بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين.
اللهُمّ كُن لوليِّكَ الحجّةِ بنِ الحسن، صلواتُكَ عليهِ وعلى آبائِه، في هذهِ الساعَةِ وفي كلِّ ساعةٍ، وليًّا وحافِظًا وقائِدًا وناصِرًا ودَليلًا وعَينًا، حتّى تُسكِنَه أرضَكَ طَوعًا وتمتِّعَهُ فيها طويلًا.
على روح الإمام الراحل (رضوان الله عليه) وأرواح شهداء الإسلام العظام، وشهداء الدفاع المقدس، وشهداء حُماة مراقد الأئمة الأطهار (عليهم السلام) نهدي ثواب الصلاة على محمد وآل محمد.
إنّ ممّا تعلمون به كلّكم ونعتقد به جميعًا، ولا أظنّ أنّه يخطر الآن على بال أحدٍ منكم أو يلتفت إليه، ولذا أودّ التذكير به، هو أنّ لحظات أعمارنا حين تمضي فإنّها لا تمُرّ وتنعدم وينتهي الأمر! أيًّا كان الشخص، ومهما كان سنّه، بما فيهم أنا الذي أُمضي العقدَ التاسع من عمري. فانطلاقًا من مضمون القرآن الكريم، وسُنّة أهل البيت (عليهم السلام) القطعيّة - ولا أقصد روايةً نُقلَت في موضعٍ ما بسندٍ معيَّن، بل استنادًا إلى روايات مستفيضة وعديدة وشواهد أخرى لا مجال لذكرها - فإنّ كل لحظة تمُرّ من أعمارنا ستُسجَّل بشكل حياةٍ أبديّة، وإنّنا سنتسلّمُها يومًا ما؛ يعني أنّنا سنجتمع معًا هاهنا في يوم آخر ونتذكّر أنّنا اجتمعنا معًا ليلةً ما في مدينة مشهد وذكَرنا أمورًا. سيُعرَض عليكم شيءٌ شبيه بهذا، أو فلمُه ويقال لكم: انظروا، لقد كان لكم هاهنا اجتماع يومًا ما. عندذاك سيقول المرء: يا ليتني حينَها كنتُ قلتُ كذا بدلًا من قولي كيت وكيت! أو قُمتُ بحركة كذا عوضًا عن تلك الحركة! أو مرَّت فكرةُ كذا في ذهني بدلًا من فكرة كذا! ولو كنتُ حينها فكّرتُ بشكل آخر فكم كان سيختلف الأمر وكم كان سيصبح أكثر فائدة لي اليوم! (يا حَسْرَتَى عَلَى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ الله).[1] يا حسرتَى، يا حسرةً على أنّي لم أعرف قدر تلك اللحظات، فأمضَيتُها بطريقة لم يعُد لي الآن منها نفع! بل لعلّ أضرارًا لحقَت بي جرّاءها!
إنّ الحزن الذي سيتملّك المرءَ هناك ونارَ الحسرة التي ستحرقه لن تصل إلى حُرقتها نارُ جهنم؛ سيقول: سبعون سنة انقضَت من عمري وكنتُ قادرًا فيها على فعلِ شيء كنتُ سأنتفع من ثمارِ كل لحظةٍ منه في عمري الأبدي، لكنّي قضيتُها بالأَخيِلة وأمثالها! خيرُها مَضى بقول الفكاهات والمزاح! إنّ يومًا كهذا سيمُرّ علينا. ألا نعتقد بذلك؟ ألا نعلم بهذا؟ كلّنا يعلم بهذا، لكنّنا ننسى!
من الغرائب التي ستحصل في ذلك اليوم، والتي صرّحَ بها القرآن الكريم، بل بيّنها بالتفصيل، والآن حينَ يقرأ مثلي، أنا المعمّم الذي قضَى سبعين عامًا مع القرآن الكريم، آيةً ما من الذكر الحكيم يجدها وكأنّها نزلَت للتَوّ، أقرؤُها ومضمونُها غائبٌ عن بالي ولا التفات لي إليه. إنّها آية من سورة الحديد، السورة التي تأتي بعد سورة الواقعة، وهي أوّل سورة تبدأ بـ(سبَّحَ)؛ (سَبَّحَ للهِ ما فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزيزُ الحَكيم).[2]
يقول تعالى فيما يقول في هذه السورة: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِناتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَينَ أَيديهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشراكُمُ اليَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدينَ فيها ذلِكَ هُوَ الفَوْزُ الْعَظيم).[3] ثم يُتبِع فورًا: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذاب)؛[4] ثمّةَ أناس سيكونون يوم المحشر سويّةً وأصدقاء، وقد كانوا في الدنيا أيضًا سويّة؛ كانوا مثلًا أهل حَيّ واحد، أو رُوّاد مسجد واحد، أو قاتلوا في جبهات القتال معًا. أثناء مرور هؤلاء سويّة من عرصات المحشر للوصول إلى موضعٍ ما يرى بعضُهم فجأةً أنّ الظلمات قد أحاطَت بهم. قبل ذلك كان المشهد والمكان مضيئًا، وكانوا يسيرون مع بعضهم البعض، وفجأةً يبلغون موضعًا فيرى جماعةٌ منهم أنّ الجو قد أظلم ولم يعُد أحدُهم يرى الآخر، بل لا يرون قُدّامهم. فيتساءلون: ماذا حصل؟! ثم إنّهم يرون أنّ السابقين لهم تتلألأ وجوهُهم بالنور، أمّا المتخلّفون عنهم بخطوات فإنّهم لا يرون حولَهم شيئًا، ظلماتٌ مَهيبة! فينادون مخاطِبين السابقين لهم: أشيحوا بوجوهكم نحوَنا لنتبيَّن طريقَنا بواسطة نور وجوهكم؛ (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم)؛ أي: انظروا إلينا لكي نأخذ شيئًا من نوركم فننتفع به نحن أيضًا.
