الجلسهَ الخامسهَ: الجهاد؛ دعامهَ الایمان الرابعهَ

تاریخ: 
سه شنبه, 6 ارديبهشت, 1390

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 26 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

الجهاد؛ دعامة الإیمان الرابعة

«وَالجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهْیِ عَنِ المُنْكَرِ، وَالصِّدْقِ فِی المَوَاطِنِ، وَشَنَآنِ الفَاسِقِینَ»1.كنّا نتأمّل فی حدیث أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه) فی جوابه لمن سأله عن الإیمان عندما قال: «الإِیمَانُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: عَلَى الصَّبْرِ وَالیَقِینِ وَالعَدْلِ وَالجِهَادِ» وقد تحدّثنا فی اللیالی الماضیة بمقدار ما وفّقنا الله سبحانه وتعالى عن الدعائم الثلاث الاُولى، وارتباط الدعائم الأربع مع بعضها، وتأثیرها على تقویة الإیمان. وقد ذكرنا أنّ الركنین الأوّلین، أی الصبر والیقین، یتعلّقان بسلوك الإنسان الفردیّ فی حین یرتبط الركنان الآخران بسلوكه الاجتماعیّ.

تأمّل فی مسیر تحوّل الألفاظ

لقد اتّخذت الكثیر من المفاهیم المذكورة فی القرآن الكریم والروایات والموجودة فی ثقافتنا الإسلامیّة - اتّخذت الیوم معانی خاصّة. وبعبارة اُخرى فإنّ المعنى الذی اُرید من هذه الألفاظ فی الآیات والروایات لا یشبه ما نفهمه نحن الیوم منها، بل إنّ المعنى الذی كان یُراد منها هو أعمّ أو أخصّ. كما ومن الممكن أیضاً أن یختلف المعنى اللغویّ لهذه الألفاظ عمّا هو مستعمل فی الثقافة الدینیّة.
فكلمة «التقیّة» على سبیل المثال تعنی حفظ النفس من الأخطار وهی ترادف فی المعنى كلمات من قبیل الاتّقاء، والتُقاة، والتقوى. فكلمة التقیّة كانت تُستعمل فی زمان النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وأمیر المؤمنین (علیه السلام) بما یناظر كلمة التقوى؛ فقد جاءت فی نهج البلاغة عبارات استُخدمت فیها كلمة التقیّة عوضاً عن التقوى؛ نحو: «اتّقوا الله تقیّة»2. لكن بعد مضیّ مدّة من الزمن، وخصوصاً فی زمان الإمامین الباقر والصادق (علیهما السلام)، اكتسبت كلمة التقیّة مدلولا خاصّاً؛ فقد شاعت فی زمان هذین الإمامین (صلوات الله علیهما) المسائل الخلافیّة بین الشیعة والسنّة وكانت الحكومة – المنتسبة إلى المذهب السنّی – تحاول إقصاء الشیعة بل وقتلهم أحیاناً. بالطبع فإنّ أصل مسألة التقیّة كان موجوداً حتّى فی زمان النبیّ الأكرم (صلوات الله علیه وآله)؛ فالقرآن الكریم یقول: «إِلاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً»3؛ فكلمة «التُّقاة» هنا تعطی معنى التقیّة تماماً. لكنّ كلمة «التقیّة» قد أصبحت فی زمان الإمامین الباقر والصادق (علیهما السلام) مصطلحاً خاصّاً یطلق على السلوك الذی یتّبعه المرء فی سبیل حفظ مذهبه ونفسه وماله وعرضه. فهذا السلوك ینطوی أیضاً على حفظ النفس من الخطر لكن لیس أیّ خطر.
أمّا كلمة: «الجهاد» فهی مأخوذة من «الجُهد» الذی یعنی السعی والمثابرة. لكن عندما تصاغ مادّة فی صیغة المفاعلة فإنّ أحد معانیها هو سلوك بین شخصین یحاول فیه أحدهما التغلّب على الآخر. فإن اُرید من هذه المادّة فعل شخصیّ ولیس غیر فلا تستعمل له لفظة: «الجهاد»، بل غالباً ما تستخدم كلمة: «الاجتهاد». وحتّى كلمة الاجتهاد هذه قد أصبحت بمرور الزمان تعنی فی علم الفقه وعلم الاُصول مصطلحاً خاصّاً. فعندما تُصاغ مادّة الجهد بصیغة المفاعلة یكون مصدرها «المجاهدة» و«الجهاد» ولابدّ أن تلاحَظ فیها قضیّة المواجهة بین شخصین ومحاولة كلّ منهما الإطاحة بالآخر أو محاولة أحدهما على الأقلّ التغلّب على الآخر. ولم یُلحظ فی المعنى اللغویّ للجهاد والمجاهدة أكثر من هذا المعنى. ولهذا فعندما یقول أمیر المؤمنین (علیه السلام): إنّ الركن الرابع للإیمان هو الجهاد، فإنّ المفروض هنا هو أن یوجَد أمام الشخص عدوٌّ مّا أو أیّ شخص یمارس سلوكاً غیر مناسب وعلى هذا الشخص بذل الجهد لمواجهته. وهذا هو المعنى اللغویّ للجهاد وقد جاء فی القرآن الكریم بنفس هذا المعنى أیضاً. لكنّه بمرور الزمان فقد أصبحت كلمة الجهاد مصطلحاً فقهیّاً خاصّاً. ومن هنا فإنّه یقال فی الكتب الفقهیّة