لماذا مستقبل الثورة مشرق؟

في لقاء لسماحته مع نُخب ثانويّة مؤسّسة الإمام الخميني(رحمه الله) الثقافيّة بباغ ملك؛ التاريخ: 21 تموز 2019م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

اللهُمّ كُن لوليِّكَ الحجّةِ بنِ الحسن، صلواتُكَ عليهِ وعلى آبائِه، في هذهِ الساعَةِ وفي كلِّ ساعةٍ، وليًّا وحافِظًا وقائِدًا وناصِرًا ودَليلًا وعَينًا، حتّى تُسكِنَه أرضَكَ طَوعًا وتمتِّعَهُ فيها طويلًا.

أُرحّب بقدوم السادة إلى هذه المؤسّسة ذات الصلة بهم، إذ إنّها مرتبطة بالإمام ولي العصر(عجّل الله تعالى فرَجه الشريف)، هذا الوجود المقدّس، وبخُدّام الولاية.

لقائي هذا بالسادة نعمة عظيمة لي أنا شخصيًّا. أقولها بكل صدق: إنّ السرور والبهجة اللذين يمنحهما الله تعالى لي بلقائكم هما هديّة مميَّزة منه جلَّ وعلا أنتفع بها في أيّام عمري الأخيرة. وإنّي شاكر لله تعالى أن مَدّ في عمري لكي أرى مثل هذه الشبيبة وأشهَد بشارةَ تحقّق الوعود الإلهيّة القاضية بنصرة أهل الحق والدين الإسلامي الحنيف.

تدريجيّةُ نُضج المجتمعات البشريّة

على الرغم من عدم إحاطتنا إحاطةً دقيقة بالتاريخ، وأنّه ربّما لا يكون هناك حدَث تاريخي قد ضُبط ودُوِّن بشكل كامل، وأنّ ما في جعبتنا عن التاريخ لا يعدو - في الغالب - كونه معلومات نسبيّة أخذناها من الآيات القرآنيّة والروايات الواردة حول تاريخ الأنبياء، فإنّنا بإلقائنا نظرة إلى تاريخ الأنبياء (سلام الله عليهم أجمعين) حتّى زمان نبي الإسلام (صلّى الله عليه وآله) نستطيع أن نخمّن إجمالًا أنّ الإنسان منذ زمان نبي الله آدم (عليه السلام) فصاعدًا خضع تدريجيًّا لعمليّة نضج عامّة في هذا العالم، بالضبط كما تتهيّأ الأرضيّات الأولى لظهور فرد بشري في بطن الأم بتشكّل خلايا بسيطة، ثم تبدأ بعض أعضاء الجسم بعد مرور مدّة بالتكوُّن شيئًا فشيئًا، ثم بعد مُضيّ بضعة أشهر تظهر فيه الحركة، ويتكوّن الدماغ والقلب، حتّى يبلغ مرحلةً يمكنه فيها أن يُولَد لينتفع من فضاء هذا العالم. فإنّ يد التدبير الإلهيّة تهيّئ للإنسان مراحلَ النمو إلى أن يولَد، ثم يستطيع تدريجيًّا التنعّم بنِعم هذا العالم على نحو أفضل وأكثر وعيًا، فيَكمُل فكرُه وفهمُه، ويصبح على قدْر المسؤولية، فيُحَمَّل المهامّ، ويستفيد من الواجبات، وينتفع من أنعم الله عزّ وجل، ليبلغ المقامات المعنويّة التي تسمح بها قابليّاته. إذًا نستطيع أن نقول إنّ كل فرد قد قطعَ هذه الأشواط منذ انعقاد نطفته حتّى أصبح قادرًا على نيل الكمال في هذا العالم. على سبيل المثال، من النماذج الكاملة على ذلك سماحة الإمام الخميني (رضوان الله عليه) إذ تشاهدون من أين بدأ وإلى أين انتهى؟! ضربتُ هذا المثال لأنّه ملموس بالنسبة إلينا.

