بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين
اللهُمّ كُن لوليّكَ الحجّةِ بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعةِ وفي كلّ ساعةٍ، وليًّا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليلًا وعينًا حتّى تُسكِنَه أرضكَ طوعًا وتمتِّعَه فيها طويلًا.
أودّ في البدء أن أهنّئ شيعة العالم كافّة ولا سيّما الحضور الكريم بأيّام عشرة الكرامة المباركة، التي بدأت بميلاد السيّدة فاطمة المعصومة(س) وانتهت بميلاد الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، وآمل أن تتّسع بركات هذه العشرة، بالخصوص بركات عنايات الإمام الرضا(ع) لتمتد آثارها إلى أشهر، بل سنوات في المستقبل، وأن ينالنا من هذه البركات شعاع بسيط.
يعرف السادة جميعًا موضوع الاجتماع أفضل منّي. جميع الحوارات والنقاشات بشأن "مشروع الولاية"، وآثار هذا المنهاج وخيراته، والتوقّعات المستقبليّة حوله أُنجزَت. لكن أقول في كلام مقتضَب، ولعلّكم سمعتم ذلك منّي مرارًا: أنا طيلة حياتي - وأتحدّث عن نفسي ونيابة عن إخواني - لم أعرف مشروعًا فيه من الخير والبركة للفرد والمجتمع والنظام الإسلامي مثل ما لمشروع الولاية هذا. نعم، كلّ شخص ينظر إلى جانب، ونحن ننظر إلى هذا الجانب. بالطبع الله يعلم ما هي حقيقته. أقول هذا قياسًا بأمورنا وأعمالنا الجارية الأخرى، وإلّا فإنّ شخصيّة سماحة الإمام الخميني(رض) وسماحة الإمام القائد الخامنئي(دام ظله) هما فوق هذا كلّه، وإنّ كلّ ما عندنا ليس إلّا شعاعًا من بركات هاتين الشخصيّتين العظيمتين. هذا المشروع – على أيّة حال – عمل كلّه بركة.
ما هو مشهودٌ تمامًا والذي يمكن إدراكه بالكامل هو أنّ مبدأ التغيير والتدرّج، وانطلاقًا من السُنّة الإلهيّة، مسيطر على الكائنات في هذا العالم. ففي هذا العالم الذي نَخبُره لسنا نعرف شيئًا لا يكون عالَـمُه المادّي، من حيث مادّيّته، متغيّرًا. كما لسنا نعرف فيه شيئًا خُلِق منذ أوّل وجوده في منتهى الكمال، وأُعطِي كلَّ ما أمكنَ وجودُه منذ اللحظة الأولى. بل إنّ الوجود المادّي للنبي الأعظم(ص)، والأئمّة الطاهرين(ع) لم يكن هو الآخر مجرّدًا من هذا التطوّر التدريجي. فما نُقل عنهم(ع) من أنّه نورُنا كان كذا وكذا، والصادر الأوّل، والخَلق الأوّل، وأنّ كلّ شيء أُوجِد من نورنا، ...إلخ، كل هذا ليس في مرتبة مادّيّتهم(ع)، إذ كلّنا يعلم أنّهم، فيما يتّصل بمرتبتهم الجسمانيّة، وُلِدوا جميعًا رُضّعًا، شأن غيرهم من البشر.
إنّها سُنّة إلهيّة مسيطرة على هذا العالم، وهي أن يتطوّر كلّ شيء فيه بصورة تدريجيّة. وفي هذا المسار الذي حدّده الله سبحانه لهذا العالم ثمّة ضربٌ من النموّ الكمّي للناس؛ فجميعهم (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ)؛[1] إذ في البدء خُلِق رجل وامرأة فصارا الآن بضعة مليارات. وهذا النموّ إنّما حصل تدريجيًّا، فلم تَقضِ السُنّة الإلهيّة بأن تُخلق هذه الثمانية مليارات نسمة دفعةً واحدة منذ اليوم الأوّل، بل كان لا بدّ أن تأتي هذه الكثرة بصورة تدريجيّة، وتتقدّم بشكل هرمي، وقد تركّزَت قاعدة هذا الهرم اليوم هاهنا. وهذه من السُنن المهيمِنة على هذا العالم. وبالطبع لا بدّ أن تظهر - أثناء هذا التطوّر التدريجيّ - تحوّلات، ويمكن أن تُحدَّد له مراحل.
إنّه ضَرب من التغيير ماثِل في عمليّة ظهور البشر؛ (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً)؛[2] ففي البدء كان نبيّ الله آدم(ع) وحسب، أمّا الآن فكلّ هؤلاء البشر وُلدوا من آدم. ثمّ في كلّ فرد أيضًا نرى تطوّرًا تدريجيًّا؛ فمن النطفة، إلى مرحلة الوليد، إلى المراهقة، إلى الشباب، إلى الشيخوخة؛ (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا).[3] هذا أيضًا تطوّر تدريجيّ.
في وسعنا القول إنّ هذا التطوّر التدريجي هو كَمّ منفصل. وهناك تطوّر تدريجي آخر هو من الكَمّ المتّصل، وهو – بمعنى من المعاني – تطوّر من حيث الكيف. نعم، قد لا يكون تعبير "الكيفيّة" هنا صحيح تمامًا، لكن جرَت العادة، على كلّ حال، أن تُجعل الكيفيّةُ في مقابل الكمّية. فالكمالات الإنسانيّة، وما يَجعل من كلّ فرد من البشر إنسانًا بالفعل هو أيضًا يظهر بالتدريج؛ جسمه ينمو تدريجيًّا، وقواه تنمو كمّيًّا بشكل تدريجيّ، بل فَهْمُه يزداد، قدراته تزداد، ابتكاره وإبداعه يزدادان، ...إلخ. فمراحل التطوّر التدريجي هذه، من الطفل ذي السنة الواحدة، حتى سِنيّ البلوغ والكمال الإنساني، مشهودة بالكامل.
