بسم الله الرحمن الرحيم
إن في أعناقنا جميعًا إزاء بيان "الخطوة الثانية للثورة"[1] للإمام القائد الخامنئي (أدام الله ظله الوارف) واجبات ولا بد أن نفعل شيئًا حياله. علينا أن ننظر أنه: ما العمل الذي يتوجّب علينا إنجازه، وأي الأعمال من بين التي يتوجّب علينا إنجازها هي الأهم لنضعَها في الأولوية، فإن وجَدنا الوقتَ والقدرة الكافيَين لإنجاز المزيد، انتقَلنا إلى إنجاز ما هو الأقل فالأقل أهمية.
لقد أكد سماحة الإمام القائد في هذا البيان على أمور بتعابير مختلفة وحدّدَ أنّ علينا فعلَ كذا وكذا. بعض هذه المطالبات موجَّهة إلى عموم الجماهير؛ أي إن على كل فرد من أفراد المجتمع، في أي موقع أن يبذل ما في وسعه من أجل تحقق هذه الأمور، بقدر ما يستطيعه، وبما يتيحه موضِعُه ومؤهلاته وإمكانياته. كما أن البعض الآخر من هذه المطالبات موجَّه إلى مسؤولي البلد الرسميين، وإن على الحكومة والسلطة القضائية والتشريعية أن يهتموا بها ويتعهّدوا بتنفيذها، إذ إن المخاطب الأساسي لها – على أقل تقدير – هم المسؤولون.
والسؤال الذي يثار هنا هو: "هل هناك بين هذه التوجيهات ما هو موجَّه بشكل مباشر إلينا، نحن علماء الدين؟
من حيث كوننا مواطنين فإننا جميعًا مخاطَبون بهذا البيان وعلينا واجبات تجاهه؛ سواء أعَمِلنا أكثر أم أقل، أفضل أم أسوأ، المهم أنه لا فرق بيننا من حيث كوننا مخاطَبين به. لكنّ بندَين من بنود البيان - على ما يبدو – موجّهان إلينا نحن أكثر من غيرنا؛ أي إن النقاط التي جرى التأكيد عليها في هذين البندين تقع في الأصل ضمن مَهامّنا نحن، لا مَهامّ العطّار والبقّال والمزارع والعامل ومدير المصنع ولا حتى مدير الدائرة. بالطبع بوسع هؤلاء أن يستفيدوا من نتائج أعمالنا، لكنّ العبء الأساسي يقع على كاهلنا نحن علماء الدين. فإن كان هذا التصوُّر صائبًا فمن المناسب أن نقرأ البيان مرة أخرى بهذه الرؤية لنرى هل بين الأوامر الصادرة – صراحةً أو ضمنيًّا – ما هو موجَّه إلينا نحن بالذات؟
من البنود التي يبدو أنها مرتبطة بنا نحن هو قضية الاهتمام بالروحانيات والأخلاق. فمن هو المخاطَب الرئيس بهذا البند؟ هل يطالب سماحتُه رئيسَ الجمهورية أو نُوّابَ البرلمان أن يفعلوا شيئًا لتقوية الروحانيات والمعنويات؟! أم يريد من شريحة المزارعين أو العمال أن يفعلوا هذا الشيء؟! على عاتق أي جماعة أو شريحة من المجتمع يا ترى تقع مَهَمّة إشاعة الروحانيات والأخلاق؟ أنا شخصيًّا لا أجد أي مخاطَب آخر لهذه الـمَهَمة غير شريحة علماء الدين. إننا نحن الذين ينبغي أن نعرف حقيقةَ الروحانيات والأخلاق، بالطبع من وجهة نظر الإسلام؛ وإلا فإن لهذه المسائل مفاهيمَ أكثر عمومية أيضًا، بل إن بعض حكوماتنا السابقة كانت تستعمل مصطلح "الروحانية" عوضًا عن "الجمهورية الإسلامية"، وكانوا يطرحونها من حيث إنها واحدة من القيم. على سبيل المثال كان أمثال هؤلاء يقولون: "الثورة قامَت من أجل الروحانيات" لكنهم يستعملون مصطلح "الروحانيات" بمدلول يشترك فيه الوثني، والمسلم، واليهودي، والمسيحي، واللاديني! كما أن البعض يذهب إلى مثل هذا الرأي بخصوص "الأخلاق" كذلك، فيقول: "لا صلة للأخلاق بالدين! الأخلاق هي أن يكون المرء حسَن الخلُق وسَمِح الوجه مع الناس، ولا صلة لهذا بالدين وعبادة الله أبدًا!"