أكبر انحراف جرى على نبي إسرائيل

شبيه بهذا النضج التدريجي يحصل للمجتمع البشري أيضًا؛ فالأخير في مراحل ظهوره الأولى كان بحكم الجنين الضعيف الذي بالكاد تبدو عليه علامات حياةٍ ونضج باهتة، ثم أخذ بالنضج تدريجيًّا.

فحين نطالع قصص الأقوام السابقة التي يقصّها علينا القرآن الكريم نشاهد أنّ إيمانهم ومعرفتهم كانا على جانب من الفتور والضحالة ما يتزعزعان بكلّ سهولة. نحن نعلم أنّ بني إسرائيل كانوا في مصر بحكم العبيد تقريبًا، فكان آل فرعون يعاملونهم معاملة العبيد؛ يدفعون إليهم أقلّ الأجور، ويحمّلونهم أثقل الأحمال، وكانت منزلة بني إسرائيل ضحلة، ويحظون بأدنى درجات الاحترام. حتّى إذا طال تضرّعهم ومضَت سنين طوال بعثَ الله تعالى إليهم موسى (عليه السلام) لينجيهم من قبضة آل فرعون. والقرآن الكريم يصرّح بأنّ موسى أُرسل لنجاتهم. وجاء نبي الله موسى (عليه السلام) وحصل ما حصل من قصص تعرفونها، ودار ما دار من حوار بينه وبين فرعون وآله، حتّى غرق آل فرعون في نهاية المطاف، ونجا بنو إسرائيل، فانطلقوا متوجّهين إلى بلادهم الأصليّة، وهي فلسطين وبلاد الشام.

وفي طريقهم من مصر، وهم يجتازون صحراء سيناء ليتوجّهوا منها إلى فلسطين، مرّوا على معبد أصنام فيه أصنام كبيرة وجميلة، انهمك أصاحبُه بعبادتها. أُعجب بنو إسرائيل بالمعبد غاية الإعجاب، وهالَهم بناؤه الفخم وما فيه من أصنام ذهبيّة وجواهر، فجاؤوا نبيَّهم موسى (عليه السلام) قائلين: (يا مُوسَى اجعَل لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَة).[1]

لاحظوا: نبيٌّ أُرسل من الله تعالى لإنقاذ بني إسرائيل من آل فرعون، وقد بلغَ بنو إسرائيل الآن موضعًا أصبحوا فيه أصحابَ هويّة مستقلّة، وموحِّدين، وهم في طريقهم إلى أرض آبائهم وأجدادهم ليعكُفوا فيها على عبادة ربّهم، وإذا بهم في أثناء الطريق يأتون نبيَّهم قائلين: اجعل لنا آلهةً كهذه! أي: اجعل لنا صنمًا نعبده! إلى آخر القصّة. تسعُ معجزات أظهرَها نبيُّ الله موسى (عليه السلام) في مصر حتّى أذعَن آلُ فرعون، ومع كلّ هذه المعجزات يأتي بنو إسرائيل هؤلاء الآن ليقولوا لموسى: نريد أن نعبد صنمًا! ثمّ أتاهم السامِريّ فصنع لهم عجلًا، فصاروا عبدةً للعجل!

وقد تكرّرَت هذه الصور في أقاصيص أخرى. وهذا مؤشِّر على أنّ مستوى الوعي والمعرفة عند أولئك القوم كان في غاية التدَنّي. بالطبع كان يمكن العثور بينهم على بعض النُخَب والنوابغ، لكنّهم في المجموع كانوا هكذا. وشبيه بهذا كانت حالُ الأقوام الأخرى تقريبًا، وإنّما أشرتُ إلى هذا المثال لأن القرآن الكريم ذكره.

