقصى ما يكون الانتفاع من النِعَم المعنويّة والسعادة الإلهيّة، ولهذا فقد اقتضى التدبير الحكيم لله جلّ وعلا أن يهيّئ في هذا العالم، المليء بالتغيّرات والتزاحمات وألوان التأثير والتأثُّر المتبادَلين، أرضيّاتٍ تساعد الإنسان – أوّلًا – على أن لا ينسى ما أدركه عن طريق العقل والوحي، وثانيًا تزيد عنده الدافع لفعل الخيرات واجتناب الشرور. ولهذا اقترنَت دعوة الأنبياء(ع) بالإنذار والتبشير: (رُسُلًا مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل[14] بمعنى أنّه مضافًا إلى ما كان يقوم به أنبياء الله من أصل الهدى والإرشاد، وبيان سبيل الخير والشرّ والحقّ والباطل، فقد كانوا يحثّون الناس على فعل الخيرات من خلال التذكير بما يترتّب على الاختيار الذي يُرضي الله من آثار حسَنة في الدنيا والآخرة، ويحذّرونهم من التدنّس بالمعاصي وموجِبات الشقاء في الدنيا والآخرة عبر تنبيههم إلى ما يترتّب على الكفر والعصيان من آثارِ سوءٍ وعذابٍ دنيوي وأُخروي.

بعد الفراغ من البحث النظري والتنويه بحلقة الوصل بين المباحث النظريّة والعمليّة، يأتي الدور للردّ على الأسئلة المرتبطة بواجبنا إزاء ظواهر الخير المطلوبة، وظواهر الشر غير المطلوبة، سواء منها الابتدائيّة، أو تلك الراجعة إلى أعمال الشخص نفسه، أو التي نجمَت بسبب الآخرين، بما فيهم الماضين. وكما علِمنا فإنّ جميع هذه الظواهر مُلاحَظةٌ ضمن النظام الأحسَن، بالعَرَض أو بالتّبَع، وهي ترتبط بالتكامل الاختياري للإنسان.

العبادة، العامل الأساسي لتكامل الإنسان

من الملائم أن نشير هنا إلى أنّ العامل الأساسي لتكامل الإنسان، والذي يستدعي أهليّته لتلقّي أعلى درجات الرحمة والفيض الإلهيّين، هو تحديدًا ما يسمّى بلسان الشرع بـ«العبادة»؛ وهو أن يدرك المرء أنّه لا يملك، ولا يستطيع أن يملك شيئًا من نفسه، وأنّ كلّ ما يناله من خير هو من الله عزّ وجلّ؛ إنّها الحقيقة التي بالإمكان تحقّقها عبر عمليّة طويلة جدًّا، والتي تنطوي على مراحلَ جَمّة، من حيث العَرَض ومن حيث الطول على حدّ سواء.

حفظ النعم، وشكرها، والعمل على إنمائها هي من لوازم العبادة

من جملة لوازم هذه العبادة هو أن نترك ما يراه العقل مدعاةً لهبوط الإنسان وسقوطه، ونفعل ما يراه سببًا لصعوده ورُقِيّه. على أنّه حين ندرك بالوحي أيضًا أنّ شيئًا ما يوجِب رُقيّنا وتكاملنا فلا بدّ أن نحبّه ونصونَه، وأنّ أمرًا ما يؤدّي إلى التفريط بالنعم وممهِّدات التكامل فينبغي أن ننبذه.

فيما يتّصل بالنعم التي أودعها الله جلّ وعلا في أجسامنا وأرواحنا؛ مثل العين، والأذن، واليد، والرجل، والعقل، والمعرفة، والميول الفطريّة، وكذا الأمور التي نلناها بالسعي والمثابرة؛ مثل العلم، والإيمان فعلينا – أوّلًا - أن نجتهد في شكرها. ثانيًا أن نحفظ هذا الوعي وهذه المعرفة من الزوال. ثالثًا أن نحاول الالتزام بلوازمها العمليّة. فإنْ قصَّرنا في أيّ مرحلة من هذه المراحل نكون – في الحقيقة - قد خطونا باتّجاه هبوطنا.

أنواع الواجبات المكلّفون بها تجاه النعم

من جهة أخرى حين نلتفت إلى أنّ الإرادة الإلهيّة ليست خاصّةً بي أنا، وأنّ كلّ من يستطيع التكامل بإرادته هوَ، فإنّ الله تعالى سيُريد إيصالَه إلى الكمال، سنعرف أنّه ليس من حقّنا أن نضيّع أيّما نعمة، وإنْ أعطاها تعالى لأيّ أحدٍ غيرنا، فضلًا عن أن نُبَدّدها. وحين نفهم أنّه من الممكن أن تكون نِعَم الآخرين في المستقبل مصدرًا لكمالنا نحن أيضًا، فننتفع نحن ممّا أُوتوا هم من مالٍ أو علم مثلًا، فستتحقّق لنا نعمة على نعمة.

وعليه فإنّ حفظ أصل النعمة من جهة، وشكرها من جهة أخرى، والإفادة منها من جهة ثالثة، والعمل على إنمائها من جهة رابعة، كلّها خيرات وهي جميعًا تُعَدّ من واجبنا العملي، وإنّ كلّ ما هو عكس ذلك يُصنَّف في قائمة الشرور. وكما أنّ الشرور الابتدائيّة غير الاختياريّة تمهّد للإنسان الأرضيّةَ لاختيارٍ جيّد أو سيّئ، فإنّ بإمكان الشرور الاختياريّة أيضًا أن تهيّئ خلفيّاتٍ لاختيارات محبَّذة أو غير محبَّذة.

وثمّة حول هذا الموضوع مسائل متعدّدة لا أستحضر مجموعةً كاملةً ومتّسقة لها في موضع واحد، ولا شكّ أنّ هذا يعود إلى ضعف مطالَعاتي وشحّتها، لكن هناك في الآيات القرآنيّة – على أيّة حال – مباحث جمّة في هذا المجال هي مهمّة ومربّية جدًّا، ونحن – مع شديد الأسف – لا ننتفع من هذه النعم القرآنيّة بشكل صحيح، فنُعِدّ بذلك لأنفسنا وللآخرين أسبابَ الحرمان منها.

