بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.
أسأل الله تعالى أن يوفّق الجميع إلى خيرِ ما يحبُّ ويرضى، ويغفرَ لنا ويحفظَنا من شر الشيطان الرجيم ببركتكم.
تخيّلوا - ولو أنّي لا أظن أنّه يوجَد مثال حقيقي لهذا الشخص، لكن على سبيل التخيّل والافتراض فقط – أنّ شخصًا يحمل شهادة الدكتوراه في علوم الحاسوب أو علم النفس أو أي اختصاص آخر، وهُيِّئت له فرصة عمل يدُرّ عليه دَخلًا جيّدًا، فإذا به يشتغل بعمل مُتدَنٍّ ضعيف الوارد! أو بروفسورًا متخصصًا وله ابتكارات وأعمال في أحد فروع الهندسة ، عُرضَت عليه وظيفة أو أَسّسَ هو شركةً يستطيع من خلالها إنجاز أعمال جبّارة، ولكنّه يُعرِض عن هذا كلّه قائلًا: "كفاني لقمةَ خُبز وجبن أُشبع بها بطني، ولننظر ما الذي سيحصل؟!" كيف سيكون حكمكم على شخصٍ كهذا؟ لا أظن أنّ أحدًا سيثني على فعله هذا، بل سيقال له: "رأسمالك يضيع هدرًا! لماذا إذًا أضنَيتَ نفسك بكلّ هذه الدراسة؟! من أجل ماذا جنيتَ كل هذه المؤهّلات؟! ما فائدة علم الإدارة الذي تُتقنه؟!"
يبدو أنّ هذا حُكم عام، وأنّ منطق أصحاب أي ديانة أو عِرق في كل مكان وبلد هو أنّه لا ينبغي للمرء أن يضيع ثروتَه ورأسماله سُدًى، بل عليه أن يرى كيف له أن ينتفع من رأسماله هذا خيرَ انتفاع في كل زمان وتحت أي ظرف. لكن معظمنا - مع شديد الأسف - لا يتصرّف بهذه الطريقة إزاء رأسماله المتمثّل بعُمره؛ فلو قيل يومًا إنّ هناك خطرًا وإنّ البقاء على قيد الحياة يكلّف مبلغَ كذا من المال فإنّنا على استعداد لأن نُنفق ما في وسعنا لكي نبقى ليومٍ أو يومين أو شهرٍ أزيد على قيد الحياة، لكنّنا نملك عمرًا أُعطينا إيّاه بالمجّان طوله سبعون أو ثمانون عامًا، أو أزيد أو أقل، وننتظر كيف نُمضيه! ولسنا نفكّر كثيرًا بالنتائج المستحصَلة منه! يتقلّب بين ليلٍ ونهار ويتصرَّم كيفَما اتّفق!
يبدو أنّه ما من رأسمال أثمن من العمر، لأنّ شرط الانتفاع من كلّ شيء هو الحياة. لكن ما من شيءٍ نبيعه أبخسَ من رأسمال العمر؛ نبيعه بثمن رخيص جدًّا، وبكل سخاء! فإن لم يكن هناك عمل [مفيد] نقوم به ترانا نتفرّج فلمًا، أو نحلّ كلمات متقاطعة! نحاول أن نُقَضّي الوقت بطريقةٍ بحيث لا نفهم كيف انقضى!
إنّ الهدف الذي جاء معظم الأنبياء من أجله هو: اعرفوا قدرَ أعماركم؛ (وَالَّذينَ هُم عَنِ اللَّغوِ مُعرِضُون)؛[1] لا تفعلوا ما لا جدوى منه! لكنّنا أساسًا لا نفعل ما له جدوًى وفائدة إلّا قليلًا! ناهيك عن أنّ أكثر أعمالنا ليست عديمة الفائدة فحسب، بل مضرّة أيضًا! أليس من المناسب أن نجلس ونفكّر، ونتشاور ونتبادل الرأي مع الأصحاب في أنه: ما النفعُ الأفضل الذي بوسعنا جَنيُه من عمرنا؟! أخشى أن يأتي يوم نَندم فيه، ولاتَ حينَ ندَم!