شهادة الإمام الحسين (سلام الله عليه) مؤشّر على عمق انحراف المجتمع

النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) خاتم النبيّين، وقد نزل عليه قرآنٌ عصِيّ على التحريف، وسيبقى على ما هو عليه إلى يوم القيامة، وإنّ على الجميع أن يعملوا به. وهذا الدين سيظهر على الدين كلّه (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُون[2] (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون).[3] خلال المدّة القصيرة التي أمضاها النبي (صلّى الله عليه وآله) في مكّة المكرّمة وبعد هجرته إلى يثرب أسّسَ في نهاية المطاف دولةً إسلاميّة، وأصبحَت يثرب مدينةً إسلاميّة. أولئك القوم أنفسهم [أُمّة رسول الله] كم آذوا النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكم عاملوا أولادَه وأحفاده بسوء! أعَزّ وأشرف وأحَبّ إنسان على وجه البسيطة، الحسين (عليه السلام)، الشخص الذي تُعظِّمون ذكرَه وتحبّونه أكثر من أيّ إنسان آخر، بل كان أعداؤه إذا رأوه أحبّوا فيه صفاء روحه ورأفته وحميميّته، وإذا بأُناسٍ كانوا قد آمنوا بجدّه واعتنقوا الإسلام ونبذوا الوثنيّة وتخلّصوا من أدران الماضي على يديه يُقدِمون على قتل هذا الإنسان العزيز الشريف المحبوب! إلى أيّ مدًى يمكن أن يهبط الوعي والفَهم والإنسانيّة يا ترى؟!

مؤشّرات سَير المجتمع البشري نحو النضج

حين يقارن المرءُ بين أحوال هذه العصور يلاحظ أنّ المجتمعات قد عاشَت تطوّرات شبيهة بتلك التي عاشَتها النطفة؛ فبعد انعقاد الأخيرة في هذا العالم، ومرورها بطور الوليد الرضيع، فالطفولة، ومن ثم مرحلة البلوغ، يجد أنّ المجتمعات البشريّة أيضًا مرَّت بمرحلة طفولة، ثم أخذَت تزداد نضجًا شيئًا فشيئًا.

وإنْ نحن عكَسنا عمليّة التطوّر هذه على عصرنا، ولأنّني أبلَيتُ بضعة أثوابٍ أكثر منكم، فإنّي أستطيع أن أستذكر جيّدًا مسيرة أكثر من ثمانين عامًا – تقريبًا - مضَت من مجريات هذا العالم، من حينِ كنتُ في الخامسة أو السادسة من العمر؛ أَذكُر كيف كان الناس؟ وكيف كانت المجتمعات؟ وكيف كانت الدولة؟ وكيف كان الأحِمّاء المقرّبون. الحق أقول: لقد نضج المجتمع منذ أيّام طفولتي حتّى أيّام انطلاق الإمام الخميني (رحمه الله) بنهضته الإسلاميّة نضجًا كبيرًا. أي حين نقيس شباب عصر الثورة الإسلاميّة بأولئك الذين كانوا أيّام طفولتي نجد أنّ شباب عصر الثورة يفوقون أولئك بالوعي والفهم بكثير. ثم إذا قارَنّا مواليد أيّام الثورة، الذين هم الآن في حدود الخمسينات من العمر بمواليد العقد أو العقدين الأخيرين سنلاحظ في الأخيرين المقدار نفسَه من النضج تقريبًا؛ فإنّ جيل هذا العصر لا يُقاس بأولئك من حيث الذكاء، والقابليّة، والنضج، والهمّة العالية. بمعنى أنّ المجتمع البشري باتَ يتمتّع بقابليّات أفضل. ولا يصعب عليكم تصوّر ذلك، فأنتم توافقون إجمالًا بأنّ الحال كما ذكرتُ لكم.

