بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.
اللهُمّ كُن لوليِّكَ الحجّةِ بنِ الحسن، صلواتُكَ عليهِ وعلى آبائِه، في هذهِ الساعَةِ وفي كلِّ ساعةٍ، وليًّا وحافِظًا وقائِدًا وناصِرًا ودَليلًا وعَينًا، حتّى تُسكِنَه أرضَكَ طَوعًا وتمتِّعَهُ فيها طويلًا.
على الروح الطاهر للإمام الخميني (رضوان الله عليه) وجميع أساتذتنا وذوي الحق علينا وأرواح شهداء الإسلام العظام نهدي للجميع ثواب الصلاة على محمد وآل محمد. أشكر المولى العلي القدير على أن أمَدّني بالحياة وحباني بالتوفيق لأحضر مرة أخرى في هذا الحشد النوراني وأشهد افتتاح عام دراسي جديد لخدمة مقام ولاية الله العامة، بقية الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف)، وخدمة الإمام القائد الخامنئي بصفته نائبه بالحق في هذا العصر، وأتقدم بفروض احترامي للحضور علّهم يدعون لي بحسن العاقبة بإذن الله تعالى. ومن أجل أن يحظى المجلس باهتمام الإمام صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف) ورعايته عطّروه مرة أخرى بالصلاة على محمد وآل محمد.
كلما طعنتُ أكثر في السن غدوتُ أكثر يقينًا وإيمانًا بأن أعظم خدمة يمكن أن تقدَّم للمجتمع البشري هي أولًا أن نسعى لبلورة فهْم صحيح لعقائد الإنسان وأفكاره والنظريات الأساسية الدخيلة في حياته، وثانيًا أن نبذل جهدنا في نشرها، وهذا الأمر - في الغالب - قلّما يفكر فيه المرء بنفسه في أوائل حياته، خصوصًا في عالم اليوم المشحونة أجواؤه بالـمُلهيات ودواعي الغفلة، فما إن نفتح أعيننا وأينما نصغي بآذاننا نجد أن الكلام يدور حول لذات الدنيا وقضايا الساعة، فإن كبرنا قليلًا يتحول الحديث إلى القضايا الاجتماعية والسياسية، أما أنه مِن أجل ماذا خُلقنا؟ وماذا علينا أن نصع إذ جئنا إلى هذه الدنيا؟ فهذا أساسًا غير مطروح. هذا بالطبع إذا اعترفنا بأن لنا خالقًا! وإلا فإن السؤال سيكون: هل إننا خُلِقنا؟ أم وُجِدنا هكذا بالصدفة؟ وإن كنا مخلوقين أخَلَقنا أحدٌ لهدف معيَّن؟ أم خلَقَنا لمجرد لهوه ولعبه؟ وإن كان لخَلْقه إيّانا هدف، فما هو هذا الهدف؟ كيف لنا أن نعرفه ونكتشف السبيل الموصلة إليه؟ ثم ما الشروط الواجب توافرها لتحقق هذا الهدف؟ وما هي الموانع والآفات التي تواجهنا في هذا الطريق لكي نجتنبها؟ هذه أهم الأمور التي ينبغي لكل عاقل في هذا العالم أن يفكر فيها. وهي – إجمالًا - الأمور ذاتها التي طرحها الأنبياء تحت عنوان أصول الدين.
بدايةُ تحصيلي الدراسي في العلوم الدينية كانت في حوالي العاشرة أو الثانية عشرة من عمري والآن مضى عليّ أكثر من سبعين عامًا في هذا المضمار. في تلك الآونة حين استهللنا دراستنا الحوزوية كانت عملية تحصيل العلوم الدينية، سواء في مدينتنا نحن، وهي "دار العبادة"،[1] أو في المدن الأخرى، بل في الحواضر العلمية الكبرى، محدودة جدًّا وترزح تحت ضغوط شديدة، بل يمكننا القول إنها مرَّت بظروف استثنائية. بل يجب أن أعترف بأن ظروف حياتي، وبالخصوص ظروف تحصيلي الحوزوي في ذلك الزمان كانت بحيث لو خطرَت مثل هذه التساؤلات في بال أحد لم يكن أساسًا ليجد المجال لإثارتها أو ليجد مَن يطرحها عليه أو يحصل على جواب مُقنع لها، أو على الأقل نحن لم نكن نجد ذلك. لكن الله تعالى – على أية حال – حبانا بالتوفيق فكان من ألطافه علينا أن تمكّنّا هنا وهناك، في قم أو مشهد أو النجف الأشرف، من أن نتتلمذ عند بعض الأعلام. وشيئًا فشيئًا صار يتبادر إلى أذهاننا أنّ علينا التفكير في هذا المجال أيضًا وهو أنه: ما هو أصل القضية؟
الحاجة إلى فهم هذه القضايا اليوم هي أشد بكثير مقارنة بذلك الزمان الذي أشرتُ إليه حيث كانت ظروف تحصيل العلم فيه في غاية الصعوبة، كما أن العوامل الملهية عن هذه القضايا والمانعة لها تفاقمَت هي الأخرى، لكن مشيئة الله تعالى اقتضت بأن تكون الأرضية لطرح أسئلته وكذا لتقبّلها من المراهقين والشباب إذا طُرحَت أوسع بكثير من السابق، وهذا مدعاة للأمل بالمستقبل، ولعل السبب وراء تركيز الإمام القائد الخامنئي (حفظه الله) كل هذا التركيز على قضايا الشباب والاهتمام بتنشئهم وإعدادهم هو تحديدًا ما يمتلكه سماحته من إحساس ومعرفة بنفسية الشريحة الشابة وصفاء فطرتها وما نَمّاه الله تبارك وتعالى في نفوس الشبيبة من استعداد لمعرفة الحق وقبوله وانتهاج نهجه. بالطبع ثمة لذلك عوامل طبيعية أيضًا وإن الله جل وعلا يُنجز أطروحته في هذا العالم من خلال أسباب معروفة تقريبًا.