من الواضح أن هذا الجانب من البيان موجَّه بشكل أساسي إلى علماء الدين، فلا يُتوقَّع من الآخرين أن يكونوا هم السبّاقين إلى إحياء القيم والأخلاق الإسلامية، بل إننا نحن الذين ينبغي أن نقول: ما هي الروحانية أساسًا؟ وما هي الأخلاق؟ وما منزلتهما بالنسبة إلى الإسلام والثورة؟ وما الدور الذي تنهضان به لتحقيق أهداف الثورة، أو غايات الخِلقة؟ فإن نحن لم ننهض بأداء هذه المهَمّة، فمَن يجب أن ينهض بها؟ على الأقل إن أحد المصاديق الجلية للمخاطَبين بهذا القسم من البيان هم نحن الطبقة العلمائية.
ولو أننا حلّلنا هذه المسألة قليلًا لاستنتجنا بأن هذا الجانب من البيان يتناول أحد الواجبات الرئيسة التي تقع على عاتق علماء الدين. بالطبع إننا مخاطَبون بجميع بنود البيان بصفتنا مواطنين إيرانيين ثوريين، لكن البنود الأخرى غير موجَّهة بشكل مباشر إلى علماء الدين بصفتهم شريحة من المجتمع. إذًا من الأسئلة التي يجب أن نوجِّهها لأنفسنا هو: بصفتنا علماء دين أي قسم من البيان يخاطبنا بشكل خاص؟ بعبارة أخرى: علينا أن نتبيّن ما إذا طُرحت في البيان قضايا المخاطَب الرئيسي بها هم علماء الدين وأنهم موظَّفون أكثر من غيرهم لإنجاز أعمال في هذا الإطار؟ بطبيعة الحال كان هذا الواجب في أعناقنا أيضًا قبل أن يقول به سماحة الإمام القائد؛ فلو لم يقُل هو ذلك لكان لزامًا علينا أن نعُدَّه من واجباتنا وأن نبذل كل جهد للنهوض به، لكنّ تصريح سماحته بهذا الأمر جعلَنا نلتفت إلى هذه المسؤولية ونعيها أكثر من ذي قبل.
والآن يُطرح السؤال التالي: ما الذي يتحتّم علينا صُنعه لإشاعة الأخلاق والروحانية؟ هل الحل هو أن نطوف بالأزقّة والطرقات والشوارع ونقول للناس: حَسِّنوا أخلاقكم، واسعَوا في طلب الروحانيات؟! أيكفي أن نطرح القضايا الأخلاقية على المنابر وحَسب؟! هذا حتمًا غير كافٍ، بل لا بد أن تبيَّن جميع جوانب الأخلاق والروحانية، وتُناقَش سبُل إشاعتها وتطبيقها في المجتمع. وهذه من الواجبات الخاصة بنا، وإنه ليتحتّم علينا أن نتحمّل مسؤولية جميع أبعاد المنظومة الأخلاقية للمجتمع. إن واجبنا الأساسي هو أن نربّي الآخرين تربيةً روحانية وأخلاقية، ونحيي القيم والـمُثُل، وننفُخ روح الروحانيات في المجتمع، ونعمل على أن تكون الروحانيات والأخلاق متجسّدة في الأشخاص الثوريين. إن علينا أن نبني هذه الطبقة، لكن السؤال هو: أين نحن من هذا الوادي، وما الذي نمتلكه نحن من هذه الأمور لكي نعطيها للآخرين؟!
فلو شئنا أن نعرف ما هو واجبنا تجاه هذا الأمر وأن نعمل بهذا الواجب، فمن أين علينا أن نبدأ؟ لعلّنا سنقول: لا بد أن تُعاد طباعة كتاب "معراج السعادة"، فتكون هذه خطوة على طريق إشاعة الروحانيات والأخلاق! لكن كم من الكتب أُلّفَت في الأخلاق خلال الخمسين سنة الأخيرة في أرقى جامعات العالم وأهمها؟! وأقصد المؤلفات التي تتناول أُسُس فلسفة الأخلاق؛ أي التي تجيب عن أسئلةٍ مثل: ما هي الأخلاق أساسًا؟ ومن أين ينشأ الحسَن والقبيح؟ وكم قسمًا هي؟ وكيف يمكننا اكتسابها؟... فلو أننا أُحضِرنا غدًا وسُئلنا: ما الذي فعلتموه لإشاعة الأخلاق في المجتمع؟ فماذا سيكون جوابنا؟!