تكامل الإنسان وتطوّره اختياري

وأريد هنا أن أضيف شيئًا وأودّ أن تصغوا إليّ جيّدًا: لقد خصَّ اللهُ تعالى الإنسانَ، من بين سائر المخلوقات ومنها الملائكة، بميزةٍ لا يمتلكها أيّ من تلك المخلوقات، وهي أنّ ابن آدم، كما أنّه ينضج ويتكامل، باستطاعته، وباختيار كاملٍ منه، أن يختار لنفسه واحدًا من طريقين مختلفَين: طريق صعود يأخذه نحو النضج، والكمال، والقُرب من الله جلّ وعلا، أيّ إنّه يقرّبه من الله تعالى، وطريق سقوط إذا سلكَه يتسافل يومًا بعد آخر.

تلاحظون أنّ الذين آمنوا برسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بادئ الأمر كيف ترَقّوا بسرعة، لكن نفس أولئك فيما بعد، ومن ثم بعض أولادهم بعد ذلك، قد انحدروا في هاوية السقوط إلى درجة أنّهم أقدَموا على قتل أصحاب سيّد الشهداء (عليه السلام) بتلك الصورة البشعة! فكم بإمكان الإنسان أن يكون دنيئًا؟! أي حين يتّسع وعاء قابليّة الإنسان فإنّه إمّا أن يمتلئ شهدًا وعسلًا، أو يمتلئ سُمًّا! الوعاء كَبُر، فإنْ هو امتلأ شهدًا وعسلًا ازداد يومًا بعد يوم حلاوةً ولذّةً وطيبًا، وإن هو امتلأ سمًّا ازداد يومًا بعد يوم دناءةً وسوءًا. ولا يتنافى هذا مع النمو الطبيعي؛ فهذا الأخير يوسّع الوعاء فقط، أمّا ما الذي سيملأ هذا الوعاء؟ فهذا في أيدينا نحن؛ (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر[4] (هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِن).[5] ما الطريق الذي سيسلكه الإنسان؟ هذا يعتمد على قراره هو.

الكلام هنا إنّ وعاء قابليّة الإنسان في أيّامنا قد اتّسع كثيرًا مقارنةً بسالف العصور. فلو عدنا إلى زمان نبي الله آدم (عليه السلام) مثلًا لوجدنا أنّ هذه الأوعية ازدادَت اتّساعًا يومًا بعد آخر، وكلّما رجعنا إلى ذلك الزمان تضيق هذه الأوعية وتضعف. لكن هذا لا يعني أنّ البشر جميعًا يَكمُلون. فقضيّة أنّه بماذا نملأ هذه الأوعية؟ هي أمر اختياري. الله تعالى هو الذي وضع هذه السُنّة، وهي أنّه كلّما مضَى على الإنسان زمن ازدادَ وعاء قابليّاته سعةً. على أنّه جلّ وعلا قد وعدَ بأنّه سيأتي يوم تتّسع فيه أوعية الناس وتُملأ شهدًا فيه شفاء، إلى درجة أن يصبحوا مؤهَّلين لأن يحكمهم الإمام المهدي (صلوات الله عليه). لقد وعدَ تعالى بذلك.

رأي الإمام القائد الخامنئي بمستقبل الثورة الإسلاميّة

بعد هذه المقدّمة التي ذكرتُ أطرحُ سؤالًا يوجّهه إليّ الكثيرون شفهيًّا أو تحريريًّا، وهو: على أيّ أساس يعوِّل الإمام القائد الخامنئي (حفظه الله) على شباب المستقبل كل هذا التعويل ويتفاءل بالمستقبل؟ ما مصدر هذا التعويل والتفاؤل؟ نحن نشاهد يوميًّا المزيد من الفساد والمعاصي في المجتمع، فكيف يأمُل الإمامُ القائد بجيل المستقبل خيرًا ويزعم أنّ المستقبل يتحسّن يومًا بعد آخر، وأنّ جيل المستقبل سيكون أفضل؟!

