كيف نكون أحبّاء الله؟

مراسيم بدء العام الدراسي الجديد، المدرسة المعصوميّة بقم المقدّسة؛ التاريخ: 23 أيلول 2019م، الموافق: 23 محرم الحرام 1441ه
تاریخ: 
دوشنبه, 1 مهر, 1398
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

اللهُمّ كُن لوليِّكَ الحجّةِ بنِ الحسن، صلواتُكَ عليهِ وعلى آبائِه، في هذهِ الساعَةِ وفي كلِّ ساعةٍ، وليًّا وحافِظًا وقائِدًا وناصِرًا ودَليلًا وعَينًا، حتّى تُسكِنَه أرضَكَ طَوعًا وتمتِّعَهُ فيها طويلًا.

نهدي الصلوات على الروح الطاهر للإمام الراحل(ره)، وشهداء الإسلام العِظام، وكل مَن له حق علينا.

أشكر الله العلي القدير أن وفّقني مرّة أخرى للتشرّف بالحضور في محفلكم النيّر أيّها الأعزّة، يا قرّة عين الإسلام وأمل الثورة والحوزة العلميّة، وليُتاحَ لي أن آخذ دقائقَ من وقتكم.

مناسبة هذا اليوم وهذا الاجتماع هو بدء العام الدراسي، ومن المتعارف في مثل هذه الأيام، في جميع المراكز العلمية، سواء الجامعية أو الحوزوية أو غيرها، أن تُنتهز الفرصة للتذكير بنعم الله تعالى، والإشارة إلى بعض ما قد يفيد الملتحقين بالمدارس العلمية من ملاحظات، وما يمكن أن يؤثّر على تقدّمهم العلمي من نصائح. وهذه سُنّة حسَنة جدًّا، وأنا بدوري أشكر المؤسّسين لمثل هذه الاجتماعات، وأدعو لهم الله بمزيد التوفيق، وأرجو من الله أن يُحسِن عاقبتي ببركة دعائكم.

التدبير الإلهي الحكيم في حياة الإنسان

لقد وضع التدبيرُ الإلهي لهذا العالم الذي نحيا فيه قوانينَ تكوينيّة تَسوسُ حياتَنا، قد ينفع الالتفاتُ إليها في حُسن تقدّمنا واختيارنا السليم في مسيرة حياتنا. هناك أمور كثيرة نعرفها، لكننا لا نفكّر فيها، ولا نجد الفرصة لإطالة التأمّل حولها. على سبيل المثال؛ أن يكون الإنسان منذ لحظة ولادته وليدًا ضعيفًا، ولا بد من مُضيّ بعض الوقت ليتمكّن من الخَطو، والنطق، ثم ليتعلّم – رويدًا رويدًا – أشياء من أبويه ومن البيئة المحيطة به، ...إلخ، فإنّ هذه مسيرة تكوينيّة، شاهدَها ومرَّ بها الجميع. قد يقول كثيرون: "ليس هذا مما يستحق التفكير فيه، فهذه هي الحياة على أيّة حال!" لكنّ الرؤية التوحيدية تقضي بأن ينظر الإنسان إلى هذه الأمور بصفتها تدابير إلهيّة حكيمة.

لقد جعلَ الله عزّ وجل لمسيرة الإنسان في هذا العالم عنصرًا لم يجعله لباقي الكائنات الحيّة. فهذه الأخيرة هي الأخرى تطوي مراحل حياتها التدريجية بإدراكاتها الفطرية الغريزية، غير أنّ الإنسان يدرك منذ البداية أمورًا عن لاوعي منه. الآن نحن نعرف أنّ هذا الإدراك عن لاوعي؛ فالرضيع إذا أُلصق بثدي أُمّه يُضيّق شفتَيه ويبدأ بالمصّ، وهذا شيءٌ اللهُ تعالى هو مَن علّمَه إيّاه. وما إن يكبر قليلًا؛ كأن يبلغ السنتين مثلًا، حتى يظهَر فيه – شيئًا فشيئًا - إدراكٌ آخر، غيرُ محاولتِه إشباعَ بطنه أو سعيِه لدرء الألم والمعاناة بالبكاء وإبداء الاحتياج، وهو أنّه يودّ لَفْت انتباه أبويه والمحيطين به إليه. وبالنسبة إليه، هذا الانتباه بالذات مطلوبٌ له. لعلّكم شاهَدتم كيف أنّ الطفل يستاء ويشعر بالغيرة إذا رأى الكبار يداعبون طفلًا آخر إلى جانبه أكثر منه. هذا يدلّ على أنّ الطفل يدرك شيئًا آخر؛ فإنّه يودّ، ناهيك عن رغبته في إشباع بطنه، أن يحبّه الآخرون ويلتفتوا إليه. بالطبع الطفل نفسه لا يعي سبب هذا الشعور، لكن بإمكاننا نحن تفسير هذه الحالة ومعرفة أسبابها.