من المستحسَن، على ما يبدو لي، أن يعقد السادة عدة اجتماعات يناقشوا فيها قضية أنه: ماذا صنعنا في مجال الأخلاق؟ قبل الثورة لا شيء! لكن ماذا عن زمان ما بعد انتصار الثورة، حيث كنا – في النهاية – متصدّين للأمور الاجتماعية والثقافية، نوعًا ما؟ ماذا قدّمنا على المستوى الفكري؟ وماذا صنعنا على الصعيد العملي لتنشئة كوادر بروح يعُدّها الإسلام روحانية وأخلاقية؟ فإن كنا قد خطونا خطوات جيدة في هذا المضمار، فعلينا أن نعزّزها ونواصلها ونضاعفها، وإن لم يكن الأمر كذلك، فلنعزم من الآن على إنجاز ذلك ولنسعَ باتجاه وضع الحلول له. بالطبع ليس من المجدي عمليًّا أن نقول: على الجميع أن ينجزوا العمل ذاته وبالشكل نفسه؛ فهذا لم يحصل في أي زمان وفي أي مجتمع، فإن مواهب الأشخاص شَتّى وأذواقهم مختلفة، ثم هناك اختلاف أيضًا في عملية تحديد مدى أهمية الأعمال التي يجب أن تُنجز في المجتمع. هكذا خلَق اللهُ تعالى الإنسان. إذًا يجب أن نعرف ما الذي يمكن أن ننجزه نحن في هذا الاتجاه؟
الهدف هو إحياء مكارم الأخلاق، وعلينا أن نحاول نحن أيضًا أن نخطو خطوة في هذا المضمار. علينا أن نرى من أين يجب أن نبدأ إذا أردنا فعل ذلك؟ بل من الممكن أيضًا أن تكون لهذا الأمر ممهّدات قد لا تُثمر عن نتائج إلا بعد عشر سنين أو أكثر؛ فإن مقدّمات هذا الاجتماع الذي نحضره الآن والخطط والمناهج التي تُنَفَّذ هنا – على سبيل المثال - ابتدأت منذ سِت أو سبع سنوات قبل انتصار الثورة ونمَت شيئًا فشيئًا. فإن في هذا الاجتماع الآن أشخاصًا كانوا قد شارَكوا في تلك المناهج التي سبقَت انتصار الثورة، والآن وصل العمل إلى هذا المستوى – لله الحمد – إذ قد أُخذت خطوات مفيدة وحصل تقدّم جيد نسبيًّا في هذا المجال.
لو شئنا أن تترتب، بعد أربعين سنة أخرى، نتائجُ سليمة على الإجراء الذي نبدأ به اليوم وتظهر ثماره في المجتمع بشكل جدي فعلينا أن نقرّر ونبدأ منذ اليوم، إذ إنّ المناهج التعليمية والثقافية هي مناهج طويلة الأمد ولا بد من انتهاج الصبر والروية في عملية التصميم، والتخطيط، وإعداد الأساتذة وتأليف الكتب لذلك، والتعامل مع الناس، واختبار الأساليب التربوية. فإننا أمام بضع فئات من الناس: بدءًا من الأطفال ما بين السابعة والعاشرة، وصولًا إلى المراهقين في سن الثانوية، الذين هم في ذروة تفجّر الغرائز، وانتهاءً بمرحلة الشباب وما بعدها، إذ يتحمّلون مسؤولية العائلة، وإن لكل فئة اقتضاءاتها الخاصة. فلا الكُتّاب والمؤلّفون والمعلّمون هم بنمط واحد ويمكن التعامل معهم بطراز ذوقي واحد، ولا المتعلّمين هم في مستوى واحد، لكن ثمة أمور عامة مشتركة هي مفيدة للجميع.