وهذه من ميزات الإنسان، وهو أنّ له، مضافًا إلى كمالاته المرتبطة بالمادّة بشكل مباشر، كمالاتٍ ترتبط – بحسب تعبيرنا – بروحه. فذلك التكامل مرتبط بجسده، لكنّ روحه أيضًا تتكامل بهذه الصورة، وهو أيضًا تدريجي. ومن أجل أن تحصل هذه التغييرات الكمّية والكيفيّة في الإنسان فقد جعلَ اللهُ سُننًا بُيِّن أكثرُها في الآيات القرآنيّة والروايات الشريفة، كما أنّ أغلب هذه السنن قد ثبُتَ من خلال العلوم التجريبيّة أيضًا.
وبما أنّ التطوّر المعنوي لكلّ فرد من البشر تدريجي، وغالبًا ما يحصل بمساعدة أفراد البشر الآخرين، فإنّ الكمال المعنوي للمجتمع البشري أيضًا يمرّ بمراحل تطوّرٍ. منذ أن ظهر المجتمع البشري، حين كان بضعة أفرادٍ أولادَ النبي آدم(ع) بواسطةٍ واحدةٍ أو اثنتين، فكانوا عائلة واحدة يعيشون معًا، واتّسعَت شيئًا فشيئًا، وازداد أفرادُها تدريجيًّا، فتكوّن في البدء – على سبيل المثال – حَيّ، ثمّ اتّسعَ رويدًا رويدًا إلى قرية، ومن ثمّ إلى مدينة، وهكذا حتّى ظهرَت بلدان. أن يزداد الناس على مرّ الزمان فهذا تطوّر كمّي، لكنّ مدارك أفراد هذا المجتمع كانت سطحيّة في بداية الأمر. وكما كانت إمكانيّاته ونموّ جسمه محدودة، كان نضجه المعنوي أيضًا محدودًا. المثال على ذلك هو التاريخ الذي أمامنا، ولا سيّما ما جاء منه بنصّ القرآن الكريم؛ وهو أنّ ابنَي نبي الله آدم(ع) كانا في أيّ مرحلة من الكمال والنضج، وقد كانا ولدَي آدم بلا واسطة! فمع أنّ آدم(ع) كان نبي الله، وأنّه جاءهم بتعاليم بسيطة، بأن يُقَرِّبوا إلى الله قربانًا، ويسألوا ربّهم، لاحِظوا ما الذي جرى في قضيّة القرابين هذه؟! إذ قد بسطَ الأخُ يدَه إلى أخيه فقتله! مستوى الرغبات، ومستوى الإدراك، والمعرفة، والكمال، والنضج الإنساني كان على هذه الدرجة من الضعف. بالطبع لم يكن الجميع هكذا، وهذه أيضًا واحدة من السُنَن الإلهيّة؛ وهي أنّ الجميع ليسوا متشابهين ولا في مستوًى واحد؛ فأشكالهم مختلفة، وكذا متطلّباتهم، وقدرتهم على الإدراك، وتطوّرهم العلمي والمعنوي. كلّ هذا يجري وفق "نظامٍ أحسن" نعرفه اصطلاحًا، ونسأل الله تعالى أن نعرف حقيقتَه حقّ المعرفة، ونفيد منه.
حين نستعرض التاريخ نرى، على وجه التقريب، أنّ المجتمع البشري، منذ زمان آدم حتّى زمان نوح(ع)، قد خضعَ لدورة تطوّريّة أهّلَته لأن يحظى بمُرَبٍّ، ومعلّم، وأبٍ أخذ على عاتقه تربية الناس مدّةَ تسعمئة وخمسين عامًا، بحسب التعبير القرآني،[4] وعكفَ - كما الأب الذي يربّي أولاده حتّى يكبروا - ما يقارب الألفَ عام على تربية مجتمعه، بل تعهّد أيضًا – إلى جانب ذلك – بإنضاج أفراده معنويًّا وهدايتهم. وهذا ليس بالأمر الهيّن! إذ لم يُنقَل أنّ نبيًّا قبلَه فعلَ ذلك! نبي الله نوح(ع) كان شيخ الأنبياء. فكأنّ هذه القضيّة كانت انعطافةً تاريخيّةً مفصليّة في زمانه، فكانت بداية مرحلة جديدة من مراحل التكامل البشري.
ما أريد قولَه هو أنّه لو ادّعى مُدّعٍ وجودَ انعطافات ومفاصل في التاريخ منذ زمان نبي الله آدم(ع)، وفي تلك العهود الأولى من ظهور البشر على وجه الأرض، حتّى 1400 عامٍ خلَت؛ بمعنى أنّ البشريّة قد اجتازَت مراحلَ تاريخيّة، وانتقلَت من حقبةٍ إلى حقبة أكمَل، لم يكن قوله هذا جزافًا. بل أشيرُ هنا إلى أنّ بعض أعلامنا ذهبوا حتّى إلى القول بأنّ الأنبياء اللاحقين كانوا في أكمل من النبي الذي سبقهم، وهذه نظريّة، وإن لم تثبُت لي شخصيًّا، لكن في وسعنا قبولها. بل صرّحوا بأنّ مقام نبي الله عيسى(ع) أعلى بكثير من مقام النبي موسى(ع).
هذه الانعطافات التي رُسمت في التاريخ حُدّدَت في مواضع معيَّنة؛ يقول تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّنات)،[5] وقد قيل في بعض الآيات إنّه: (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعيسَى ابْنِ مَرْيَم)،[6] ...إلخ. وكذا فإنّ التطوّر التكاملي للمجتمع في مرحلة معيَّنة ممكن أيضًا، على أنّ هذه المرحلة يمكن تقسيمها إلى مراحل جزئيّة كذلك، إلّا أن نظرتنا حاليًّا كلّيّة.