هذا الكلام ليس قصة حسين كُرد،[5] بل آيات قرآنية تتنبأ بمجيء مثل هذا اليوم. (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم)، فيجيب أولئك: (قيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا)؛ ارجعوا إلى الماضي واجلبوا نورًا من هناك! لقد فات الأوان!
في تلك الأثناء، وبينما يقول هؤلاء: انظروا إلينا، ويجيب أولئك: لن يُجديكم نظرُنا شيئًا، ارجعوا إلى الدنيا واحصلوا على النور، وإذا بسورٍ عظيم يَحُول بين هؤلاء وأولئك النورانيين الذين أمامهم؛ (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ)، والسور هو الجدار العالي الذي كان يشيّد حول المدن. فبعد أن كان أفراد الجماعة الأولى، إلى تلك اللحظة، يشاهدون أصحاب الجماعة الثانية ويرون أنّ لهم نورًا وهم لا نور لهم، وينادونهم: انظروا إلينا قليلًا لننتفع من نوركم، وكان أولئك يجيبون: لا فائدة، لقد فات الأوان، وإذا بسور عظيم يقوم فجأةً ويفصل بين الجماعتين فلا تعود الأولى تشاهد الثانية؛ (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذاب)؛ وإنّ لهذا السور بابًا، وإنّ أصحاب الجماعة الأولى ينظرون من خلال الباب فيرون أن الجانب الآخر من الباب مليء بالرحمة، وأجواء جميلة نيّرة، أمّا جانبهم فكلّه عذاب. فيقولون في ذات أنفسهم: يا ويلنا، لماذا حصل هذا؟!
لو كنا نحن هناك ماذا كنا سنصنع؟ كنا سنصنع ما ذكره القرآن الكريم: (يُنادُونَهُم)؛ فهم ما زالوا يتوقعون أن يسمع أولئك صوتَهم ويتحاروا. وإذ يرون أنهم ليسوا قريبين منهم ينادونهم بصراخ قائلين: (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُم)؟! (قَالُوا بَلَى)؛ يجيب أولئك: بلى، كنا معًا، لكن من الآن فصاعدًا لن نكون معًا!
فتسأل الجماعة الأولى: ماذا حصل فانفصلنا عن بعضنا البعض؟! لقد كنا أبناء حيٍّ واحد، أعضاء حزب واحد، كنا نرتاد المسجد سوية، ونتجوّل معًا، نتسلّى معًا،... (ودعونا من ذكر الأسماء)، فما الذي حصل فجعل الأمورَ تأخذ هذا المنحى؟!
لستُ أقول هذا من عندي، بل هو كلام القرآن الكريم. افتحوا المصحف على سورة الحديد وسترونه. تجيب الجماعة الثانية: (قَالُوا بَلَى)، كنا معًا، لكن كان بيننا وبينكم اختلاف.
(وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُور)؛[6] ما كنّا نقوله نحن كنّا نقوله عن صدق، لا عن تظاهُر. كنّا نؤمن به، أمّا أنتم فكنتم تقولونه ليُعجَب به الآخرون. نحن كنّا نتوقّع منه النتائج؛ كنّا نسأل الله أن يوفّقنا لحُسن السلوك والعمل، أمّا أنتم فكنتم انتهازيّين؛ كنتم تنظرون إلى اتّجاه مَهَبّ الريح فتتّخذون الجهة التي تنفعكم؛ (وتربّصتم)؛ أي كنتم تتحَيّنون الفُرَص. (وارتَبتُم)؛ بعد أن ظَلَلتم تتحيّنون الفرص تسرّبَ الشك إليكم شيئًا فشيئًا، فصرتم تقولون في ذات أنفسكم: أهذه الأمور صحيحة حقًّا؟! إنّها مسؤوليّة مَن يقولون بها!
ثم ماذا؟ (وَغَرَّتكُم الأمانِيّ)؛ خدعَتكم أمنياتكم! كنتم تتكلمون في أمور كثيرة، كالدين والثورة والإمام (الخميني) والجبهة والشهادة... لكن شغلَتكم فيما بعد أمانيُّكم العريضة فلم تدَعكم تواصلون العمل لتحصدوا نتائجه. وفي مقدّمة كل هذا خداع الشيطان لكم؛ (وَغَرَّكُم بالله الغَرور).
نعم، لقد كنّا معًا، لكن أنتم هكذا صرتم ونحن لم نَصِر هكذا. لهذا وجوهُنا اليوم تتلألأ نورًا وصرتم تأملون أن تحظوا بشيء من أنوارها، أمّا ما حولكم فظلمات، وأنتم في خوف. الجانب الذي نحن فيه مُترَع بالنعم، وذلك الذي أنتم فيه كلّه عذاب. مجرّد مشاهدته تورِث الرعب، فماذا عن الاحتراق فيه!