الكثير من الأمور غير المحبَّذة هي خير

من جملة الألطاف التي لا تدركها عقولنا، والتي بيّنها الله تعالى بنفسه، هي أنّ بعض الأمور تبدو لك غير محبَّذة، وأنت تصنّفها في قائمة الشرور، لكنّها تمهّد لكمالات في قادم الأيّام، بل هي في الواقع نِعَم ينبغي لك الانتفاع منها: (وَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون).[15]

نزول البلاء بالتزامن مع إرسال الرسُل هو أحد مصاديق النعم

من جملة هذه النعم هذه السُنّة الإلهيّة، وهي أنّ الله جلّ وعلا كان يُنزِل، بالتزامن مع إرساله الرسل، بلايا تحفّز في الناس التوجّه إلى الله والتضرّع إليه لرفعها، وهذه القضيّة بالذات تهيّئ بيئةً أغنى لتقبّل دعوة الأنبياء(ع). من ذلك آيتان في سورتي الأنعام والأعراف بالمضمون ذاته وهما: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى‏ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون[16] و: (وَما أَرْسَلْنا في‏ قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُون).[17]

توضيح ذلك: إنّ الإنسان في بداية ظهوره كان في مستوى الحيوانات، وقد اجتاز تدريجيًّا مراحلَ من التكامل ليتأهّل لنيل الكمالات الإنسانيّة، وبالطبع الميولُ الحيوانيّة وحبّ اللذّات المادّية موجودة فيه فعلًا. إشباع هذه الميول يقود إلى المزيد من التعلّق بها، وإنّ الغالبيّة العظمى من البشر مُعرَّضون لعوامل تهبط بهم إلى حضيض الحيوانيّة، أو تؤدّي - على الأقل - إلى عدم نموّ عامل الرُقِيّ فيهم. ويبلغ التعلّق بالدنيا ولذّاتها أحيانًا حدًّا يُخرِج المدرَكات الفطريّة والعقليّة، بل وكلام الأنبياء أيضًا عن دائرة الاهتمام، لا بل يقود إلى إنكارها. وهذا تحديدًا ما يجعل الله جلّ شأنه إذا أرسلَ نبيًّا يوجّه للناس - إلى جانب التبشيرات والإنذارات - إنذارًا عمليًّا: (وَما أَرْسَلْنا في‏ قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُون).

ردود الأفعال المختلفة من الناس إزاء البلايا المُنذِرة

ويُبدي الناس إزاء هذه الإنذارات ردودَ أفعالٍ مختلفة، وهم يُمهَلون ليتنبّهوا أكثر فأكثر بشكل تدريجي، وتتهيّأ لهم المزيد من أرضيات الأوبة إلى الله تعالى، فتعمل توبتهم وتضرّعهم على تقرّبهم من الله، بمعنى أن يدركوا نقائصهم واحتياجهم إلى الله على نحو أفضل، وعمومًا تتهيّأ لهم أرضيّة العبادة بشكل أحسن.

جاء في بعض هذه الآيات قوله تعالى: (فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا[18] أي حتّى هذا العامل، الذي أوجَدناه محبّةً منّا ليمهّد لتقرّبهم وتكاملهم، لم يكن له وَقعٌ على معظم الناس، بل انتهى الأمر إلى عنادهم وتمسّكهم أكثر بهذه الأمور الدنيويّة، وابتعادهم عن الله تعالى: (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُم[19] فسبب عدم تضرّعهم وعودتهم إلى الله هو أنّ قلوبهم قسَت، فكانت على حدّ قول القرآن الكريم: (كَالحِجَارَة[20] وما عاد قول الحقّ ينفذ إليها بتاتًا، بل كانوا يضعون القطن في آذانهم في حضرة الأنبياء لكي لا يسمعوا كلامهم! في بداية سورة يس هكذا يعبّر الله تبارك وتعالى: (إِنَّا جَعَلْنا في‏ أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُون *... وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُون).[21] حين تبلغ الأمور هذ الحد لا يعودون يستحقّون العون من الله تعالى.

بل قد تتجاوز الأمور هذا الحدّ، فلا يفرّطون بأنفسهم باستحقاقهم الدرجات الواطئة من السعادة فحسب، بل يجرّون الآخرين أيضًا إلى الضلالة والشقاء، وهو قول نبيّ الله نوح(ع): (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِرًا كَفَّارًا[22] يا ربّ، لقد دعوت هؤلاء قرابة ألف عام، وأنذرتهم وبشّرتهم بمختلف صنوف الإنذار والتبشير، فلم يُجدِ ذلك فيهم نفعًا. ليس هذا فحسب، بل مهَّدوا لإضلال الآخرين أيضًا، ولم يعد ثمّة أمل بأن يولَد من ذرّيتهم إنسان صالح؛ (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِرًا كَفَّارًا). فحين تصل المواصيل إلى هذا الحدّ ينزل العذاب بشكل عامّ وجماعي. وكما قد أسلفنا فإنّ هذه الصنوف من العذاب تشكّل جزءًا من شرور هذا العالم.

وفي الجانب المقابل هناك أيضًا أناس تعمل مستوياتٌ معيَّنة من الشدائد على إيقاظهم وصحوتهم، فتحُدّ – على الأقل – من توجّههم نحو ارتكاب الذنوب والعصيان والكفر والإلحاد: (وَلَنُذيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى‏ دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون).[23]

فإن علمنا أنّ التدابير الإلهيّة في هذا العالم تشمل أمثال هذه الحوادث المريرة أيضًا، وأنّ هذه الشرور هي – في الواقع – جزء من هذه التدابير، وتشكّل - بمعنى من المعاني – جانبًا من النظام الأحسن، وإنْ بالتبَع والعرَض لا بالأصالة، يأتي السؤال بأنه: ما هو واجب المؤمن العادي - الذي لم يرسخ فيه الشقاء ولا السعادة بالمعنى الحرفيّ للكلمة - تجاه خيرات العالم وأنعُمه وكذا إزاء شروره وبلاياه وانحرافاته؟

واجبنا تجاه النعم الإلهيّة

يتّضح، بالالتفات إلى ما ذُكر، أنّ النعم المتوافرة في هذا العالم هي عطايا ومواهب من الله تعالى، سواء في كيان الفرد نفسه، في بدنه، أو روحه، أو في عائلته، أو في بيئته التي يحيا فيها، أو – بالنهاية - في نظام الوجود كلّه. وإنّ عبوديّتنا لله تقضي بأن لا نتصرّف في هذه النعم إلّا بإذن من الله تعالى، وأن ننتفع منها فيما يكون فيه سعادتُنا وتكاملنا. وبالطبع ليس من حقّنا أن نبدّدها، أو نُسيء استعمالها، أو نمنع الآخرين من الاستفادة منها، لأنّها وُجدَت من منطلَق الحكمة الإلهيّة، وهي أمارة على لطف الله تعالى ورحمته. فإن فعَلنا ما يُؤَدّي إلى إضعاف هذه النعم، أو زوالها فسنُسأل عن ذلك.

المسألة التي تستحقّ هنا الالتفات والتمعُّن هي أنّ الانتفاع المطلوب من النعم الإلهيّة، الذي يمثّل المصداق لشُكر هذه النعم، يقود إلى ازديادها وبركتها، كما أنّ إساءة استعمالها وكفرانها – في المقابل – يقتضي الحرمان منها وإنزال العقوبة الصارمة؛ (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابي‏ لَشَديد).[24]

فالأصل لدى مواجهة الناس للنعم الإلهيّة في هذا العالم إذًا هو أن يعرفوها حقّ معرفتها، ويشكروها، ويُحسنوا الانتفاع منها، ولا يعملوا على تبديدها، لا فيما يخُصّهم هم ولا فيما يخصّ الآخرين. وأن يعملوا، في المقابل، على الحيلولة دون ظهور عوامل الشرّ والفساد والأوبئة ويمنعوا شيوعها وانتشارها.