ولو كنتُ أنا شخصيًا أجلس في غرفتي وحيدًا لما تركني عقلي على حريتي أفتش عما آكل وما ألبس فحسب؟ مع أني بحاجة ماسة إلى هذه الأمور، إذ لن يذر لي فرصة إلا ويثير تساؤل: ماذا أنت؟ وما الذي تنوي صنعه؟ وإلى متى أنت حي؟ وبماذا ينبغي أن تنفق سِنِيّ عمرك؟ وماذا سيحصل في نهاية المطاف؟ حدسي يقول إن هذه التساؤلات كامنة في أعماق وجدان شريحتنا الشابة وهي تقضّ مضاجعهم، والشاهد على حدسي هذا هو التساؤلات الكثيرة التي تُطرح بكل إلحاح في مثل هذه المجالات، وأحيانًا بنبرة التهديد؛ من أنه: إن لم تجيبونا عليها فسننحرف! أو أن مسؤوليتها في أعناقكم! ومن الناحية العملية أيضًا فإننا أينما توجهنا نجد الشبان – في الغالب - يطرحون تساؤلات مُلحة جدًّا ولا يقنعون بالأجوبة السطحية المقدَّمة لمجرد إقناعهم، بل يتطلبون في إثرها حلًّا جذريًّا لتساؤلاتهم، وهذه نعمة عظمى لمجتمعنا. على أن الأمر لا يقتصر على مجتمعنا فحسب، فالرسائل التي تصلنا من الخارج أو الشباب الذين نلتقي بهم أثناء رحلاتنا خارج البلد تشير إلى أن هذه الروح موجودة في كل أنحاء العالم. على أن العوامل المعيقة، كما ذكرنا، هي من الكثرة ما لا يدع هذه الظاهرة تعُم، لكنها موجودة على أية حال. وقد تلطف الله عز وجل أن نَمّى هذا التوجّه في نفوس الشبيبة، وإنّ البيئة الحالية مُعَدّة أكثر بكثير من السابق، ومن سبعين أو ثمانين عامًا قبل زماننا، لطرح مثل هذه التساؤلات وتقبّلها. على سبيل المثال لو طُرحَت أمثال هذه الأسئلة في تلك الأزمنة لأثارت الضحك، ولقيل: "لماذا خُلقنا! أي سؤال هذا؟!! الأمر واضح، خُلِقنا لنعيش! لماذا خُلقنا؟!! الله هو العالم!" فإن كان المسؤول ممن تلقى بعض العلم، فسيجيب: (وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدون)،[2] وينتهي الأمر. أما اليوم فإن أمثال هذا الكلام وهذا التعاطي مع السؤال لا هو كافٍ ولا مقنع. بل لعل أمثال هذه الآيات والعبارات لم ينزل ردًّا على مثل هذه التساؤلات، بل لأغراض أخرى، وهي تناسب ما قبلها وما بعدها، فجاءت هذه الآية ضمن السياق، ونحن نظن أنها نزلَت حتى إذا ما سأل سائل: أنحن خُلقنا لهدف معين؟ نجيبه: أجل (وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدون).
والحقيقة إن أمثال هذه الأسئلة حية تنبض في أعماق وجدان الجيل الشاب في العالم كله وليس في إيران فحسب، ولا بد أن نمتلك أجوبة صائبة عنها، وما لم نمتلك هذه الأجوبة فستبقى مسائلنا الأخرى كالشجرة التي لا أصل لها ولا دوام، فهي لا تحل لنا مشكلة، ويصل المرء معها إلى طريق مسدود؛ (كَشَجَرَةٍ خَبيثَةٍ اجتُثَّت مِن فَوقِ الأَرضِ ما لَها مِن قَرار)،[3] فلا يمكن تقديم إجابة صحيحة على تلك ما لم تُحل هذه المسائل لتكون مرتكَزًا للمرء.
لله الحمد فإنه ببركة الثورة الإسلامية تهيأت الأرضية في الحوزات العلمية أيضاً لطرح أمثال هذه الأسئلة والإجابة عنها، وفسح المجال للسائلين والترحيب بهم برحابة صدر وطلاقة وجه، بل تمهّدَت للرد على هذه الأسئلة أرضيات تتناسب معها بشكل أو بآخر. وربما يتصوّر أغلب الشبان أن الحوزة العلمية كانت هكذا من سالف العهود، ولا بأس أن أشير هنا لتعلموا كيف كانت هذه الحوزة المقدسة بقم قبل نصف قرن أو أكثر بقليل، لنقل قبل ستين عاماً؟
أشير هنا إلى مقطع الفديو الذي عُرض للشيخ شَب زِندَدار، وقد وصلتُ في دقائقه الأخيرة واستفدتُ منه، زاد الله تعالى في توفيقاته. كان والد الشيخ رجلًا وقورًا جدًّا، وكان من الذين أُكنّ لهم شخصيًّا إخلاصًا عميقًا، وكان لي أحيانًا شرف زيارته للتعبير عن إخلاصي له. حكى لي أنه في أوائل قدومه إلى قم كان له حجرة، في دار الشفاء على ما أتذكر، وكان السيد مصطفى، نجل سماحة الإمام الخميني (قدس سره)، في ذلك الوقت شابًّا يافعًا التحَق لتوّه بالمدرسة والتحصيل الحوزوي، وكان إما زميله في الدراسة أو يتردد عليه ويتباحثان معًا.
يقول: "كان السيد مصطفى يأتيني إلى حجرتي ونتباحث، فرآه ذاتَ يوم رجلٌ وهو يشرب ماءً في كوب، فقال لي الرجل: اغسل الكوب احتياطًا!
فقلت: ما هذا الكلام؟! أشاهدتَ فمَه تنجَّس؟!
قال: كلا، بل لأجل ما يقال من أن أباه يحمل معتقدات هي ضَربٌ من الكفر!