التفتوا إلى أنّ هذا مصيرُ أناس كانوا في الدنيا معًا! فما بالك بالمشركين والكفار وأمثالهم؟! أولئك الذين كانوا معًا؛ يرتادون المسجد معًا، ولربّما قاتلوا في جبهات القتال معًا، إلى هذا انتهى أمرهم!
أؤكّد مرّةً أخرى أنّ هذه ليست قصّة حسين كُرد، بل هو صريح القرآن الكريم. والآن، انطلاقًا مما يقوله القرآن الكريم، فلأُحَكّم عقلي ولأَرَ أَأنا من أولئك الذين تتلألأ وجوههم نورًا أم من الذين يريدون اكتساب النور من الآخرين فلا يعطونهم ويقولون لهم: أغربوا عن وجوهنا، لقد فات الأوان! من أي طائفة نحن؟
إن أردتُ أن أرى ما إذا كنتُ محقًّا فلأرَ أولًاه كم أحمل ما أقول على محمل الجد؟ أحقًّا وواقعًا هناك إلٰه؟ فإن كان ثمة إله فما هو عمله؟ ما حاجتنا نحن إلى الله؟ إن كنّا عاطلين عن العمل ولم نجد عملًا نتملّق لهذا وذاك فنجده، لسنا بحاجة إلى رَبّ! وإنْ مرضنا فتّشنا عن طبيب يعالجنا، إن لم يكن هذا الطبيب فذاك. وإن رغبنا في الرقود في مستشفى معيّن طلَبنا التوصية من شخص ذي نفوذ. فما حاجتنا إلى الرب إذًا؟! يعني لنسأل أنفسنا: حقًّا، ما فرق سلوكنا عن سلوك أولئك الذين لا يعتقدون بالله أصلًا؟ أجل، نحن نصّلي بضعَ ركعات في اليوم. ولو فكّرنا جيّدًا لوجدنا أنّه من غير المعلوم بأيّ نيّة نصليها؟! لعلّ سبب صلاتنا هو أنّه لو عرَف الناس أنّنا لا نصلّي لطردونا! أنحن هكذا أم لا؟ لو وضعوا أموال الدنيا كلها في إحدى يدَيّ وقالوا: تخلَّ عن الله، والنبي، والحسين، والخميني، والإمام القائد، فماذا سأختار؟ لا تظنّوا أنّ هذا القياس من عندي، وتتساءلون إن كان قياسًا صحيحًا أم لا؟ بل ثمّة حديث بهذا المضمون.
يقول يونس بن عبد الرحمن، أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وذِكْرُه في الروايات كثير، ولعلّكم سمعتم به أيضًا، قالَ ذات اليوم للإمام (عليه السلام) [وبحسب تصوّري وتفسيري - وهذا غير مذكور في الحديث، بل يبدو من القرائن - أنّه قال في ذات نفسه: أريد أن أقول شيئًا يفرح له الإمام وأُثبتُ له به منزلتي ومستوى إيماني] – قال: «لَوِلائي لكم وما عرَّفَني اللهُ من حقّكم أَحبُّ إليَّ من الدنيا بحَذافیرها»؛ أي: إن الولاية التي أواليكم بها، وهي المعرفة التي منحني الله إيّاها حتى عرفت مقامكم، لو وضعوها في كفة ميزان ووضعوا الدنيا كلها بما فيها في الكفة الأخرى فوالله إنّي أحب الكفّة الأولى أكثر! مجرّد حبّي لكم! مجرّد ذلك! أي لو كانت الدنيا كلّها في جانب وقيل لي: "إن أردتَها فعليك أن تتخلّى عن هذا الولاء" فلن أفعل ذلك، ولقلتُ: خذوا هذا كلّه واتركوا لي ولاء أهل البيت (عليهم السلام)!
إنّه كلام رفيع جدًّا. أنا شخصيًّا لا أجرؤ على قول مثله. على أيّة حال، الرجل يقول للإمام الصادق (عليه السلام) محبّتكم عندي بهذه القيمة. برأيكم ما كان جواب الإمام له؟ قبل قراءة العبارة الأخيرة كنتُ أظن أنّ الإمام سيقول له: بارك الله فيك! أحسنت! طوبى لك! يالسعادتك! ماذا تتوقّع من ذلك؟ لكن الإمام لم يقل هذا. يقول: «فتبيّنتُ الغضبَ فيه، ثم قال (عليه السلام): يا يونس، قِستَنا بغير قياس! ما الدنيا وما فيها؟! هل هي إلّا سَدّ فَورَة أو سَتر عَورة! وأنت لك بمحبّتنا الحياة الدائمة»؛[7] أي: ماذا قستَ؟ وبماذا قستَه؟! لقد قستَ قياسًا ليس في محلّه أبدًا! وكأنّ يونس قال: تعجّبتُ! كنتُ أتوقّع أن يقول لي الإمام: مرحى لك، أحسنت، بارك الله لك في معرفتك، لكنه قال: قياسك هذا ليس في محله على الإطلاق!