عبر المقدّمة التي قدّمتُها يتّضح الجواب على هذا السؤال بعض الشيء؛ وهو أنّ الإمام القائد (حفظه الله)، ومن خلال ما آتاه الله من البصيرة وقذَف في قلبه من النور، يرى أنّ أوعية الناس آخذةٌ بالاتّساع، وأنّ عوامل نموّ هذه الأوعية تزداد باطّراد ببركة سماحة الإمام الراحل (رضوان الله عليه) وأصحابه العشّاق والشهداء، وأنّ هذه الأوعية تمتلئ أكثر ما تمتلئ بالمحتوى الجيّد والمحبَّذ. بالطبع لا يمكننا القطع بالذي سيحصل في قادم الأيّام لأنّ هذا يعتمد على اختيار أفراد المجتمع أنفسهم، لكن من خلال الوعود الإلهيّة مثل: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُه)[6] و: (وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)[7] وأمثالها، والشواهد التي يلمسها المرء في شبّان اليوم من قابليّة تقبّل الكمال والعمل وفق رغباتهم الحقّة برغم عوامل الفساد، المتنامية هي الأخرى باطّراد، فإنّ المرء يعثر على جواب هذا السؤال من أنّ الإمام القائد لا يزعم هذا عبثًا؛ فإنّ أوعية القابليّات اتّسعَت، وإنّ عوامل التكامل توافرَت، وإنّ معظم هذه العوامل، إن لم نقل كلّها، هي ببركة نهضة سماحة الإمام الخميني (رضوان الله عليه).

بركات حركة الإمام الراحل (رضوان الله عليه) في نضج المجتمع

لولا حركة سماحة الإمام الراحل (رضوان الله عليه) ونصرة أصحابه الذين ثبتوا معه حتّى الشهادة لا نستطيع أساسًا حتّى أن نتصوّر ما الذي سيكون عليه وضع المجتمع اليوم! ولستُ أتوقّع منكم أن تُكَوّنوا تصوّرًا صائبًا عن ذلك. لكن اعلموا أنّه في الأمس غير البعيد من تاريخ انطلاق سماحة الإمام الراحل (رحمه الله) بحركته، أي في العام 1963م حين باتت حركتُه علنيّة تقريبًا وذاع صيتُها، كان وضعُ الجامعات في البلد الشيعي الوحيد في العالم، وهو إيران، قد بلغ حدًّا لا يُسمح معه بدخول المحجّبات إليها! ولطالما شاهدتُ أنا شخصيًّا أنّ محالّ بيع الخمور في بعض شوارع طهران كانت أكثر من محالّ المواد الغذائيّة! كان هناك محلّ لبيع الخمور وكؤوس الشراب كل بضع مئات من الأمتار، وكان زبائنها يرتادونها منذ مقتربات الغروب حتّى ينتصف الليل، يشربون الخمر ويعربدون! وكانت المساجد شبه مهجورة، أغلب روّادها الشيوخ والعجائز. أمّا الآن فانظروا وضع المساجد، والحشود التي ترتادها ومراسم الاعتكاف التي تقام فيها!