فتعجبت كثيرًا! من أن شخصًا ما يزعم شيئًا بسبب ما يحمل من فكر ساذج ومعوَج ومنحرف وهذا الرجل يصدق! إنه تمادٍ من البعض في إساءة الظن بسماحة الإمام الخميني (رضوان الله عليه) إلى درجة القول بالاحتياط بغسل الكوب الذي يشرب به ابنُه خشية أن يكون والده قد كفر وأنّ ابنه - بطريق أولى وبالتبع - قد سار على سيرته، وعليه فالأولى الاحيتاط!!
وددتُ قول هذا لنطلع على الوضع المتدهور للعلم والعلماء في ذلك الزمان، فلا نتخيلن أنه كان كما عليه اليوم، وهي أننا كنا ندرس العلم مطمئني البال على يد علماء وأن جميع فروع العلم محترمة ومقدسة. في ذلك الزمان كان ثمة ساعاتي عند تقاطع المتحف. فإلى جوار باب الصحن الكبير الذي كان يفتح من تلك الجهة كان ثمة شارع يمر بـ"بل آهَنتشي"[4]، وكان هناك شارع يبدأ من ذلك التقاطع الذي كان يسمى "تقاطع المتحف". في هذا الجانب من التقاطع، حيث تقوم الآن أبنية وفنادق، كان ثمة دكان ساعاتي اسمه "أرجمندي الساعاتي". كنا نقصد الساعاتي أحيانًا لإصلاح ساعاتنا، وكان رجلًا متدينًا ومن أهل المعنى، ولم يكن يضجر من زيارتنا له. كنا نجلس عنده لبعض الوقت، وكان يحدثنا ويروي لنا الأقاصيص، وكنا نأنس بحكاياه. حكى لنا أن الإمام (الخميني) كان يعطي درسًا في الأخلاق في القبو الذي أسفل مكتبة "المدرسة الفيضية" كان يحضره معظم كسَبة السوق، وكنت أحيانًا أرى بعض الحضور يُغمى عليه من شدة البكاء! هذا ما كان ينقله لنا السيد أرجمندي الساعاتي. على أني سمعت فيما بعد من الآخرين أيضًا شواهد تؤيد ذلك، لكني صرّحتُ الآن بناقل القصة لتطّلعوا ولربما وجدتم طرقًا للبحث أكثر حول الموضوع. فمن ناحية كان يُشاع عن الإمام ونجله أنهما مُرتَدّان، ومن ناحية أخرى تشاهِد مثل هذه الحالات. على أية حال لقد بلغ الشيطان بفِتَنه وحِيَله حدًّا جعل سماحة الإمام (رحمه الله) يعطّل درس أخلاقه، ذلك الدرس الذي كان يُغمى فيه على البعض من شدة البكاء، وكذا درسَه في الفلسفة، ويكتفي بدرس الفقه والأصول.كان هذا جانبًا من الفِتَن التي كانت تثار في أجواء الحوزة العلمية في تلك الأيام.
على أن الحوزة العلمية أيضًا ما كانت في السعة التي هي عليه اليوم، كأن يقال - تعبيرًا عن سعتها مثلًا - أنها تضم ألفي أو ثلاثة آلاف أو بضعة آلاف طالبِ علم. فلقد كانت تنطوي على أمثال هذه النماذج من الاختلافات والانحرافات الفكرية وقلة الذوق، وبطبيعة الحال كان ثمة من يقع في حبائلها، فهذه أمور لله الحمد لو وُجد لها اليوم مثال هنا أو هناك فهو نادر ويُعد شذوذًا عن القاعدة. اليوم لم تعد مثل هذه الأمور مشكلة في الحوزة، وإن للجميع – ولله الحمد – تجاه جميع القضايا رأيًا متّزنًا بعيدًا عن الإفراط والتفريط، بل إنه ليتحتم علينا أن نبذل جهدنا لكي لا نقع فريسة الإفراط والتفريط في أي مكان.
في الوقت ذاته، ومع كل هذه الصور من التغيير التي أوجدَها الله تعالى بشكل طبيعي لجيلنا الشاب، وببركة الثورة التي قامت على يد عبد لله صالح ومخلص، وقَفَ نفسَه وكيانَه على طاعة الله ولم يكن شيء غير ذلك ليدفعه إلى التحرك، سواء على مستوى القضايا الفردية أو العائلية أو السياسية والعالمية، وببركة الدماء التي أُريقت في هذا الطريق التي لا نقدر أن نحسب قيمة حتى قطرة واحدة منها، وأي بركات ستحصل على مدى السنوات والقرون القادمة ببركة قطرة الدم هذه التي أريقت ظلمًا وعدوانًا – أقول مع كل ما جرى على مستوى فكرنا وظروف حياتنا ونيّاتنا ودوافعنا وظروف تحصيلنا الدراسي وأمور أخرى كثيرة من عملية تغيير كبرى ببركة هذه العوامل كلها فإننا ما زلنا إلى الآن قاصرين عما يحتاج إليه المجتمع البشري. والشاهد على ذلك هو أنه في الكثير من جامعاتنا، التي لربما كانت في مدينتنا هذه، إذا التحَق بها الطالب المسلم وجاء ليدرس فيها بنية سليمة من أجل خدمة بلده يأتي أستاذ إلى قاعة الدرس فيتفوّه بكلام فيه دَسّ، أو يشير إلى شبهة، أو ينقل كلامًا، في الجامعة تلك نفسها، وفي قاعة الدرس! ولندع الآن ما تبثّه برامج الفضاء الافتراضي، وما تنشره وسائل الإعلام الإلكترونية، وتبثه الأقمار الصناعية! كلامنا حول قاعات الدراسة الرسمية حين يتفوّه أستاذ جامعي بكلام في قاعة الدرس أمام طلبة مسلمين في مدينة مثل قم المقدسة فيلوّث أذهانهم ويبدؤون في التفتيش عن رد على هذا الكلام فيتفاجؤون إذ لا يجدون أستاذًا يعرف الإجابة، هذا في حين أن طائفة من المعمّمين دخلوا الجامعات بعد الثورة، لأسباب شتى، ولربما كان هدف بعضهم هو أداء التكليف وهداية الجيل الشاب فحسب، ولو كان هذا هدفهم فنسأل الله أن يزيد في توفيقاتهم ويكثر من أمثالهم. ولو وضعنا مراكز الفساد والانحراف، وجلسات السمر، والاجتماعات الخاصة، وخلوات الأفراد مع حاسوبهم أو هاتفهم المحمول واتصالهم بكل أنحاء العالم بمن يشاؤون – لو وضعناها الآن جانبًا وركّزنا على قاعات الجامعات الدراسية الرسمية! فإننا إلى الآن لا نملك ما يكفي من الكوادر البشرية المؤهَّلة للإجابة على الشبهات التي تُطرح في قاعات الدرس الجامعية! ما معنى هذا؟ هذا معناه أنه على الرغم من كل هذا النضج الذي حصل لمجتمعنا وكل ما يُبذل لتلبية احتياجاته فإننا ما زلنا متأخرين؛ أي لا يُستبعد أن يقال يومًا: يا شيخ، أكنتَ مطّلعًا على ذلك أم لا؟ أكنت ترى أن هذا الشاب عرضة للكفر أم لا؟ أكنت تستطيع فعل شيء لتحُول دون ارتداده وكفره وانحرافه أم لا؟ دعنا عن فساده الأخلاقي، إن معتقداته الأصيلة في خطر!