عادة: إنّ الجهاد على ثلاثة أقسام: الجهاد الابتدائیّ مع الكفّار والمشركین، والجهاد الدفاعیّ فی مقابل المعتدین على أموال الناس وأرواحهم وأعراضهم، والجهاد مع البغاة؛ وهو مقارعة الثائرین على حكومة الحقّ. إذن فالمقصود من الجهاد ضمن هذه الأجواء هو الجهاد العسكریّ الذی یُلجأ فیه إلى السلاح. أمّا معنى الجهاد اللغویّ المستخدم فی القرآن والسنّة فهو یعمّ كلّ جهد یُبذل ضدّ العدوّ؛ سواء فی المجال الاقتصادیّ بإنفاق المال، أو فی المجال الثقافیّ، أو على الصعید السیاسیّ، وسواء أكان هذا الجهد موجّهاً ضدّ العدوّ الخارجیّ أم ضدّ النفس.
إذن فما هو معنى الجهاد فی كلام أمیر المؤمنین (علیه السلام) عند الأخذ بهذه النقاط بنظر الاعتبار؟ عندما تكون للفظة معیّنة مصطلحات واستخدامات متعدّدة فلابدّ من الاستعانة بالقرائن الكلامیّة أو المقامیّة لفهم المعنى المراد منه. فموضوع البحث فی كلام علیّ (علیه السلام) یدور حول الإیمان والعوامل الداعمة له. لكنّ هذه القرینة لوحدها لا توضّح ما إذا كان المراد من كلمة الجهاد هو الجهاد المسلّح أو معنىً أوسع من ذلك. لكن من خلال القرائن والتوضیحات اللاحقة یتبیّن أنّ الجهاد العسكریّ لیس هو المعنى الوحید الذی اُرید هنا بل قد اُرید معنى أوسع من ذلك. وقد استُخدم مثل هذا المعنى العامّ فی القرآن الكریم والروایات الاُخرى أیضاً. فالقرآن الكریم مثلاً یقول: «وَالَّذینَ جَاهَدُوا فِینَا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنَا»4؛ فكلّ مقارعة مع عدوّ الحقّ هنا تُعدّ مصداقاً لهذه الآیة الشریفة. وحتّى أمیر المؤمنین (علیه السلام) فإنّه یقول فی هذه الروایة مواصلاً لحدیثه: «والجهاد منها على أربع شُعب: على الأمر بالمعروف، والنهی عن المنكر، والصدق فی المواطن، وشَنَآن الفاسقین»؛ فالجهاد الذی یحفظ الإیمان ویقوّیه ینقسم إلى أربع شعب: اُولاها وثانیتها هما الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. ومن المسلّم أنّ فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر لا تكون عبر السلاح فحسب، بل هناك أمر ونهی باللسان أیضاً. إذن فالجهاد الذی ینقسم إلى أربع شعب لا ینحصر بالجهاد المسلّح، بل یحمل معنى أوسع من ذلك وهو عبارة عن المجاهدة ضدّ عدوّ الحقّ بأیّ وسیلة كانت.
أمّا الشعبة الثالثة من الجهاد فهی «الصدق فی المواطن». ویظهر أنّ لفظة المواطن قد اقتُبست من القرآن الكریم حیث یقول عزّ من قائل: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِی‏ مَوَاطِنَ كَثِیرَةٍ»5؛ ویراد من المواطن هنا المواقف العسكریّة. إذن فـ «الصدق فی المواطن» یعنی: علیكم أن تكونوا صادقین فی المواضع التی أبرمتم فیها مع الله میثاق دمٍ وعاهدتموه على الثبات على العهد والتضحیة حتّى آخر قطرة دم فی عروقكم. وقد قدّمنا فی المحاضرات السابقة توضیحاً لكلمة الصدق وقلنا إنّه لا یقتصر على الصدق فی الكلام بل یشمل الوفاء بالعهد أیضاً. إذن فالمصداق القطعیّ لعبارة الصدق فی المواطن هو الوفاء بعهد الجهاد العسكریّ.
وأخیراً فإنّ الشعبة الرابعة من الجهاد هی معاداة الفاسقین «شَنَآن الفاسقین»؛ والشنآن هو العداء المقرون بالغلظة والشدّة. وقد استُعملت كلمة: «شنآن» فی القرآن أیضاً وذلك فی قوله تعالى: «وَلا یَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلاّ تَعْدِلُواْ»6؛ أی عندما تحكمون بین الناس ینبغی أن یكون حكمكم عادلاً. وحذار من أن یؤدّی عداؤكم لأحد إلى زیغ فی حكمكم.
یقول أمیر المؤمنین (علیه السلام): إنّ الشعبة الرابعة من الجهاد هی أن تعادوا من یسحق الأوامر الإلهیّة تحت قدمیه بكلّ وقاحة ولا یقیم للقیم الإسلامیّة وزناً. فهناك نوع من العداوة فی قلوب المؤمنین تجاه أهل الفسق والفجور. ولو كان هذا العداء غیر موجود فی قلوبنا فإنّنا لن نوفَّق فی ساحة الجهاد، بل ولن ننجح فی إنجاز سائر تكالیفنا أیضاً. فالشخص الذی لا یعتبر فی قلبه أنّ الصهاینة الجناة أعداءٌ، فإنّه لن یتورعّ من أجل مصالحه الدنیویّة عن شراء بضائعهم أو تقویة اقتصادهم. فلو لم تكن هذه العداوة فإنّ المرء لا یستطیع الوفاء بعهده فی ساحة الجهاد الاقتصادیّ.