(وَأَنذِرهُمْ يَومَ الحَسرَة)؛[2] يقول الله تعالى لنبيه الكريم(ص): أنذر الناس من يوم ستتحسّرون فيه أنْ: وا ويلاه! كم من عمل كان بوسعي أن أعمله ولم أعمله! لكن فات الأوان. طوبى لأولئك الذين كانوا قد علموا ماذا يصنعون فانتفعوا من لحظات عمرهم على نحو أفضل. ليوفّقنا الله لأَنْ نتنبّه أحيانًا لنفكّر – على أقل تقدير – في أنه ماذا نصنع لكي لا نندم فيما بعد؟
البعض يعرف قَدْر عمره فيسعى، إذا وفّقَه الله تعالى، لفِعل ما ينبغي له أن يفعل، بينه وبين الله، من دون أن يعلم أحد به! وإنّ الله سبحانه يُبرز في هذا المضمار أشخاصًا، ويقدّمهم للناس أن: انظروا! أنتم أيضًا تستطيعون أن تكونوا مثل هذا الشخص! حياة الشهيد الحاج قاسم سليماني (رحمه الله) كانت حقًّا آية عظمى؛ قائد جيش أو حرس يستشهد فيشيّعه الناس بهذه الطريقة! يحبّونه أيّما حب! تنهمل دموعهم لمجرّد ذكر اسمه! هذا فقط أجرُ الدنيا؛ جانب صغير من الأجر الذي أعدّه الله له أَظهَره هنا لينتفع الآخرون منه. رجل قروي، كان لمدّة يعمل عاملًا. لم يكن من أهل مركز المحافظة ولا مدينة فيها، بل هو من قرية من قرى "راوَر"، أحد أقضية محافظة كرمان! هذا أنموذج شاهدناه بأمّ أعيننا، وإلّا فإنّ شخصيّة سماحة الإمام الراحل (قدس سره) أعجب منه؛ رجل معمَّم، شأنه شأن مئات، بل آلاف المعمّمين في الحوزات العلميّة، وقد كان في زمانه مُدرّسون حوزويّون أشهرَ منه، لكن الآن لا أحد يتذكّر مَن كانوا، أما هو فقد هزّ العالم! أعظم شخصيّات العالم خضعَت له؛ خضعَت له في أعماقها، على الأقل، إن لم تخضع في الظاهر! ما القاسم المشترك بين قائد عسكري وعالِم دين؟ الظاهر أنّ القاسم المشترك بينهما هو أنّ كليهما عملَ مرضاةً لله، وإلّا ما وجه الشبه بين العمل العسكري ونهج عالِم الدين؟! لقد آمنَ هذان الرجلان أنّهما عبدان لله وعليهما أن يصنعا ما يريده منهما خالقُهما.
يبدو أنّ أفضل خدمة يقدّمها إنسان للبشريّة هي أن يعلم ما عليه هو صنعه، ثم يُخبر الآخرين بذلك. فلربّما بذلَ جهودًا كثيرة أخرى، غير أنّه ما لم يدرك ما الذي عليه صنعه فإنّ جهوده جميعاً تذهب سُدًى. أوّلًا عليه هو أن يعلم ما الذي عليه صنعه، ومن ثم يحاول إفهام الآخرين ذلك. إنّ خير خدمة للآخرين هي أن يُخبرهم كيف عليهم الإفادة من أعمارهم. للأسف إنّنا قلّما نُعير هذا الموضوع أهمّية! نفكّر جيّدًا جدًّا في أن يكون لنا وارد مادّي؛ وإنْ بعدَ تسعة أو عشرة أعوام؛ أقول في ذات نفسي: "أحصل على شهادة الدكتوراه، وأُوظَّف. كم سيكون راتبي حينها إن شاء الله؟!" أمثالنا[3] بدأ يومُ حسرتهم نوعًا ما؛ فقد ذهبَ الشباب، وخارَت القوى، وصرنا ندرك – شيئًا فشيئًا – من خلال ما بقي من قوّة العقل والفكر والبدن، أنّنا أخطأنا بعض الشيء؛ فلم نعرف قَدْر عمرنا كما ينبغي، لكن حين كنّا نواجَه بهذا الكلام ونحن في الثلاثينات مثلًا كنّا نجيب قائلَه: "دعكَ من هذا يا رجل! دائمًا الكلام عن الموت!"