أرهَفتُ سمعي لأصغي جيّدًا لما يقول الإمام (عليه السلام). قال [ما مضمونه]: ماذا تحصل من هذه الدنيا التي ذكرتَ، بكل ما فيها؟ «ما الدنيا وما فيها؟! هل هي إلّا سَدّ فَورَةٍ أو سَتر عَورة!» هذه الدنيا بكل ما فيها؛ من مجرّات وأقمار ونجوم، كل ما تنتفع به منها هو مطعم وملبس؛ فإن جُعتَ تُشبع بطنك، وإن عريتَ تلبس ثوبًا. ماذا غير ذلك؟ ذكرَ هذه الأمور على سبيل المثال، وهناك أمور أخرى تعلمونها. هذه هي الدنيا. أَتقيس هذا بمحبّتنا؟! «وأنت لك بمحبّتنا الحياة الدائمة»؛ فمحبّتنا بالنسبة إليك هي مما تستطيع به أن تنال الحياة السرمديّة! فما بالك تقيس بها إشباعَ بطنٍ أو سَتر عورة؟! إنّ محبّتنا هي مما تستطيع أن تنال به سعادةً لا نهاية لها! والسعادة اللانهائيّة هي التي لا نستطيع أن نعيّن لها زمانًا؛ (هُم فيها خالِدون)،[8] (خالِدين فيها أَبَدًا).[9] وهل هذه الأمور هي ممّا يقاس أحدها بالآخر لتقول: ولايتُكم أحبُّ إليَّ من الدنيا؟! ماذا كنت تتوقّع؟!
أراد الإمام (عليه السلام) بقول هذا أن يُفهِمه أنّ هذه المحبّة التي حصلتَ عليها من دون مقابل، هذه المعرفة التي نلتَها تجاهنا هي أكبر قيمة من الدنيا كلّها آلاف المرّات، لأنّك تستطيع بها أن تنال سعادةً لا نهاية لها. بأيّ مقدار أو حجم أو عدد يمكننا قياس اللانهاية؟ طلّاب الثانويّة جميعًا يعلمون جيّدًا أنّه ما من عدد مهما كبُر يمكن أن يقاس باللانهاية.
حين يجلس أفراد تلك الجماعة [الآنفة الذكر] إلى بعضهم البعض يقول الـمُظلِمون للنورانيّين: التفتوا إلينا لنأخذ شيئًا من نوركم. فيجيب هؤلاء: لقد فات الأوان. إن كنتم تريدون نورًا فارجعوا إلى الدنيا، هاهناك يُحصل على النور. أي إنّ علينا نحن الجالسين هنا، أنا وأنتم، أن ننتهز كل لحظة من عمرنا لنكسب المزيد من النور. اللحظات التي مرَّت مرَّت. حتّى لو عَمَّرنا، فهو لهذه اللحظة بالذات. هذه اللحظة ذهبَت ولن ترجع.
والآن ماذا كسَبنا في أعمارنا هذه؟ مثلًا أنا الآن في عقدي التاسع، وأنتم تعلمون كم عمركم. ماذا كسَبتم في أعماركم هذه التي أمضيتموها؟ صحيح أنّكم - وأقول هذا على سبيل المثال – جالَستُم الكثير من الصالحين، وارتَدْتم المساجد، والتحَقتم بالجامعات، وقاتَلتم في جبهات القتال، وفعلتم الخيرات، وشاركتم في عزاء سيّد الشهداء (عليه السلام)، ...إلخ، هذا ناهيك عن أنّنا نصلّي ونصوم أيضاً. لكن ما مقدار القيمة التي يمكن أن تحظى بها هذه الأعمال؟!
افترضوا أنّنا سمعنا اليوم شيئًا ما في المذياع، أو رأينا مقطع فديو في شبكات التواصل، فتسرّبَت إلينا الشكوك؛ (وَارتَبتُم)؛ يقال لتحمّس هؤلاء: (وترَبّصتُم وارتَبتُم)؛ فتَّشتم عن منافعكم العابرة؛ اليوم حزب كذا، وغدًا حزب كذا، اليوم أُصوّت لفلان، وغدًا لفلان، اعتمادًا على أنّه أيّهما أكثر مجلبَةً للنفع؟! أهذا هو الدين؟! أهذه هي نتيجة الحياة؟! أوَأعطانا الله العمر من أجل هذه الأمور؟! يومَ ندرك أيّ فُرصٍ ضيّعنا سوف نضرب على رؤوسنا بكِلتَي يدَينا، ولن ينفعنا ذلك شيئًا، إذ سيكون قد فات الأوان!
ببركة دماء هؤلاء الشهداء فلنرجع إلى أنفسنا قليلًا، ولننظر ماذا صنعنا؟! وماذا نحن نصنع الآن؟! في أّي طريق نسير؟! ونحو أيّ هدف؟! لماذا شارَكنا في مشروع الولاية؟!
قبل بضع سنين دعيتُ إلى حضور جلسةِ اختتام والتوجّه إلى السادة بالشكر. حين صرتُ خلف الميكروفون لأتحدّث اقتربَت إحدى الأخوات قائلةً: "دعني أتحدّث قليلًا."
قلتُ: "إنّه دوري، فلأتحدّث أنا، ثمّ أنتِ."
فقالت: "كلّا، أريد أن أتحدّث أنا الآن!"
السادة الذين كانوا حولي ثارَت حفيظتُهم أكثر لئلّا يكون في ذهن المرأة قصدُ سوءٍ وأنّها تنوي فعلَ شيء. لكنّها كانت مصرّة على أن تتكلّم ببعض الكلام. في النهاية استسلَمت، وناولتُها الميكروفون قائلًا: تفضّلي.