بل حصل أحيانًا – ولعله تصرُّف ينُمّ عن تكتيك مقصود – أن أنتحَلَ أشخاصٌ أسماء طلبتنا نحن وأرسل رسائل إلى قسم الأسئلة في الموقع مثلًا يسأل عن أبسط المسائل العَقَدية وأكثرها بدائية، والتي هي من أوضح الواضحات لنا جميعًا وإن الاستفسار عنها مدعاة للضحك؛ فيقول: ما الضير أن يقول أحد هذا الكلام؟!
ما أريد قوله هو أنه إلى جانب ما أودعه الله في زماننا الحاضر في فطرة الناس من الاستعداد والمواهب والنضج والعطش للمعرفة فإن أمثال هذه المخاطر هي الأخرى في ازدياد. وهذا التوازن موجود في أساس الخلقة، فإن مَن يدير هذا العالم لا يقصّر أبدًا في عملية إدارة العالم التكوينية. فالدور الآن هو لنا نحن لنعرف واجبنا التكليفي، فنعكف على تصميم نظام، أو نمُدّ له يد العون إن كان مُصَمَّمًا مسبقًا، ونشارك في تطويره من ناحية الفكر والنظرية، والمنهاج، والمحتوى، والتنفيذ ليستطيع تلبية هذه الاحتياجات.
السؤال هو: إن كان لا بد أن ينهض في المجتمع أشخاصٌ بهذه المهمة فمن أي شريحة يجب أن يكونوا؟ ومن أي طبقة من الناس؟ وما الشروط الواجب توافرها فيهم؟
في اعتقادي إن هذا الواجب موجَّه إلى الذين تتوافر فيهم أرضيات تؤهّلهم للبحث الـمُجدي والنافع في أُسس الإسلام الأصيلة، وآراء الإسلام في شتى مجالات الحياة الإنسانية، مثل الاقتصاد والاجتماع والشؤون العسكرية والقضايا الدفاعية والحرب والسلم وأمثال ذلك. فما دمتُم قد أدركتم هذا المقدار، واقتحمتم الميدان، وما دامت المؤهّلات والإمكانيات في متناولكم، بشكل أو بآخر، فما الذريعة لديكم في التواني عن هذه المسؤولية؟!
وإن طُرحت بعض الذرائع، كأن يقال: لكن كم هو دَخْلُنا اليوم يا ترى؟ وكم نقبض "شهرية"[5]؟ وأنّ الشهرية التي نتقاضاها لا تغطي نفقات أجار المنزل! ...إلخ، فإن لله أمثلة سيعرضها لإتمام الحجة على الآخرين، فيقول: "في مجتمعك هذا نفسه عاش أناس كان مَرَق طعامهم كأسَ شاي، وكانوا أحيانًا لا يجدون من المال ما يشترون به خبزًا!"
ولكي تعلموا أن هذا الأمر كان واقعًا في يومٍ من الأيام وليس مجردَ نَسج خيال، فلقد حدَثَ معي شخصيًّا، في حوزة قم هذه، بعد سنين من حضوري درس بحث الخارج، أنْ وجَدتُني ذات يوم لا أملك ثمن نصف رغيفِ خبز أُشبع به بطني وقت الغداء، إذ كان يكفيني لسَدّ رَمقي ثلاثون شاهيًّا (ما يعادل ريالًا ونصف الريال) أشتري به نصف رغيف خبز آكُله مع الملح، لكنّني ما كنتُ أملك هذا المبلغ، وبقيت جائعًا حتى الليل! الله عز وجل يعرض هذه الصور إلقاءً للحُجّة على الآخرين ليقول لهم: ألم يكن هؤلاء بشرًا؟! وغير ذلك من الأشخاص والنماذج. وما حدّثتُكم بهذا إلا لأقدّم لكم أمثلة عينية لئلا تظنوا أن هذه الأقاصيص التي تُحكى أحيانًا هي مجرد نسج خيال! كلا، إنها حقائق، وثمة الآن أيضًا نماذج مماثلة؛ فهناك مَن تحسَبُه غنيًّا من شدة تعفُّفه صونًا لكرامته وحفظا لماء وجهه مع أنه يعيش وعائلتَه معاناة الغلاء والتضخم اليومي! بالطبع إن هذه الأمور – من زاوية أخرى – هي امتحانات من الله تعالى، وهي - من منظار الفكر الإسلامي - لا تدعو كثيرًا للاستغراب. أتَدعو للاستغراب؟!
لننظر ماذا يقول القرآن الكريم نفسه في هذا المجال؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (وَما أَرسَلنا في قَريَةٍ مِن نَبِيٍّ إِلّا أَخَذْنا أَهلَها بِالبَأساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُون)؛[6] أي ما من نبي أرسلناه إلى قومٍ إلا وكنا قد أوجَدنا فيهم مُسبقًا أرضية نفسية مُعَدَّة لتشكّل عاملًا طبيعيًّا لإقبالهم على الله تعالى، وما هذا العامل إلا البلاء والجوع والشدائد!