اللافت أنّنا جميعًا إذ نطلب لذّة الدنيا وسعادتها وراحتها نُخطئ في الطريق الموصلة لهذه السعادة! فمن المؤكّد أنّنا سمعنا كثيرًا عن أنّ بعض الأغنياء لا ينامون ليلًا إلا بقُرص منوّم، ولعلّنا رأينا ذلك ولا سبيل لإنكاره. أنا شاهدتُ هذا؛ إنّهم يعيشون في قلق وهَمّ كبيرين من أنّه "ماذا عن الربح الفلاني؟! كيف أنجزنا تلك الصفقة؟! في صفقة كذا خسرنا!..."، لا يَهنَؤون بنومِ ساعتين ليلًا، فيلجؤون إلى الأقراص المنوّمة.
حين كنتُ أعيش في يزد، وهي مدينة شحيحة المياه، ولم يكن آنذاك شبكة أنابيب إسالة، وكنا نستخرج ماء الشرب من الآبار بالدِلاء، كان حد البئر [حوالي] أربعين مترًا؛ أي كان لا بد من الحفر أربعين مترًا للوصول إلى الماء. ثم بعد عمليّات الحفر النهائية كان يصل عمقه إلى ستّين مترًا. وكان ثمّةَ أشخاص حِرفَتُهم السقاية؛ كانوا يأتون إلى المنازل ليُخرجوا الماء من البئر بواسطة دولاب البئر والدَلو، فيملؤون مخازن الماء والأحواض، لاستعماله للشرب والأغراض الأخرى. هذا كان عملهم. وكان في منزلنا أيضًا حوض كبير، وكان ثمّةَ سَقّاء يأتينا مرّةً في الأسبوع. كان إذا أتى صباحًا ينهمك بالعمل على دولاب البئر لإخراج الماء حتّى الظهيرة. وكان غَداؤه خبز شعير مع مخيض الكشك وشيء من الثوم؛ كان يبرش الكشك الجاف ويضيفه إلى المخيض، ثم يقطّع خبز الشعير اليابس إلى قطع ويضيفها إلى مخيض الكشك لتنقع، ويضيف إليه بعض الثوم. كان السقاء يأكل هذه الأكلة بنَهَم شديد ثم يأخذ إغفاءة قصيرة. بعد ذلك ينهض مرّةً أخرى ويبدأ عمله على الدولاب من جديد. والآن تخيّلوا مشاكل هذا الشخص العائليّة، وأصناف الراحة التي يعيشها ليلَ نهار في منزله! من ناحية أخرى كنا نعرف تجّارًا ميسوري الحال يملكون من الثروات الضخمة والبساتين والمزارع ما لا يُعلَم كم يومًا من السنة تسنح لهم الفرصة لزيارتها! ثم إنّ مشاغل الحياة والصفقات والتجارة والربح والخسارة، وصعود الأسعار وانخفاضها، كانت تأخذ من أذهانهم حيّزًا ما يضطرّون ليلًا إلى أخذ أقراص منوِّمة لكي يناموا بعض الوقت! ثم إنّ هذه دنيانا! فإن أراد المرء راحة الدنيا فإنه مخطئ، يتخيّل أنّها تُستحصَل في هذه الأمور!