هذا الشعور هو تقريبًا أساس ظهور إدراك الأمور غير الحسّية؛ ذلك أنّ الإحساس بالشخصية والشعور بالرغبة في أن يحترمه الآخرون ليس هو مما يرتبط بالأكل والشرب والعوامل الفيزيائية والكيمياوية، بل هو أمر نفسي؛ بعبارة أخرى: ليس وراءه عامل مادّي مباشر. وشيئًا فشيئًا يتّخذ كل نوع من هذه الاحتياجات؛ سواء الاحتياجات الجسدية والحسّية، أو الاحتياجات الروحية – التي تظهر على هيئة الشعور بالشخصية، والرغبة في احترام الآخرين له، والمحبوبيّة لديهم، وكونه محطّ اهتمامهم – يتخّذ مسارَه الخاص به.

العامل وراء الأنشطة الإنسانية في حيّز الأمور المادّية والحسّية واضح، ولو ادّعى أحدهم أنّ المحرّك الأساسي لمعظم الأنشطة في العالم هو الاحتياجات المادّية، من مثل الأكل والشرب وسائر الاحتياجات الجسدية، فقد لا يكون ادّعاؤه جزافًا؛ إذ إنّ المحرّك الأساسي لمعظمنا في هذا العالم هو هذه الأمور، وفي كل يوم تَظهَر، وتُكتشَف، أو تُختلَق منها ألوانٌ أكثر جِدَةً، ولذّةً، وزُخرفًا، ومن ثمّ جذّابيةً، فيتّجه الناس إلى هذه الوسائل لسدّ احتياجاتهم.

وهناك أيضًا مَن ينمو في المسار الروحي، وهو الشعور بالشخصية والمقبوليّة بين الآخرين؛ في البدء يكتفي بكسب المحبوبيّة عند الأبوين والأقربين، ثمّ ما إن يدخل بيئةً أوسع حتى يودّ تدريجيًّا أن يُعرف في تلك البيئة، ويصبح محطّ الاهتمام، ويحترمَه الآخرون، ويجعلوا له عناوينَ وألقابًا. ثمّ يأتي دور الاحترامات الظاهريّة؛ وهو أنْ يقوموا له احترامًا، ويصفّقوا له في موضع، ويوقّروه على نحو آخر في موضع. كلّنا خَبَر هذه الأمور، وهي ليس مما يحتاج إلى توضيح. القضية هي أنّه: إلى أين تُفضي هذه الاحتياجات؟ ولماذا أودَعها الله تعالى في بني البشر؟

لماذا نحن نسعى للمحبوبية عند الغير؟

سبقَ أن قلنا إنّ هذه الأمور جميعًا، بحسب الرؤية التوحيدية، تدابير إلهية، وإنّما جُعلَت لأهداف حكيمة. الآخرون يقولون إنّها صدفة، وإنّ هذه هي الطبيعة، لذا فإنهم لا يتساءلون كثيرًا عمّا إذا كانت مفيدةً أم لا، قائلين: هي هكذا وانتهى، الحياة هي هذه! أمّا الشخص الإلهي فهذا التفسير غير مُقنِع له. فهو يريد أن يفهم أنه: ما الحكمة من وراء هذا التدبير؟ ولماذا يجب أن نكون هكذا؛ وهو أن نرغب في أن يحترمنا الآخرون؟ مثلًا نودّ أن تُعلَّق صورتنا في موضع ما، أو يسمّى شارعٌ باسمنا. بل هناك مَن يرغب في أن يُصنع له تمثال ويوضَع في مكانٍ ما ليبقى بعد موته أعوامًا وقرونًا. ثمّ ماذا؟ ما الحكمة أساسًا في أن تخامرَ المرءَ حاجةٌ روحية إلى أن يكون محبوبًا؟!

المسار التطوّري للمحبّة

كلّما كانت الشخصية التي تُبدي للإنسان المحبّة أكثرَ أهمّية وأعظمَ رفعةً في نظر مَن يودّ أن يُحترم تزداد قيمة هذا الأمر بالنسبة إلى الأخير؛ فالمرء يريد أن يحبّه أناسٌ ذوو مقامات عالية؛ في نطاق العائلة يريد أن يكون محبوبًا عند أبويه، فإن التحقَ بالمدرسة يودّ لو يحبّه مديرُ المدرسة ومعلّموها، وعلى مستوى المجتمع يرغب في أن يحبّه مشاهير المجتمع وشخصيّاته المرموقة، وصولًا إلى أيّ شخصية تحظى عنده بأيّ شكل من أشكال الجاه والعظمة، في أيّما بيئة، فتراه يتمنّى حبّها له.

