شعاع من أنوار المعرفة

خلاصة محاضرتين نُشرتا بمناسبة عشرة الكرامة[1] التاريخ: 20 شباط 2020م

بسم الله الرحمن الرحيم

نقرأ في زيارة الجامعة الكبيرة مخاطِبين الأئمة الأطهار(ع): «خلَقَكم‏ اللهُ أنوارًا فجعلَكم بعرشهِ‏ مُحْدِقين».[2] وقد جاء في روايات مقبولة كثيرة، نقلَتها كتُب العامّة الروائية أيضًا أنّ نور النبي(ص) وأهل بيته(ع) كان موجودًا قبل خلقة العالم كله.[3] والمراد من النور هنا معناه الحقيقي، كما يقول الله جلّ وعلا في كتابه العزيز: (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشكاةٍ[4] فمن نور الله ينشأ نور آخر، وهذا الموجود يستلزم أن يخلق الله تعالى بواسطته أنوارًا أدنى، وتكونَ سائر المخلوقات شعاعًا من وجود ذلك المخلوق؛ بمعنى أنّه في الوقت الذي هو مخلوق، يكون الله قد أعطاه من النورانية، والكمال، والعلم، والقدرة ما يجعل سائر المخلوقات شعاعًا من وجوده.

بالطبع نحن عاجزون عن إدراك ذلك المقام النوراني وعلاقته بوجود هذا العالم بشكل كامل، بل ولا ينبغي أن نتوقّع إدراك ذلك أصلًا. ذلك النور الأوّل هو موجود بسيط تجتمع فيه جميع الكمالات الإمكانية، وهو يستلزم أن يكون له في هذا العالم مَظهَر اسمه البدن. وإنّ لهذا الموجود كمالاتٍ وتكاليفَ لا تقاس بنا أبدًا؛ فأمثالنا بالكاد يستطيعون أن يدركوا في السادسة أو السابعة من العمر أنّ هناك إلهًا وأنّ عليهم عبادتَه والصلاة له، أمّا ذلك الموجود فهو يعلم - وهو جنين في بطن أمّه - أنّ هناك إلهًا، بل ويعبده، ويسبّحه وهو في ذلك المكان. ثم حين يأتي إلى هذا العالم يهوي إلى الأرض ساجدًا لربّه! هذا العالم هو منزل تكامل، ولا بد لهذا التكامل أن يحصل تدريجيًّا. وعليه لا بد لهؤلاء العظماء أن يتخيَّروا طريقَهم باختيارهم هم، وهو الطريق ذاته المتاح للبشر جميعًا، وإنّ أمورًا من مثل التكليف والعصيان والطاعة والخوف والرجاء وكل ما يوجد للناس جميعًا هي من لوازمه. لكنّ أولئك يقطعون هذا الطريق بسرعة أكبر وبذروة أعلى؛ بعبارة أخرى: مع أن حقيقتهم من الجنس نفسه فإنّ لهذه الحقيقة شدّةً وضعفًا.

وليس وجودنا فقيرًا إلى وجود تلك الأنوار المقدسة فحسب، بل إن كمالاتنا لا تتحقق إلا في ضوء هؤلاء العظماء؛ «حتى مَنَّ علينا بكم»؛[5] لقد مَنّ الله على الناس والمخلوقات فهبط بوجودكم وجعله بيننا. «وجعلَ صلواتنا عليكم وما خَصَّنا به من وَلايتكم طيبًا لخَلْقنا وطهارةً لأنفسنا وتزكيةً لنا وكفّارةً لذنوبنا»؛[6] فإن الصلوات التي نصلّيها عليكم هي سببٌ لطهارتنا، ونضجنا، وتكاملنا. فإن كان لخَلْقنا طهارة فهي من أسمائكم ومحبّتكم. بل إنّ زلّاتنا، في النهاية، إنما تُتدارَك بواسطة ما نُظهره تجاهكم من المحبّة. بمعنى أنّ العلاقة التي نقيمها معكم والاهتمام الذي نُوْليه لكم يكون سببًا لسطوع الأنوار الإلهية علينا وتبديد ظلمات ذنوبنا. وإن هذا النور هو على جانب من الشرف بحيث إنّ اهتمامًا بسيطًا بكم وتأدُّبًا ضئيلًا معكم يجعل الله تعالى يفيض علينا من هذا النور ما يمحو معاصينا ويبدّد ما غمَرنا بسببها من الظلمات.