من المناسب للمرء بين الحين والآخر أن يتفكّر لسوَيعات فيما إذا كان هذا الكلام حقًّا أم باطلًا؟! فإن كان باطلًا ارتاحَ بالُه؛ إذ سيسعى، على الأقل، وراء ملذّات الدنيا التي تشغَل بالَه. لكن ماذا لو صدَقَ الأنبياء (عليهم السلام) في أنّ وراءنا حساب؟! ماذا عسانا نصنع حينذاك؟! فلأحسبها على الأقل أنّها إحدى حالتين: إمّا حق وإمّا باطل؛ فإن كانت حقًّا، أخذتُ الأمور بجدّية، وإن كانت باطلًا فلأُرِح بالي من هذه الناحية، فهي مجرّد أكاذيب؛ (إِنْ هذا إِلَّا أَساطيرُ الأَوَّلين)![4] لكن حين لا يصدّق المرء ذلك ولا ينكره، ولا يكون في يده دليل على التصديق أو الإنكار ويقول: فلننظر ماذا سيحصل! فلأُمضِ هذا اليوم أو لأعبُر هذه المرحلة، أو لأَجتَز هذا الفصل ولأنظر ماذا سيحصل! فسيرى أنّه انتهى هذا الفصل، وتصرّمَت هذه المرحلة، ولم يحصل شيء!
أذكُر أحدَ أقربائنا في طفولتي أني لم أره يومًا متعجّلًا، أو قلقًا، أو منزعجًا؛ أو يقول مثلًا: واويلاه! ماذا سأصنع؟! ما الذي حصل؟! بل كان دائمًا هادئًا مطمئنًّا. كان لدينا اجتماع عائلي أسبوعي كل عصر جمعة. لا أذكر أنني رأيتُه يومًا عابسًا أو منزعجًا! كان في منتهى الهدوء! وما كان أحدٌ منزعجٌ يجلس إلى جانبه ويرى حالَه إلّا ويشعر بالطمأنينة! كان يندر أن تمرّ عليه ساعة لا يذكر فيها الله تعالى. كان يكلّم كل صاحب مشكلة بهدوء وابتسامة؛ فإن كان حزينًا واساه، وأرشدَه. ما كان يفكّر في أنه: أوه! ماذا سأصنع؟! لماذا جرَت الأمور بهذا الشكل؟! كانت حياته بسيطة وما كان يملك شيئًا ذا بال؛ عاشَ في منزل مستأجَر حتى آخر عمره، وكان يعمل محاسبًا في متجَر.
(أَلا بِذِكرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوب)؛[5] الطمأنينة هي في ظل ذكر الله تعالى فقط. وما معنى ذكر الله؟ كيف للمرء أن يعرف أنّ هناك أحدًا يحبّه أكثر من حبّه هو لنفسه مئة مرّة؟ يريد خيرَه. وهو أحَنّ عليه من ألف أم. وهو قادر على كل شيء، ولا يعجز عن شيء أبدًا. وهو دائمًا يقول: "تعال إلى جانبي! تعال أساعدك!" أما نحن فنقول: "كلا! لا شأن لنا بك!"
لو كان في مدينةٍ ما شخصيةٌ ما لها منزلة مرموقة ومنصب رفيع وسلطة، وباستطاعة المرء أن يلجأ إليها عند الشدائد، فكم سيفتخر من أنه: "أنا صديق فلان"؟! أما مع مَن خلقَ العالم كله بكلمة واحدة هي: (كُن)[6] فلا نريد أن نتصادق! هذا الذي يرفع عاملًا بسيطًا إلى هذه المنزلة حتى أنّ ملايين البشر يبذلون المتاعب من أجله! إنّ هذه لاجتماعات عجيبة لا مثيل لها في التاريخ أبدًا! فعلٌ كهذا هو وحده قادر عليه، أما نحن فنقول: "كلا، نحن من فعل هذا!" هو يقول: "بُنَيّ، إني أريد خيرك، أنت لا تدرك! أصغِ لكلامي! كيف تصغي لكلام طبيب كافر وثَنِيّ؟! ألا ترتضيني بقدر ما ترتضيه هو؟!" وإن أردنا أن نَصدُق القول لقلنا: "كلا، لا نرتضيك!" لكنّه مع كل ذلك لا يتركنا [نواجه مصيرنا لوحدنا]!