المثال المبسَّط العامّي للقضية، والذي يمكن أن يحصل لكل واحد منّا، هو – مثلًا - أن أكون في يوم من الأيام جالسًا في الدار فيرنّ الهاتف، وإذا بالـمُهاتف يقول: لقد أبرَقوا إلينا من مكتب الإمام القائد الخامنئي بأنّك مدعُوّ للقاء سماحته في موعدِ كذا إن كان لديك الوقت! بطبيعة الحال حين أَعرف أن الدعوة موجَّهة من مكتب سماحة الإمام القائد لن تسعَني الدنيا فرحًا، قائلًا في ذات نفسي: لقد بلغتُ من المكانة ما يجعل مسؤولي مكتب سماحة الإمام القائد يوجّهون دعوة خاصّة لي للقاء سماحته! هذه منتهى العظمة، وهي لا تقاس باحترام أبوَيَّ والآخرين وجيراني لي. فماذا لو رنّ الهاتف يومًا فرفعتُه فإذا بسماحة الإمام الخامنئي نفسِه يهاتفني أن: "تعالَ إليّ ساعةَ كذا فلي معك شغل!" إنّه لحَرِيّ بي هنا أن يُغشَى عليَّ! فإن دخلتُ عليه فقال لي: "تعالَ واجلس إلى جانبي"، وصار يمسح على رأسي كما يداعَب الطفل، ففي مثل هذه الحالة لعلّ المرء يصاب بجلطة قلبية من فرط فرحته! لكن مَن هو الإمام القائد الخامنئي؟ هو شخص محترَم وموقَّر بين أفراد مجتمعنا ونحن نرى له عظمةً وجلالًا خاصًّا، وإنّ أصل العظَمة التي نراها له نحن معاشر المتديّنين، كما يُصطلح علينا، هي أنّه ممثِّلٌ من آلاف الممثّلين الذين منحَهم الإمام الحجة(عج) في زمان الغيبة عنوان النيابة له(ع). أليس كذلك؟

والآن افترضوا - وتصوُّر هذا ليس بالمحال – أنّ إشارةً وصلَت من جانب الإمام المهدي(عج) نفسِه بترتيب مثل هذا اللقاء! فماذا سيحصل حينذاك؟! الأمر هنا سيتعدّى الغَشْي، ولو أنّه حصل فعلًا فبأيّ شيء يمكن قياس اللذة التي ستنتاب المرء في تلك اللحظة؟! لو وضعوا لذّات العالم المادّية كلَّها في كفّة ميزان ووضعوا هذه اللذّة في الكفّة الأخرى فبرأيكم أي كفّة سترجح؟ هذا بالطبع إذا كان الشخص يعرف صاحب الزمان(عج)؛ فإن كان لا يعرفه(ع) أو لا يَعي مقامَه فهذا موضوع آخر. هذا واقع؛ وهو أنّه من المتعذّر أن تُعطَى اللذّة التي تحصل جرّاء ذلك درجةً وفقَ مقاييس المقارنة والتقييم المتعارَفة. هذه اللذّة، وبحسب ذلك التدبير الإلهي الحكيم، هي أمارةٌ على أنّ الإنسان قد بلغ ذروةً من الكمال والشرف أهّلَته لمثل هذه المنزلة. بالطبع لو فكّرَ أنّ هذه نعمة من الله جلّ وعلا، فسيخضع له تعالى أيّما خضوع قائلًا: لك الحمد يا إلهي أن منَنتَ عليّ هذه المنّة.

والآن لتفترضوا أنّنا وَلَجنا عالـمًا نرى فيه رسول الله(ص) شخصيًّا، أو تهيّأت الظروف – ولنترك الوسائط جانبًا – بحيث أمكنَ في يومٍ ما، واسمُ ذلك اليوم لقاءُ الله، أن نرى الله بمعنًى من المعاني، صحيحٍ ومعقول؛ كما في قولهم: «تركتُ الخَلقَ طُرًّا في هواكا/ وأَيتَمتُ العيالَ لكي أراكا»، أو قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى‏ رَبِّها ناظِرَة).[1] أجل، من حيث إنّه ما مراتب قوله: (إلى ربّها)؟ فهذا ما لا تناله عقولُنا، لذا نكتفي بهذه الظواهر، إذ نعلم أنّه ثمّة حقائق تقصُر عقولُنا عن إدراكها، ولا نتوقّع كثيرًا أن نبلغ كُنهَها؛ لكن ثمّة أشياء هكذا يعبَّر عنها، ولقد اختار الله عزّ وجل لها هذه العبارات. هنا سندرك العلّةَ وراء رغبة الطفل في أن يهتمّ به الآخرون؟ حينذاك سنفهم أنّه: لماذا خُلِق الإنسان هكذا؟ هذا هو ذات الإدراك ذاك الآخِذِ بالنمو، والذي يصل إلى حيث يود الإنسان أن يحبّه الله جلّ شأنه.

المحبوبية عند الله تعالى

بحسب القرآن الكريم حين يريد اللهُ تعالى حثَّ الناس على شيءٍ ما فما التعابير التي يستعملها لذلك؟ يقول: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه[2] يقدّم أوّلًا: (يحبّهم)، هذا هو المهم! (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ)، من هم هؤلاء القوم؟ إنّهم الذين (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه). المرءُ ينفق أحيانًا أوقاتًا طويلة، ولربّما أموالًا طائلة ليحبّه بعض جيرانه أو زملائه.. ليمنحوه أصواتهم في الانتخابات مثلًا! يبذل جهودًا جبّارة، بل قد يُنفق ملايين، وحتى مليارات الدولارات لذلك. لأجل ماذا؟ ليجلس بضعة أيام أخرى على كرسي الرئاسة والسلطة!