ومن فرط لطف الله عزّ وجل بنا – نحن الذين نعجز أصالةً عن بلوغ حدّ النصاب الكامل من الكمال بسبب ما فينا من نقص ذاتي وكذا جرّاء ذنوبنا - فإنه قد جعل لنا سبيلًا وهو أن ننزل على أهل البيت(ع) ضيوفًا، وهذا هو معنى الشفاعة. فإن استغفروا(ع) لنا غفرَ الله لنا لأجلهم. وقد وصلتنا في هذا الباب روايات جمّة، نذكر منها على سبيل المثال تلك التي يقول فيها جابر لأبي جعفر الباقر(ع): «جُعلتُ فداك يا ابن رسول الله، حدِّثْني بحديث في فضل جدّتك فاطمة(ع) إذا أنا حدّثتُ به الشيعة فرحوا بذلك. قال أبو جعفر: ...فيقول الله جل جلاله‏... يا أهل الجمع طأطِئوا الرؤوس وغضّوا الأبصار فإنّ هذه فاطمة(ع) تسير إلى الجنة... فيُبعث إليها مئة ألف ملَك فيصيروا على يمينها ويُبعث إليها مائة ألف ملَك يحملونها على أجنحتهم حتّى يصيروها [يسيروها] عند [على‏] باب الجنة. فإذا صارَت عند باب الجنة تلتفت، فيقول الله: يا بنت حبيبي، ما التفاتُك وقد أمرتُ بك إلى جنتي [الجنة]؟ فتقول: يا رب، أحببتُ أن يُعرَف قدري في مثل هذا اليوم. فيقول الله [تعالى]: يا بنت حبيبي ارجعي فانظري مَن كان في قلبه حُبّ لك أو لأحدٍ من ذرّيتك خُذي بيده فأدخليه الجنة.»[7]

لا شك أنّ إدراك مقام أهل البيت(ع)، ومنهم الإمام الرضا(ع)، هذا الوجود المقدس، هو أُمنية طَموحة جدًّا بالنسبة إلينا. فلو فُتحَت على قلوبنا يومًا ما نافذةٌ فعرفنا منها بصيصًا من أنوار وجودهم(ع) فإننا لن نهتم بجميع لذات الدنيا، بل ولذات الآخرة. وإنّ الذين شمّوا نفحةً من هذه الحديقة تراهم من السُكْر والثمالة ما أذهلَهم عن الحور والقصور كذلك! نأمل أن نتمكّن نحن أيضًا من إدراك مقام الأئمة الأطهار(ع)، ولا بد من أجل ذلك أن نقترب أكثر قليلًا من أولاد الأئمة(ع) لننال المعرفة.