هناك مقطع فديو سُجّل لمغَنٍّ أمريكي زنجي، كان مسيحيًّا واعتنق الإسلام، يقول فيه مخاطِبًا اللهَ تعالى: "إلهي، لقد خلقتَني على هذه الصورة. صنعتَ بي كذا وكذا منذ طفولتي [ويُحصي نِعَم الله عليه]، لكن ماذا فعلتُ أنا؟! لم أذكرك لحظة.. نسيتُك! حتى بلغتُ سنّ الرُشد؛ حيث أمرتَني أن أفعل أمورًا وأنتهي عن أخرى. لكنّي تركتُ ما أمرتَني بفعله، وفعلتُ ما نهيتَني عنه! أساسًا كان من المناسب أن تضربني، أن تُهلكني، لكنك قلتَ لي بحنُوّ: تعال إليّ! كُفّ عن أفعالك هذه. أنا راضٍ عنك. تعال! وهذا من لطفك أنت. فجئتُك يومًا أو يومَين، ثم ما لبثتُ أن عُدتُ إلى سابق سيرتي. ناديتَني أنْ أُقبِلَ عليك بضع مرّات، وقبِلتَني قائلاً: ما من حسنةٍ تصنعها إلّا وأُثيبُك عليها بعشر أضعافها! شجّعتَني على فعل الخير، وأيضًا لم أفعله! فقلتَ لي: تعال، إن كانت لديك سيّئات فسأغفر كل ما مضى من سيئاتك!" ثم صار يتلو الآيات المتّصلة بهذا الموضوع، وأخذ بالبكاء! قائلًا: "لستُ أجد يا إلهي من هو أحبُّ منك. وأيضًا لا تذرني أواجه مصيري لوحدي!"
لو سألَنا الله تبارك وتعالى يومًا: "حسنٌ! لقد رأيتَ شخصيّات العالم كلّها، رأيتَ كيف أصبح أولئك المتّصلون بي. على أنّ هذه دنياهم فقط، آخرتُهم ستشاهدُها فيما بعد. حسنٌ! بأيّ منطق تجاهلتَ هذا كلّه؟! أما كان لك عقل؟! ألم أمنحك عقلًا؟! لقد منحتُك إيّاه، لكنّك لم تفكّر به!"
(لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بِها)؛ أي لهم عقول لكنهم لا يستعملونها. (وَلَهُم أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُون بِها)؛ لهم أعين، لكن لا يرون حين يتحتّم عليهم الرؤية! (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها)؛ لهم آذان لكن لا يسمعون بها الكلام الموزون المنطقي، (أُولئِكَ كَالأَنْعامِ بَل هُمْ أَضَلّ)؛ الحمار لا يدرك، لكنكم كنتم قادرين على الإدراك! فما السر؟ (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُون)؛[7] يُنَكّسون رؤوسهم ولا يسعون إلّا خلفَ بطونهم وراحتهم! هذا هو السر. فالذين ترَقّوا وسَموا كانوا قد أعمَلوا عقولَهم وسألوا أنفسهم: ماذا نصنع لتقليل المخاطر، وزيادة المنفعة؟ والأعجب هو حين يقول المرء: "أعرف"، ثمّ إذا آنَ أوانُ العمل، لم يفعل شيئًا!
برأيي إنّ من أعظم ألطاف الله علينا أنّه على الرغم من كل تعاساتنا وقبائحنا، من أنّنا لا نتوجّه إلى الله، ونقول: "وما هو الله؟ إنّنا لم نرَه ولم نسمعه!" فقد أرسلَ إلينا أناسًا وقال: "انظروا إلى هؤلاء! اجعلوا محبة هؤلاء واسطة لدَيّ، وسأقبَل بذلك!" لكن هذا الكلام أيضًا لا نصغي إليه.