فلو استطاع امرُؤٌ أن يفعل ما يجعل الله جلَّت عظمتُه يحبّه، فكيف يكون هذا الفعل؟ كم عليه أن ينفق؟ وكم يتعيّن عليه أن يستثمر لهذا الأمر؟ كم من السنين عليه أن يجتهد، ويسهر الليالي، ويبذل المجهود، ويقاسي الآلام، ويتحمّل فراق الأهل والأرحام، ويعزف عن كلّ شيء من أجل أنّه ربّما يأتي يوم، يُحتمَل فيه بنسبة واحد بالألف أن يُشمَل بقوله (يحبّهم)؟! ألا إنّنا لا نجد الوقت الكافي للتفكير في هذا. هناك الكثير من هذه الآيات، ولقد سمعنا ذلك مئات المرّات، ولم نستغرب أبدًا. لكن كم قيمة ذلك؟ وكيف لنا أن نحصل عليه؟

أسهل الطرق لتكون محبوبًا عند الله

ومن فرط رأفة الله تعالى بعباده فقد هيّأ لهم أسهلَ الأعمال وسيلةً لنيل محبّته؛ فلا حاجة لجمع رأسمال ضخم لإنفاقه في هذه الطريق، ولا ضرورة لصرف سنوات مديدة من العمر الطويل لأجل ذلك، بل باستطاعتك أن تصطنع أسهلَ الطرق وأقلَّها كلفة لتعطيك هذه النتيجة. شيء عجيب للغاية! بحسب مقاييسنا الدنيوية لا بد لنا من بذل مجهود أكبر كلّما أردنا جَنيَ ربح أعظم، اللهم إلّا أن نلجأ إلى الغش والتحايل. فالذين يتسّنمون منصبًا مرموقًا بسرعة أو يَجْنون ربحًا ضخمًا في وقت قصير لا بد أن يكونون غَشّوا، أو سَرقوا، أو خادَعوا، وإلّا فإّن الربح الأكبر يتطلّب في العادة جهدًا أعظم. فحين نقيس الأمر بأمورنا الدنيوية نتساءل: كيف تكون كُلفَةُ نَيلِ أعلى المقامات أقل، والطريق إليها أسهل؟!

قد يكون لنا بعض العذر - بسبب غفلتنا الناجمة عن مشاغلنا الدنيوية - في أن لا نفكّر في أنّه: ما معنى (يحبّهم)؟ وما قيمة ذلك؟ أمّا هنا فلا عذر لنا في أنّه كيف أنّ أمرًا بهذه البساطة يعطي مثل هذه النتائج ونحن عنه غافلون؟! كم نبذل من الجهد في سبيل أمرٍ قد لا نعلم أصلًا إن كان مُربحًا، أو كان آخرُه الخسران! فالتجارة التي يمارسها الناس قد تكون خاسرة، لكنّ الجميع يلهث ليلَ نهار، ويعمل بأمل الربح؛ نعم قد يكون الربح 90 بالمئة، أو 95، أو 80، الاحتمالات مختلفة، فإنّ هناك على الأقل احتمالًا لخسارة رأس المال، لكن الناس يبذلون لأجله جهودًا مضنية.

أعظم المنفعة بأقل كُلفة!

ما هو الشيء الذي يدُرّ منفعةً مئة بالمئة، وبأقل كُلفة؟ إنه أنْ يتنبَّه المرء إلى أنّ كل ما يملكه هو مُلكٌ لله، فيقول لربّه: "أنا عبد، وأنت ربّ، وأريد أن أتصرّف بالشكل الذي تحبّه أنت." هل يحتاج تصرّفٌ كهذا مؤونة ضخمة؟! وهل فَهمه صعب؟! هل نملك نحن يا ترى شيئًا من عند أنفسنا ليس الله هو الذي أعطاه لنا؟! أجَنَينا في حياتنا لذّةً مّا، غيرَ ما تلطّفَ الله تعالى به علينا، وهيّأ لنا ممهّداته، وجعل أسبابه في متناول أيدينا؟! إنّ كل شيء هو منه: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْض).[3] أمن الصعب جدًّا أن يستوعب المرء أنه لا يملك شيئًا من نفسه، وأنّ كل شيء لله؟! إنّ هذا أوّل الإسلام! ما دُمنا جميعًا نعتقد بهذا، فإنّ استيعابه يبدو غير صعب جدًّا. نعم، قضية إثباته بالبرهان ودفع الشبهات حوله لها مراتب.

كمال الإنسان في ظل العبودية

لننتبه إلى أن كل ما نملك هو له سبحانه. وإن أعلى القيم، وأفضل الكمالات التي ينالها الإنسان هي الأخرى تأتي في إثر قولنا: "نحن عبادٌ وأنت رَبّ"، لكنْ القول الذي يَتْبعه عمل، والذي يكون ذا أثر، والذي يكون عن صدق؛ (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُون[4] فالله تعالى لا يعترف كثيرًا بالدعاوى الكاذبة والمجاملات، وكلّما كنّا صادقين أكثر في قولنا فهو أفضل. فلنقل بصدق: "أنت الرب، وكلّما نملك هو منك أنت، فوفِّقْنا لأن نكون كما تحبّ أنت." وكفى! لكننا لا نصدّق بهذا كثيرًا؛ لا نصدّق بأنّ بالإمكان إقامة مثل هذه العلاقة مع الله؛ أن يتكلم المرء مع الله بمثل هذه اللهجة الصادقة، ويسمع الله كلامه، ويرتّب عليه الأثر. وإنّ قولَنا هذا نفسَه، أي إقرارنا بأننا عبيد، سيقود إلى تكاملنا وبلوغنا منزلةً لا نستطيع أن ندرك درجتَها، وأهمّيتَها، ولذّتَها، وقيمتَها.