توضیح لمفردات شُعب الجهاد

مفاهیم «الأمر بالمعروف» و«النهی عن المنكر»

الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر هی من المفردات التی تعرّضت بمرور الزمان إلى تغیّر فی المعنى، بحیث اُضیفت تدریجیّاً إلى المعانی اللغویّة للأمر والمعروف والنهی والمنكر قیود أو حُذفت منها قیود فتحوّلت إلى مصطلحات خاصّة. فكلمة: «الأمر» تعنی إصدار القائد أو المسؤول الأعلى أمراً إلى مَن دونه وهذا الأمر یكون غالباً باللسان أو الكتابة. و«النهی» هو فی مقابل الأمر. أمّا «المعروف» فهو من عائلة «عَرَف» و«المعرفة» وأمثالهما. والمعنى اللغویّ والأصلیّ للمعروف هو «الشیء الذی یُعرف». وفی مقابله «المنكر» وهو «غیر المعروف». فعندما أعرف شخصاً أقول: إنّه معروف لدیّ، أو عندما یعرف الناس امرأ فإنّهم یقولون: إنّه شخص معروف. لكنّه عندما یأتی المعروف والمنكر ضمن عنوان أحد فروع الدین فإنّهما لا یحملان هذا المعنى. ففی العرف العامّ، أی بقطع النظر عن الشرع وأحكامه، عندما یقال: أمر معروف فإنّه یضاف إلى المعروف قید غیر مكتوب؛ بمعنى: كونه عملاً یعلم العقلاء أنّه ینبغی علیهم القیام به. وهذا المعنى للمعروف هو ما یُصطلح علیه فی العرف العامّ، وطبقاً لهذا المصطلح فإنّ المعروف هو الشیء الذی ینظر إلیه العقلاء على أنّه حسن. أمّا «المنكر» فهو یعنی الشیء الذی لا ینظر إلیه العقلاء على أنّه حسن ولا یرونه كذلك.
لكنّ مفردتَی المعروف والمنكر قد تحوّلتا فیما بعد إلى مصطلحین دینیّین فقهیّین. فالمعروف وفقاً لهذا المصطلح هو الشیء الذی یراه المتدیّنون حسناً فی نطاق الشرع. فمن الممكن أن یرى المتدیّنون شیئاً حسناً ولا یراه جمیع العقلاء كذلك، أو أن یرى المتدیّنون شیئاً قبیحاً فی حین أنّ بعض العقلاء لا یرونه كذلك. وإنّ المعروف والمنكر الإسلامیّین هما اللذان یعرفان بعنوان كون الأوّل حسناً والثانی قبیحاً فی المحیط الإسلامیّ وضمن بیئة المتشرِّعَة، لا فی أوساط الفسّاق والكفرة. وبالطبع فإنّ المناط فی تعیین حُسن المعروف وقُبح المنكر وفقاً لهذا المصطلح هو الدین نفسه.