في أحد أسفاري إلى الهند قال رجل: "الهنود مقسَّمون إلى بضع طبقات؛ أمّا طبقتُهم الأرفع فهم رجال الدين، وهم علماء الوثنيين. هؤلاء يشكّلون الطبقة الأرفع من الهنود. وإنّ فئة من هؤلاء جعلوا لأسمائهم لاحقةَ (حسيني)؛ على سبيل المثال يُسمّي نفسَه: (حُسيني راهب). هؤلاء يحبون الإمام الحسين (عليه السلام)؛ إنّهم وثنيّون، لكن يحبون الإمام الحسين (عليه السلام). ويوم التاسع من المحرم هو يوم عزائهم، وفيه يجمعون حطبًا من الغابة ويضعونه في ساحة كبيرة ويشعلونه، حتى إذا استحالَ جمرًا مشَوا عليه وهم يتلون المراثي!
إذًا لدينا شخصيات يحبّها الهنود المنكرون لله! لكن ماذا عنا نحن؟!
والآن، هذه الأيام مرتبطة بمولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام). كتب "سليمان كتّاني"، الكاتب اللبناني المسيحي المعروف [ما مضمونه] أنّه ثمة في العالم أناس حاولوا أن يكونوا لمجتمعاتهم أبطالًا في مجال اختصاصهم. أن يكونوا أبطالًا بارزين، أن يكونوا الأوائل. ويضرب مثلًا: هناك ملوك، وأغنياء، ومقاتلون، قد فعلوا كذا وكذا. وهناك رياضيّون حصدوا أوسمة الصدارة في العالم. هؤلاء سَمَّوا أنفسَهم أبطالًا. ويُوغِل في توضيح ذلك ثم يقول [ما مضمونه]: "فاطمة الزهراء (عليها السلام) - برأيي - بطلة؛ بنتٌ في الثامنة عشرة ضحَّت بكل ما لديها من أجل هداية البشر. بكل ما لديها!" رجل مسيحي ألّفَ في السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كتابًا هذه خلاصته.
نحمد الله على أن أمورنا الثقافية تغيّرَت كثيرًا بعد انتصار الثورة الإسلامية، لكن ما زال في زوايا أعماق قلوب البعض فكرة أنّ: "علينا أن نصنع ما يسجّل لنا موطئ قدَم في المجتمع الغربي "المتحضّر!" لكي يُعِيروا لنا أهمّية! ولئلّا يقولوا إننا متخلِّفون! فإنّ القيمة هي في كل ما يُعجَبون به هم!" هذا ما يعتلج في سويداء قلوبهم؛ يبوحون به حينًا، ويسكتون عنه حينًا آخر.
نسأل الله عز وجل أن يجنّبَنا هذه الغفلة، فنُفيق قليلًا من رقدَتنا، ونُجيل الفكر أكثر. وأفضل دافع لذلك هو أن نفكّر في أن لا نُتلف أعمارنا، وإلا سنندم حين لا يعود في اليد حيلة. فجميع الأمور الأخرى يمكن – بشكل من الأشكال – إيجاد البدائل لها أو تداركها، إلّا العمر، فكيف يُتدارَك إذا ضاع؟! (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحًا فيما تَرَكْتُ كَلّا)؛[8] ساعةَ الموت يقول الإنسان: أمهلني هُنَيهَة، ولو يومًا واحدًا، فيأتي الجواب: "كلّا، فاتَ الأوان!"
وفّقَنا الله تعالى لمحاولة العمل على نحو أفضل على معرفة النهج الصحيح، والعمل به، وتعريف الآخرين به.
[1]. المؤمنون: الآية3.
[2]. مريم: الآية39.
[3]. سماحة الشيخ يقصد نفسه وكبار العمر [المترجم].
[4]. الأنعام: الآية25.
[5]. الرعد: الآية28.
[6]. يس: الآية82.
[7]. الأعراف: الآية179.
[8]. المؤمنون: الآيتان99-100.