سر امتياز الإنسان عن سائر المخلوقات

في لقاء لسماحته بجمع من طلاب كلية العلوم القضائية؛ التاريخ: الخميس، 21 تشرين الثاني 2019م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

اللهُمّ كُن لوليِّكَ الحجّةِ بنِ الحسن، صلواتُكَ عليهِ وعلى آبائِه، في هذهِ الساعَةِ وفي كلِّ ساعةٍ، وليًّا وحافِظًا وقائِدًا وناصِرًا ودَليلًا وعَينًا، حتّى تُسكِنَه أرضَكَ طَوعًا وتمتِّعَهُ فيها طويلًا.

أشكر الله تبارك وتعالى أن مَدّني بالحياة وحَباني بالتوفيق على كِبَر سني وقُرب رحيلي – بحسب الظاهر – إلى العالم الآخر لكي أنظر إلى وجوهكم النيّرة أيها الأعزة عن كثب فأتوجّه إلى الله بالدعاء لكم وألتمسكم الدعاء عَلَّ الله بدعائكم يجعل عاقبتي خيرًا بإذنه تعالى.

مراحل النضج الإدراكي في الإنسان

ثمة في القرآن الكريم مباحث تُطرح بأسلوب غير مألوف لأذهاننا، بل إننا إذا تلونا القرآن وفَهِمنا معانيها أيضًا لا نلتفت إليها كثيرًا لأنه من غير الواضح لنا تمامًا ما الذي يريد القرآن قوله، ومن أي صنف من المباحث هي. ثم إننا حين نُزمع على فَهم كُنهها نجد أن ذوي الاختصاص أيضًا لم يقدّموا حولها تفسيرًا بَيّنًا ومُقْنعًا، أو على الأقل قلّما يتسنى لأمثالنا العثور على مثل هذا التفسير.

ولكي أبيّن لكم عدم فَهمي لبعض المباحث القرآنية أُشير إلى مثال بسيط أظن أن جميعكم تقريبًا قد مَرّ به: فيما يتصل بطفولتي فأنا لا أذكر شيئًا عنها في المدة بين ولادتي حتى عمر الثلاث أو الأربع سنوات لكني أذكر أمورًا من الخامسة فصاعدًا، أما بالنسبة إلى باقي الأطفال فإني أرى كيف ينمو الطفل تدريجيًّا منذ ولادته وما الحالات والتغيّرات التي تطرأ عليه. ما يشاهَد على الطفل الحديث الولادة أنه يجوع ويلتصق بثدي أمه. كما أنه يشعر أحيانًا بألم في موضعٍ ما من جسمه أو تكتوي رجله فيصرخ باكيًا ليأتوا ويعالجوا المشكلة التي هو فيها. فبكاؤه يكون تارةً بسبب جوعه وأخرى بسبب أذًى يصيب بدنه. فنحن لا نرى من الرضيع في بداية عمره أكثر من ذلك.

فإذا كبر قليلًا، وحتى قبل أن يُتم مرحلةَ رضاعه، نرى أنه أصبح يدرك أمورًا أخرى؛ صار يعرف أباه وأمه، ويأنس بهما، فيفرح إذا رآهما، ويضحك، ويخفق بأطرافه سرورًا، ويستغرب وينزعج من أشخاص آخرين. إذًا يتضح أنه صار يدرك أمورًا غير الأكل. حتى يبلغ عمرًا ينطلق فيه لسانه شيئًا فشيئًا فيتعلم النطق والكلام. ولدى بدايات نطقه يشعر المرء أنه يسأل كثيرًا؛ فهو يتعلّم السؤال؛ ما هذا؟ لماذا هكذا؟

وكلما ازداد عمر الطفل تستجد له احتياجات لم تكن من قبل، وينزعج إذا لم تُلَبَّ له؛ على سبيل المثال إذا شعَر أن أبويه لا يكترثان له، أو ثمة طفل منافس آخر أخَذا يهتمّان به أكثر منه فإنه سيشعر بالغَيرة ويأخذ بمنافسته، وهذا إحساس لم يكن فيه من قبل وقد ظهر فيه تدريجيًّا. كما أنه إذا احتضنوه وقَبّلوه ولاطَفوه يَسعَد ويَسكُن، أما إذا لم يُعِيروه اهتمامًا إذا بكى قليلًا ينزعج ويغضب. يتضح من ذلك أنه بات يدرك أمورًا أخرى؛ صار يدرك تدريجيًّا معنى الملاطفة، ومعنى أن يكون عزيزًا محبوبًا، وما إلى ذلك.