حين قَدِمتُ إلى قم لم يكن يتوجّه إلى مسجد الإمام كل عام من أجل الاعتكاف غير عدد قليل من طلّاب العلوم الدينيّة يعتكفون في عَلالي[8] المسجد. بالطبع هذه السُنّة الحسَنة شاعَت أكثر فيما بعد وترون الآن كيف يقف آلاف الطلّاب والطالبات في الجامعات في طوابير لتسجيل أسمائهم للمشاركة بشعيرة الاعتكاف! ثمّ إذا أُغلق التسجيل ولم يصل الدور إلى بعض الطالبات يأخذن بالبكاء إذ لن يستطعن المشاركة في الاعتكاف! هذه مؤشّرات على أنّه كم كانت حركة الإمام الراحل (رضوان الله عليه) ذات أثر في نضج مجتمعنا، وأي بركات هبطَت عليه! هذا وإنّ هذه البركات لم تبقَ محصورة ضمن حدود بلدنا، بل تخطّتها. الحركات التي تلاحظونها في بلدان المنطقة؛ مثل ظاهرة حزب الله اللبناني، لم يكن لها أثر أبدًا. فلبنان كان بلدًا نصف أوربي. ما أقوله هو وليد مشاهداتي الشخصيّة؛ في رحلة ذهبتُ فيها إلى بيروت لم أجدها تختلف كثيرًا عن البلدان الأوربيّة. لقد تشكّل حزب الله اللبناني بأمر من سماحة الإمام الخميني (رحمه الله)، وقد بلغ الآن مبلغًا باتَت أضخم قوّة عسكريّة في المنطقة تهاب ثلّةً من الشبّان نزَلوا إلى معترك الصراع عُزَّلًا. والولايات المتّحدة أيضًا تهابهم! هذه الأمور هي من بركات نهضة الإمام الراحل (رحمه الله). سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) نفسه قال لي: "كنّا قد أتينا إلى إيران لنقاتل في جبهة الصراع بين إيران والبعثيّين، فقال لنا الإمام الخميني: اذهبوا إلى لبنان وأطلقوا هذه الحركة. ونحن إنّما عُدنا إلى لبنان وشكّلنا حزب الله بأمرٍ من سماحة الإمام (رحمه الله)." أي إنّ حزب الله اللبناني هو من ثمار الشجرة التي غرسها الإمام الراحل (رضوان الله عليه). أيُّ وجود خلَقه الله ذاك؟! كم أعطاه من البركة؟! ولم يكن فعل الله هذا عبثًا، إذ: "لا يعطي الله الـمُلكَ أحدًا اعتباطًا"،[9] فهذا كان نتيجة إخلاص الإمام (رحمه الله).

الإخلاص سرّ فاعليّة حركة الإمام (رضوان الله عليه)

بالمقدار الذي عرفنا به سماحة الإمام الخميني (رحمه الله)، وحضرنا درسه لسنوات، والتقينا به في مجالس خاصّة كنّا نشعر أنّه غير ملتفتٍ لأي شيء أو أحد سوى الله تعالى! فإن استيقظ من رقاده فكّرَ فيما يريده الله منه؟ وما عليه فعله اليوم؟ وهو إلى أوان الإيواء إلى الفراش ليلًا مشغول الفِكر في أنّه: ما هو واجبي؟ وما الذي عليّ صنعه ليرضى الله عني؟ لم يكن يهتم بأي شيء غير ذلك. هذا الإخلاص يجلب هذه البركات.

ما أودّ الخروج به ممّا قلتُ هو بضع نتائج: الأولى: ثمّة دروس نستطيع استلهامها من دراسة أقوام الأنبياء وتقليب صفحات تاريخهم، ومن زماننا، منذ انطلاق نهضة سماحة الإمام الراحل (رضوان الله عليه)، منذ حوالي عشر سنوات أو خمس عشرة سنة قبل انتصار الثورة إلى الآن. كما ذكرتُ البركات التي أصبحَت من نصيب الإمام الراحل كانت بسبب إخلاصه. فلنستلهم أوّلًا هذا الدرس؛ وهو أن نحاول أن نفعل كل ما نفعل مرضاةً لله تعالى؛ فإن اتّجهنا إلى طلب العلم نخاطب الله: إلهي، إنّي أطلب العلم لأنّك تحب ذلك. أبرّ والدَيّ لأنّك تحب ذلك، أخدم الفقراء لأنّك تحب ذلك، أحب الإمام الحسين (عليه السلام) لأنّك أيضًا تحبّه. فإنّ كل ما للحسين (عليه السلام) من شخصيّة، وعظمة، ومحبوبيّة هي نابعة من كونه عبدًا خالصًا لله، وأنّه تنازل لله عن كل ما يملك، حتّى طفله الرضيع! فلنتعلّم هذا الدرس، وهو أن نحاول أن نعمل مرضاةً لله ما استطعنا.