ولدينا في القرآن الكريم آيتان بهذا المضمون، إحداهما تنتهي بـ(يَضَّرَّعون) والأخرى بـ(يتضَرّعون)، فهذه سُنّة إلهية، ولا ينبغي أن نعجب من ذلك؛ فثمة في هذا العالم أنواع من البلايا والمآسي: (فَأَخَذناهُم بِالبَأساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُون).[7] فلقد نبه القرآن الكريم في مواطن كثيرة إلى أننا سنبلوكم في الدنيا ببلايا: (وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَموالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَراتِ).[8] يقول اللُغَويون: إن لام (ولَنبولنكم) هي لام القسم وجوابها نون التوكيد الثقيلة؛ أي إننا سنفعل ذلك لا محالة.
فأنواع البلايا هي اختبارات يمتحننا الله بها، وهذا جزء من تدبير العالم. لا تظنوا أن الحكومة الحالية [مثلًا] تولَّت زمام الأمور صدفةً! نعم، قد يكون الداعي وراء ذلك هو خطأ هذه الحكومة، فهذا موضوع آخر، لكن هذا جزء من نظام العالم المدروس، وليس أن الأمور أفلتَت من تدبير الله تعالى؛ (وَبَلَوناهُم بِالحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُم يَرجِعُون)؛[9] فمثلما أن الحسنات يمكن أن تكون امتحانًا فإن السيئات أيضًا كذلك. القضية هي أنه يجب أن نرى ما هو تكليفنا وماذا ينبغي أن نصنع نحن، بغض النظر عن مقتضى التدبير الإلهي ونظام الكون. بالطبع أولئك الذين يملكون القدرة على حل مشاكل الناس وتخفيف معاناتهم فإن من واجبهم فعل ذلك؛ إن من واجب التُجّار والاقتصاديين أن يقترحوا وينصحوا في هذا المجال، لا أن يفكروا في أنه كيف يمتصّون أموال الناس ويُوْدِعونها في حساباتهم في مصارف لوكسمبورغ وسويسرا! أو أن يسعى البعض - لا قدَّر الله - لتولي مناصب ومسؤوليات ليدّخر لنفسه وعائلته أرصدةً في الولايات المتحدة! أن لا يتحول الوضع إلى هذا المنوال، وهذا واجبنا. لا يحق لأحد أن يقول: "بما أنه لا بد أن يعيش الناس البأساء والضراء فإننا قد فعلنا ذلك [استلَبنا أموال الناس واستعملنا مناصبنا لمصالحنا] فساعَدْنا اللهَ في هذه الـمَهَمة!" فهذا الأمر ليس من شأنك أنت.
الله تعالى يقول لك: "شُغلي هو تدبير العالم، وعملي لا يخلو من حكمة، أما أنت فعليك واجبات." لكن ماذا يقول الله تعالى لي ولكم [نحن علماء الدين]؟ أيقول: "لماذا لم تُنفقوا ثروتكم على الفقراء؟!" بالنسبة إلينا هذا السؤال ليس في محلّه! فأيّ ثروة نملكها يا ترى؟! لكنه إن قال لنا: "لماذا لم تُطْلِعوا الناس على ما تعلمون؟ أعندنا جواب عن ذلك؟! أيكفي أن نقول مثلًا: مَثَل عالِم الدين في المجتمع كمَثَل المسجد، على الآخرين أن يأتوه بأنفسهم؟! أسَيقنع الله تعالى بهذا الجواب؟! أيُعقَل أن نقول: ليس علينا الحضور بين الناس، بل على الناس أنفسهم أن يأتونا، وبما أنهم لا يأتوننا فقد سقَط عنّا التكليف؟! أهكذا هي القضية؟! وكأنه لا دليلَ عقلي ولا شرعي لدينا على وجوب إرشاد الناس! وليس في رقبتنا واجبُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا واجبُ (وَلتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخَير)![10] كأنه لا شيء من هذا أبدًا! وحَسبُنا أن نجلس بوقار، فإنْ أتانا مَن يُقبّل يدنا قلنا له: "بارك الله فيك!!" أهذا كل ما في الأمر؟! فإن لم يكن كذلك، فإنّ علينا أن نقف بوجه أهم الأخطار التي تهدّد مجتمعنا، هذا المجتمع الذي – على الرغم من الوضع الذي هو الآن عليه ومع ما يعانيه من مشكلات – هو أحسَن حالًا بكثير مما كان عليه في السابق، وما عليه معظم شعوب العالم في الوقت الحاضر. فلتَطّلِعوا على الإحصائيات العالمية الرسمية اليوم؛ فكم شخصًا ينتحر يوميًّا في الولايات المتحدة جرّاء الجوع والفقر؟! هذا في أغنى دول العالم! وفي بريطانيا تزداد معدلات الانتحار باطِّراد، ولا سيما بين الجنود. لله الحمد بلدُنا خالٍ تمامًا من مثل هذه المشكلات؛ اللهُمّ إلا أن تحصل حالة أو حالتين منها في العمر. انظروا كيف أحيا هؤلاء الناس أنفسُهم، برغم فقرهم ومعاناتهم، عزاءَ سيد الشهداء (عليه السلام)؟! من أين يوزَّع كل هذا الطعام؟! الناس يضيّقون في قوتِ أنفسهم وينفقون في هذا السبيل، ولله الحمد فإن هناك ما يكفي ليقوموا بذلك. ولو كان ثمة معرفة أعمق، ولو أننا نشَطنا أكثر وبيّنّا الحقائق للناس أكثر مما نفعل الآن لكان الوضع أفضل من هذا أيضًا.