واجبنا بخصوص الرضى بالشرور أو عدمه

هذا وجه من وجهَي القضيّة؛ وهو أن لا نضيع نِعم الله ولا نفرّط بها، سواء تلك الخاصّة بنا، أو المتعلّقة بالآخرين. أمّا الوجه الآخر فيرتبط بردّة فعلنا القلبيّة وأعمالنا الجوانحيّة، وهو أنّه هل يجب علينا أن نرضى قلبًا بالآفات، والآلام، والبلايا، والانحرافات، بل وبجرائم الآخرين؟ وكيف لنا الجمع بين المخاوف من الألم والمعاناة والمصائب وبين الرضى بالتقديرات الإلهيّة؟

الاختلاف بين النظرتين التفويضيّة والجَبريّة

الحقّ أنّ الجواب على هذا السؤال سيختلف باختلاف مراتب معرفة الناس بالله والكون، ونظرتهم إليهما، وكذا باختلاف درجات كمالهم الروحي والمعنوي.

لتوضيح ذلك نقول: بعض المتديّنين لا يَعزو لله تعالى سوى إيجاد أصل الكون ومبادئه، أمّا الآثار الطبيعيّة والإنسانيّة فيراها معلولةً لفاعلين مادّيّين وبشريّين، وليس لله تبارك وتعالى تأثير حقيقيّ في ظهورها، وأنّ إسنادها إلى الله لا يكون إلّا من حيث خَلقِه تعالى لفاعليها، أو – بالحدّ الأقصى – إذنه التكويني بتأثير الفاعلين وعدم منعه تأثيرهم. ولربّما يتيسّر لنا القول: إنّ معظم الموحّدين أيضًا لا يقولون بدور لله جلّ وعلا في إيجاد الأمور الطبيعيّة وتلك الاختياريّة للجنّ والإنس، ويعتقدون بضربٍ من «التفويض». ومن الطبيعيّ بالنسبة لأُناس كهؤلاء أن لا يرضوا بالأحداث الأليمة، وهم لا يُؤَوّلون التقدير الإلهي إلا بالتقدير العلمي وأمثاله، الذي لا يستلزم التأثير الإلهي الحقيقي في إيجاد هذه الظواهر.

وهناك، في مقابل هذه الفئة من المعتقدين بالله، فئة أخرى تؤمن بلون من «الجَبر»، فلا تقبل بتأثير الفاعلين الآخرين إلّا في حدود كونهم أداة.

النظريّة المعتدلة «أمر بين الأمرين»

هناك بين هاتين المقارَبتين التفريطيّة والإفراطيّة نظريّة معتدلة، ولها في الوقت ذاته مراتب، أُطلق عليها بلسان الروايات «أمرٌ بين الأمرين»، تقول بالتأثير الحقيقي للإرادة الإلهيّة في جميع الظواهر من جهة، وبتعدّد الفاعلين بين المخلوقات في طول أحدهم الآخر، وكذا بتأثير فاعلين من قبيل «الفاعل المعدّ» والشرائط والموانع من جهة ثانية. ويتطلّب فهْم هذه النظريّة بشكل كامل قوّةً في العقل، وعمقًا في الفكر، وهدًى وتوفيقًا من الله تعالى. وإنّه لفي ضوء هذه النظريّة يجد «التوحيد الأفعالي» تفسيره الصحيح، التفسير الموافق لآيات قرآنيّة جمّة وللروايات الشريفة، وهو كذلك دعوى العارفين الحقيقيّين وأصحاب الكشف والشهود. وإنّ محور هذا الصنف من الاختلافات في الرأي يكمن - في الواقع - في معرفة الإنسان بالله تعالى، وارتباطه الوجودي بالمخلوقات، ولا سيّما الفاعلين المختارين.

أثر مراتب الإنسان الكماليّة في حالاته القلبيّة

الصنف الآخر من عوامل الاختلاف يرتبط باختلاف مراتب كمال النفس وقابليّاتها.

توضيح ذلك: كما أُشير سلفًا، إنّ روح الإنسان كان، في البدء، في مستوى روح الحيوانات، فكان فرحُه ورضاه مرتبطين كلّ الارتباط باللذّات المادّية والحيوانيّة العابرة. ومع نموّ قوى الإنسان العقليّة بدأَت دائرة فرحه ورضاه تتّسع تدريجيًّا فصار يرضى ببعض الآلام والمعاناة أيضًا؛ كالرضى بتناول الدواء المرّ لشفاء المرض، بل بقطع عضو من أعضائه ليبقى على قيد الحياة. بل لربّما زاد هذا الرضى إلى درجة تسهيل مقاساته الألم والمعاناة، وجعْلِه على استعداد لدفع تكاليف باهظة لشراء دواء مُرّ أو بَتر عضو معيب.

ويأتي الإيمان بالآخرة والحياة الأبديّة، بدوره، ليرفع مرتبة كمال النفس أكثر ويزيد من قابليّة الإنسان على تحمّل الألم والمعاناة والمنغّصات من أجل النجاة من العذاب الأبدي ونيل النعم الفردوسيّة التي لا تزول. وقد يكون وقْع بعض التجلّيات الإلهيّة وإدراك رضوان الباري عزّ وجلّ على وليّ الله من العمق ما يجعل تحمُّل كلّ مصيبة، في مقابله، شيئًا تافهًا، بل ومحبَّذ بشكل من الأشكال؛ كما جاء في أحوال أنبياء الله وأوليائه – سلام الله عليهم أجمعين – ولا سيّما ما نُقل عن سيّد الشهداء - سلام الله عليه - أنّه ترنّم بهذا المضمون في اللحظات الأخيرة من عمره الشريف يوم عاشوراء:

تركتُ الخَلقَ طُرًّا في هواكا      وأيتَمتُ العيالَ لكي أراكا

حصيلة الكلام: إنّ طبقات إضافيّة تستجدّ لروح الإنسان بسبب التكامل تجعله قادرًا، في آنٍ واحد، على الجمع بين الأحاسيس المادّية، والشعور بالألم والمعاناة الجسديّين، وبين لون أو أكثر من ألوان الحالات الروحيّة السامية (سواء المرغوب أو غير المرغوب فيها، أو الفرح أو الحزن)، اللهمّ إلّا أن يركّز التفاتَه على طبقة واحدة ويَذهَل عن الطبقات الأخرى، فلا يدرك حينذاك إلّا الحالة المناسبة لهذه الطبقة.

أداء التكاليف الشرعيّة هو الواجب الأوّل

من أجل ذلك يتعيّن علينا – أوّلًا – أن نحاول الالتزام بالتكاليف العمليّة، من الواجب والحرام الشرعيَّين، ولا نشغل فكرنا بالتقديرات الإلهيّة. ويتجسّد النموذج البارز للاهتمام بالتكاليف الشرعيّة في سماحة الإمام الخميني – رضوان الله تعالى عليه – حيث كان هذا الاهتمام يتعاظم فيه يومًا بعد آخر طيلةَ سنوات الجهاد القليلة، فلم يكن لـمُرّ الأحداث وحُلوها من أثر في إرادته، إذ ما كان يشغل بالَه سوى الواجب المكلَّف به في كلّ حال، والعمل بهذا الواجب.

ومن الواجبات الشرعيّة حفظ نعم الله تعالى؛ فليس من حقّنا القول: «لقد هجمَت جائحة كورونا ووقع المحذور، وأنا الغريق فما خوفي من البَلَلِ!» بل لا بدّ من أداء التكليف في كلّ حال؛ بمقتضى الوجوب إذا كان واجبًا، وبمقتضى الاستحباب إذا كان مستحبًّا.