مراتب الإدراك في الإنسان

ونستطيع عمومًا تقسيم هذه الإدراكات التي تظهر في الطفل تدريجيًّا حتى يبلغ مَبلغ الشباب ثم يصير شيخًا مثلي إلى ثلاثة أنماط:

النمط الأول يضم الأشياء التي يحسّها، ونطلق عليها اسم "الحاجات"؛ نقول: إن لديه حاجة، إنه يحتاج شيئًا ما، فإنْ فقَدَ هذا الشيء فيعني أن هناك مشكلةً أو نقصًا؛ مثل الجوع، وهو الحاجة إلى الطعام، فشعوري بالجوع يعني أني بحاجة إلى شيء يملأ بطني. فإذا شبع فسيرتاح من هذه الناحية. وكذا العطش، فإن أحسّ به ثم شرب لبنًا أو سُقي ماءً أو شربتًا فسيهدأ وتُشبَع حاجتُه.

والثاني هو عبارة عن التنغّصات والانزعاجات التي قد تطرأ عليه؛ كأن يُجرح أو يتقرّح جسدُه بسبب مرض، أو يتعرض لِلَسعةٍ ما، فإنه سيتألم ويوَد لو يتخلص من ألمه ومعاناته هذه. فهذه ليست حاجة، الحاجة هي من أمثال الجوع والعطش، أما هذه فلا تُربك حياته، لكنها تزعجه وتؤلمه.

أما النمط الثالث فيضم الأمور التي ستتبلور في كيانه فيما بعد، بعد أن يبدأ بإدراك معنى الملاطفة ومعنى كونه عزيزًا ومحبوبًا، ولنقل: يتولد عنده احتياج روحي. هذا الاحتياج لا صلة له بالبطن أو آلام الجسد، بل يود لو تحضنه أمّه، وتناغيه، وتُقبّله، ويحب أن يسلك الآخرون الذين يشاركونه العيش مثل هذا السلوك معه، ولا يهملوه. وهذا أيضًا نمط من الاحتياج، لكنه ليس احتياجًا جسديًّا، إنه نمط آخر من الحاجة، وهي حاجة روحية، نمط آخر من الإدراك، ولنترك ماهيته وحقيقته وما يرتبط به من بحوث فلسفية وعلم نفسية لأهل الاختصاص.

وكلما كبر الإنسان أكثر ينمو هذا الاحتياج في نفسه تدريجيًّا فيوَد أن يكون في عين الناس والجماعة التي تشاركه في العيش محترمًا. إنه تلك الحاجة إلى المناغاة والملاطفة نفسها نمَت وكبرَت فيه. ويُلمس هذا الاحتياج في الطفل ذي الستة أو السبعة سنين بشكل كامل؛ فهو يحب إذا دخل إلى مكان ما فيه جمع من الناس أو الضيوف أن يلتفتوا إليه ويهتمّوا به، ويتأذى إن أهملوه أو لم يصغوا إلى كلامه، لأنه يحس أن له شخصية ويود لو يُحترم. فهذا نمط آخر من الحاجة.

ثم إذا كبر قليلاً وقارَب سن الرشد ودخل في سن البلوغ تتولد عنده احتياجات جديدة تسمى الاحتياجات الجنسية، وهي من صنف الاحتياجات الجسدية والحيوانية، لكنها تأتي متأخرة، وتبدأ بالظهور شيئًا فشيئًا بعد أن يجتاز سن العاشرة أو الثانية عشرة.

حاجة الإنسان إلى التعلم والمعرفة

إلى جانب ذلك كله تنشأ في داخل الإنسان، بدرجات مختلفة، الحاجة إلى التعلم واكتساب الفَهم والمعرفة، فهو يرغب، منذ نعومة أظفاره، في أن يعرف الأشياء المحيطة به، فتراه يتفحّصها. فإذا بدأ بالنطق سيسأل: ما هذا؟ وما جدواه؟ وتظل هذه الرغبة في معرفة كل شيء تنمو فيه كلما كبر حتى آخر ساعات حياته. ويطلَق على هذا النمط من الحاجة الحاجة إلى المعرفة، والبحث عن الحقيقة، وحب الاستطلاع؛ فمع أنه لا صلة لها بالأكل والاحتياجات الجسدية، فإن المرء يشعر بالنقص من كونه لا يعرف شيئًا، فيحاول أن يعرف كل شيء. وإن عَلِم أن بعض الأشياء موجودة في مكان آخر، فيسعى لأن يطّلع على ما يوجد هناك. خصوصًا إذا علم عن طريق المذياع أو التلفاز أنه ثمة بلد آخر يعيش فيه أهله بطريقة مختلفة فسيرغب في معرفة من هم هؤلاء، وكيف يعيشون؟ وإن وجدَ مصنوعات ما أحب أن يتعلم كيف صنعوها؟ على سبيل المثال، كيف يمكن لطائرة أن تطير عاليًا في السماء من دون أن تسقط؟!