أول مَهَمّة تقع على عاتقنا هي أن نتأكد من أننا نحن أنفسنا لم نخطئ في معرفتنا للإسلام. صحيح أن البعض قد يسخر من هذا الكلام قائلًا: لم نعرف الإسلام جيّدًا إلى الآن وقد أمضينا عشرين عامًا في تحصيل العلوم الدينية!! لكنّ سعةَ نطاقِ الإسلام هي من الرحابة، وإن الساحات المقدسة التي يقتحمُها هي من الكثرة ما يسعُنا معه القول: إنه ما من ساحة من سوح الحياة البشرية ليس للإسلام فيها إرشادٌ وهُدًى. فلنتبيَّن ما إذا كان لدينا خطأ ما في إحدى هذه الميادين.
السبب وراء طرحي لهذا السؤال هو أن ضربًا من النزعات الصوفية المنحرفة تنشأ أحيانًا في كنف المدارس الحوزوية وتحاول عزل الناس عن قضاياهم الاجتماعية بحجة أن علينا أن نهذّب أنفسَنا، وأنّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف) هو من يجب أن يأتي ليصلح الأمور! لكن أهذا هو الإسلام حقًّا؟! أهذا هو التشيّع؟! ألهذا الداعي استشهد الإمام الحسين (عليه السلام)؟! أم على عكس ذلك، وهو أن يعتقد البعض أن الإسلام لم يأتِ إلا لمعالجة مشاكل المجتمع الاقتصادية، وما القضايا الأخرى إلا أمور هامشية، فإن تحقّقَت فكان بها، وإلا فهي ليست مهمة، فالمهم هو أن ينعم الناس برفاهية العيش!
بالطبع، هذه الأفكار ليست بالجديدة؛ إذ أَذكُر في أوائل نهضة الإمام الخميني (رحمه الله)، لعله حين كان مَنفيًّا إلى تركيا، كنا نقيم نوعًا من المباحَثة العلمية بتوجيه من سماحة الإمام نفسه، نطرح فيها على طاولة البحث والنقاش القضايا التي قلّما جرى تناولُها قبل ذلك الحين. كنا بضعة أشخاص؛ أحدهم المرحوم الشيخ محمدي الجيلاني، والآخر سماحة الشيخ اليزدي، والثالث السيد علي أكبر الموسوي (مقسّم الشهرية في مكتب سماحة السيد القائد)، ...إلخ كنا خمسة أو ستة أشخاص. في ذلك الزمان كان يُطلق عليها "مباحثه كُمبانی"[11]، ولا أدري ماذا تُسمّى الآن. كنا نتباحث في المسائل التي نظن أنها بحاجة إلى المزيد من البحث والتحقيق؛ مثل المسائل الإسلام السياسية، وولاية الفقيه. في يوم من الأيام كنا في دار الشيخ اليزدي، وكان أحد الحضور شخصًا صالحًا جدًّا - كان أبوه رجلًا وقورًا للغاية، وقد استشهد هو في حادثة "السابع من تير" (28 تموز 1981م)[12]، وكان آنذاك طالبَ علم شابًّا مُفعَمًا بالنشاط والحيوية – وقد دار الحديث وقتَذاك حول القضايا المجتمعية التي كانت سائدة في تلك الأيام، وما ظهر في المجتمع من نزعات ماركسية، وكان أصحابها يروّجون علنًا وبشدة للماركسية الجديدة. هذا الموضوع لا يغيب عن بالي، وقد لا تصدقونه أنتم! هذا الشخص، الذي حضر حينها مباحثتنا بسبب ما كانت تربطه بالمجموعة من علاقة، قال: "يا جماعة، دعوني أقُل لكم شيئًا: مجتمعنا بحاجة إلى أمرَين؛ الأول هو الاحتياجات المادية والاقتصادية والعدالة الاجتماعية، والثاني هو الأمور المعنوية والأخلاقية. وإن من شأن الإسلام وسائر الأديان هو ضمان الأمور الروحانية والفكرية وما شابه. والماركسية هي علم يمكنه معالجة القضايا المادية وتحقيق العدالة الاجتماعية، فلا ينبغي معارضة الماركسييين! فإنهم ينهضون بنصف حِمل المجتمع. أجل النصف الآخر هو شأننا نحن! العيب الذي في الماركسيين هو أنهم تنقصهم المعارف الإسلامية، ونحن أيضًا فينا عيب، وهو أننا لا نُتقن متطلبات الحياة المادية! أساسًا لا ينبغي أن نجعل بيننا وبينهم فاصلًا، إننا شركاؤهم؛ فقد تقبَّلنا نصف المسؤولية وتقبّلوا هم النصف الآخر، وعلينا أن نسعى للتقرّب منهم أكثر. إننا نخطئ إذ نطردهم ونكفّرهم، أو نصفهم بالآفة، هذا غير صحيح على الإطلاق!"
هذا الشخص هكذا كان معتقدُه، المعتقد الذي ربما ظل متمسكًا به حتى آخر عمره، وفي الوقت ذاته استشهد في سبيل الثورة! أي إن مثل هذه الأفكار تمتزج كل الامتزاج أحيانًا بالعوامل العاطفية؛ مثل مشاهدة ما يعانيه الناس من الفقر والمآسي، فيقول أصحابها: "ألا إن علماء الدين لم يستطيعوا إصلاح هذه الأمور! فمنطق الإسلام دائما هو: (إِنَّما الحَياةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلَهْو)،[13] إنه لا يهتم بالدنيا. إذًا الدين إنما جاء ليعالج الجوانب المعنوية والروحانية، وإن مَن باستطاعته اليوم أن يتكلم في القضايا المادية ويُشَمّر عن ساعده لمعالجتها هو الماركسية." في ذلك الوقت إنما تفشَّت الماركسية في نصف الكرة الأرضية لأن الناس يطالبون بالعدل. واليوم أيضًا تجد هذه الأفكار – بشكل أو بآخر – عند بعض شباننا، وبعض مثقفينا ونُخَبنا.