الرضى بالتقدير الإلهي

بالطبع هذه التكاليف ترتبط بالعمل الجوارحي. لكن على مستوى القلب أيضًا يجب أن نحاول الرضى بالتقديرات الإلهيّة ولا نتذمّر منها أبدًا وإن تسبّبَت بآلام ومصائب لنا أو للآخرين. ولَعَمري إنّ هذا لأحد أصعب ميادين العبوديّة، وهو أن نهتمّ بأداء التكليف من جهة، ونرضى قلبًا بالحوادث التي تقع وفق التقدير الإلهيّ من جهة أخرى! على أنّه ليس للجميع المقدرةُ على الجمع بين أداء التكليف، وتحمّل الآلام والمعناة المادّية والدنيويّة، والرضى قلبًا بالمقدّرات الإلهيّة بدرجاتها المختلفة، فإنّ الرضى بالنوائب الشديدة، لا بل الفرح، أو حتّى الترحيب بها، هو من مميّزات أولئك الذين بلغوا أعلى درجات الإيمان.

واجباتنا المختلفة تجاه الظروف والأحوال المختلفة

بالطبع علينا أن نسعى لمعرفة واجبنا على أحسن وجه ممكن، وأن لا يكون – لا قدّرَ الله – للهوى، وحبّ الرئاسة والجاه واستدرار رضى الناس، أثر على معرفة هذا الواجب. وفي نطاق عملنا الشخصي لا ينبغي أبدًا أن نقع تحت وطأة الأحاسيس والعواطف الرادعة، بل أن نتمرّن على أن نستطيع دائمًا التغلّب على أحاسيسنا والسيطرة عليها. أمّا مع الآخرين فلا بدّ أن نتعاطى بعواطف إنسانيّة شفيقة، بل أن نذرف الدمع أحيانًا على ما يقاسونه من مشكلات ومعاناة أيضًا؛ «القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يُغضب الرب».[25] ومن هذه الواجبات حفظ نعم الله التي أنعم بها علينا وعلى الآخرين، والوقوف أمام الفساد في البلد والأسرة والمجتمع. واجبات شتّى علينا أن نَخبُرَها جيّدًا، ونعمل بها بتعقّل، بعيدًا عن الإفراط والتفريط والوساوس المنبعثة عن الجهل، وأن نرضى بتقدير الله تعالى فيما يقع، خصوصًا إذا عرفنا أنّها من منطلق إرادة الله النابعة عن حكمته، وذلك لكي يمهَّد لإدراكنا فيوضات من الله أكثر، وبلوغنا درجات أعلى من الكمال، وحظوظٍ أوفرَ من رحمة الله وقربه. وبتعبير آخر: طالما أنّ هذه الأحداث جزءٌ من النظام الأحسن، والتدبيرات الإلهيّة الحكيمة في الكون فليس أنّنا لا ننزعج منها فحسب، بل نفرح. وهذا أمر في غاية الصعوبة، وإنّما يَسهُل علينا في ظلّ الدعاء والتضرّع بين يدي الله تبارك وتعالى، والتوكّل عليه، والتوسّل بأوليائه.

وفّقنا الله وإيّاكم إن شاء الله.

......

أسئلة وردود

السؤال1:

وصلَت المباحث التي طرحتموها في المحاضرات السابقة إلى حيث إنّ الخيرات والشرور في هذا العالم متصاحبة؛ يعني أنّ النظام الأحسن والحِكَم الإلهيّة كانت قد اقتضَت خَلق العالم هكذا. على أنّ الشرور ليست مقصودة بالأصالة، بل بالتبع من أجل أن تمهّد لتكامل الإنسان الذي ينتفع منها باختياره الواعي فيما يصبّ في كماله، وإنّ الاختيار الواعي يتطلّب معرفةَ أنواع الخير والشر، وسبُل بلوغها. وقد يستطيع الإنسان بعقله إدراك العموميّات، لكن غالبًا ما لا يكون إرشاد العقل العادي كافيًا لتحديد مصاديق الخير والشرّ، ويشكّل هذا دليلًا على الاحتياج إلى الوحي وتشريع الأحكام الدينيّة.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال هو أنّه: مع اختلاف الناس في الإفادة من العقل، والتوصّل إلى محتوى الوحي كيف يتسنّى لهم جميعًا أن يعرفوا جميع واجباتهم العقليّة وتكاليفهم الشرعيّة بشكل صحيح لتتهيّأ لهم أرضيّة الاختيار الصائب في كلّ قضيّة؟

ردّ الأستاذ:

استنادًا إلى ما ذُكر تُطرح هنا قضيّة أنّه: إذا كان لا بدّ لنا أن نعرفَ وجوه الخير والشر في الأشياء، ونضبطَ سلوكنا لنيل الخيرات والوقاية من الشرور، لَتوجَّب على كلّ فرد معرفة المصالح والمفاسد في كلّ أمر ليتسنّى له الاختيار، وهذا ليس ميَسَّرًا للناس العاديّين، لأنّ العقل البشري لا يكفي لمعرفة جميع تفاصيل قضايا الحياة والاطّلاع على وجوه خيرها وشرّها. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإنّ التجربة أثبتَت أنّ الناس ليسوا سواءً تمامًا من حيث إدراكهم العقلي، بل إنّ ما يمكن فهمه بالعقل أيضًا بحاجة إلى ممهّدات واستدلالات ليست مهيّأة للجميع. إذًا فالناس - من ناحية – ليسوا سواءً من حيث الإدراك العقلي، الذي يُعَدّ إدراكًا طبيعيًّا وعاديًّا. ومن ناحية أخرى إذا أريد استكمال هذه المعرفة بالوحي لكلّ إنسان بشكل مباشر لَتوجَّب أن يكون كلّ فرد نبيًّا، ومن الواضح أن ليس لجميع البشر أهليّةُ تلقّي الوحي. وإنّ من أُصولنا الثابتة هو أنّ عدد الأنبياء على مرّ التاريخ محدود جدًّا، وأنّ أعلى عدد قيل في هذا المجال هو 124000 نبيّ. كما أنّه ما من نبيّ يستطيع إبلاغ كلّ فرد من أمّته بواجباته بشكل مباشر؛ أفَهل يمكن لشخص واحد إبلاغ مئات الملايين من الناس بواجباتهم اليوميّة بشكل مباشر؟! الحلّ الوحيد المتبقّي هو بيان واجبات الناس جميعًا في إطار عناوين عامّة، وهو ما حصل في الأديان جميعًا، وهكذا نهَج العقلاء كافّة لدى بيان الأهداف الاجتماعيّة. كأن يقال: على الناس جميعًا أن يُصلّوا بضع ركعات في اليوم، ثمّ يعيَّن للجميع حدّ نصاب لذلك؛ فيقال مثلًا: ليُصلّوا صلاة الصبح ركعتين. فلا بدّ من هذا العدد ليستطيع الناس كافّة أن يؤدّوا هذا العمل بميزاته الخاصّة به. لكن قد يحصل أن لا يستطيع البعض إنجاز هذا العمل أيضًا، وفي هذه الحالة يبيَّن الموضوع بشكل عامّ، ثمّ يُستثنى منه بالتخصيص المتّصل أو المنفصل.