ويُشكِّل مجموعُ هذه الأمور عواملَ تدفع الإنسان إلى السعي والمثابرة والحركة، فيجتهد إما لتلبية احتياجاته الجسدية، أو لسد حاجاته الروحية؛ مثل اكتساب الشخصية واستقطاب احترام الآخرين، أو يسعى، من أجل إشباع احتياجاته الذهنية، إلى معرفة أمور فيرتاح باله إذا عرفها. ولا يتساوى الناس في هذه الأمور بالطبع إذ إن لها مراتب؛ فترى هذا البُعد أقوى في شخص، والبعد الآخر أقوى في شخص آخر، لكن جميع الناس السليمين تقريبًا يشتركون في هذه الأمور.

القواسم المشتركة بين البشر والحيوانات

ولتُقارِن هذا الإنسان مع القرد وستجد أن جميع هذه الاحتياجات تقريبًا موجودة في القرد أو صغيره؛ فهو أيضًا بحاجة إلى الطعام، وإلى حفظ نفسه من البرودة والحرارة القاتلة، وإلى ملاطفة صاحبه وصديقه. بل إن هذه الاحتياجات موجودة في الحيوانات المتوحشة أيضًا. في الأمس أو أولِ أمس عرض التلفاز خبرًا تحت عنوان "الأسود والنمور" أظهر في الخبر بيتًا في سوريا يربي صاحبُه في حديقة شخصية له فيه بضعةَ أسود ونمور وبُبور وما شابه، ويخالِطُها، ويقبّلها، وتأتي هي إلى جواره، وهو يتعامل معها بكل طمأنينة، ويُرَبِّت على رؤوس الأسود والأشبال والنمور وصغارها ويمسح على وجوهها ويلاطفها بحميمية. وقد كتبوا في الخبر أنه يُطعمها يوميًّا من ماله الخاص طنًّا من اللحم! يربي أسودًا ونمورًا في حديقته الخاصة لمجرد أنه يحبها، وينفق عليها يوميًّا طنًّا من اللحم فقط لتبقى حية وتنمو! إذًا الأسود والنمور والذئاب المفترسة هي الأخرى لها احتياجات؛ فهي بحاجة إلى الطعام، وإلى غيره، على اختلاف الكمية.

إلى هنا يشعر الإنسان، بشكل أو بآخر، بأن لنا مع الحيوانات قواسم مشتركة. نعم هي تختلف في الكيفية وفي وقت الظهور، فقد تُبَكّر أو تتأخر؛ فنحن نحتاج إلى الطعام، وهي كذلك، ونحن نظمأ، وهي كذلك تظمأ، ونحن يتولد عندنا احتياج إلى الجنس، وهي كذلك، بل إن الحيوانات تحتاج هي الأخرى إلى المحبة والملاطفة؛ فالأسد أيضًا بحاجة إلى أن يلاطفه صاحبُه، ويربّت على رأسه ووجهه، ويقبّله! وهنا يُطرح سؤال: "بماذا نختلف نحن البشر عن الحيوانات؟!"

وجه امتياز الإنسان عن سائر الحيوانات

من قديم الزمان، ومنذ أن أخذت العلوم تنمو وتُدوَّن، والنقاشات والأبحاث تدور حول أنه ما الذي يمتاز به الإنسان ذاتًا عن سائر الحيوانات؟ وأشهرها القضية التي يُنسب إلى أرسطو من أن "الإنسان حيوان ناطق"، ولكي يُكملوا معنى "الناطق" قالوا: "المراد منه هو القوة العاقلة؛ أي النُطق عن عقل."

مُرادي هو أن النقاش والبحث حول امتياز الإنسان عن سائر الكائنات مُوغِل في القِدم وثمة آراء مختلفة حوله. وقد اشتُهر، بشكل أو بآخر، بأن الإنسان هو أشرف المخلوقات، ولعل أساس هذه المقولة تعود إلى الأديان، وأن أول من طرح هذا الرأي هو الأنبياء. والقرآن الكريم أيضًا يشير إلى أن الله تعالى بعد أن خلَق المخلوقات كافة قال: أريد أن أخلق خليفةً لي؛ (إِنّي جاعِلٌ في الأَرضِ خَليفَة[1] خليفة الله يختلف عن سائر المخلوقات، وبرأيي إن بينه وبين البقرة مثلًا بَون شاسع، يقول: نحن خلقنا الإنسان وإن باستطاعته أن يكون خليفةً لله.

بشر أضَلّ من الأنعام!

هنا يطرح القرآن الكريم مبحثًا مَفادُه أن البشر الذين تقتصر رغباتهم وأحاسيسهم الطبيعية العامة على التفكير في الأكل والشرب والجنس وسائر الاحتياجات المشابهة - شأنهم شأن تلك الحيوانات - هم أيضًا مثل الأنعام! بل يتعدّى ذلك قليلًا ويقول: بل هم أضَلّ من الأنعام!