جواب على مغالطة

یزعم البعض أنّ الأمر بالمعروف یعنی أنّ یتعلّم الناس الدین جیّداً أوّلاً قبل أن یتمّ أمرهم به؛ لأنّ المعروف یعنی الشیء الذی یُعرف. وهذا الكلام فیه مغالطة؛ لأنّ المعنى اللغویّ للمعروف هو الشیء الذی یُعرف، بید أنّ هذه المفردة لها عدّة اصطلاحات. فهی تعنی وفق أحد اصطلاحاتها - الذی تكون دائرته أضیق بعض الشیء من معناه اللغویّ – ما یراه العقلاء حسناً. وهذا المصطلح یُستعمل حینما یكون العقل قادراً على إدراك حُسن الشیء أو قبحه. أمّا المعروف فی العرف الدینیّ فهو ما یُعرف فی الدین بأنّه حسن حتّى وإن لم یدرك جمیع العقلاء حُسنه، وإنّ المنكر فی الوسط الدینیّ هو ما یُعرف فی الدین بأنّه قبیح، حتّى وإن لم یره جمیع العقلاء قبیحاً. فكلّ ما یراه الدین حسناً ویرى أداءه واجباً یجب الأمر به سواء أعرفه الناس أم لم یعرفوه. فعندما نهى النبیّ (صلّى الله علیه وآله) عن عبادة الأوثان ووَأد البنات لم یكن الناس یرون فی هذه الأعمال قُبحاً، لكنّه كان على النبیّ أن ینهى الناس عمّا یراه الله عزّ وجلّ قبیحاً. فإذا كان الله یرى أمراً قبیحاً ولا یراه الناس كذلك فإنّه یتعیّن على المؤمنین فی البدایة تكلیف آخر ألا وهو تعلیم الجاهل؛ فعلیهم أوّلاً أن یفهموه بأنّ هذا العمل قبیح، أمّا الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر فهو تكلیف آخر یتحتّم القیام به فی محلّه. فإن قلنا: یتعیّن أوّلاً معرفة الدین ومن ثمّ الأمر بالمعروف، فسیتبادر السؤال التالی إلى الأذهان: إلى متّى ینبغی انتظار ذلك؟ ففی كلّ مجتمع هناك ثلّة تعتبر أفدح المعاصی حسنة. فهل علینا أن ننتظر حتّى یَعتبِر هؤلاء أیضاً هذه الذنوب قبیحة؟! إذ - فی هذه الحالة - لن یصل الدور إلى الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر أبداً بل وسیُلغى هذا التشریع من الأساس. فإن أحببنا أن یعرف جمیع الناس الحسنات والقبائح فلابدّ من تنفیذ فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر لآلاف المرّات. وإن لم تُمنع أكثر المفاسد فلن تحصل هذه المعرفة. فإن قال أحدهم: «أنا لا أرى فعل الذنب الفلانیّ قبیحاً» فهل یتعیّن القول: إنّه مجاز فی فعله؟! فأمثال هذه المغالطات هی من إلقاءات الشیطان التی یراد منها ترك أعظم فریضة فی الإسلام وتقدیم تبریر لترك الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، وإنّ جذورها تعود إلى عدم إدراك هؤلاء لكون المفردة قد تتعرّض على مرّ الزمان إلى تحوّلات وأنّه یجب التفتیش عن معنى كلّ كلمة فی عُرف نزولها وصدورها، وإذا كانت من الألفاظ المشتركة فلابدّ من اللجوء إلى القرائن بغیة تعیین المعنى المراد منها.
الالتفاتة الاُخرى هی أنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر قد ذُكر فی فروع الدین كقسیم للجهاد، أمّا هنا فیقول أمیر المؤمنین (علیه السلام): إنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر هما شعبتان من شعب الجهاد. فهذا الجهاد هو غیر الجهاد الذی یُذكر فی فروع الدین إلى جانب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر وإنّ له معنى أعمّ منه. وبناءً علیه ینبغی لنا النظر فی ماهیّة مصطلحات كلّ بیئة وأن نفهم اللفظ ونفسّره ضمن هذا الإطار كی یكون تحقیقنا وبحثنا صحیحاً فلا نستعمل المصطلح المستخدَم فی بیئة خاصّة فی مكان آخر. فإنّ عدم الالتفات إلى معانی المصطلحات هو علامة على الجهل؛ هذا إذا لم یكن ثمّة سوء نیة فی البین؛ كأن یقول امرؤ فی درس الریاضیّات حینما یتمّ الحدیث عن درس الجبر: «لا جَبْرَ ولا تفویض»!7 فهذا یدلّ على الجهل وعدم الاطّلاع على المسائل العلمیّة.