قالت الأخت: "أيّها السادة، أيّتها الأخوات، أيّها الإخوة، أنا لا كان إيماني قويًّا، ولا كنتُ أُصَلّي وأتعبّد بشكل صحيح، ولا أحبّ هذه الأمور أصلًا. كنتُ أدرُس في جامعة (...)، وكانت لي صديقةٌ تربطني بها علاقة حميمة جدًّا. وكانت تحب هذه الأمور جدًّا. كان قرارُها أن تشارك صيفًا في مشروع الولاية، وقد شاركتُ أنا لأجلها، من دون أن تكون لي أيّ رغبة في ذلك. في البدء كنتُ أحضر حصص الدرس كالـمُجبَرة. بعد حصّتين أو ثلاث وجدتُ أنّ الكلام جديد لم يخطر ببالي يومًا! في الحصة التالية أرهَفتُ سمعي أكثر قليلًا. وجدتُ أنّها أمورٌ جوهريّة جدًّا، وأنّنا كنّا لاهين بالعبثيّات؟! واضح أنّ النساء في هذا العمر منشغلات بالموضة والثياب وأمثال هذه الأشياء. وجدتُ أنّ هذا الكلام جادٌّ بامتياز. فقرّرتُ أن أصغي جيّدًا لهذه الدروس وأتناقش بها. اليوم، وبعد اجتياز هذه الدورة التي استغرقَت حوالي أربعين يومًا أتمنّى لو كانت هذه الحصص متواصلة وكنتُ هنا باستمرار! لقد جئتُ أقدّم الشكر للقائمين على هذا المشروع وأدعو لهم من الله بالموفقيّة."
قد يكون من الممكن أن تتغيّر حياة امرئٍ ومصيرُه في سوَيعات. أنا أعرف أناسًا حضروا حصص مشروع الولاية فعمل بعضُهم، لدى عودته، على تغيير الأجواء الثقافيّة المسيطرة على مدينته. في وسع الإنسان أن يفعل مثل هذه الأمور. بعض الناس يقومون بأعمال عجيبة جدًّا. يعرضونهم في التلفاز فيتعجّب كل من يراهم قائلًا: أوَيمكن أن يسير المرء بضع كيلومترات على حبل؟! أيّ جرأة يملك! فلو أراد المرء فعل شيء فإنه سيستطيع ذلك.
ما هو هدفنا من هذه الحياة؟ أمِن أجل أن يقول لنا أصدقاؤنا: مرحى، أحسنتم؟! أم لكي يزداد راتبنا بضعَمئة فَلس؟ أو لكي نعثر على فرصة عمل؟ أو لبعض الأمور المشابهة؟ ألهذا نعيش فحسب؟! إلى متى تدوم هذه الأمور؟! إلى أن يُنزلونا في القبر! أموجودة هذه الأشياء بعد ذلك أيضًا؟! أتوجد في القبر رواتب تصل إلى ملايين أو مليارات؟! وماذا عن الأشياء الأخرى؟! لأجل ماذا أريد أن أُنجز ما أُنجزه؟! كل هذا يعود إلى قضيّة أنّه: بأي نيّة أنجزتُ ما أنجزت؟ أنا قادر على أن أُحيّي شخصًا ما بدافعِ ما أُكِنّه له من احترام ومحبّة، أو أن أسخرَ منه! ألا يمكن ذلك؟ بوسع المرء أن يفعل الكثير من الأمور بهذه الصورة؛ مثلًا حين يكلّم أحدًا فإنّ باستطاعته أن يكلّمه بجدّيّة، أو بهَزل وسخريّة وخداع. بأي شيء تختلف هذه التصرّفات؟ إنّها تختلف في "النيّة".
لأجل ماذا أقول هذا؟ لأجل أن نأخذ قرارَنا من الآن بأن ننظر في نيّة كل فعل نريد القيام به، وبأيّ دافعٍ نقوم به؟ إنْ تفوّهتُ اليوم بكلامٍ فيه مصلحةُ فلانٍ أو ضررُ آخر، فلأجل ماذا قلتُ ذلك؟ ما هي نيّتي من ورائه؟ وماذا سيحصل؟ إنْ صوَّتُّ اليوم لهذا أو صوّتُّ غدًا لذاك، فلأجل أيِّ شيء؟ أجيب: "صوتي ملكي أنا". "أجَل، صحيح، صوتُك ملكُك أنت، ولن يُسائِلك أحدٌ الآن عن السبب، لكن هناك، حين تقول: (انظُرونا نقتَبِس من نوركم)، سأقول لك: ارجعْ إلى الدنيا وفتّش عن النور فيها! استعمِل مِلكَك هذا الذي تقول واحصَل به على النور! لقد فاتَ الأوان! لا أقول: اليوم سيعاقَب شخصٌ على أنّه: لماذا صوّتَّ لفلان؟ إذ سيجيب: إنه صوتي وأنا حُرّ به. لكنّ نتائج هذا الصوت ستظهر حين تتوسّل: التفتوا بوجوهكم إلينا لننتفع من نوركم! إذ سيقول لك أولئك: اُغرُب عن وجوهنا، لا جدوى من ذلك الآن! أصدقاؤك، مواطنوك، أهلُ حيّك، رفاق حزبك.. سيبخلون عليك حتّى بهذا المقدار من المساعدة، وهو أن يلتفتوا بوجوههم إليك لتنتفع من نورهم! لا بل لن يستطيعوا فعل ذلك، لأن الله لن يسمح لهم!