إنْ تصفّحنا التاريخ لوجدنا أنّ وضع البشر الذين يعيشون اليوم على وجه الأرض، ونعرفهم، وما يتوافر لهم من المؤهّلات لتكاملهم وتطوّرهم، على الصعيد العلمي، والعملي، وعلى مستوى التقوى، والتسامح، والإيثار، والجهاد، لا يقاس – بمعنى من المعاني - بما كان عليه في صدر الإسلام. فبحسب المعلومات التي في حوزتنا عن المجتمع الذي كان على أيّام رسول الله(ص)، نقول: أيّ تحوّلٍ جذريّ جرى أثناء زمان النبي(ص) على أولئك الذين جعلَ القرآن الكريم أحدَ أهمّ خصوصيّاتهم "وأدَ البنات"، ثمّ استمرّ هذا التحوّل على مدى 250 عامًا بعد ذلك؟! بالطبع الاستثناءات موجودة دائمًا؛ فالنبي(ص) نفسُه في ذلك الزمان كان مختلفًا جدًّا عن باقي الناس، والإمام المعصوم(ع) أيضًا لا يقارَن بالآخرين. لكن إذا وضعنا الاستثناءات جانبًا ودرسنا تلك الظروف العامّة نجد أنّ أرضيّات النضج والتكامل التدريجيَّين لمتوسّط المجتمع - مع هذا كلّه - هي إجمالًا أكبر بكثير.
ولو أراد امرؤ الاشتغال على هذه النظريّة فسواجه إشكالًا وهو أنّ الجرائم أيضًا ازدادَت كثيرًا! فإنْ تكامَل المجتمع في هذا الجانب، فإنّ الجرائم المرتكَبة اليوم هي الأخرى لم يكن من الميسور ارتكابها في ذلك الزمان. الحرب التي تشتعل في ذلك الزمان يُقتل فيها عشرة أو عشرون أو خمسون شخصًا، أمّا اليوم فيُلقون قنبلة، يُقتل بها عشرات الآلاف، ثمّ يفتخرون بذلك! الرجل الذي يحكم اليوم أمريكا كان كلامه إلى الأمس القريب، قبل جائحة كورونا، مشحونًا بالفخر والاعتزاز، فكأنّه إنسان خارق، يحكم دولةً فريدة من نوعها، وأنّهم الأصل وكلّ الذين سواهم في الهامش! قصدي هو هذا الإشكال، وهو أنّه إذا كان الإنسان قد تكامَل وتطوَّر فما هذه الجرائم كلّها؟!
الجواب الذي في جعبتي الآن هو أنّ تكامل الإنسان هذا تكامل اختياري، ولو أردنا لهذا التكامل أن يتحقّق فلا بدّ من نموّ الظروف المضادّة؛ بمعنى أنْ تنمو عوامل الفساد وعوامل الصلاح في آنٍ معًا، أن يزداد ظهور القوى الحيوانيّة ويكون بالإمكان إشباعها، وتزداد القوى الإنسانيّة في الوقت ذاته، فعند ذلك فقط يكون للاختيار معناه الصحيح، ويكون من واجب المرء أن يختار بين الرغبتين المتضادّتين، فيكون هذا الاختيار سببًا في كماله. وعليه فإنّ وجود هذا التضاد – بمعنى من المعاني – يدلّ على أنّ المجتمع كمُل، وأنّ أرضيّاتٍ للمزيد من الكمال قد توافرَت. لعلّ يومًا واحدًا من هذه التكاملات يقاسُ بعامٍ من التكامل قبل قرن من الزمان؛ أي إنّ التطوّر الذي كان يستغرق في القرن الماضي عامًا صار الآن يستغرق يومًا واحدًا.
من باب المثال، في غضون البضع عقود التي خضتُ فيها أجواء الدرس والبحث كانت لي علاقة وطيدة نسبيًّا بالعلّامة الطباطبائي(رض)؛ إذ كنتُ على ارتباط وثيق معه حين بدأ سماحتُه بتأليف تفسير الميزان وطبعه بهذه الصورة. كان سماحته يحاول مطالعةَ المصحف الشريف صفحةً صفحةً كلّما هَمَّ ببحثِ موضوع ما. فمع أنّه كان يحفظ مقدارًا كبيرًا من القرآن الكريم؛ مثلًا كان يحفظ تقريبًا سُوَر "حم" حتّى آخر القرآن، وكانت روحُه مُشرَبةً جدًّا بباقي السور أيضًا، فكان إذا بدأ بقراءة أكثرها استرسلَ هكذا بقراءتها عن ظَهر قلب، وإن لم يكن حافظًا للقرآن بالمعنى الحرفي للكلمة، وكان اندماج القرآن بروحه لدرجة أنّه يستحضر في ذهنه الآيات المتشابهة بسرعة؛ واحدةً – مثلًا – من سورة البقرة، والأخرى يس، والثالثة الرحمن، وهكذا. لكن، مع ذلك، كان إذا أراد البدء ببحث علمي دقيق يتصفّح القرآن الكريم كاملًا، ويتأمّل لتكون جميع الآيات المرتبطة بهذا الموضوع في متناول يده. اليوم كيف يُنجز مثل هذا العمل؟ قد لا يكون مضى على ذلك الزمان نصفُ قرن، وإذا بالجوّالات أصبحَت اليوم في أيديكم وتستطيعون بها استخراج أيّ آيةٍ من أيّ سورة بالضغط على بضعة أزرار، بل صار القرآن كلّه حاضرًا عندكم، وقد بُوِّبَت هذه الآيات بتبويبات مختلفة، من حيث المضمون، والمفردات، وغير ذلك. فلعلّ العمل الذي يستغرقُ منكم اليوم ساعةً واحدة كان سيستغرق منه بضعة أيّام إذا أراد إنجازه حول مبحث كامل. هذا يعني أنّ أرضيّات النضج والتكامل اليوم مهيّأة. فإنّ الكَمّ الهائل المتوافر اليوم من الأسباب والكتب المتنوّعة وباللغات المختلفة التي تسدّ احتياجات دراساتكم التي تودّون إنجازها والمعلومات المادّية والمعنويّة والروحيّة والأخلاقيّة والعقائديّة التي تريدون البحث عنها لا يقاس بالسابق على الإطلاق. وهذا مؤشّر على أنّ أرضيّات النضج والتكامل مهيّأة أكثر بكثير.