الإخلاص أهم عوامل السعادة

النتيجة الثانية هي: إن أصبحنا هكذا فلن نخاف من شيء، وحين نعرف أنّ الله عزّ وجل يحب شيئًا ما سنكون على استعداد لأن نضحّي بأرواحنا في سبيله ولو اصطَفّ الأعداء لحربنا. فإن أراد العاشق التضحية في سبيل معشوقه ازدادَت لذّته كلّما عظمَت تضحيته. يقول له: "انظر! إنّي أفعل هذا من أجلك؛" «وأَيتَمتُ العيالَ لكي أراكا،» إنّه الشعر المنسوب إلى سيّد الشهداء (عليه السلام) إذ يقال إنّه أنشده في آخر لحظات حياته، ولا أدري كم سنده معتبَر؛ «تركتُ الخَلقَ طُرًّا في هواكا/ وأَيتَمتُ العيالَ لكي أراكا»؛ لقد عزمتُ على فعل هذا لأنّك تحب ذلك!

هذا أوّل الدروس التي يجب أن نستلهمها؛ وهو أنّ الإخلاص أهمّ العوامل التي توصِل الإنسان إلى السعادة، وأنّ بلوغ أقصى ما يمكن لمخلوقٍ بلوغُه من مراتب الكمال إنّما يكون في ظل الإخلاص. فمهما استطعتنا أن نجعل أعمالنا أكثر خلوصًا لله تبارك وتعالى ونظّفناها من الرياء والتظاهر والأنانيّة والعُجب وما شابه فسيكون تأثيرها أكبر وأفود. فحين يصل الإنسان إلى مرحلة حب الله تعالى فإنه سيتلهّف لمعرفة ما يريد الله منه لكي ينجزه.

الدرس الثاني هو أن نحاول معرفة ما الذي يحبّه الله تعالى أكثر؟ أي أنْ نسعى لفهم القرآن الكريم وكلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على نحو أفضل لنعرف أنّه ما النهج الذي اختَطّه لنا، وأيّ نهج طلب منّا أن نسلك؟ لا نذهبنّ ونسأل هذا وذاك، فالله تعالى قاله، ووضعَ كتابه في متناول أيدينا، وما علينا إلّا أن نطالع الدرس، ونتعلم، ونفهم.

لا نكونَنّ في زمرة أكثر الناس خسرانًا!

الخطوة الثانية إذًا هي أن نعمل، ما استطعنا وأينما كنّا، ولو لربع ساعة يوميًّا، على تعلّم معارف ديننا على نحو أفضل، وفَهم القرآن الكريم والأحاديث الشريفة بشكل أحسن، وفهم القيم والمثُل الدينيّة بصورة جيّدة لنعلم إلى أين نريد أن نذهب؟ ومن أيّ طريق؟ وأن لا نخطئ الطريق. نحاول أن نفعل ما يحبّه الله أكثر. لكن حين لا ندري من أين علينا الذهاب فإنّنا سنخطئ الطريق، ولربّما وصلنا إلى موضع يحبه الشيطان جدًّا، ونحن نظنّ أنّنا نسلك سبيل الله تعالى! (الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).[10] يقول القرآن الكريم: أمثال هؤلاء الذين لا يعرفون الطريق يسلكون الطريق الخطأ، وإنّهم أكثر الناس خسرانًا لأنّهم أنفقوا وقتهم ليحصلوا على نتائج فحصل العكس تمامًا؛ (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، على حين أنّهم أخطؤوا وسلكوا الطريق الخاطئة أصلًا. هذه هي الخطوة الثانية. فلنجعل لأنفسنا منهاجًا، وليبذل كل امرئٍ ما بوسعه في هذا الطريق. فإن استطاع أن يُنفق كل وقته في ذلك، فنِعم الإنفاق، فما أعظمها من نعمة أن ينفق الإنسان وقته لتعلّم المعارف الإلهيّة على نحو أفضل، وفَهم دين الله بشكل أحسن، وتعلّم تعاليم الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) بصورة أجود. فإن لم يمكن ذلك فليخصّص من يومه ولو ربع ساعة لقراءة صفحة أو عشر صفحات من كتاب ديني، بالمقدار الذي يستطيع.