من ناحية أخرى قد يَثبُت حُكمٌ على عنوانٍ ما إذ تكون له مصلحةٌ تؤمَّن من خلال هذا السلوك، ثمّ تستجدّ ظروفٌ تجعل في أداءِ هذا الفعل مفسدةً لا يمكن تفاديها، فلا يكون بالمستطاع أداء هذا الفعل من دون حصول المفسدة؛ أي إنّ للفعل مصلحةً على خلفيّة عنوانه ذي المصلحة، ومفسدةً بسبب العنوان الجديد العارض الذي استلزم مفسدة. في مثل هذه المواطن يكون الأقوى والأهمّ من بين المصلحة والمفسدة هو الملاك للحكم.

كلّ هذا يرتبط بمقام الثبوت. لكن من أين لنا أن نعلم ما إذا كان هذا الحكم العامّ قد خُصِّص حقًّا أم لا؟ أو ما إذا كان لهذا الكلام المطلق في الظاهر قيدٌ حقًّا أم لا؟ أو أيًّا من العنوانين المتزاحمين هو الملاك الأهمّ الذي يتعيَّن تقديمه وجعلُ مقتضاه الحكمَ الحالي؟ قد يمكن للمكلّف أن يتيقَّنَ من تخصيص أحد الملاكين المتزاحمَين أو تقييده أو أهمّيّته، لكنّ يقينًا، بل اطمئنانًا كهذا لا يحصل دائمًا، بل قد لا يحصل الاطمئنان والعلم العرفي حتّى للمتخصّصين وأهل الفن، فيضطرّون للاكتفاء بالظنون المعتبَرة.

لكن ثمّة للعقلاء حلٌّ في هذا المضمار وهو الرجوع إلى الخبير فيما ليس لهم فيه خبرة، وهو ما نسمّيه في الفقه بـ «التقليد». كذلك في الأمور الاجتماعيّة والسياسيّة فإنّ أوامر وليّ الأمر هي الحجّة، وإنْ كان من غير المحال عقلًا أن يخطئ. هذه أمثلة تشير إلى أنّ الشارع المقدّس يمضي نهجَ العقلاء في الشرع أيضًا، كما هو الحال في الأمور العرفيّة بالضبط، وأنّ المناهج ذاتَها المتعارَفة عند العقلاء لتمييز المصحلة من المفسدة، أو الخير من الشرّ، أو لمعرفة طريق الوصول إلى الخير والشر، يُقرّها الشارع المقدّس، فتكون النتيجة أنْ تختلف واجبات الأفراد فيما بينهم.

السؤال2:

السؤال الآخر هو: أتقتصر حكمة التشريعات والأحكام الشرعيّة على ضمان الخيرات والمصالح المترتّبة على العمل بها، أم ثمّة حِكَم أخرى في الموضوع؟

ردّ الأستاذ:

الأصل هو أنّ الأحكام الواجبة هي لتأمين المصالح الحقيقيّة، والمنهيّات والمحرّمات هي لاجتناب المفاسد الحقيقيّة. لكن ربّما تكون ثمّة مصلحة أخرى في الأمر؛ كأن يكون المراد اختبار استعدادِ المرء لامتثال كلّ الأوامر الصعبة، كما حصل لنبيّ الله إبراهيم - على نبيّنا وآله وعليه السلام – حين قال لولده إسماعيل(ع): (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى‏ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُني‏ إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرين).[26]

أقول من باب المقدّمة: الوحي الذي يوحَى للأنبياء كان أحيانًا بصورة أنْ يأتي ملَك الوحي ويلقي عليهم كلامًا؛ كما في نزول آية: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وسائر آيات القرآن الكريم على رسول الله(ص). وأحيانًا بأن يُلقَى في ذهن النبيّ أمر بضرورة أداء فعلِ كذا مثلًا. وأحيانًا أخرى يتجسّد له بصورة رؤيًا؛ حيث يرى النبيّ في الرؤيا الإلهيّة أنّه مُشتغِل بعمل ما، فيعرف أنّ عليه أداء هذا العمل في الخارج. وكان نبيّ الله إبراهيم(ع) قد رأى في المنام أنّه أَرقدَ ولدَه إسماعيل وهَمَّ بذبحه! فتصوّر أنّ عليه ذبحه؛ (إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، في حين أنّ الرؤيا كانت اختبارًا من الله عزّ وجلّ، والمصلحة منها هي إظهار استعداده لفعل هذا العمل العظيم من دون مناقشة، ليبلغ بذلك أعلى مراتب العبوديّة والقرب من الله تعالى.

إذًا كان للفعل مصلحة كبرى، لكن ليس من نوع المصلحة التي تترتّب عادةً على الفعل نفسه، ويقال لمثل هذه الأوامر اصطلاحًا: «الأوامر الامتحانيّة». على أنّ الأحكام الشرعيّة جميعًا هي – بشكل من الأشكال – امتحان، وإنّ الغرض منها هو ليرى الله إنْ كنّا نمتثل أوامره أم لا، الأوامر التي يضمن امتثالُها مصالحَ الناس الفرديّة والاجتماعيّة، والدنيويّة والأخرويّة. لكنّه في الأوامر الامتحانيّة، بالمعنى الخاصّ للكلمة، يكون المراد إظهارَ استعداد المكلّف، وإن لم يُنجَز ذلك العمل، أو لا تكون أصلًا في إنجازه مصلحة؛ كما أنّه – بحسب الظاهر - لم تكن في ذبح نبيّ الله إسماعيل(ع) مصلحة، غير أنّ الكمال الحاصل لأبٍ شيخ في إثر إبدائه الاستعداد لذبح ابنه – من دون أن يقول: لكن أيّ ذنب أذنب إسماعيل لأذبحَه بعد أن طعنتُ في السن؟! – كان مصلحةً لا نظير لها إنّما تحصل في مثل هذا الأمر الامتحاني. والأعجب أنّ النبيّ إبراهيم(ع) قد حصل له هذا الاستعداد بعد عشرات السنين من العبادة والخبرة والتفكير وتلقّي الوحي، لكنّ فتًى يافعًا، من المؤكَّد أنّه كان دون العشرين من العمر، بمجرّد أن قيل له: (إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) أجاب: (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ)؛ امتثلَ أمر الله! ولأنّه شعرَ أنّ الأب يخشى أن يتسبّب سلوكُ الولد، أثناء أداء التكليف، بمشكلة، أضاف: (سَتَجِدُني‏ إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرين)؛ أي: أنا في أتمّ التسليم والطاعة، ولن أقوم بما يوجب الخوف والخشية!

السؤال3:

بخصوص قصّة نبيّ الله إبراهيم(ع) هذه، إذ شاهَد في المنام أنّه يُمِرّ سكّينًا على نحر إسماعيل(ع) ففَهِم منه أنّه مأمور بذبحه، يُطرح سؤال وهو أنّه: أيمكن أن يخطئ النبيّ في تفسير الوحي وفهْم مراده الحقيقي؟

ردّ الأستاذ:

الخطأ في فهم الوحي، بمعنى أن يريدَ الله تعالى إخبار النبيِّ بشيء فيستنبط النبيُّ شيئًا آخر، محال، وإنّ النبيّ مصون من ذلك. إلّا أنّ قصد الله تعالى من رؤيا إبراهيم(ع) هو دفعُه لفعل سلوكٍ ما، ففَهِم(ع) ذلك، وقام به، ولهذا قال تعالى: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا).[27] فمضافًا إلى فهْم إبراهيم(ع) تكليفَه، تصوّرَ أنّ فعله هذا سيؤدّي إلى ذبح إسماعيل وقتله، وهذا التصوّر خارج عن محتوى وحي إبراهيم ورؤياه، وهو لا ينافي عصمةَ النبيّ في فهْم التكليف الإلهيّ وأدائه.