وإنّ من مؤشّرات النضج، ولا سيّما من حيث الإمكانيّات، تشعُّب الفروع العلميّة، وشرائح المجتمع المختلفة. المثال البسيط على ذلك، والذي يعرفه الجميع، هو أنّه قبل قرن من الزمن، كما يحكي آباؤنا وأجدادنا، كان في كلّ مدينة شخص أو شخصان بصفة "حكيم باشي" (كبير أطباء). كان هو طبيب المدينة، وكان يراجعه الجميع لأيّ مرض أو مشكلة. كان هذا الشخص عارفًا بجميع الأمراض، ويحرّر وصفةً بما كان يتوافر ذلك الزمان من معلومات، أو حتّى يُعطي الدواء للمريض من عيادته ويصف له كيفيّة استعماله. وصحيح أنّ المدن لم تكن كبيرة كما اليوم، لكن لم يكن يتصدّى للشأن الصحي لأهلها غير بضعة أشخاص. الآن كم يوجد من هؤلاء؟ ولِكَم من الفروع تفرّع الطب؟ وكم أصبح عدد الأطباء؟ وكم هي الأدوات؟ وكم نوعًا من الدواء يوجد الآن؟ ...إلخ. كلّ هذه مؤشّرات على أنّ أرضيّات نضج البشر وتكاملهم اتّسعَت.
ضربتُ من الـ"حكيم باشي" مثلًا. وشبيهٌ بذلك كان في كلّ مدينة عالِم دين بارز يراجعه الناس في أمور دينهم، بل ويلجؤون إليه في أخذ الاستخارة أيضًا. أذكر حين كنتُ طفلًا كان جدّي يعطيني رسالةَ استخارة ويقول لي: خُذ هذه الرسالة إلى منزل فلان وعُد لي بجوابِ الاستخارة. وكنتُ أذهب إلى هناك وأنتظر، وكان الشيخ يستخير بكلّ بشاشة وجه ويلقّنني الجواب بدقّة. وإذا طرأَت لجدّي مسألة شرعيّة كان يسأل هذا الشيخ أيضًا، وكان يأتمّ به في الصلاة، وإن أراد الوعظ حضرَ مجلسَ وعظه كذلك. إلى هذه الدرجة كانت الدائرة العلمائيّة محدودة، وكانت احتياجات الناس البسيطة تلبَّى عن هذا الطريق. لكن ماذا عن الوضع الآن؟ في وقتنا الحاضر، وخصوصًا بعد ثورة الإمام الخميني الراحل(رض)، لاحظوا كم من الفروع مطروحة في قم بعنوان فروع دراسيّة علميّة؟ أساتذة متعدّدون يُدرّسون في مدارس مختلفة، وبمناهج وأذواق شتّى، وباصطناع وسائل أنتم أعرف بها مني! كل هذا يدلّ – بشكل من الأشكال – على أنّ المجتمع نضج، وأنّ أرضيّات نضج الأفراد ازدادَت في ظلّ نضج المجتمع.
كلّكم يعلم كم من التغيّرات شهدَتها هذه الحوزة العلميّة نفسها خلال الخمسين عامًا المنصرمة، تغيّرات لا يمكن قياسها أبدًا بما كانت عليه أيّام العهد البهلوي، حيث أُغلقَت المدارس الحوزويّة، وغابَ طلّاب علوم الدين، وما كان يحقّ لعالم الدين أن يخرج من بيته معمّمًا! أنا شخصيًّا أذكر هذه الأمور، شاهدتُها حين كنتُ صغيًرا. والآن تلاحظون كَم عشرةَ آلاف عالمٍ وفاضل يوجد في حوزة قمّ العلميّة، بتخصّصات شتّى، وفي سطوح وفروع علميّة مختلفة، وهم دائمًا في ازدياد. بالطبع قد يقول قائل: نحن لم نستطع إلى الآن طرح فروع علميّة خاصّة توازي نموّ الجامعات وما يتولّد في المجتمع من احتياج فكري، وتُشبعه بدقّة، وتُعِدّ جوابًا لكلّ منها. ولربّما لا يكون هذا الكلام بعيدًا عن الواقع.
من الطبيعي أن يكون مقتضى هذه السُنّة الإلهيّة أنّه في المجتمع الذي تتعدّد فيه الشؤون، التي لو عدّدنا عموميّاتها فقد تتجاوز المئة قسم، لا يستطيع شخصٌ واحد أن يلبّي بنفسه كلّ هذه الاحتياجات. يقول علماء الاجتماع إنّ أساس الحضارة يقوم على تقسيم الأعمال هذا، إذ حين يتّسع المجتمع وتزداد احتياجاته لا يستطيع كل فرد من أفراده تلبية احتياجاته كلّها، ولهذا صِير إلى تقسيم الأعمال.