العبودية لله كانت أهمّ ميزة لرسول الله(ص)

إنّ من الألقاب التي يستعملها القرآن الكريم للنبي الأعظم(ص) أكثر من غيرها، كلّما أراد ذكرَه، هو لقب "العَبد". نعم قد تكون لهذا الأمر حِكَمًا أخرى، ولعلّ من حِكَمه هو أنه أعلى مقام؛ (سُبْحانَ الَّذي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى).[5] لم يقل: "سبحان الذي أسرى بحبيبه"، بل قال: (سُبْحانَ الَّذي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ).

وإنّ من الفروض المكلَّفين بها هي أن نقول يوميًّا في الصلاة: «وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله»، ولعل من حِكَم ذلك هو أن نفكّر نحن في أنه: أيّ مقام هذا الذي هو ميزة للنبي الأكرم(ص)، وأنّ الله تعالى، من هذا الوَجه، يذكر أنّه رفعَ عبده إلى هذا المقام.

العبودية الخالصة بابٌ لإدراك رحمة الله

ليس جزافًا أن نزعم أنّ أعظم لطف تلطّف الله به على عباده، وهو على خلفيّة المحبّة الذاتيّة التي يحملها الله، في أن يخلق كائنًا يتلقّى أفضلَ نعمائه، وإلّا لن تتحقّق أنعُم الله علينا؛ إذ لا بد من كائنٍ يدرك هذه الرحمة. ولأجل أن يدرك هذه الرحمة فقد يَسَّرَ له أسهل الطرق لذلك؛ وهو: "افهم أنك عبد، واعبدني!" هذا كل ما في الأمر! إنه لا يريد منك أمرًا شاقًّا على الإطلاق، لم يُرِد منك أبدًا شيئًا فوق طاقتك بحيث تجد صعوبة في إيجاده، بل طالبَك بالأمور الميسَّرة لك تمامًا؛ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها).[6] يقول لك: "لن أؤاخذك أبدًا بأنّه: لماذا لم تفعل الفعل الفلاني الذي لا طاقة لك به؟ لن أسألك ذلك أبدًا! إنّ أكثرَ الأمور وَقْعًا هو أن تفهم أنك عبد، وتعترف بالقول: "إنّي أريدُ أن أعبدك"، وأن تسألني بأن: "ساعدني لكي أعبدك."

فإن ثَبُتَت هذه القضية فسيأتي الدور للنقطة التالية وهي: الآن ماذا أصنع إن أردتُ أن أكون عبدًا لله؟ فإنّ الله تعالى لا يُخبرني: "افعَلْ كذا، اليوم افعل هذا الفعل، وغدًا ذاك، أنا أحبّ كذا وكذا!" أنا أقول له: "وفِّقْني إلى أن أصنع ما تحبّه أنت. ما الذي أصنعه فتحبه؟"

هنا سأحتاج إلى المعرفة؛ أن أعرف ما العمل الصالح الذي يحب الله أن أقوم به؟ وما الذي تقتضيه عبوديّتي لله عزّ وجل؟

العقل والوحي أداتا المعرفة السليمة

عن طريق العقل يعمل الله تعالى على تنمية بعض ألوان هذه المعرفة في نفوسنا تدريجيًّا بشكل تلقائي وطبيعي. الطفل ذو السنة أو السنتين أو الثلاثة من العمر لا يدرك هذه الأمور، لكن سيدرك، رُويدًا رُويدًا، ما هو الحسَن والقبيح، وما العمل الذي يحبه الله وما الذي لا يحبه، حتى نصِلَ إلى البديهيّات العقلية، وما يُجمِع عُقلاء العالم على معرفته، ويؤاخِذون بعضَهم بعضًا على أساسه. وهنا تتمّ الحجّة علينا بشكل تكويني في حدود ما تدركه عقولنا؛ وهو كل ما يدرك العقلُ بشكل كامل أنه عمل يحبه الله أو يبغضه. فإن قلنا في موضعٍ ما: لا ندري، وكنّا صادقين في أننا لا ندري، فالحجة هنا ضعيفة وليست تامّة. وهنا أيضًا اقتضَى لطفُ الله تعالى أن لا يدع حجّتَه ناقصة؛ (هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَدينِ الْحَقّ[7] وأرسلَ (رُسُلًا... لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل).[8] يعني: بالنسبة إلى ما لا تنالُه عقولُكم، وما له دورٌ في إيصالكم إلى حيث يحبّ الله تعالى، ومَنحِكم أفضلَ الكمالات، وإيجادِ أعظمِ اللذّات، فقد أخبرَكم به بواسطة الأنبياء(ع). وهذه هي السبيل التكوينية لله تعالى.