السؤال4:

في المواطن التي يكون بُعد الناس عن الأنبياء وعدم توافر الوثائق اللازمة لديهم سببًا لعدم معرفتهم الأحكام الحقيقيّة، فيُحرمون – طبعًا – من مصالح العمل بها، بل ويتضرّرون أيضًا، أيمكن تدارك هذه الشرور والأضرار والتعويض عن خسائرها؟ أم أنّ المطيعين والممتثلين للأوامر أيضًا لا حيلةَ لهم سوى تحمّلها من دون أن يكون ثمّة سبيل إلى التدارك؟

ردّ الأستاذ:

في الحقيقة لا بدّ هنا من الالتفات إلى بضعة أمور:

الأوّل: ليس المقصود من أنّ الوحي وإخبار الأنبياء(ع) يعوِّضان عن ضعف الإدراكات العقليّة ونقصها هو أنّه بمجيء الأنبياء تحصل العلّة التامّة لفَهم الحقائق ومعرفة التكاليف، فلا يبقى هناك جهلٌ وخطأ في هذه المجالات، بل المقصود هو أنّ الله جلّ وعلا لم يكتفِ بتزويد الناس بالعقل لهدايتهم، بل رفَدَه بطريق أوسع، لكن – على أيّة حال – كما أنّ للإفادة من العقل شروطًا، فإنّ الانتفاع من هَدي الوحي يخضع هو الآخر لشروط، لا بدّ لبعضها من أن تتهيّأ باختيار الإنسان.

الثاني: إنّ هذا الجهل نفسه يكون سببًا لامتحان آخر واختيار جديد، يهيّئ بدوره الأرضيّة لتكاملٍ أكثر. فحين يتوجّب على البعض الاجتهادُ لفهْم فحوى الوحي بشكل صحيح، فإنّ هذا الأمر بالذات يشكّل له تكليفًا يمهّد لأرضيّةٍ أخرى لتكامله، ويجلب له العملُ به أجرًا وافرًا. ففي الواقع يصبح هذا الجهل منطلَقًا لامتحان آخر، من أنّه: أسيبذل الجهد والمساعي الضروريّة لنيل المعارف اللازمة؟ أم سيعمل التقاعس والهوى على بقاء الجهل والزيغ عن الحقيقة؟

الثالث: إذا بذلَ بعضُهم الجهود اللازمة لكشف الحقيقة ولم يفلح، لأيّ سببٍ كان، فإنّ جهودهم هذه عبادةٌ تستحقّ أجرًا عظيمًا تعوّض عن الحرمان من مصالح العمل بالتكليف.

السؤال5:

استنادًا إلى ما مرّ يكون الغرض من أحكام الله تعالى التشريعيّة هو أن يتبيَّن الناسُ طريقَ الصواب، ويعملوا بواجباتهم لينالوا المصالح الحقيقيّة. لكنْ لا يمتثل الجميعُ هذه الأوامر، بل إنّ المشهود عبر التاريخ هو أنّ الأكثريّة من الناس يعصون قوانين الله وأحكامه ولا يعملون بها فيُبتلون، جرّاء عصيانهم، بآفات، بل يتسبّبون بمشاكل للآخرين كذلك. السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو: ما ذنب الذين يعملون بتكليفهم لكن تحيق بهم آثارُ أعمال الآخرين السلبيّة، فيطالهم الضرر، وتصيبهم هذه الشرور؟ وهل يتسنّى تعويض خسائر هذه الشرور والمشكلات والنقائص التي تحيق بسائر أفراد المجتمع نتيجةَ عصيان طائفة منهم؟

رد الأستاذ:

تنقسم آثار السوء المترتّبة على المعصية والتمرّد والطغيان إلى بضعة أنواع:

الأوّل: هو أنّ ارتكاب الذنب يؤهِّل المرتكبَ للعودة إليه وتكراره، بل ويمهّد لارتكابه ذنوبًا أكبر أيضًا، إلى درجةِ أنّه لربّما يقوده إلى شَرّ العاقبة، وهجوم الشكوك والشبهات في الدين، ويجرّه من ثَمَّ إلى الكفر والإلحاد، فيُحرَم الشخص من السعادة الأبديّة بالمرّة. وهذه الشرور هي النتيجة الطبيعيّة التي يستلزمها سلوكُ الشخص نفسِه، ولربّما انتهَت إلى العذاب الأبدي. وكما قد أُشير سلفًا فإنّ هذا من لوازم كون الإنسان مختارًا.

الثاني: هو الذنب الذي يُلحِق ضررًا مادّيًّا بالآخرين؛ كغصب الممتلكات، أو قتل النفس. وفي مثل هذه المواطن، أوّلًا، أعطى اللهُ تعالى لمن وقع عليه الظلمُ حقَّ الدفاع عن نفسه والاقتصاص من الظالم لكي يتدارك الضرر الواقع به، فإن لم يفلح في استرداد حقّه يعوّضه اللهُ جلّ وعلا من فضله وكرمه في الدنيا أو الآخرة. ثانيًا، هذا الظلم نفسه يهيّئ أرضيّةً جديدة لتكامل المظلوم لم تكن مهيّأةً له سابقًا؛ يعني أنّه يَستحدِث موضوعًا جديدًا من أجل تكاليف جديدة وامتحانات واختيارات أخرى، وهو أنّه: أيُدافع عن حقّه أم لا؟ أسيُسدي النصيحة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بلسان طيّب أم لا؟ أسيُعِدّ العُدّة للثأر من الظالم أم لا؟ أسيُهين كرامتَه أم لا؟ وغير ذلك من التكاليف التي تمهّد لمراحل النضج الآتية للمظلوم.

الفرض الثالث هو أن يتسبّب ذنبُ شخصٍ ما بأضرار معنويّة للآخرين وحرمانهم من ألوان الثواب الأخروي؛ كأن يؤدّي سلوكُ امرئٍ إلى زعزعة معتقدات الآخرين الدينيّة، وانحدارهم إلى المفاسد الأخلاقيّة والسلوكيّة. ومن الواضح أنّ مثل هذه الذنوب تهيّئ أرضيّةَ الاختبار والاختيار لأفراد ومجاميع وشرائح من المجتمع، وتمثّل أحد أبعاد الشرور الملحوظة في النظام الأحسن، إمّا بالتبع أو بالعرَض، وهي ستتكشَّف عن مسائل متنوّعة سبقَت الإشارة إلى بعضها؛ منها تهيئة خلفيّة لاختبارات جمّة للضالّين والآخرين، وفتح أبواب واسعة من الرحمة الإلهيّة بوجه مَن عملوا بواجباتهم الشرعيّة، وتُفضي إلى آثار متنوّعة بحسب مراتب اختيارهم. فما من أمر غير اختياري يستتبِع المؤاخَذة والمعاقبة.