الخدمة بإخلاص لعباد الله تعالى

ثالثًا: حين يحب المرء أحدًا فإنّه يودّ أن يخدم مُقَرّبيه. حتمًا حصل لكم، بشكل أو بآخر، أنّكم إن أحببتم شخصًا، أحببتم ثيابَه وكتُبه أيضًا. ولربّما أحببتم داره كذلك، بل جدرانها أيضًا. هناك بيت شعر مشهور أنشده قيس العامري في ليلى؛ يقول قيس ما مضمونه: إني أجوبُ المدن حتّى أصل إلى مدينة ليلى،

أمُرُّ على الديارِ ديارِ ليلى/ أُقَبّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا 

وما حبُّ الديارِ شغَفنَ قلبي/ ولكن حبُّ مَن سكنَ الديارا

فحين يحب المرءُ اللهَ تعالى فلا بد أن يحبّ عبادَ الله جميعًا، لأنّهم لله، ولذا تراه يبذل قصارى جهده في خدمتهم. إذًا، أوّلًا: الإخلاص لله تعالى؛ فعلى المرء أن يعرف الله، ويحبّه، ويعمل لمرضاته. ثانيًا: ليحاول أن يعرف ما الذي يحبّه الله من الأشياء والأفعال، أي أن يعرف الدين حق معرفته. ثالثًا: أن يخدم عباد الله تعالى لأنّهم عباد الله وأنّه تعالى هو الذي خلَقهم، فهو خلَقهم لأنّه يحبّهم، اللهُمّ إلّا أن يصنعوا ما يجعلهم غير مُؤَهَّلين لأن يُحَبّوا. الله عزّ وجل يريد منّا أن نخدم عباده ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا؛ فإن كانت لهم حاجة ونحن نستطيع قضاءها فلنقضِها لهم. وإن لم يكن في وسعنا فعلَ أي شيء لهم، فلندعُ لهم الله: "اللهُمّ اهْدِ عبادك هؤلاء، اللهُمّ كُفّ أيدي الظالمين عنهم، اللهمّ انصُر عبادك المخلصين، اللهم أدم ظِلّ الإمام القائد الخامنئي على رؤوسنا، انصر المدافعين عن الدين والمحامين عن العتبات والمقدّسات." لنَدعُ لهم، فليس في الدعاء جهد كبير.

خلاصة كلامي إذًا هي أوّلًا: أن نجتهد في أن نخلص في أعمالنا. ثانيًا: لنحاول معرفة ما يريده الله منّا على نحو أفضل؛ أي أن نتعلّم الدين بصورة أفضل. ثالثًا: أن نسعى لخدمة عباد الله ما وسِعَنا ذلك لأنّهم لله وأنّ الله خلَقهم لأنّه يحبّهم، فإن لم نقدر على مساعدتهم بالمال والنفس، فلنَدعُ لهم على أقل تقدير.

جعلَكم الله تعالى ذخرًا لمستقبل هذه الثورة، وزاد في توفيقاتكم دائمًا، وشملكم جميعًا وفي كل حال بدعوات صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف) وعناياته.

أسأل الله أن يوفّقكم في كل نشاط تقومون به، وأن تجتهدوا ما استطعتم في عدم نسيان العبارات الموجَزة التي قلتُها لكم تذكيرًا. إن دعوتم للغير فلا تنسوا الشيوخ المذنبين، فإنّهم محتاجون لدعواتكم.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.


[1]. الأعراف: الآية138.

[2]. الصف: الآية8.

[3]. التوبة: الآية33.

[4]. الكهف: الآية29.

[5]. التغابن: الآية2.

[6]. الحج: الآية40.

[7]. النور: الآية55.

[8]. علالي: جمع عُلِّيّة، وهي الغرفة في الطبقة الثانية من الدار وما فوقها. (المترجم)

[9]. شعر فارسي يقول: "دولت ندهد خدای کس را به غلط". (المترجم)

[10]. الكهف: الآية104.

 

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...