من الشؤون المتّصلة بالإنسان، وذات الأثر في تكامله الإنساني، هي تلك المرتبطة بمعتقداته وقضاياه الذهنّية والفكريّة، فإنّ لها دورًا بالغ الأهمّية في ترقّيه، سواء على صعيد حياته الفرديّة أو تلك الاجتماعيّة. ويبدو أنّه كلام لا شكّ فيه، وليس هو بحاجة جدًّا إلى دليل.
إنّ لدينا زعمًا، وقد وصلَنا بفضل الله تعالى، وببركة الدين الإسلامي الحنيف، وجهود الماضين من علمائنا(رض)، وهو اعتقادنا بأنّ أعظم كرامةٍ، ومقام، ودرجة، وكمال إنساني وأشرفها هو ما يأتي في ظلّ الدين، وكلّ ما سوى ذلك يرتبط - بشكل أو بآخر - بالأمور الحيوانيّة، وهي جميعًا، وبمعنًى من المعاني، مقدِّمات. حتّى الطبّ، وهو مهنة مقدّسة، إذ: «العلمُ علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان»،[7] فإنّه في النهاية يحفظ الجسد ويُنَمّيه. السؤال: ماذا بعد ذلك؟ إن لم يكن بعد ذلك عالَمٌ أبديّ وكمال معنوي فسيكون حال الإنسان حالَ سائر الحيوانات.
نحن نعتقد بأن ما يرتبط بمعرفة الدين، ونشره، وتطبيق أحكامه، وبسط قِيَمه لا يمكن على الإطلاق أن يقارَن بأيّ شيء آخر من بين جميع شُعب الأنشطة البشريّة الموجودة في زماننا، ومختلف الشرائح المتكوِّنة، بل ومن بين المسؤوليّات والمؤسّسات المتنوّعة القائمة اليوم بمختلف أسمائها وألقابها. وإن أحببنا التكلّم بلغة الفقه بعضَ الشيء لقلنا: لو عدَدنا جميع الأمور الدنيويّة، ومنها الطبّ، من الواجبات التي فرضَتها علينا السُنّة الإلهيّة والعقل والوحي، فلا يرقى أيٌّ منها، من حيث الأهمّية، إلى مستوى الفروع والأنشطة والمؤسّسات المرتبطة بالكمال المعنوي للإنسان، والذي مفتاحُه المعرفة. من أجل ذلك نحن نزعم، من أعماق قلوبنا، أنّ أعظم منّة مَنّ الله تعالى بها علينا هي أنّه هيّأ لنا أسبابًا لننخرط في سلك طلبة العلوم الدينيّة، ونسأل الله عزّ وجلّ أن نرتقي في هذا الطريق، أي في كلّ ما يُتوقَّع من الطبقة العلمائيّة إنجازُه، بدءًا من مَهامّ عالِم دين القرية، ووصولًا إلى مهامّ معمَّمِ الناحية والمدينة والمحافظة والبلد، وانتهاءً بالأعمال التي ينجزها عالم دين على مستوى العالم كلّه، والمثال لذلك سماحة الإمام الراحل(ره) وأمثاله.
وانطلاقًا من هذه السنّة الإلهيّة، من أنّ قوام التطوّر الاجتماعي اتّساع دائرة التخصّص في الفروع، فإنّه كلّما ازداد التطوّر تهيّأَت إمكانيّات النضج أكثر، وتمهّدَت الأرضيّة للمزيد من الأبحاث الخاصّة في بابٍ واحد من المسائل العلميّة. وجميعكم يعلم، بشكل أو بآخر، أنّ مجموع المعارف الدينيّة وما أتى به الأنبياء(ع) للبشر كان يُقسَم سابقًا إلى ثلاثة أقسام، وليس هو بتقسيم لا وجه له تمامًا؛ القسم الأوّل، وهو الأساس، هو العقائد، والثاني الأخلاق، والثالث الأحكام الشرعية، الذي ينتمي إليه الفقه. فالأخلاق تعمل على بناء الإنسان ونفسيّته وتهذيب أخلاقه وملَكاته الإنسانيّة التي يرضى بها الله تعالى. وإنّ المقدّمة الصحيحة لذلك العقيدةُ السليمة بالله عزّ وجلّ واليوم الآخر،[8] هذا هو التعبير الشائع للقرآن الكريم على أيّة حال.
لو أنّنا وسائر الإخوان تصفّحنا مناهجَنا لرأينا أنّه في مدينة قم، التي هي أقدس نقطة على وجه الأرض من هذه الناحية، هناك إمكانيّة تحقّق مثل هذه الأمور على نطاق واسع. صحيح أنّ هناك النجف الأشرف، ومشهد المقدّسة، وأماكن أخرى أيضًا، لكن من حيث الكَمّ، بل وربّما من حيث الكيف أيضًا، فإنّها جميعًا دون مرتبة قم. بالطبع ليس هذا حكمًا عامًّا، والمجال للاستثناءات مفتوح. الله تعالى هو الذي دبَّر ذلك، فلم نعلّمه نحن، ولا طالبناه بذلك، ولسنا نَخبُر ذلك أيضًا، لكن في النهاية نحن أتينا إلى هنا. هل نستطيع الآن أن نتساءل: نحن الذين توجّهنا لخدمة المجتمع، بعد أن انتهينا من مراحل دراستنا الضروريّة، ما الذي قدّمناه لدين الله تعالى من خدمات؟ وتقديم الخدمات لدين الله يعني أنّ نقدّم للمجتمع البشري الخدمات الإنسانيّة الأساسيّة من بين سائر الخدمات، إذ قد استنتَجنا من كلامنا أنّ أكثر الكمالات أصالةً إنّما يتكامل بواسطة الدين؛ العقائد أوّلًا، ثمّ الأخلاق، ومن ثمّ الفقه.