وتسويغًا لهذا القول يقول العلماء والمفسرون: إن البهائم لا تستطيع أن تفهم ولا أن تَكسب الفهْم أما الإنسان فيستطيع ذلك لكنه يتقاعس ويقنع بالعيش مثلها؛ فترى هَمّه إذا استيقظ صباحًا مُنصَبًّا على أنه: ماذا آكل؟ وماذا أفعل لأرتاح؟ ومَن أُخالط فأستأنس، وتُحترم رغبتي الفلانية؟ فإذا حان وقت الغداء فالمنوال هو هو، وعند المساء وقتَ العشاء كذلك، وغدًا تُعاد الكَرّة ويتكرر المنوال ذاته. ومهما طال عمري فالحال هي الحال. فإن أنجبنا أطفالًا يكون علينا أن نربّيهم ونكبّرهم، ونتحمل مسؤوليتهم، ونهيّئ نفقاتهم، ...إلخ، وسيصبحون هم أيضًا مثلنا، ويكرّرون هذه المراحل من جديد. أهذا هو الإنسان يا ترى؟! الإنسان الذي هو خليفة الله، والذي تسجد له الملائكة أهذا هو وضعه؛ يفكر في أكله ونومه وتكاثره، حاله حال الحصان والحمار والبقرة، وفي النهاية يموت وينتهي كل شيء؟!

شَرّ المخلوقات في نظر القرآن الكريم

ويسعى أكثر الناس في الجانب الواعي من عقولهم وراء هذه الأمور بالتحديد. أذكر حين كنا نتخيل أننا نضجنا إنسانيًّا بعض الشيء، وكنا نذهب إلى المدرسة كان المعلم يقول لنا: حَصِّلوا العلم لكي يكون لكم شأن إذا كبرتم! لكن ما معنى أن يكون لكم شأن؟ يعني أن تجدوا فرصةَ عمل محترمة تَدُر عليكم دَخلًا جيدًا لتحصدوا احترامَ الناس من جهة وتجنوا المال من جهة أخرى، كي تأكلوا وتشتروا وتفعلوا كل ما يحلو لكم! هذا هو الهدف المقدس الذي كان يوضع نُصب أعيننا؛ حَصِّلوا العلم لتكسبوا الثروة؛ ادرسوا لتحصلوا على الماجستير، ثم الدكتوراه، فتُوظَّفوا، وتتقاضوا شهريًّا راتبًا بمقدار كذا. لأجل ماذا؟ لأجل أن نبني بيتًا، ونعيش، ونتزوج. ثم ماذا؟ ثم لا شيء!!

هذا تحديدًا ما قصدناه من قولنا: إن الذوق القرآني وأسلوبه في الكلام يختلف عما هو مألوف لنا. القرآن الكريم يقول: "هذه أسوأ المخلوقات! هؤلاء هم الذين مصيرهم العذاب الأبدي، العذاب الذي لا نجاة لهم منه، ولا ينتهي!" أتريدون أن أتلو عليكم نص الآية القرآنية؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (وَلَقَد ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلوبٌ لا يَفقَهونَ بها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرونَ بِها وَلَهُم آذانٌ لا يَسمَعونَ بِها أولئِكَ كَالأنعامِ بَل هُم أَضَلّ)! لماذا؟ ما سر ذلك؟ لماذا هم أسوأ من البقرة حتى؟ السبب هو: (أولئِكَ هُمُ الغافِلون[2] فهؤلاء قد زوّدناهم بأداة للإدراك البشري! إنهم ليسوا كالبقر والخراف ليقتصر إدراكهم على تلك الاحتياجات الجسدية وراحة البدن. إن هذا الإنسان يمتلك قوة أخرى يستطيع من خلالها أن يدرك أمورًا كثيرة؛ فبمقدوره أن يعرف الله، ويدرك لأي شيء خَلَقه، وباستطاعته أن يعرف ماذا عليه أن يصنع ليبلغ ذلك المقام، لكنه يغفل عن ذلك، يقول لنفسه: اِنتهِز فرصة يومك، لنَعِش يومنا هذا، وغدًا يحُلّها ألفُ حَلّال! لكنه في الغد يُعيد المنوال ذاته. وفجأةً يداهمه ملك الموت، وينتهي كل شيء!

يقول تعالى في كتابه العزيز: (ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنس)؛ يعني إن هؤلاء خُلقوا لنار جهنم، إن مكانهم هناك!! لماذا؟! لأنهم لم يُفيدوا من عقولهم وأعينهم وآذانهم كما تنبغي الإفادة، فهم غافلون. نعم، ربما يَخِزُهم عقلُهم وضميرهم، وقد يَهُزّهم أحيانًا، يُحْدِث في كيانهم صدمة أنْ: إلى متى هذه الحياة؟! من أجل ماذا كل هذه البلايا، والزلازل، والجرائم، والقتل، والمجازر، والظلم والجور؟! لكن بعد لحظات.. وكأنّ شيئًا لم يكن! تعود ثانية إلى التفكير فيما كنتَ تفكر فيه، في بطنك وفَرجك، وترجع إلى منوالك اليومي! فلو أنهم عاجزون عن الإدراك والفَهم لكانوا كالبهائم، لكن بما أنهم قادرون على الإدراك ولا يُدركون فإنهم أسوأ منها.