في هذا المضمار لا بد في البداية أن تَثبُت لنا نحن، من الناحية العلمية، أسُسُ الأخلاق الإسلامية وفلسفتُها؛ مثل العلاقة بين الأخلاق والدين، وبين الأخلاق والأحكام، وبين الأخلاق والقيَم. فإن مسائل مِن مثل: تحقق السلوك القويم أو الأخلاق الحسنة في الواقع بصورة درجات يمنحها الله لعبده في الجنة، واختلاف الكافر والمشرك مع المؤمن في هذه الدرجات، وما إذا كان اختلافهما طولي أو تبايُني – هذه المسائل يجب أن نصل فيها إلى حلول نقتنع بها نحن أوّلًا، ومن ثم نصل إلى أجوبة جاهزة لإقناع الآخرين. وهذه تحديدًا هي فلسفة الأخلاق. وبعد أن نصل في هذه القضايا إلى حلول على المستوى النظري علينا أن نعرف ما هو الأسلوب العلمي الذي يجب اتّباعه لإعداد كوادر بأخلاقٍ حسَنة، وما الطرُق التي ينبغي تبَنّيها لهذا الغرض؛ فإنّ كُلًّا من الكتب والأفلام والمسرح والأعمال الفنية والأبحاث الفلسفية، وعلى مستويات مختلفة، لها فائدة في هذا المضمار. فبالنسبة للأطفال يسَعُنا اعتماد المسرح والأساطير الـمُحاكة. ونحن لا نعرف في أي مستوى من هذه المستويات ولو بضعةَ أشخاص يُتقنون هذا الفن، بالطبع هناك أشخاص من هذا الصنف وقد بذلوا جهودًا في هذا الوادي، لكن هذا غير كاف.
ينبغي لنا على الأقل إعداد أطروحة لهذا الأمر لكي يمكننا طرحُها على الآخرين أيضًا. في مثل هذه الحالة قد يكون للبعض رأي في هذا المجال نستطيع على أساسه إصلاح أطروحتنا. ثانيًا: اعتمادًا على هذه الأطروحة علينا أن نضع خطة ثم نعرضها على الحوزة العلمية لكي يُقحِمها المسؤولون فيها في مناهج الحوزة الدراسية. ولا بد لهذا الأمر أن يتحقق من خلال أسلوب مؤدَّب واقتراح متواضع، ولا ينبغي أن نتوقّع أن نكلّف الآخرين بما فَهِمناه نحن واستوعبناه ونفرضه عليهم فيقبلوه برحابة صدر!
خلاصة الكلام هي أنه طُرح أولًا السؤال التالي، وهو ما إذا كانت بعض بنود البيان موجهة إلى أشخاص بعينهم أم لا؟ فإن كان البيان يخاطب أشخاصًا بعينهم، فهل نحن علماء الدين مخاطَبون ببعض بنوده أم لا؟ فإن كنا كذلك فما هو مقدار ما يعترينا من ضعف أو نقص أو انحراف في القضايا ذات الصلة؟ وبعد الإجابة على هذه الأسئلة يجب أن نعرف كيف يمكننا أن نزيل هذه النقائص وبأي الأساليب؛ أولًا فيما يتصل بنا نحن، ومن ثم فيما يتصل بالحوزة وطلَبة العلم، وبعد ذلك فيما يتعلّق بسائر الناس. والمرحلة الأخيرة هي أن نتعلم سبُل نقل الأخلاق الحسَنة وبنائها في أوساط المجتمع، باعتماد التعاليم الدينية، وسيرة النبي الأعظم والأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين)، وبالطبع التجارب التي خاضَها العقلاء وذوو النوايا الحسَنة في هذا المضمار، ومن ثم نطبّق هذه السبل، مستفيدين من التقنيات المتوافرة اليوم والتي لم تكن في الماضي. فهذه أيضًا نِعَم مَنّ الله علينا بها ولا بد من استعمالها.
وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين
[1]. هو البيان الذي وجّهه الإمام القائد الخامنئي (دام ظله) إلى الشباب في الذكرى الأربعين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران والذي عَدّ سماحتُه فيه أن إنجازات الثورة في الأربعين عامًا المنصرمة كانت الخطوة الأولى وأننا على اعتاب اتّخاذ الخطوة الثانية، وأسماه "بيان الخطوة الثانية للثورة الإسلامية".