السؤال6:

النقطة المحوريّة التي جرى التأكيد عليها في الأبحاث الفائتة هي أنّ الحكمة العامّة من وراء أنواع الشرور والبلايا التي تحصل في هذا العالم هي أنّها تمهِّد الأرضيّة للإنسان لكي يختار، ويتكامل ويرتقي بصورة اختياريّة. انطلاقًا من هذه النقطة يبرز سؤال، وهو أنّه: هل يمكن أن تشكّل بعضُ هذه الشرور ضربًا من العذاب والعقوبة، على الأقلّ لبعض البشر؟ وهل يمكن أن يكون حدثٌ ما نعمةً لبعض، ونقمةً لبعض آخر، ومجرّدَ وسيلة للاختبار لبعضٍ ثالث؟ مثلًا جائحة كورونا المنتشرة الآن، أَمِن الممكن أن تشكّل لبعض الأفراد أو المجتمعات سببًا للتكامل والخير واكتساب الفضائل الأخلاقيّة؛ كإسداء الخدمات للآخرين وتقديم ألوان التضحيات، مثل الذي يصنعه الكادر التمريضي والطبّي، إذ يُعَرّضون حياتهم للمخاطر وهم يعالجون المرضى، وتكون لجماعةٍ أخرى من الناس جزاءً لمعاصيهم، أو عذابًا أنزله الله تعالى بهم ليتنبّهوا، أو سببًا لتكفير سيّئاتهم، أو نوعًا من العذاب على خلفيّة سخط الله عليهم؟

ردّ الأستاذ:

قلنا في المحاضرة الأولى إنّ الشرور التي تحصل في هذا العالم ابتدائيّة حينًا، وعلى خلفيّة سلوكٍ آخرَ حينًا ثانيًا، وهذا السلوك هو إمّا سلوك الشخص نفسه، أو سلوك الآخرين، ولكلٍّ مصالحه الخاصّة.

نحن معاشر البشر عادةً ما نمارس العمل لبلوغ هدفٍ معيَّن، ولربّما تكون لهذا العمل منافعُ أخرى لا نلتفت إليها أبدًا؛ أي إنّنا عادةً ما نأتي بالفعل ابتغاءَ هدفٍ واحد، ونتخيّل أنّ أفعال الله تعالى هي هكذا أيضًا، في حين أنّ أفعال الله ليست هكذا؛ فما من أثرٍ يمكن أن يترتّب على ظاهرةٍ ما، في الحاضر أو المستقبل، للفرد أو للجماعة، إلّا ويكون ملحوظًا من الله. فما من شيءٍ بغائبٍ عن علم الله عزّ وجل، وما من خير يريده الله سبحانه، حتّى وإن صاحبَتْه شرورٌ بالتبَع، فهي أيضًا متعلّقة، بالعرَض وبالتبَع، بإرادته سبحانه.

بناءً على ذلك من الممكن أن تكون ظاهرةٌ ما - في البدء - مجرّد اختبار لفرد أو جماعة؛ كالشرّ الابتدائي الذي يمهّد للاختيار: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).[28] لكن ربّما تكون الظاهرة نفسها، لجماعةٍ آخرين، سببًا للعقوبة والتوبيخ ليتنبّهوا ويتيقّظوا. كما قد تكون لطائفةٍ أخرى مدعاةً لتخفيف العذاب، والتكفير عن سيّئاتهم، وتطهيرهم من دنس المعاصي. بل وردَ في الأخبار أنّ الله تعالى يقبض أحيانًا روحَ المؤمن بعُسر ليطهّره، ويغفر ذنوبَه، فيخرج من الدنيا صافيًا نقيًّا.

إذًا قد تكون لأفعال الله تعالى عِلَلٌ شتّى. واللافت أنّ آيات قرآنيّة كثيرة تشير إلى تعدّد الأهداف؛ كأن تقول: نحن نفعل ذلك ليحصل كذا وكذا وكذا. بل قد يحذف المعطوف عليه ويقول: (ولعَلَّ...[29] يعني: لعِلَلٍ، ومن جملتها كذا.

السؤال7:

كان سؤالنا السابق حول ما إذا جازَ أن تكون الظاهرة الواحدة، بالنسبة لأفراد شتّى أو جماعات مختلفة، خيرًا أو شرًّا، أو سببًا للّذّة أو المعاناة. وسؤالنا الأخير هو: أيجوز أن تكون الظاهرة الواحدة مدعاةً للّذّة وللمعاناة، في آنٍ معًا، وللشخص ذاتِه، أم لا؟

ردّ الأستاذ:

هذه مسألة مهمّة وعميقة، وتستحقّ تناولها ببحث موسَّع من جميع أطرافها.

لا بدّ من الالتفات إلى حقيقة نفسيّة مفادها أنّ للناس، من حيث التكامل الإنساني، درجاتٍ شتّى. كلّنا يعلم أنّ الإنسان في بدء تكوينه لا يختلف عن الحيوان كثيرًا، فيلتَذّ – بطبيعة الحال - بما يريح جسدَه، وينزعج ممّا يؤذيه، ويَعُدّ ما يبعث على اللذّة المحسوسة العابرة «خيرًا»، وما يُؤلم ويتسبّب في المعاناة «شرًّا». لكن وكأنّ طبقةً أخرى تبرز في روحه حين يتكامل، هي أعلى من مستواه السابق. فالطفل حين يكبر يبدأ - رويدًا رويدًا – بإدراك شيء اسمه الاحترام والكرامة، ثمّ يتعلّق به. فالأطفال إذ يقتربون من سنّ الرشد يحبّون أن يُحترَموا في حضرة الآخرين وتُحفَظ كرامتُهم عندهم، فلا يلتفت أحدٌ إلى خطئهم إذا أخطؤوا، ولا يتنبّه امرؤٌ إلى ما فيهم من عيب إن كان ثمّة عيب، ولا يكشفوا للآخرين عن عوزهم إن كان فيهم عوز، أو كانوا يقاسون الجوع نتيجةَ فقر عائلاتهم. من الطبيعي أن يشعر شخص كهذا بالألم والانزعاج نتيجةَ الجوع، كما يشعر أيّ حيوان بذلك إذا جاع، لكن ثمّة إحساس فوق الإحساس بالجوع يقول: «لا يجوز أن أدعَ الآخرين يلتفتوا إلى حاجتي وعوزي»، فمع أنّه جوعان، تراه لا يكشف عن جوعه، بل يتظاهر بالشبَع وعدم الحاجة إلى الطعام صونًا لكرامته وماءِ وجهه. وهناك الكثير من هذه الأمثلة. هذه الحالة مؤشّر على أنّ روحه تكاملَ واكتسبَ قابليّةً طوليّةً أكبر. وقد وقف علماء النفس، إلى حدّ ما، على مراحل النموّ هذه، وبيّنوها، مع بعض الاختلاف فيما بينهم.