امتياز الإنسان من وجهة نظر القرآن الكريم

بماذا يمتاز الإنسان بحسب المنظار القرآني؟ الخطوة الأولى التي عليه اتخاذها هي أن يخرج من حالة الغفلة هذه. ليأخذ الأسئلة التي تُطرح بشكل فطري في ذهنه على محمَل الجد؛ وهي: من أين أتيتُ؟ كيف ظهرتُ إلى الوجود؟ إن كان ثمة أحدٌ خلَقني، فلماذا خلقني؟ ما هو الهدف الذي يجب أن أسعى إليه؟ ماذا عليّ أن أصنع لأبلغ هذا الهدف؟

هذه تساؤلات جادّة، وإن عقل ابن آدم وفطرته يطلبان فهم هذه الأمور. فكيف إذا اخترنا فرعًا دراسيًّا ترانا نريد أن نعرف ما هي نتيجته؟ أنه: ماذا سأصبح إن اخترتُ هذا الفرع وحصلت على الدكتوراه؟ أي أنّي أنظر إلى عواقب الأمور، وأجتاز هذه المقدمات من أجل بلوغ ذلك الهدف. لكننا لا نفكر في ذلك بالنسبة إلى حياتنا؛ وهو أنه: ما هدف هذه الحياة؟ وماذا علينا أن نصنع لنبلغ هذا الهدف؟ أهدَف الحياة هو الموت؟! أفَنحن نعيش لنموت؟! نعيش لنبقى أحياء وكفى؟! إن هذا أشبه بمن يركب سيارته صباحًا وينطلق بها، فيقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ فيقول: أذهب إلى محطة البنزين. يُسأل: لماذا؟ فيقول: لأُعَبّئ السيارة بالبنزين. فيملأ خزان سيارته وينطلق، فيقال له: الآن إلى أين تذهب؟ يقول: أتوجه إلى محطة البنزين الفلانية. يقال له: ولماذا؟ فيجيب: لأني حين أصل إلى هناك سيكون بنزين سيارتي قد نفد، فأعبّئها بالبنزين هناك.. وهكذا، المحطة الثانية، ثم الثالثة! فنحن نأكل لنقوى على العمل. ولماذا نعمل؟ لنحصل على المال. ومن أجل ماذا نحصل على المال؟ لنأكل! إذًا نحن نأكل لنأكل! نعمل لنعمل! أهذا ما يشير به علينا العقلُ البشري؟! فلماذا إذًا لا نفكر بهذه الطريقة بخصوص شؤون حياتنا البسيطة؟! فما من إنسان عاقل إذا سئل: لماذا تدرس، يجيب: أدرس لأدرس! أوَيمكن هذا؟! بل: تَدرس لتعرف ماذا تصبح؟ تدرس لتعرف ماذا تفعل بهذا العلم؟

تخيّلوا شخصًا اجتاز مراحل دراسية وحصل على البكلوريوس، ثم عاد فاستأنف الدراسة الابتدائية من جديد كي ينال البكلوريوس ثانيةً! أيوجد عاقل في هذه الدنيا يفعل هذا؟! لو فعلَ شخصٌ هذا لأخذوه إلى مستشفى المجانين. سيُلام بأنه: لقد أجهَدتَ نفسك بالدراسة خمس عشرة سنة حتى حصلت على البكلوريوس والآن تعود إلى الأول الابتدائي!!

ولو دققنا سنجد أن حياة أكثر الناس هي هكذا؛ إنهم يعملون ليعملوا، ويأكلون ليأكلوا، ويعبئون السيارة بالوقود ليصلوا إلى محطة التعبئة كي يعبّئوها بالوقود ثانية! أما المنطق القرآني فيقول لك: منذ لحظة ولادتك افتح عينيك وانظر أنك تنمو يوميًّا بشكل طبيعي. انظر كم اختلفتَ من حين ولادتك حتى فُطمتَ وقتَ أكملتَ السنتين؟ هذا يدل على أنك إنما خُلقت ووُلدت لتنمو وتتكامل. انظر كم اختلفتَ منذ كنتَ بعمر السنتين حتى صرت في الخامسة أو السادسة؟ انتبه كم من الفرق بين وضعك أول ما التحقت بالمدرسة ووضعك الآن وقد حصلتَ على الدكتوراه؟ إذًا هذه الحياة ليست من أجل الحياة نفسها، وإلا كان من الممكن أن يكون الصف الأول من أجل الصف الأول نفسه. الحياة هي لكي أَنمو وأتكامل في هذا العالم. لكي أَصِل إلى ماذا؟ ألكي يكبر جسمي؟ إنه مهما كبُر فلن يبلغ حجم الفيل. في مجالات أخرى أيضًا – ولا أريد ذكر الأسماء – هناك حيوانات أقوى منا بكثير في الأكل وأمور أخرى. لاحظوا العصافير مثلًا كيف تتزاوج؟ إن قُدرَتها الجنسية، إذا قسناها بحجم أجسادها، تفوق قدرة الإنسان بكثير! أيُّ إنجاز نقوم به [على المستوى الجسدي] ماذا ستكون نهايته؟! آخر المطاف سنهرَم، ثم نموت! يقول تعالى: (أَفَحَسِبتُم أَنَّما خَلَقناكُم عَبَثًا[3] فهذا الأمر ليس عبثًا، ولا سيما إذا اقترن بكل هذا الظلم والجريمة و البلاء. فمن أجل ماذا هذه الحياة؟ يقول إنها من أجل النمو والنضج. ولكي تفهم ما هذا النضج، عليك أن تُفيد من النضج الذي سبقَ أن حصل لك. فحين تريد اجتياز مرحلة البكلوريوس لا بد لك من الاستفادة من معلومات مرحلة الثانوية، وفي هذه الأخيرة لا بد من استخدام المعلومات التي جمعتَها في مرحلة الدراسة الابتدائية، من الكتابة والقراءة وعمليات الحساب الأربعة الأصلية. كل هذه الأمور تمثل مِرقاةً واحدة للارتقاء إلى الأعلى. فما هي هذه المرتبة الأعلى التي يليق بالإنسان أن يبلغها؟