مفهوم «شنآن الفاسقین»

جاء فی أحادیث كثیرة أنّ أوّل مراتب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر هی حالة قلبیّة تنتاب الآمر أو الناهی؛ بمعنى أنّه عندما یشاهد المؤمن ما یجری فی المجتمع من ألوان المفاسد والمعاصی والتمرّد على القوانین والاستهتار بها وما إلى ذلك فإنّ أوّل ما یجب علیه فی عملیّة التعاطی مع هذه الظواهر هو شعوره باستیاء قلبیّ. فقد ورد فی روایات جمّة أنّ من واجب المؤمن أن یلقى المتجاهر بالفسق بوجه عبوس. وقد جاء فی الخبر أنّ الله بعث ملكَین لعذاب جماعة من الناس فوجد أحدُهما رجلاً یدعو الله ویتضرّع إلیه أن لا یُنزل العذاب على هؤلاء. فرجع الملك وسأل الله عن طلب هذا الرجل، فجاءه الخطاب من الله عزّ وجلّ: «امضِ بما أمرتُك به فإنّ ذا رجل لم یتَمَعَّر وجهُه غیظاً لی قطّ»8؛ أی لم یقطّب وجهه لأجلی ولا مرّة واحدة طیلة عمره.
إذن فأوّل ما على المؤمن فعله عند مواجهة فعل المعصیة هو شعوره بالاستیاء القلبیّ ثمّ ظهور هذا الاستیاء على قسمات وجهه. أمّا فی المرحلة الثالثة فعلیه أن ینهى عن ذلك بلسانه فإن لم یترك ذلك أثراً فسیأتی الدور للمراحل اللاحقة ممّا یتعیّن أحیاناً تدخّل أجهزة الحكومة الرسمیّة. فالذی لا یمقت الذنب فسیُبتلى شیئاً فشیئاً بنفس هذا الذنب وسیحیق به الفسق، ولا ریب أنّ إیمان الإنسان الفاسق یكون فی خطر وقد یغادر الدنیا وهو كافر.
فإنّ فی رقابنا واجبین تجاه المعصیة: الأوّل هو الاستیاء من فعل المعصیة نفسها أیّاً كان الشخص الذی صدرت منه. أمّا إذا بدرت من المؤمن فلا ینبغی أن نتبرّأ منه - إذ أنّ من واجبنا حبّ المؤمنین حتّى وإن كانوا فی أوطأ مراتب الإیمان – بل أن نعدّ فعله قبیحاً. أمّا الذین دأبهم المعصیة والذین لا یقیمون أدنى وزن للقیم الدینیّة والمعتقدات الإلهیّة فیتعیّن التبرّؤ منهم واعتبارهم أعداء، بالضبط كما صرّح إبراهیم الخلیل (علیه السلام) ومَن معه عندما واجهوا المشركین: نحن برآء منكم وإنّ بیننا وبینكم عداوة حتّى تؤمنوا: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِی إِبْرَاهِیمَ وَالَّذِینَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَیْنَنَا وَبَیْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِاللهِ وَحْدَهُ»9. ونحن أیضاً مكلّفون بأن نعادی من أعماق قلوبنا كلّ مَن یضمر العداء للدین والنظام الإسلامیّ حتّى وإن أظهر الإسلام والثوریّة نفاقاً. فعبارة: «شنآن الفاسقین» هی غیر الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر؛ إذ یتحتّم علینا أن نعادیهم فی قلوبنا، وإلاّ ضعف إحد أركان إیماننا ولن یكون هذا الإیمان ثابتاً راسخاً، بل سیكون عرضة للخطر والسقوط.

أعاذنا الله وإیّاكم إن شاء الله


1. نهج البلاغة، الحكمة 31.

2. نهج البلاغة، الحكمة 210.

3. سورة آل عمران، الآیة 28.

4. سورة العنكبوت، الآیة 69.

5. سورة التوبة، الآیة 25.

6. سورة المائدة، الآیة 8.

7. الكافی، ج1، ص160.

8. الكافی، ج5، ص58.

9. سورة الممتحنة، الآیة 4.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...