والآن ماذا نصنع لتتغيّر نّياتُنا؟! فنيّة المرء ليست في متناول يده ليقول: أَعمَل بهذه النيّة أو بتلك، بل إنّ لها مقدّمات، ولا بد أن يحصل شيءٌ ما لتكون النيّة بصورة معيّنة. النيّة هي ثمرةٌ من ثمار شجرة أفكارنا ومعتقَداتنا، وتعتمد على أنه: بماذا نحن نعتقد؟
إذا أردنا أن نسير في الطريق الصحيحة، الطريق غير الخطأ، والتي لا نندم إذا سلكناها، ولكي لا يقال لنا يومًا ما: "اغربوا عن وجوهنا، ارجعوا وراءكم إلى حيث كنتم وأَصلِحوا أنفسَكم،" فعلينا أن نصحّح أفكارنا وعقائدنا من الآن، هاهنا. واضح؟ فقد يسير المرء على نهج مُواتٍ سبعينَ سنة لكن عقيدَته فاسدة، فهو مخطئ. علينا أن نصحّح أفكارنا وعقائدنا قبل فوات الأوان. هذا هو مشروع الولاية؛ الغرض منه هو أن تعرف: ما هي الحياة الدنيا، ولأجل ماذا نحن نعيش؟
أتلو عليكم آية أخرى، أظن أنّها من سورة الحديد هي الأخرى. في السوَر التي تبدأ بقوله: (سبّحَ) أو (يُسَبّحُ) هناك مضامين عالية جدًّا. في الخبر إنّ كل من يقرأ هذه السوَر، وهي خمسة، في كل ليلة يكون من أصحاب صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف). وهذه الآية هي أيضًا في هذه السورة وهي: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَينَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الأَمْوالِ وَالأَولادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا وَفي الآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلَّا مَتاعُ الغُرُور).[10] الآية تبدأ بقوله: (اعلموا)؛ يعني: ثمة شيء أنتم لا تعلمونه وأريد أن أخبركم به لتعلموه. فلا يقال: (اعلموا) عبثًا؛ بل يقولون هذا لمن لا يعلم ويريدون أن يُعلِموه. يقول: اعلموا، لا تخطئوا في حساباتكم، القضيّة هي أنّ الحياة الدنيا (لَعِبٌ وَلَهوٌ)؛ السؤال: هذه الحياة الدنيا، التي تتهالكون عليها كل هذا التهالُك، وتُضيعون أعمارَكم من أجلها، وتبذلون فيها أحيانًا أرواحكم من أجل عيشٍ، أو بُغيةَ شَغلِ مَنصِب، أو لأجل واردٍ مادّي – هذه الحياة ما هي؟
أوّلًا هذه الدنيا عبارة عن لعب. تشُكّون في ذلك؟! انظروا كم من المال يُنفق على الألعاب الرياضية! في النهاية ترتطم قدمُ لاعبٍ بالكُرة صدفةً فتدخل الكرةُ المرمى، ويفوز الفريق، وتنهال الجوائز ويبالَغ بالتشريفات، وأمثال ذلك. لعلّ اللاعب لم يكن قاصدًا. إنّه لعب. هذه هي الدنيا. والأعجب نحن، الذين نسهر حتى ساعة متأخّرة من الليل نتفرّج المباراة! لربّما يتفرّج الناس الأفلام والمباريات وأمثالها حتّى الساعة الثانية بعد منتصف الليل؛ فيضرب فلانٌ الكرة، أو ترتطم قدمُه بها، فتدخُل المرمى، ويفوز الفريق! ثم يبدأ كَمٌّ هائل من التشريفات والاستقبال وتوزيع الجوائز و...إلخ. ثم ماذا؟! وكذا الحال بالنسبة إلى شؤون الحياة الدنيا الأخرى؛ لعبٌ، كلعب الأطفال؛ فُزتُ، خَسرتُ... هذا أوّلًا.
(وَلَهْو)؛ قد يكون المرءُ في منزله وحيدًا ويَضجَر، فيفتّش عن جدول كلمات متقاطعة ليَحلّه. إنّه لَهْو؛ لعبٌ ولَهْو.
ثم إذا كبر الإنسان وتجاوَز مرحلة الطفولة إلى المراهقة والشباب سيفكّر في التزيُّن قليلًا؛ يلبس ثوبًا جميلًا، سيصبح موديل ثيابه وقصّة شعره وشكل وجهه مهمًّا له. سيحبّ هذه الأمور على أيّة حال.
(وَتَفاخُر بَينَكُم)؛ وهو قولنا: كان أبي كذا وكذا، وكان جدّي كيتَ وكيتَ، نحن من عائلة فلان، أنا من منطقة كذا، نحن من مدينة كذا، فيُفاخر أحدُنا الآخرَ بهذه الأمور. ثم ماذا؟ أبوك كان هكذا، فما شأنك أنت؟ أبوك وجدُّك وأسلافُهم ماتوا جميعًا، ولم تحصل أنت منهم على شيء. أنت مَن تكون؟ أن يكون أبي كذا وكذا أو أن نكون نحن من سلالة كذا.. أهذهِ حياة؟!