من الطبيعي أن الطفل ذا السنتين أو الثلاث إذا سُئل: ما الفهم الذي يمتلكه وما اللذة التي يشعر بها شابٌّ في العشرين؟ فإنه لا يحمل أي تصور عن هذا الموضوع. فهو لا يدرك من الدنيا غير الأكل والرضاعة من ثدي أمه. ولو قلتَ له: "إنك ستبلغ عمرًا تجني فيه من اللذة ما لا يقاس بالرضاعة هذه على الإطلاق،" فإن كان يراك إنسانًا سويًّا جدًّا فسيقول لك: "لأنك صادق وأنا أثق بكلامك فأنا أوافقك على ما تقول!" لكنه لا يستطيع أن يدرك ما اللذة التي يشعر بها الشاب العشريني جرّاء حياته العائلية. هذه اللذة ليست من قبيل الأكل وشرب اللبن وأمثالهما، بل هي لذة أخرى، سيدركها متى يكون مؤهَّلًا لإدراكها ولتذوّقها، وإلا فإنه لن يستطيع فهْم ماهيّتها.

توقُّع أن نفهم نحن الآن ما الذي سنكونه في آخر المطاف هو توقع ليس في محله، فهو أشبه بالطفل الذي يحاول أن يدرك ما اللذة التي يشعر بها الكبار. إنه لن يستطيع ذلك. فلا بد لكل ما نريد أن ندركه أو نحدُس ما هو أن نكون قد أدركنا مثالًا، ولو باهتًا، له وعشناه لكي نستوعب كيف سيكون المثال الأعلى منه، ولو بمئة مرة مثلًا، أما إن لم نذقه أصلًا فلن نستطيع تكوين أيَّ تصوُّر عنه على الإطلاق.

وصَل العبدُ مقامًا لا يَرى/ فيه غير الواحد الحق الإله

هنا يتحدث القرآن الكريم إلينا في مستوى فهمنا فيقول: إن بإمكانكم أن تعيشوا في مكان تحصلوا فيه على ما تشتهون؛ (فيها ما تَشتَهيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعيُن[4] فالاستمتاع بكل ما هو جميل وبالأطعمة والأشربة واللذائذ الأخرى متاح هناك بأي مقدار تشاؤون. فنحن نستطيع – بشكل أو بآخر - أن نُكوِّن صورةً عن هذا. صحيح أن حياتنا - في الغالب - لن تمتد إلى أكثر من مئة عام، لكن في وسعنا أن نقول: هذه المئة مضروبة في ما لانهاية. فنحن ندرك مثالًا [ولو صغيرًا] لذلك؛ فإننا قد سعَينا وراء شيءٍ ما حتى نلناه بعد سنوات من الجهد والتعب، ولمسنا أي لذة يشعر بها الإنسان حين ينال رغبتَه. يقول لك: "هذا المقدار أنت تُدركه، والآن اضربه بعدد كبير!" فهذا – على أية حال – شيء يمكنني تصوُّره بنحو من الأنحاء، أما إذا لم أتذوّق طعمَ شيءٍ ما على الإطلاق فلا يكون عندي أيُّ تصوُّرٍ حقيقي عنه، اللهم إلا أن أثق بقول شخص هو عندي ثقة فأقول: "لأنّ فلانًا قال ذلك فأنا أعلم أن هذا موجود، لكنني لا أعلم ما هو!"