التكامل التدريجي يمهّد للاختيار الصائب

فإن سألَ سائل أن: إلهي، لماذا لم تعلّم الطفلَ منذ اللحظة الأولى من ولادته كل شيء؟

الجواب على هذا السؤال هو: ستعلم ذلك متى ما صرتَ ربًّا! فإنّ سُنّة الله تعالى في هذا العالم أساسًا تقضي بأن يكون التكامل تدريجيًّا لتمهَّد الأرضية لاختيارك التدريجي، وإذا وُفِّقتَ إلى الاختيار الصحيح في كل مرحلة، فسيكون بمقدورك الانتقال إلى مرحلة أكمل. ولأجل أن ينكشف هذا الأمر من خلال اختيارك أنت، فلا بد أن يكون تدريجيًّا. فلو كنتَ تملك كل شيء منذ البداية لما امتَزتَ عن الملائكة، ولما أصبحتَ خليفة الله عزّ وجل. فالملائكة هم منذ البداية كما جعلهم الله تعالى، أمّا الإنسان فقد خلَقَه الله بحيث إنّه يبلغ الكمال عبر بوّابة اختياره الشخصي هو، ولهذا فلأجل أن يتحقّق هذا الهدف لا بد أن يكون نضج الإنسان وتكامله تدريجيًّا؛ يبدأ من الضعف ويسير نحو الكمال. ولأجل أن يكون التكامل تدريجيًّا فلا بد من أن تتوافر أسبابٌ يتكامل الإنسان من خلالها تدريجيًّا، سواء في البُعد المادّي أو في البُعد المعنوي. وفي إثر تعامل هذين العاملَين مع بعضهما البعض تُمَهَّد الأرضية للاختيار السليم، ويدعى هذا التمهيد في الثقافة الإسلامية ابتلاء؛ (الَّذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).[9] فلو زوّدَنا الله عزّ وجل هكذا منذ البداية بالأشياء التي نستطيع أن ندركها لما صِرنا مؤهَّلين لخلافة الله في الأرض. ولهذا فبعد خَلق الملائكة، وجميع العوالم الأخرى، التي لا نعرف عنها شيئًا ما خلا الاسم المذكور في القرآن الكريم، يقول الله جلّ وعلا للملائكة: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَة[10] حتى آخر القصة، التي إن رغبنا في الخوض فيها فلن تنتهي بهذه السهولة، ولله الحمد فإنكم أنفسكم واعون كل الوعي.

على أية حال فإنّ ميزة هذا العالم هي أنّ علينا أن نُعِدّ الأرضية بشكل تدريجي لنُضجِنا وتكاملنا؛ فالاختيار منّا نحن، والإيجاد، والهُدَى، وتهيئة الأسباب، وعمومًا: التوفيق لذلك، هو من الله عزّ وجل. ولكي يكون اختيارنا صائبًا لا بد لنا من اجتياز هذه المراحل بصورة تدريجيّة.

التدبير الإلهي في حياة البشر الاجتماعية

والآن إن أردنا الانتفاع من عقلنا ومن الوحي معًا على نحو أفضل فماذا نصنع؟

ودعوني هنا أقول بين هلالين: في قضيّة تولُّد الرغبة لدى بني البشر؛ في أنّه كيف يختارون أمرًا أو عملًا ما؟ وفي أيّ ميدان يُنفقون طاقاتهم؟ وعلى أيّ مجال يركّزون أنشطتهم؟ فإنّ تغييراتٍ ما - انطلاقًا من تلك العوامل الفطرية ومن ثمّ العوامل الاجتماعيّة - تطرأ على رغباتهم وميولهم، ولولا هذا التدبير الإلهي لرغبَ الناسُ جميعًا في شيء واحد، ولتركوا جميعًا كلّ ما سواه!

فإن أُريدَ للحياة الاجتماعية للإنسان أن تتهيّأ من أجل أن يتيسَّر ذلك الهدف الإلهي، الذي هو الاختيار الصائب، فلا بد من وجود عوامل شتّى؛ وبتعبيرنا: لا بدّ من وجود خبّاز، وقصّاب، وبقّال، وعطّار لكي يتسنّى لهذه الحياة الاجتماعية أن تستمر، وتتوافر فيها أرضيّات الاختيار. فمن المستحيل أن يتصدّى شخصٌ واحد للقيام بجميع هذه الأعمال. من أجل ذلك لا بدّ من وجود تدبير معيَّن لكي يجد شخصٌ في نفسه الدافعَ لأن يصير تدريجًّيا خبّازًا، وأن تستدعي الظروف الاجتماعية وخلفيّاتٍ خاصّة أخرى أن يفكّر شخصٌ آخر في أن يكون طبيبًا، وثالثٌ صيدلانيًّا، وينبري رابعٌ ليفهم أفضل ماذا عليه أن يصنع؟ وماذا يرتَئي العقل في هذا المجال؟ وما هو رأي الدين؟ فإن لم يوجد هذا الدافع في الناس، ولم تُهيّأ أرضيّاتُه، وتعذّرَ نُضجُه ونموُّه فسيكون الهدف الأساسي من الخلقة ناقصًا. الغاية من كلّ ذلك هي: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).