لنفترض شخصًا اشتغَل، أو أتاه إرث من أبيه، أو أيّ شيء آخر، ومالُه يكفيه حتّى آخر عمره مهما أنفق منه، وهو لا ينقُصه شيء. يُودِع أمواله في مصارف لوكسمبورغ ليأتيه منها شهريًّا مبلغًا يعيش به، وليس هو محتاجًا أبدًا. لكنّه لا يَخلُد إلى النوم ليلًا حتى يجيل في ذهنه ما إذا كانت هذه الصفقة تدُرّ عليه ربحًا أكثر أم تلك؟ وفي النهاية لا يتمكّن من النوم إلّا بقُرص منوّم! ما يَشغَل فكرَه دائمًا أنّه: أيّ صفقة أَعقِد غدًا؟ أأَبيع دولارًا، أم يوروًا؟ ثمّ ماذا؟! إنّك ثريّ، ولو أنفقتَ من مالك حتّى آخر عمرك لن يكفيك أنت فحسب، بل سيكفي بضع أجيال من ذراريك أيضًا؛ (وَتَكاثُرٌ فِي الأَمْوالِ وَالأَولادِ). هذه هي الدنيا. لهذه الأمور نقول: دنيا!
إنْ بذلَ شخص جهدًا لكي يخدم الآخرين أو من أجل أن يتمكّن من نشر الإسلام، فهذا ليس من الدنيا، بل هو مِن طلَب الآخرة. الدنيا هنا تكون أداةً ووسيلة. فإنّما توصَف الدنيا بالحسَنة أو السيئة حين يَسعى المرء للدنيا نفسِها ويطلبها. أمّا حين يقال: لا بد أن تكون لديكم صناعات، أو تتوصّلوا إلى التكنولوجيا، أو تتطوّروا، وتخترعوا، فهو لكي تنشروا الدين، ولا تخضعوا للأعداء، ولتحفظوا عزّتكم التي منحها لكم الإسلام. هذه الأمور ليست من الدنيا، بل هي الإسلام، إنّها القيم الإلهيّة.
قُلنا ما قلنا لنعلم أنّ هذه هي ماهيّة حياتنا الدنيا. ثمّ لا يكتفي الله بهذا، بل يقول: أَضرب لكم مثلًا أيضًا: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَباتُهُ)؛ يقصد المزارعين الذين كانوا سابقًا يعتمدون أكثرَ ما يعتمدون على الزراعة الدَيمِيَّة. صحيح أنّ مزارعي عصرنا الذين تكثر المياه وأنظمة السقي الاصطناعيّة في أراضيهم يترقبّون الأمطار أيضًا، لكنّ المزارعين القدماء كانوا غالبًا يعتمدون الدَّيْم في زراعتهم؛ وهو حال أغلب محاصيل الحنطة التي تُزرع في غرب إيران؛ فمنهاج عملهم هو أنهم يبذرون الحنطة ويتركونها ليهطل المطر، ثم يأتون لحصادها. يقول الباري تعالى: تصوّروا هذا المثل جيّدًا: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَباتُهُ)؛ كمطر غزير هطلَ فاخضرَّت الأراضي، وفرح المزارعون فكان هذا المطر مثارًا لإعجابهم ودهشتهم إلى درجة أنّهم قالوا: "ما أغزره من مطر! ما أحسَنه من نتاج! و"الكفّار" هنا تعني الذين نثروا البذور على الأرض لتنبت، وليس المشركين. فحين يرى هؤلاء أنّ المطر هطل يفرحون غاية الفرح. ثم إنّ الأرض اخضرَّت وأعطَت نتاجها. وبعد بضعة أيّام من المطر والعواصف توقّف المطر؛ (ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا)، واصفَرّ الزرع. وبعد أن اصفرَّ جَفَّ، بحيث إذا هبَّت الرياح اقتلعَته وأطارَته بعد أن كانوا يحصدونه بالمناجل؛ وكأنّ شيئًا لم يكن.. وكأنّهم لم يبذروا في هذه الأرض بذرًا ولا زرعوا زرعًا. (ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا)؛ يتحوّل إلى علَف محطَّم.. إلى مجرّد قَش!
هكذا يضرب الله المثل للحياة الدنيا؛ يقول: إنّها تكون حينًا خضراء يانعة، يفرح بها الإنسان جدًّا، إذ يشاهد المناظر الجميلة، والأبنية، والأموال، وإذا بها تزول في رمشةِ عين من دون أن يدري ماذا حصل! هبَّت رياح الموت، وأخذَت كل شيء معها!
فما العمل إذًا؟ أنجلس مكتوفي الأيدي؟ ألا نسعى وراء شيءٍ أصلًا؟
فَافْقَه هذه الأمور لكي تُنفق عمرَك في شيء يكون له نتيجة فيما بعد؛ (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ)؛ فإنّ في الآخرة أشياء لا ندرك حقيقتَها حقّ إدراكها. وكذا هو حال ابن آدم في هذه الدنيا. أكُنّا نَعي، حينَ كنّا أطفالًا في الرابعة أو الخامسة، ما الذي يدركه الشباب في العشرين؟ وما الذي يستمتعون به؟ كلّا، لم نكن نعي ذلك. ولو أراد امرُؤٌ أن يصف اللذّة بأنها جيّدة، فسيقول: "إنّها حُلوة كما العسل." لكن أين العسل من هذه اللذّة؟!