ولعل بعض سياسيّينا أيضًا – وهذا مجرد احتمال – يحملون هذا الفهم؛ وهو أنه: "واجب الحكومة هو تأمين معيشة الشعب، أما دينه فهو ليس من مسؤوليتنا، إنها مَهَمّتكم يا علماء الدين أن تُبَلّغوا الدين! إن من الخطأ أن نضع قوانين لتطبيق الدين! هذا ليس من مَهامّ القانون! إنكم مخطئون! نعم، إن أجبَرتمونا على ذلك وجعلتموه في رقابنا، فنحن نقبل مُكرَهين!" في أعماق قلوبهم يقولون: "هذه ليست مَهَمّتنا! مَهَمتنا هي إيجاد الحلول لتحقيق الرفاهية للشعب على المستوى الاقتصادي، وأن تكون لنا مكانة مرموقة بين الدول الأخرى، وأن تتقدّم صناعاتنا، وينمو اقتصادنا؛ هذه هي واجباتنا، أمّا أنّ ظاهرة السفور أو ما شابه تنتشر هنا أو هناك، فما شأننا نحن؟! ما شأن الحكومة في هذه الأمور؟! ما شأن البرلمان ليضع قوانين تنظّم هذه القضايا؟! هذه مَهَمة علماء الدين؛ أنتم العلماء اعكفوا على التدريس، وموعظة الناس، قولوا لهم: إن فعلتم كذا وكذا فستحترقون في جهنم! ...إلخ، هذه مَهَمّتكم، بل إنهما قضيتان؛ (وهذا ما يُصطلح عليه اليوم بالعلمانية)، هناك مجالان؛ فالدين لا صِلة له بالشؤون المعيشية للناس، إنه شيء هامشي؛ فالذين يهوَون الدين سيشكّل الدين في حياتهم هامشًا ذهبيًّا، والذين لا يهوَونه فهم يرونه شيئًا فائضًا، بل عبئًا. فإما هذا وإما ذاك، ولا شأن لنا بذلك، فإن من واجبنا - بصفتنا حكومة - أن نُؤَمِّن لأفراد الشعب معيشتهم ونوفّر لهم الأمن، وأن نعمل على تقدّم الصناعات؛ أي المجالات الدنيوية." وإن هذا لـمَظهَر من مظاهر العلمانية.
وحَرِيّ بالإنسان أن يتفحّص تاريخ الإسلام على امتداده ويفتش فيه عن نماذج لأصول العلمانية، وسيجد أنها تمتَد إلى عصر النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ولعل ما حصل من أشكال الفساد بعد رحيله (صلّى الله عليه وآله) هذا هو سببها. ولعل الدليل على ذلك هو أننا اليوم نجد كثيرًا من المسلمين من أهل السنة، ولا سيما أصحاب المذهب الشافعي، مَن يُكنّون لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) الحب والاحترام، بل يسمونهم أئمة معصومين، ويعترفون بهم، لكنهم يعتقدون أن الناس هم من يجب أن يختاروا حاكمَهم، ولقد اختاروا، وجرَت الأمور على هذا المنوال، وهكذا هي الحال الآن أيضًا. إنها العلمانية بعينها.
وإنني لأشهد أني رأيت بأم عيني أحد علماء السنة هؤلاء، ممن لا أشعر أنه يُضمر مثقال ذرة من سوء النية، وهو المرحوم شيخ الإسلام، نائب كردستان. فقد صادفَ يومًا ما أن كنتُ وإيّاه في مجلس واتّفَق بعد تناول طعام الغداء أن أكون معه في غرفة نوم واحدة. تغمّده الله برحمته ووَسِعَه بمغفرته. حكى لي أن أباه كان قطب النقشبندية في المنطقة. حتمًا سمعتم، ولعل بعضكم رأى، وأنا أيضًا شاهَدتُ في شبابي نموذجًا لذلك بين المتصوفة الشيعة، أن الأقطاب والمرشدين ذوي المقام الرفيع في المجالس التي يقيمونها للعبادة يجلسون في حالة من الوقار الشديد، وإذا دخل الآخرون إلى المجلس يأتون بين يدي الشيخ بخضوع ويُقبّلون ركبته في حالة أقرب ما تكون إلى السجود، ثم ينهضون ويرجعون على أعقابهم رويدًا رويدًا ويغادرون المجلس. هذا توقير عامّ لأقطابهم.
يقول شيخ الإسلام: "كان أبي قطب النقشبندية في كردستان، وأنا لم أشاهده يومًا يقوم لشخصية بارزة أو مسؤول، لكن لم يحصل أن يدخل شخص من ذرية فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) ولا يقوم له والدي منتصبًا! وفي أواخر عمره، حيث لم يكن يقدر على القيام، إذا عرف أن أحدًا من السادة دخل عليه يقول لنا: سَنّدوني من تحت أبطي لأقوم منتصبًا."
قلت له: "إذًا أنت أكثر شيعية منا."
قال: "كلا، أنا سُني شافعي، وقد رأيتَني أصلي متكتفًا."
كان مجلسًا دُعاني إليه فذهبتُ لبضعة أيام لإلقاء محاضرات، وكانت بعض الرسميات. لم أشعر أنه يُضمر سوء نية تجاه التشيع، أو غرضًا سيئًا إزاء المذهب الذي يدين به. كل ما في الأمر أن الحقيقة لم تثبت له؛ أي إن المحبة والاحترام الذي يُكنّونه لأقطابهم والثقة التي يحملونها تجاه عظمائهم هي بحيث لا يصدقون أن هؤلاء يمكن أن يُضمروا عداءً لأهل بيت النبي (عليهم السلام). يقول: "الأئمة كانوا معصومين، لكن الخلفاء كانوا هم الحكام على الناس، والناس هم من اختاروهم، ولو تكرر الأمر في زماننا الحاضر لكان لزامًا عليهم أن يفعلوا الشيء نفسه. أوَلستُم تُدلون بأصواتكم في الانتخابات؟ في ذلك الزمان كان الأمر كذلك. فإنِ اتّفَق أن عصَت عليهم مسألة دينية أرسلوا إلى أهل البيت (عليهم السلام)، إلى علي (عليه السلام)، فلا هو كان يأبى الاستجابة، ولا هم كانوا يستنكفون من سؤاله. أي إنهم ما كانوا يرون أنفسهم مراجع في العلم، بل مراجع في السياسة."