وللإنصاف نقول: لقد قُدّمَت في باب الفقه من ناحية الشريحة العلمائيّة، منذ بدء تشكّلها وإلى الآن، خدماتٌ جليلة، وقد مرَّت بمراحل تطوّريّة من البساطة إلى التعمّق والتعقيد. ولعلّنا لا نجد في أيّ دينٍ آخر غير الإسلام، أو مذهبٍ غير التشيّع أشخاصًا توسّعوا كلّ هذا التوسّع في البحث من أجل تطوير أحكام الدين وإشاعتها، فسهَروا الليالي، ووَصَلوا الليلَ بالنهار، وأنفقوا سنين من أعمارهم في البحث في مسألة واحدة. وإنّنا مدينون للجهود التي بذلها عظماؤنا منذ ظهور الحوزات العلميّة وإلى يوم الناس هذا؛ الزمان الذي أدركناه نحن كان المرحوم آية الله البروجردي(ره)، ثمّ تلاه الإمام الراحل(ره)، وسائر المراجع، نسأل الله تعالى أن يزيد في بركات وجودهم، ويضاعف من توفيقاتهم، ويُعرّفنا حقّ هذه النعم الجزيلة.
والآن أتساءل: هل كنّا حقًّا غير محتاجين للبحث والعمل في مجال الأخلاق؟! إن أردنا الكلام بإنصاف نقول: بما أنّ أهمّ عامل في التربية الأخلاقيّة سلوكُ المتخلّقين، فإنّه حين يكون هناك شخصٌ متخلّق في مدينة أو بين جماعة من الناس لا يكون من الضروري أن يطرح أبحاثًا علميّة، بل إنّ سلوكه هو من الجاذبيّة ما يجعل رؤية الآخرين لهذا السلوك أفضلَ منهاج تربوي، لا بل سيرُه في الزقاق سيكون مربّيًا. على أيّة حال ما كانت تبدو حاجة ماسّة للبحث العلمي في مجال الأخلاق. وأهمّ هذه العوامل هي تلك العلاقات المربّية التي كانت قائمةً بين بعض العظماء والأولياء مع تلامذتهم، مثل الميرزا جواد آقا ملَكي التبريزي(رض) الذي كان في قم، وكان كبار العلماء ينهلون من فيضه. نعم أمثال هذه العلاقات كانت قائمة، لكن أنْ تنطلق في هذا المجال أبحاثٌ علميّة، ويُشتغَل عليها، ويُصار إلى صياغة نظام، وتُحدَّد له مراحل، سواء على مستوى العمل أو العلم، فالحقّ أنّنا ضعفاء في هذا الجانب. ولعلّ العذر في ذلك هو عدم شعورنا بحاجة ماسّة إلى ذلك؛ إذ كان العلماء موجودين دومًا، ولله الحمد، وكان سلوكهم بحدّ ذاته مربّيًا. ولا أدري إن كان هذا العذر موجودًا أم لا، لكنّه عذرٌ على أيّة حال.
ولنتعمّق أكثر ونتساءل: ماذا صنعنا في مضمار العقائد؟ في زمانٍ كانت الخلافات العقَديّة داخل الأمّة الإسلاميّة وبين المسلمين أنفسهم كثيرة جدًّا. منذ أيّام الأئمّة الأطهار(ع) أنفسهم ظهرَت مذاهبُ الأشعريّة، والمعتزلة، والزيديّة، وغيرها، ثمّ اتّسع نطاقها بعد ذلك، بشكل أو بآخر، وقد اشتغلوا في هذا المجال بصوَر شتّى، وإنْ كان كلّ منها مطروحًا للنقاش والبحث والنقد، حتّى ظهرَ علم سُمّي "علم الكلام"؛ أي: "علم العقائد". ثمّ شاع هذا العلم شيئًا فشيئًا في الحوزات العلميّة، وكان هناك متكلّمون كبار. العلّامة الطباطبائي(ره) كان أستاذًا في الكلام، وألّفَ كتابَ شرح التجريد من جهة، وكان أستاذَ الأساتذة في الفقه من جهة أخرى. ما أردتُ قوله هو أنّ علم الكلام أصبح، شيئًا فشيئًا، علمًا رسميًّا، لكن ظلّ في هذا الحدّ وحسب. فلو تفحّصنا تاريخَ علم الكلام وما أُلِّف في هذا المضمار حتّى اليوم لا نجد تطوّرًا عظيمًا فيه، بل لعلّ من ميسورنا القول إنّ تراجُعًا حصلَ في بعض جهاته أيضًا! فإن أخَذنا المصنَّف الذي صنّفه الخواجة نصير الدين(ره) تحت عنوان "التجريد" أنموذجًا، والذي شرَحه شخصٌ مثل العلّامة(ره)، ومن ثمّ عكفَ أعلامٌ على شرح الشرح وتحشية هذه الحواشي، فنجمَ كتابٌ من بضعة مجلّدات، فإنّنا لا نجد مؤخّرًا تحوّلًا شبيهًا بهذا في حوزاتنا. وهذا لا يعني أنّ الحاجة قلَّت، بل على العكس، لقد تضاعفَت الحاجة إلى مثل هذه المسائل أضعافًا مُضاعَفة، فأنتم تلاحظون أنّ خلفيّات انحراف الشُبّان باتَت اليوم تهدّدُ أولادَ العشرة أعوام والاثني عشر عامًا أيضًا! إذ أصبح الخطر مُحدقًا بهم منذ مرحلة المراهقة بفضل الجوّالات، ورؤية أنواع المشاهِد [غير اللائقة]، وسماع الشبهات. لا أقول هذا عن تخيّلات ذهنيّة فحسب، بل عن مشاهدات.