والآن مهما قيل لنا: إنّ في الآخرة شيئًا نفيسًا؛ (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) فإنّنا لا نعي قيمة ذلك. أولياء الله حين ينطقون بكلمة (رضوان) تختلج قلوبهم وتتورَّد أنفسهم، أمّا نحن فنقول: "وما معنى الرضوان؟! سواءٌ أرادَ الله أن يرضى أو لا يرضى، ما شأني أنا؟! هل ستَشبع بطني؟!" بل لا نعلم أساسًا ما أثر رضَى الله علينا، وما اللذّة التي يمنحنا إيّاها. لكن حين يحبّ المرء أحدًا، ثمّ يرضى محبوبُه عنه فحينَها سيُدرك أيّ لذّةٍ سيجنيها من رضَى محبوبه عنه! ما أدرانا نحن ما معنى الرضوان؟! ثم إنّ كلمة "الرضوان" لم تتكرّر في القرآن الكريم كثيرًا، لأنّنا لا نعي ما هي!
يقول: إن أردتم ذلك فعليكم الإفادة من هذه الحياة الدنيا بالذات لنيل هذا في العالم الآخر. عليكم أن تجعلوا حياتكم في هذه الدنيا بالشكل الذي يرضى الله عنها، فإنْ رَضي الله فستكون النتيجة: (جَنَّاتٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها أَبَدًا)،[11] أمّا إذا انشغَلتم باللعب، والفوز في مباراة كذا، وتفرُّج فلم كذا، فهذه الأمور أيضًا ستجف غدًا، وينتهي كل شيء، ولن تَجنُوا شيئًا مفيدًا من أعماركم!
إنّنا إن أردنا الإفادة من أعمارنا خير إفادة فعلينا أن نكون عقلاء؛ وهو أن نكون أناسًا يتصرّفون بعقولهم؛ يفكّرون كيف يصنعون ما يفيدهم في حياتهم. هذا هو العقل. أليس كذلك؟ فالمجانين يُتلفون أموالهم، أو يحرقونها، أو يفعلون غير ذلك. أمّا العاقل فيريد أن يُفيد ممّا عنده ليحصل على نتائج نافعة. فإن كنتم عقلاء فعليكم بالتفكير في أنّ هذه الحياة قصيرة؛ عشر سنوات، أو عشرون سنة، أو مئة سنة. كم إنسانًا تعرفون عمَّرَ مئةَ عام؟ يُعَدّون على الأصابع. عليكم أن تنفقوا هذا العمر بطريقة تحصلون معها على السعادة الأبديّة. هذه العبقريّة تتأتّى من أمثالكم، إن عرفتم كيف تتصرّفون. إذًا علينا أوّلًا أن نكسب المعرفة؛ أن نعلم لأجل ماذا خُلقنا؟ وماذا علينا أن نصنع؟ أيّ شيء رِبحُه أكبر؟ أيُوجد مَن هو أعلم من الله بأنّه ماذا علينا أن نصنع؟ كل مَن يحبّكم فإنّ حبّه لكم – في النهاية – من أجل أن يجني منكم نفعًا، أو يأنس معكم على أقل تقدير. فإن لم يكن هذا ولا ذاك فهذا أيضا اتركوه؛ فكم تعرفون من أصدقاء أو محبّين خَرَّبوا صداقتهم مع أصدقائهم بعد مدّة، بل تحوّلوا إلى أعداء لهم؟ فإنّ المحبة والصداقة تبقى ما جنى المرء من ورائها خيرًا وبركة، كأن يأنَس بالصديق أو الحبيب على أقل تقدير. إنّ مَن لا يتوقّع من الإنسان أيّ مقابل، ويحبّه في الوقت ذاته أكثر من أيّ شخص آخر هو الله تعالى. فإلى مَن يحتاج الله؟ ومَن ذا الذي هو أشد منه رحمة ورأفة؟ فلو شئنا أن نعرف ما الذي علينا صنعه لننال أكبر سعادة فعلينا أن نرى ما الطريق والنهج الذي وضعَه الله لنا. إذًا علينا أوّلًا أن نفهم القرآن والدين. نعم، إنّ لهذه المعرفة مراتبَ ودرجاتٍ، لكن علينا – على الأقل – أن نصل إلى مراتبها الضروريّة.
نسأل الله تعالى ببركة هؤلاء الشهداء وأمثالهم أن يهبَنا جميعًا من المعرفة ما يوقِظنا ممّا نحن فيه من الغفلة، فنعرف أنّه: لأجل أيّ شيء نُنفق أعمارنا لكي ننعم بالحياة الأبديّة، والسعادة الدائميّة. هذا النهج هو ما يحبّه الله، وقد بيّنه لنا في قرآنه الكريم ودينه الحنيف.
وفّقكم الله وإيّانا
والسلام عليكم ورحمة الله
[1]. الزمر: الآية56.
[2]. الحديد: الآية1.
[3]. المصدر نفسه: الآية12.
[4]. المصدر نفسه: الآية13.
[5]. حسين كُرد شبستري، اسم واحدة من قصص البطولات الشعبية الإيرانية المؤلَّفة على الأرجح في العصر الصفوي. [المترجم]
[6]. الحديد: الآية14.
[7]. ابن شعبة الحراني، تحف العقول: ص379-380.
[8]. البقرة: الآية25.
[9]. النساء: الآية57.
[10]. الحديد: الآية20.
[11]. التغابن: الآية9.