ولا ندري إن كانوا يعتقدون فعلًا أن مرجعيتهم السياسية هي حقهم المشروع، أم أن عوامل نفسية – لا قدّر الله – كان لها دور في ذلك؟!
أعتقد أن أهم واجب علينا التفكير فيه على صعيد معرفتنا بواجباتنا الاجتماعية هو أنه: ما هي الأمور التي تشكّل أشد خطر يهدّد إسلامية مجتمعنا؟ وما النقائص الموجودة في المجتمع التي تعيق معرفة الإسلام الصحيح؟ علينا أن نبوِّب هذه القضايا، ونحدّد الأولويات. لا شك أنه لا شخص واحد ولا فريق عمل باستطاعته سَد هذه الحاجة، لكنّ مقتضى حكم العقلاء هو أنه إذا تزاحم أمران فلا بد من مراعاة المهم والأهم، والنظر في أنه: أي منها هو الأهم في الدنيا وفي الآخرة على حد سواء؟ فلو كان ثمة نقص وباستطاعتنا سَدّه فلم نسُدّه، أو فساد ينتشر ويتفشى وبمقدورنا إزالته فلم نُزِله، فالويل لنا! فلن تكون لنا أمام الله حجة. أما أن نطأطئ رؤوسنا ونقول: "عليك بنفسك! ما شأنك أنت؟! فلنَعش يومَنا، ونُنجز أعمالنا؛ لقد اشتريتُ منزلًا وعليَّ دفع أقساطه! ما شأني أنا؟! إما هذا أو ذاك!" فهذا ليس جوابًا مُقنعًا لله تعالى.
إنْ عَلِمنا أن من الممكن فعلَ شيء – وهناك خلال الأربعين سنة المنصرمة[14] شواهد على أن من الممكن فعل شيء؛ هذه البناية، وهذا الجمع هما دليل على أنه ثمة أشياء يمكن إنجازها – فلننظر أي الأعمال أهم؟ في أي منها يمكننا المشاركة؟ وأي منها يسَعُنا إنجازه على نحو أفضل؟
وفي الختام أود الإشارة إلى نقطتين باختصار شديد: الأولى هي أن لا ننسى أن أهم ما يمكن أن يكون له في المستقبل دور رئيس وفاعل في استمرارنا في النهوض بواجباتنا هذه هو نيتنا من وراء التحرك، وهو أنه: من أجل ماذا نحن نسعى لهذه الأمور؟ أمِن أجل مانشيت في صحيفة، أو عنوان وظيفي، أو منصب، أو رئاسة؟! أمِن أجل أن يُكتب اسمنا غدًا هنا، أو تُعلّق صورتنا هناك، أو أن يُصنع لنا تمثال يُنصب في مكان ما بعد مئة عام! ألأجل هذه الأشياء؟! أم لأجل أن الله أمَرني أن أفعل ذلك؟ فالنية إن كانت خالصة فسيبارك الله في أعمالنا.
إن كل هذا التحوّل الذي تشاهدونه في العالم تجاه الإسلام خلال الأربعين أو الخمسين عامًا الأخيرة هو بفضل إخلاصِ "سيدٍ"، إخلاص عالمِ دينٍ كان يَدرُس في هذه الحوزة العلمية، ويُدرّس، وكان درسُه يُلغى أحيانًا، وكان يدبّر معيشتَه اليومية بشق الأنفس، لكنّه كان يحمل إخلاصًا، ولقد بث الله في عمله كل هذه البركة! علينا أن لا ننسى هذا. لا نظُنَّن أن كل شيء بفضل أمثال هذه التنظيمات التي يُنشِئها أمثال الماركسيين وأشباههم؛ وهو أن يَصدر أمرٌ من المسؤول الأعلى، ويُنجِز العملَ فلانٌ، ويَتّخذ القرارَ فلان، وأنه يتوجّب علينا تعلُّم ذلك. فهذه ظواهر الأمور، أما روحها فهو من مكان آخر، إنه من عالَم آخر، ومن قوة أخرى. إن من واجبنا أن نعمل، لكن هذا الواجب لا يُؤتي نتائجَه المرجُوّة إلا حين يكون مسكونًا بهذا الروح. هذه النقطة الأولى.
النقطة الثانية هي أننا إن أردنا النهوض بأضأل هذه الواجبات الملقاة على عاتقنا فسنجد أمامنا أعمالًا جبّارة علينا القيام بها، وإنّ أسباب كل شيء ليست جاهزة ومهيَّأة لنا، لكننا جرَّبنا، وسمعنا من الآخرين، ولطالما سمعنا وشاهَدنا من علمائنا وعظمائنا حتى صدَّقْنا أن المفتاح لحل جميع هذه المعضلات عندنا، نحن الشيعة، هو التوسل بأهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين).
وفّقَنا الله وإياكم.
[1]. مصطلح يطلَق على مدينة يزد وهي مسقط رأس المتحدث سماحة آية الله محمد تقي مصباح اليزدي (رحمه الله).
[2]. الذاريات: الآية56.
[3]. إبراهيم: الآية26.
[4]. الجسر الحديدي.
[5]. الراتب الذي يتقاضاه طالب العلوم الدينية شهريًّا من مراجع الدين من الحقوق الشرعية.
[6]. الأعراف: الآية94.
[7]. الأنعام: الآية42.
[8]. البقرة: الآية155.
[9]. الأعراف: الآية168.
[10]. آل عمران: الآية104.
[11]. ضرب من المباحثة يعقدها عدد من الأساتذة والمجتهدين في الحوزة العلمية يطرحون فيها أحدث ما توصلوا إليه من آرائهم وتحليلاتهم الفقهية والأصولية. وهي - إلى حد ما – تشبه ما يُعرف اليوم بالمؤتمر العلمي. (المترجم)
[12]. حادث التفجير الذي طال مقر الحزب الجمهوري الإسلامي بطهران. (المترجم)
[13]. محمد(ص): الآية36.
[14]. من عمر الثورة الإسلامية. (المترجم)