في زماننا المعاصر نحن بحاجة ماسّة إلى خَلق تحوّل أساسي في المسائل المرتبطة بالعقائد، سواء من الناحية الإثباتيّة أم السلبيّة. وقد يكون لهذا أبعاد شتّى، ويرتبط بعلوم مختلفة؛ أوّلها المسائل العقليّة، ثمّ القرآن الكريم، حين يُستنَد إلى الآيات القرآنيّة، ومن ثمّ الحديث. ثمّ إنّ لكلّ واحد من هذه المجالات العلومَ الخاصّة المرتبطة به، ونحن ضعفاء فيها جميعًا. ثمّ تلاحظون كيف أنّ بعض الأعلام في الحوزة العلميّة - أعلى الله درجاتهم بإذنه - ينبري أحيانًا للقول علنًا: "الحوزة حوزة فِقه، وكلّ ما سوى الفقه فَرع!" لكنّ الاحتياجات المجتمعيّة – في النهاية – أخذَت تترك بصماتِها شيئًا فشيئًا، حتّى لاحَظوا أنّ الفقه والأصول وحدَهما ليس في وسعهما علاجَ المشاكل جميعًا. ففي ذات الوقت الذي نحن بحاجةٍ فيه إلى التطوّر في مجالَي الفقه والأصول أيضًا، ثمّةَ مسائل أخرى لا بدّ لعددٍ من طلّاب العلوم الدينيّة، بما يتناسب معها، أن يتصدّى لدراستها. لكن كيف يجب أن تكون البداية؟ وإلى أيّ مدًى لا بدّ أن يوجَّه هذا المشروع لرَدّ الشبهات؟ الشبهات التي تبثّها المذاهب المختلفة بين الشُبّان؛ المذاهب التي أذكُرُها بعضُها اللادينيّة، والدهريّة، والمادّية، فإن عدَدْنا هذه مذاهبَ فإنّها جميعًا تستهدف اليوم العقائد الشيعيّة الحقّة، وتلاحظون كيف تهبّ لمقارعَتها بصور شتّى.
السؤال الذي يُطرح أمامَنا هو ما إذا كانت الحوزة العلميّة قد أدَّت المهَمّة الملقاة على عاتقها، من حيث كونها أقدس مؤسّسة تُعرَف بأنّها المسؤولة عن بيان حقائق الدين للناس، والدفاع عنه بوجه الشبهات، والوقوف أمام أرضيّات الانحراف، أم لم تؤدِّها؟ وما إذا كان لدينا منهاج في هذا الصدد أم لا؟
السادة الكرام الحاضرين – ولله الحمد - في هذا الاجتماع بصفتهم أساتذة مشروع الولاية يَخبُرون مدى التأثير اللافت لدورات هذا المشروع لدى إقامتها. بعض الأشخاص أخبروني شخصيًّا، أو رأيتُهم، أو سمعتُ كلامهم، وسمعتُ عشرات أضعاف ذلك من آخرين، ممّا لو لم أسمعه من ثقاةٍ حقًّا لما صدّقتُه، أنّ قليلًا من حصص الدرس، مدةَ أربعين يومًا في الحدّ الأعلى، أحدثَت في حياة البعض تحوّلًا عظيمًا. ثقوا أنّني لم أكن لأظنّ أبدًا أنّ هذا المنهاج الذي بدأناه سيصل إلى هذه المرحلة. هذه نقطة.
النقطة الثانية، أعترف أنّي شخصيًّا لم يكن لي تخطيط مُسبق لهذا الأمر. الله سبحانه هو الذي هيّأ الظروف، ولعلّه جرّنا إلى مثل هذه المسائل. خطّة المشروع أيضًا لم تكن حاضرةً في ذهني، من أنّه أيُّ ضَربٍ من القضايا يجب أن تُطرح؟ وكيف؟ لتلبّي بشكل مقبول هذه الحاجة الماسّة الموجودة في لمجتمع. وشيئًا فشيئًا رتّبَ الله تعالى الأمور، وبلغَت رويدًا رويدًا مرحلةَ أنّه لا بدّ من تقسيم القضايا الواجب طرحُها إلى ستّة أبواب، وأُلّفَت ستّة كتب، وابتدأ العمل بتدريسها، والعمل هكذا في طوره إلى التوسّع. ولعلّكم جميعًا تعلمون أنّه ثمّة طلبات مُلِحّة من عدّة بلدان بأن امضوا في ترجمة هذه السلسلة إلى اللغات الأخرى، مثل العربية، والأرديّة، والأذريّة، والانجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والإسبانيّة، والروسيّة. هذا ما أعلمه أنا؛ يطالبون بإلحاح شديد أن ترجموا هذه السلسلة لأنّنا بحاجة إليها، بل وأُنَوّه بأنّ البعض عرضَ تحمّل نفقات ذلك أيضًا؛ أنْ ترجموا أنتم والنفقات علينا! اطبعوا الكتب، ووزّعوها، وإن شَحّ المترجمون نحن نعرّفكم بمترجمين. وهذا يعني أنّ هذا الاحتياج قد جرَت معرفتُه بدقّة، وأنّ هذا المشروع قادر – بشكل أو بآخر – على تلبية هذه الاحتياجات في مرحلة من مراحله الابتدائيّة.
من ناحيةٍ علينا أن نشكر الله تعالى أجزل الشكر. لكن ما معنى قولي: أجزَل؟ أيعني أن نشكر الله مئة عام؟ وهل المئة عام في المقياس الإلهي شيء يُذكر؟! افترضوا أنّنا شكرنا الله في اليوم والليلة أربعًا وعشرين ساعة! أساسًا هل الأربع والعشرين ساعة، في المقياس الإلهي، شيء يستحقّ التقديم في مقابل كلّ هذه النعم الإلهيّة التي لا نفاد لها؟!