فمن أجل أن يشوّقنا الله تعالى إلى تلك الحياة يقول لنا أولًا: إنها حياة لا نهاية لها، وفيها كل ما تشتهون، وكل ما تلَذّ أعينُكم. فهل نصدّق؟ لكنه لا يكتفي بذلك، بل يقول بعد كل هذا: (وَرِضوانٌ مِنَ اللهِ أَكبَر[5] يقول: "هناك أيضًا شيء آخر،" ولكي يتولّدَ عندك مفهوم عنه يقول لك: "إنه رضَى الحبيب"، أو، باللغة التي نفهمها نحن: "تبسُّم الحبيب"؛ فتخيّلوا شخصًا أمضى عمره يعشق حبيبًا ولم ينَل وصالَه، فأي حال ستنتابه إذا بلَغَه وتبسّم الحبيبُ له؟! وهو حين يشعر أن محبوبه أُعجب به، ورَضي عنه، وأنه يبادله الحب أيضًا، هذا هو المهم. يقول [الله عز وجل]: "إن بإمكانك أن تبلغ موضِعًا تجد فيه ما تشتهيه نفسُك، بل ما هو أعلى من ذلك؛ ستجد محبوبًا يبادلك هو أيضًا الحب ويُعجَب بك! فبأمثلة مبسَّطة سيكون بإمكاننا أن نتصوَّر ولو واحد بالمليون أو واحد بالمليار من هذا المشهد، وهو أن نتخيل أنه لو كان الحبيب أهمَّ من هذا بكثير، وحبُّه أعظمَ من هذا بكثير، والجذَل بحبه أكبرَ من هذا بكثير، وتبسُّمه أجمل وأعذب بكثير فماذا سيحصل؟!

التكامل الاختياري سر امتياز الإنسان عن سائر المخلوقات

يقول رب العزة: "من أجل ذاك الهدف أنا خلقتُك! هذه الدنيا مرحلة نموّك وتكامُلك، إنها مرحلة جنينية ثانية لك؛ فلقد عشتَ مرحلةً جنينية في بطن أمك حين نـمَوتَ من حيمَن واحد حتى صرتَ جنينًا كاملًا. لقد كنتَ حيوانًا منويًّا في قطرة مَني تحوي ملايين أو آلاف الحيوانات المنوية، وكان عليك أن تجتاز مرحلة جنينية كاملةً لتصبح جنينًا متكاملًا له عين وأذُن ويد ورجل وقلب وأعصاب ودماغ.

وإن أمامك مرحلةً جنينية أخرى يتعيّن فيها أن تُبلورَ مراحلَها أنت باختيارك. ففي بطن أمك لم تكن لك أيُّ خِيَرةٍ، إذ قد نـمَوتَ فيها بحسب ما اقتضته الأسباب الطبيعية؛ فإن اقتضَت الأسباب أن تكون ذكَرًا صرت ذكرًا، وإن اقتضت أن تكون أنثى صرت أنثى، وإن شاءت الأقدار أن تولَد ببدن سليم وُلدتَ سليمًا، وإن تعرّضتَ لمرض مُعْدٍ أُصبتَ بالعدوى. فلم يكن لك حولٌ ولا قوة؛ سواء أكنتَ صبيح الوجه أم قبيحَه، أبيضَ البشرة أم أسودَها، لم تكن هذه الأمور ضمن نطاق إرادتك. أما بعد أن وُلدتَ في هذا الرحم الثاني فلقد أصبحتَ ذا إرادة واختيار؛ عليك الآن أن تنظر أنت ماذا تريد أن تكون؟ فهنا بإمكانك أن تكون كما تريد أنت! فلقد هيّأَ الله تعالى المقدّمات وجعلَها تحت تصرفك لتختار أنت بنفسك."

وهذا تحديدًا هو سر امتياز الإنسان عن سائر المخلوقات؛ وهو أنه هو الذي يحدد مصير نفسه بنفسه. ولقد هيّأَ الله عز وجل الأسباب جميعًا لتكون الأرضية ممهَّدة للاختيار؛ وعليه فإنّه مهما كان الاختيار أعظم قيمةً ستكون ظروفُه أصعب. فما أسهل الاختيار بين إناءين من اللبن أحدهما أكثر حلاوةً من الثاني مثلًا، فليس إنجازًا كبيرًا أن يُرجِّح المرءُ اللبنَ الحلو على الحامض إذا خُيّر بينهما، أما إذا وقع بين عاملَين قويّين يجرُّه كل واحد منهما إلى جهة ولكلٍّ منهما جاذبية شديدة، ويكون عليه أن يقرر أيُّ واحد منهما يختار؟ هنالك سيتضح ما هو معدنه؟ وأي كائن هو؟ ومع مَن يحب أن يكون؟ أيحب أن يكون في خانة الأنعام والبهائم، أم شبيهًا بالملائكة، أم أعلى منهم؟