عمليّة هداية البشر؛ منزلتُها وقيمتُها

لكي نتمكّن من أن نُحسِن الاختيار لا بد أن نُميِّز العمل الجيّد من السيّئ، ونفرِّق بين الطريق الصحيحة والخاطئة. وهذا التمييز إمّا أن يجري بالعقل، أو بالنقل. مرتكزاتُه الفطرية موجودة فينا جميعًا ونحن نستعملها، لكن - كما هو الحال في سائر المعلومات - ليس في مقدور الجميع الإفادة من القرآن الكريم على نحو واحد، وليس باستطاعة الكل اصطناع الاستدلالات العقلية بشكل متشابه؛ فبعض الاستدلالات العقلية يتعيّن على الطالب الجامعي المثابَرة عشرات السنين حتّى تتهيّأ له الأرضية الذهنية لفهمها. تلاحظون - مثلًا - كيف يتنبّأ علماء الذرّة بأمور ستظهر وتنمو في الفروع العلمية المستقبليّة، ممّا يتعسّر حتّى تصوّره على أساتذة وعلماء بارزين في العالم، وهي تنبّؤات أخذَت جميعها في التحقُّق.

دائرة تكامل الإنسان، سواء على الصعيد المادي أو المعنوي، هي بهذه السعة والرحابة، وإن لم يوجَد أناسٌ يأخذون على عاتقهم هذه الـمَهَمّة فستبقى الخلقة بتراء. إذًا لا بد من جماعة تتولّى هذا الأمر. ولو قارَنّا بين هذا العمل وسائر الأعمال من حيث القيمة، فأيّها سيكون الأهم؟ برأيي إنّه من الواضح جدًّا أنّ قيمة هذا العمل لا يتسنّى قياسُها أبدًا بأنفَس الأعمال التي يحبّها عُبّاد الدنيا، والتي يُنفقون من أجلها كلّ ما لديهم من طاقات. وأحد الأدلّة البسيطة على ذلك هو أنّ نتائج هذه الأخيرة - في النهاية - محدودة، ولها حدّ زماني معيَّن، أّما نتائج تلك فلا نهاية لها. ولو استطعتم أن تجدوا نسبةً معيَّنة بين عدد ضخم واللانهاية، فسيمكنكم العثور على نسبةٍ بين هذه الأعمال؛ وهو أنّه ما التناسب بين أن يتمكّن امرُؤٌ من هداية الآخرين إلى ما يريده الله منهم وما يضمَن لهم سعادتهم الأبدية، وبين سائر الخدمات؟

هناك رواية معتبَرة ومعروفة سمعناها جميعًا مرارًا. حين اندلعَت في اليمن حركة التمرّد بعثَ رسولُ الله(ص) أميرَ المؤمنين(ع) إلى اليمن لإدارة الأزمة. في ذلك الحين قال النبي(ص) لعلي(ع) كلامًا سجّله التاريخ. وبحسب أحد النقول قال النبي(ص) له: «يا عليّ، ...لأن يهدي اللهُ على يديكَ رجلًا خيرٌ لك ممّا طلعَت عليه الشمسُ»،[11] وفي رواية أخرى: «...خير لك من ملء الأرض ذهبًا تنفقه في سبيل الله»؛ فإنّي أبعثُك لإصلاح قضية، وهذا الإصلاح شيءٌ منفصل؛ فثمة حرب، وقد نشبَ اختلاف، فاذهبْ وأَصلِحْ أمرَ هؤلاء القوم، لكن اعلَم أنّك لو استطَعتَ أن تهدي شخصًا واحدًا إلى سواء السبيل فإنّ ثواب عملك هذا الأخير أكبر ممّا لو كان لك ملء الأرض ذهبًا، ثمّ أنفقتَه، أنت يا علي بن أبي طالب، في سبيل الله! مسكوكة ذهبية واحدة تُنفقها في سبيل الله كم ثوابها عظيم؟! فماذا لو كان الذهب ملء الأرض، وأنفقتَه أنت يا علي لا لشيء إلّا مرضاةً لله؛ «تنفقه في سبيل الله»، أفيمكن حساب ثواب ذلك؟! فإن استطعتَ أن تهدي شخصاً واحدًا فإنّ ثوابه أعظم من ذلك. من هنا نستطيع أن ندرك أيّ قيمة عظيمة يستبطنها العمل الذي هدفه هداية الناس! بالطبع لا بد للإنسان في البدء من هداية نفسه، وتهذيبها، ثمّ نقل ذلك إلى الآخرين، وصيرورة المرء وسيلةً لإيصال نعمة الله هذه إلى الناس.