ومن هؤلاء الأولاد العظيمي الشأن هذا الوجود المقدس المتمثل بالسيدة فاطمة المعصومة(س)، ونحن نعتقد أنّ وجودنا، من قمّة رأسنا إلى أخمص قدمنا، مرهون بمِنَن هذه السيدة الجليلة! وإني لأعترف أننا عاجزون عن إدراك قطرة من بحر مقامات هذه السيدة العظيمة؛ إذ لا بد لمعرفتها من وجود تجانس بين العارف والمعروف. إننا اليوم نفتخر بكوننا خَدمًا عند حضرة السيدة المعصومة(س)؛ فلو لم يكن مرقد هذه السيدة المكرَّمة في قم أكانت الحوزة العلمية لتتأسّس فيها أصلًا؟! ولو لم تكن هذه الحوزة العلمية أكانت لتُخَرّج شخصية مثل سماحة الإمام الخميني، رضوان الله تعالى عليه؟! ولو لم يكن الإمام الراحل(ره) أكانت هذه الثورة الإسلامية لتشتعل ثم لتنتصر؟! ولو لم تكن هذه الثورة أكنا أنا وأنتم هاهنا اليوم؟! المطّلعون على أوضاع أواخر العهد البهلوي وظروفه والذين شاهدوا كيف كان الدين والمعارف الدينية تتنازل يوافقونني الرأي من أنه إلى أين كنّا سنصل لو استمر ذلك المنحني في النزول! ولو أن الثورة الإسلامية في إيران لم تقم، أكانت ستقوم ثورات مصر وتونس والبحرين واليمن؟! من هنا فإنّ هذه البركات جميعًا نبع من بركات هذه السيدة الجليلة. الله تعالى وحده يعلم كم من البركات تفيض يوميًّا من هذا المرقد المطهَّر ومن الراقدة فيه(س) لتشمل الشيعة، لا بل الأقلّيات الدينية أيضًا! فإنّ الكثير من الزرادشتيين والمسيحيين يقدّمون النذور للتشرف بزيارة السيدة المعصومة(س)!

إننا إن عرفنا السيدة المعصومة(س) فستشكل هذه المعرفة نافذةً لمعرفة مقامات الإمام الرضا(ع). الإمام الرضا(ع) يختص من بين سائر الأئمة(ع) بلقب "الإمام الرؤوف". لكننا إن وضعنا رأفة الإمام الرضا(ع) من أوّل حياته المباركة إلى اليوم، وإلى النهاية مع كل ما لسائر الأئمة(ع) من المحبة واللطف – وضعناها في كفة ميزان ووضعنا محبة الله تعالى ولطفه بخلقه لرأينا أنّ كل تلك الرأفة لا تساوي قطرة في بحر رحمة الله عز وجل؛ لأن الأئمة(ع) عباد الله ومحدودون أمّا الله جل وعلا فغني، وغير متناهٍ، وله من الرحمة واللطف ما لا نهاية له. إننا نحب الإمام الرضا(ع) لأن الله جل وعلا يحبه. ونحب السيدة المعصومة(س) لأنها غصن من تلك الشجرة المباركة.

إننا إن ارتبطنا بأهل البيت، صلوات الله عليهم أجمعين، فلن يكون ثمة شيء لا نستطيع نيله. إن نيل هذه الكمالات يتناسب مع العلاقة التي نُقيمها معهم(ع)، وإلى أيّ مستوى نجلس على بابهم لنستجدي فضلَهم، وإلى أيّ مدى نكون مؤهَّلين، وإلّا ما من شيء يستحيل نيله بالتوسل. والآن إذا رجَونا هذه الشخصيات، ولا سيما الإمام الرضا(ع) والسيدة المعصومة(س)، أن يتفضّلوا علينا في عشرة الكرامة هذه بمثقال ذرّة من هذه المعرفة، فإنها أكبر قيمة وأشد لذة من جميع نعمات الدنيا والآخرة!


[1]. عشرة الكرامة هي العشرة الواقعة بين ذكرى ميلاد السيدة فاطمة المعصومة(س) والإمام علي بن موسى الرضا(ع)، أي بين الأول والحادي عشر من ذي القعدة.

[2]. الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه: ج2، ص613.

[3]. انظر: الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين: ج1، ص275. انظر: الطبري، محمد بن جرير، دلائل الإمامة: ص448.

[4]. النور: الآية35.

[5]. الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه: ج2، ص613.

[6]. المصدر نفسه.

[7]. الكوفي، فرات بن إبراهيم، تفسير فرات الكوفي: ص298-299.

 

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...