أوّلًا يجب أن نحاول حقًّا أن نشكر هذه النعمة يوميًّا، بمقدار وسعنا وطاقتنا، باللسان، والعمل، والقول، وتنبيه الآخرين؛ أنْ: إلهي، أنت من أنعمتَ علينا بهذه النعمة بأن جعلْتَنا طلّاب علوم دينيّة، ثمّ عرَفنا هذا الطريق، وتعرّفْنا أمثالَ الإمام الراحل(ره) الذي بعث هذا التحوّل في الحوزة، فاستفَدنا من بركاته، وهيّأتَ لنا مَن هيّأتَ من الأساتذة، حتّى إذا بلَغْنا هذه المرحلة صرنا نرى أنّ الخدمة التي نقدّمها للمجتمع كَم هي ضروريّة، وكم أنّ أفراده شاكرين هذا وعارفين بالجميل. هذه الخطوة الأولى. لا ننسيَنَّ أن لا نظنّ أنّنا قدّمنا إنجازًا باهرًا! إنّها ألطاف الله عزّ وجل أن شَملنا بهذه الآلاء. مَن منّا كان يُدرك بعقله أنّه لا بدّ من صنع ذلك؟! فليُجب كلٌّ واحد منكم نفسَه عن هذا السؤال. منذ اليوم الذي انخرطتكم فيه في سلك طلبة العلوم الدينيّة، أأنتم مَن فكّر وقرّر الانخراط في هذا السلك، أم أنّ عواملَ ساعدت فتنبّهتم إلى ذلك، وهيّأتْ أسبابَه فأتيتم إلى هنا؟! ثمّ في المراحل الحوزويّة المختلفة؛ كأن هاجرتُم من مدُنكم إلى قم، وحضرتم مختلف الدروس، ...إلخ. فلو أنّا فعلنا هذا لكُنّا مصداق السُنّة الإلهيّة التي لا تتبدّل، وهي: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزيدَنَّكُم)،[9] والتي يقابلها: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابي لَشَديد).[10] ثمّ لنجلس ونتساءل بإنصاف: حقًّا، هل المناهج المعمول بها الآن في الحوزة العلميّة تلبّي الاحتياج المعرفي للمجتمع الإسلامي في بلدنا إيران؟! ثمّ الاحتياج المعرفي لسائر البلدان الإسلاميّة، ومن ثمّ العالم بأسره؟!
لعلّ من بينكم مَن سافر إلى بلدان مختلفة وتواصل مع أهلها عن كثب. أنا شخصيًّا سافرتُ إلى ما يقرُب من الأربعين بلدًا وكان لي مع أهلها تواصل، حاضَرتُ في الجامعات والكنائس، ورأيتُ عن قرب كم أنّ البعض محبّ حقًّا لحقيقة الإسلام، لكن يده قصيرة. أليس من واجبنا أن نُجيل فكرًا بشأن تلك البلدان؟! لا بدّ أن ننظر إلى نشاطنا هذا على أنّه ينبع من مدينتنا ليصل إلى جميع أمصار العالم. فلو أنّ جماعةً من شيلي جاءتنا، وأمسكَت بتلابيبنا، وقالت: "يا سادة! لماذا لم تفكّروا فينا؟! لقد أحبَبنا الإسلام، أحبَبنا الحقيقة، فقد لا نكون سمعنا باسم الإسلام، فماذا صنعتم من أجلنا؟!" ماذا سيكون ردُّنا؟! أحقًّا العمل الذي ننهمك به الآن وما قُمنا به حتّى الآن هو أهمّ من تلك الأمور؟! لا أظنّ أنّ بإمكاننا تقديم رَدّ حازم على ذلك!
ثمّ لنعزم، بعد التوكّل على الله تعالى والتوسّل بأوليائه، على أن نبدأ في خَلق تحوّلٍ علمي في الحوزات العلميّة، ولنقل ما الفروع العلميّة الواجب تدريسها، والتي ضرورتُها أكبر. لنبيّن ذلك، لنكتبه، ولننادِ به في خطاباتنا، ونتكلّم به في اجتماعاتنا الخاصّة، لكي يلتفت الغافل، فتُؤَسَّس الفروع العلميّة الضروريّة، ويعزَّز ما ابتدأ منها فعلًا. مشروع الولاية هذا نفسُه، الذي هيّأ منهاجًا ذا أربعين يومًا، يمكن أن يتحوّل إلى فرعٍ علمي في الحوزة، ويكون له مراحل مختلفة، من البكلوريوس، والماجستير، والدكتوراه، ليكون بإمكان هذه المناهج في المستقبل أن تلبّي تلبيةً مناسبةً كلّ ما نراه من احتياج مُلِحّ في بلدان العالم كافّة.
أستودعكم الله جميعًا. وأرجو من الله بمشيئته أن نُشمَل جميعًا بالعنايات الخاصّة لإمام العصر(عج) والسيّدة فاطمة المعصومة(س)، وأن لا يذَرانا طرفةَ عين. إنّ من أسباب توفيقنا أيضًا الشفقة على الآخرين من إخواننا ورفاقنا، والدعاء للماضين منّا، وللشهداء الذين خطَوا في هذا الطريق، ومهّدوا لنا أرضيّة هذا العمل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[1]. الأعراف: الآية189.
[2]. البقرة: الآية30.
[3]. النحل: الآية70.
[4]. انظر: العنكبوت: الآية14.
[5]. الحديد: الآية25.
[6]. المصدر نفسه: الآية27.
[7]. الكراجكي، محمد بن علي، كنز الفوائد: ج2، ص107.
[8]. انظر: البقرة: الآية8.
[9]. إبراهيم: الآية7.
[10]. المصدر نفسه.