ثواب هداية الناس لا ينفد

إذًا ثواب هداية إنسان واحد إلى سواء السبيل يفوق ثواب ما لو كانت جميع أموال الأرض ذهبًا وأنفقها المرء في سبيل الله تعالى وخالصًا لوجهه. أمثال هذه الحسابات لا تتيسّر بأيّ أدوات علمية. صحيح أنّ الحواسيب الضخمة قد تستطيع تحديد ذلك ببعض الأرقام والرموز، أمّا أنا فلا أستطيع أن أكوّنَ لها أيَّ تصوُّر! لماذا يا ترى؟ فلو أنّ أمرأً بذلَ جهدًا فأنقذ فقيرًا مُشرِفًا على الموت، أهذا عمل قليل الفائدة؟ أن يتوجّه امرؤ إلى عشراتٍ من المرضى مشرفين على الهلاك، يئنّون من الوجع، وأحوالهم متأزّمة، لا دواء لديهم ولا طبيب، فيقدّم لهم الخدمات، أو يُشبع بطونًا جائعة! هذه كلّها خدمات متوافرة، كما أنّ ثواب الإنفاق في سبيل الله معلوم؛ وبأي ثمن؟ بأن تكون الأرض كلّها مليئة بالذهب فتنفقه كلّه في سبيل الله! هذا كلّه فيه ثواب، لكن كلّ هذا الثواب في جانب، وأن تهدي شخصًا واحدًا إلى الصراط المستقيم فهذا في جانب، وهو أفضل!

ما يمكننا حسابه وتدوينه على الورق هو أنّ اللانهاية لا تساوي أيّ عدد مهما كبُر! فلأنّ نتيجة الهداية باقية إلى ما لانهاية، وأنّ عمر الآخرة لا ينتهي، فستؤدّي هذه الهداية إلى سعادة الإنسان في الحياة الأبدية، أمّا الخدمات الأخرى فغاية نتائجها أن لا يموت المرء، وأن يبقى على قيد الحياة لبضع أيّام أُخر، ولربّما عاش ما بقي من حياته، كما كان في الماضي، وسطَ جوٍّ من الفساد! أجَلْ، أنت قدّمتَ له خدمة، وأحسنتَ العمل، لكن نتيجة عملك هذا هي هذه؛ وهي أن يتنفّس ويأكل أكثر قليلًا حّتى آخر رمَقٍ فيه، أمّا ذلك العمل فسيجعله سعيدًا إلى ما لانهاية، ويُنجيه من العذاب وينال الثواب إلى أبد الآبدين.

لننتفع من عمرنا بشكل صحيح

قلتُ ما قلتُ لأُذَكّر نفسي، وأُذَكّركم أنتم الأعزّة، ولا سيّما الملتحقين الجدد، لتعرفوا قدر هذا العمر. إنه لتوفيق حظيتم به أن التحقتُم بهذه المدرسة، أو الحوزة، أو أمثالهما، واتّخذتم هذا الدرب والنهج الذي يقود لمثل هذه النتائج، نتائج إنْ بلغتموها بنيّةٍ نقيّة خالصة فستصلون إلى حيث تحصلون على كل هذا الثواب إنْ هَدَيتم شخصًا واحدًا! وهذا الثواب ليس مجرّد عنوان، بل إنّ له مناشئ حقيقيّة؛ أي ستحصلون به على كمالات وجوديّة. من أجل ذلك لنعمل على أن لا ننفق عمرنا في أمور لا نجني منها مثل هذه الأرباح، ولا نمضيه في اللهو واللغو. فإنّ أوّل شرطٍ عملي يَذكُره القرآن الكريم لفلاح الإنسان هو عدم اللغو؛ (وَالَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون).[12] فحين يكون بإمكان الإنسان جَنيُ مثل هذه النتائج من ساعة واحدة من عمره فلماذا ينفق هذه الساعة في أمور لا جدوى منها؟! ماذا يطلق العقلاء على تصرّف كهذا غير الحماقة؟!

لنلتفت جيّدًا إلى أنّ نعمةً كهذه وفرصةً كهذه هي الآن في متناولنا. فمن بين الستة أو السبعة مليارات نسمة من سكان الأرض كم بالمئة منهم وُفِّقوا إلى ما وُفِّقتم أنتم إليه؟! إنّها نعمة خُصِصتُم أنتم بها بفضل عنايات الإمام صاحب الزمان(عج) وبركة دماء سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين(ع). فاقْدِروا هذه النعمة حقّ قَدْرها، وأفيدوا من هذه الفرصة أعظم الإفادة، سواء من الناحية الرسمية ومن حيث المهام الإلزاميّة، أو بما نستطيع – إلى جانب ذلك مما يتيسّر من الطرق الأخرى بالاستعانة بالله - أن نكَمِّل به عقولَنا ونعمِّق ونوسّع به فَهمَنا لكلام الوحي.

وفّقنا الله وإيّاكم

والسلام عليكم ورحمة الله


[1]. القيامة: الآيتان22-23.

[2]. المائدة: الآية54.

[3]. الحج: الآية64.

[4]. الحجرات: الآية15.

[5]. الإسراء: الآية1.

[6]. البقرة: الآية286.

[7]. التوبة: الآية33.

[8]. النساء: الآية165.

[9]. الملك: الآية2.

[10]. البقرة: الآية30.

[11]. الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص28.

[12]. المؤمنون: الآية3.

 

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...