أمّا من الناحية الدينيّة فالأمر يفوق هذا بكثير، بل لربّما شعَرَ امرؤٌ في آنٍ واحد ببضعة أحاسيس تجاه ظاهرة واحدة. تصوّر مثلًا أنّ شخصًا يشاهد طفلًا فقيرًا مريضًا يحتضر بسبب الجوع والمرض ولا يستطيع فعل شيءٍ له. يُشفق عليه، ويبكي، فيلتفت في حالته هذه إلى أنّ شعورَ الشفقة والمواساة هذا هو كمال إنساني، فيفرح لحيازته هذا الكمال، ويستشعر اللذّة في مستوًى من مستويات روحه. كما توجَد لروح الإنسان مراتب أخرى من الكمال لا يَخبُرها علماءُ النفس العاديّون خبرةً كاملة، لكنّها تعَرَّف ضمن المعارف الدينيّة بوصفها مراتب إيمان، وأمثال ذلك من العناوين، بحيث يمكن أن تحصل للإنسان في آنٍ واحد، إزاء ظاهرة واحدة، ضروبٌ من مشاعر اللذّة والرضى، تُقابلها أحاسيس مضادّة؛ فمن الممكن – مثلًا - أن يصاب امرؤٌ بمرضِ ذات الرئة، فيقاسي الآلام، وضيق النفَس، وألم الصدر، ويتعذّب بسبب ذلك، وأن يتلفت – في الوقت ذاته – إلى أنّه كان من واجبه مراجعة الطبيب، وتناول الدواء، وقد قام بذلك، ونال ثواب طاعة ربّه. ثمّ يتذكّر أنّ صبرَه على هذه المعاناة والآلام يستدعي غفران ذنوبه، ورفع درجاته في الجنّة، ومن ثمّ رضى الله عنه. شخصٌ كهذا، في لحظة واحدة، وفي الوقت الذي يعاني فيه من المرض والآلام، سيستشعر ألوانًا من اللذّات، بحسب مراتب إيمانه، ومعرفته، والتفاته إلى مقام الربوبيّة.

الحقّ أنّ قابليّة الإنسان وطاقته الاستيعابيّة تفوق هذا بكثير، وليس من المتيسّر للأشخاص العاديّين أن يتخيّلوا مقدار ما تنتاب أولياء الله من درجات السكينة والرضى بما قسَمَ الله لهم، وما يغمرهم من ألوان اللذّة الفائقة، ومن الطبيعي أن يكون تصديقها، واستيعاب نماذج عينيّة لها أصعب وأشقّ. على سبيل المثال جاء في الخبر عن أهل البيت(ع): «إنّا لنفرحُ لفرحِكم، ونحزن لحزنكم ونمرَض‏ لمرضكم».[30] ومن الطبيعي أنّ زيادة الحزن والفرح كمًّا وكيفًا تقتضي زيادة حزن الإمام(ع) وفرحه في المقدار والدرجة أيضًا. فانظر أيّ قابليّة عظيمة يحمل روحُ الإمام المعصوم(ع) فيتحمّل هذا الحجم الهائل من الأحزان والأفراح، بل والجمع بينها.[31]

وثمّة هاهنا ملاحظة تسترعي الالتفات، وهي أنّ هذا الإنسان نفسه، الذي يحمل قابليّات مختلفة من الناحية الطوليّة والعرضيّة على حدّ سواء، إذا وجّه اهتمامَه كلّه على درجة واحدة، وركّز عليها لا يعود يرى ظواهر الدرجات الأخرى؛ كمن يعاني ألـمًا شديدًا جدًّا فلا يستطيع أبدًا الالتفات إلى شيء آخر. على أنّ الكُمّل من الناس يستطيعون جمع مراتبَ من ذلك معًا، لكنّ ظروف الحياة المادّيّة لا تحتمل التركيز على جميعها معًا. بل إذا ركّز تركيزًا كاملًا في مرتبة خاصّة على مصداق: «قلوبُنا أوعيةٌ لمشيَّة الله»[32] فإنّه يستطيع القول: لا اطّلاع لي على باقي المراتب: (وَما أَدْري ما يُفْعَلُ بي‏ وَلا بِكُم[33] (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).[34]

بالطبع إنّ لنا أن نصدّق بوجود مثل هذه المقامات لبعض الأشخاص بمقدار ما لدينا من أدلّة من الوحي، بل ونأمل أن يفتح علينا الله، ببركة عنايات أوليائه الكُمّل، نافذةً من هذه الحقائق، ويتلطّف علينا نحن أيضًا بشيء من هذه المواهب الخاصّة، إن شاء الله تعالى.

 


[1]. بحسب الديانة الزردشتية فإن «أهورا مزدا» منبع النور وأصل الخير في العالم، و« أهرمن » هو رمز الظلمة ومبدأ الشرّ في الوجود. (انظر: ابن المقفع، عبد الله، الآثار الكاملة: ص11)

[2]. العالين فئة من الموجودات أو ملائكة الله المقربين المشار إليهم في الآية 75 من سورة «ص».

[3]. الصافات: الآية164.

[4]. الأنبياء: الآيتان26-27.

[5]. الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة1.

[6]. على أنّ للملائكة أيضًا ضربًا من الاختيار، بمعنى أنّ فعل الخير الذي تأتي به إنّما تأتي به عن رغبة، وهي تلتذ من الإتيان به. فهي – بهذا المعنى – أيضًا مختارة، لكنّها لا تملك أن تختار بين الخير والشر وتؤْثِر أحدَهما على الآخر.

[7]. البقرة: الآية30.

[8]. المصدر نفسه.

[9]. السجدة: الآية21.

[10]. الأعراف: الآية168.

[11]. الأنبياء: الآية35.

[12]. الكهف: الآية82.

[13]. المراد من الشر وفق هذا المصطلح هو الموجود الذي يَضُرّ بموجود آخر ويؤدّي إلى سَلبِه كمالًا ما.

[14]. النساء: الآية165.

[15]. البقرة: الآية216.

[16]. الأنعام: الآية42.

[17]. الأعراف: الآية94.

[18]. الأنعام: الآية43.

[19]. المصدر نفسه.

[20]. البقرة: الآية74.

[21]. يس، الآيات8-10.

[22]. نوح: الآية27.

[23]. السجدة: الآية21.

[24]. إبراهيم: الآية7.

[25]. ابن حبان، صحيح ابن حبان: ج7، ص432. وهو كلام مروي عن النبي(ص) قاله لدى موت ابنه إبراهيم ذي الثمانية عشر شهرًا، الذي كان(ص) يحبّه حبًّا جمًّا، وذلك حين أنكر بعضُ أصحابه عليه بكاءه على فراق ولده.

[26]. الصافات: الآية102.

[27]. المصدر نفسه: الآية105.

[28]. هود: الآية7، والملك: الآية2.

[29]. مثل قوله تعالى: (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون) (الأعراف: الآية174).

[30]. الصفار، بصائر الدرجات في فضائل آل محمّد(ع): ج1، ص260.

[31]. من الممكن تشبيه اختلاف أرواح الأشخاص في القابليّة والسعة باختلاف حقل الرؤية وسعته عند شخصين، يشاهد أحدُهما، من فتحةٍ صغيرة في قطار، قطيعًا من الجمال يمُرّ؛ وهو بالطبع يشاهد في كلّ مرّة جملًا واحدًا، أمّا الثاني فيقف على سطح مبنًى ويشاهد القطيع كلّه في آنٍ واحد.

[32]. المجلسي، بحار الأنوار: ج25، ص337.

[33]. الأحقاف: الآية9.

[34]. إبراهيم: الآية11.


 

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...