الحياة الدنيا ساحة الاختيار

إذًا فلماذا أتينا إلى هذه الدنيا؟ أتينا من أجل أن تتهيأ لنا الأرضية للنمو والتكامل الاختياري. في رحم الأم كان نموّنا قسريًّا، أما بعد ولادتنا فقد أصبح تكاملنا اختياريًّا؛ فلقد تهيأَت أسباب تجعلُنا نفهم وندرك بشكل تدريجي، كما مَثّلتُ في البداية لكيفية إدراكنا ونضجنا وتولُّد الرغبات الجديدة في داخلنا؛ فابنُ السنتين لا يدرك معنى الحب، ولا يعي مفهوم تبسُّم الحبيب. غاية إنجازاته هو أن يدرك ملاطفة أمه له، أما تلك الأمور فهي عنده شيء آخر. ثم - شيئًا فشيئًا - يبلغ سنًّا يشعر فيه بمثل هذا الاحتياج؛ وهو أن يحبَّ شخصًا آخر مُعجَب به، ويوَدَّ لو يحبُّه ذلك الشخص أيضًا. فإن كان هناك محبوبان أحدُهما يجره نحو البهيمية، والثاني يرفعه إلى ما فوق الحيوانية فسيأتي هنا الدور للاختيار؛ وهو أنه: أيهما سيختار؟ وهنالك ستحدَّد قيمتُه وتُعرف منزلتُه.

إذًا فلقد خُلقنا في هذا العالم لكي ننضج ونتكامل بشكل تدريجي لنتمكن من الاختيار. وإن أول شروط الاختيار هو المعرفة، وهو أن نعلم ما هذه الطريق؟ فلو كنا في صحراء ووجَدنا أمامنا بضعة طرُق واخترنا إحداها وسلكناها هكذا من دون أن نعرف إلى أين تُفضي بنا، فهذا اختيار أعمى! إنه اختيار لا قيمة له. فلا بد أن أعرف إلى أين تُفضي كل واحدة من هذه الطرق، وما نتيجة سلوكها؟ أن أعرف ما صعوبات هذه الطريق، وما النتائج التي ستؤدي إليها؟ وحينئذ فقط أختار عن وعي. لهذا الغرض تحديدًا صُمّم هذا العالم؛ إننا نواجه في كل لحظة مئات الخيارات لنختار من بينها عن وعي منا؛ أَنظر إلى هذا أم إلى ذاك؟ أقول هذه الكلمة أم تلك؟ آكل هذا الطعام أم ذاك؟ أذهب من هذه الجهة أم من تلك؟ أُحسِن إلى فلان أم أُؤذيه؟ يُتاح أمامي كل هذا في لحظة واحدة، وجميعه يؤثر في مصيري وعاقبتي. أنا نفسي الذي أبني نفسي عبر جميع أرضيات النمو والتكامل هذه المتاحة لي.

شرط الحياة التي يرضاها الله

فإن أحببتُ أن أتكامل بشكل صحيح وأحصل على النتائج المحبَّذة من دون أن أندم على اختياري فإن الشرط الأول لذلك هو المعرفة الدقيقة، وهو أن أعلم إلى أين تنتهي هذه الطريق وإلى أين تُفضي تلك؟ فإن لم أعلم ذلك كان اختياري عن عمًى ولربما وقعتُ في الخطأ. إذًا عليَّ أولًا أن أكتسب المعرفة، وكلما ازداد علمي اتّسعَت أرضيات تكاملي. لكن ليست هذه كل القضية، ولا هي العلة التامة، بل بعد ذلك فقط ستتهيّأ الأرضية للاختيار الواعي. فعندما يحين أوان اتخاذي القرار لإنجاز هذا العمل أو عدم إنجازه أكون قد اكتسبتُ العلم والمعرفة بذلك مُسبقًا، وأتعَبتُ نفسي في دراسة هذا الفرع الدراسي لعشر سنين أو اثنتي عشرة سنة، وأنفقتُ من المال الكثير في هذا الطريق، واصطنَعتُ من الأدوات، وارتَدْتُ من المختبرات، وهيّأت من الأمور الأخرى، حتى نِلتُ للتو هذا العلم، لكنّ أثرَه الحقيقي إنما سيكون ساعةَ أُطبّقُه على أرض الواقع؛ وقتَ أقرّر أن أسلُك هذه الطريق، أن أختارَها، وأستمرَّ فيها، وأتحمّل صعابها. هاهنا بالذات سيمتاز الإنسان عن الأنعام، إذ سيجد أمامه مُفترَق طريقين، بعد أن خرج من حيّز الغفلة وعدم الوعي؛ فحين يكون قد استوعبَ ماهيّة حياته التي يعيشها ووَعاها، وعرف في أي حال هو الآن، وما النتائج المرجُوّة منها، وأنه هو الذي يتحمل مسؤولية الاختيار فإنه يكون قد خرج من فضاء الغفلة، ولا يعود قوله تعالى: (أولئِكَ هُمُ الغافِلون) ينطبق عليه. فعلينا أن نرى: الآن وقد استوعبَ الأمور أيُّ قرار سيتّخذ؟

بناءً على ذلك فمن أجل أن نعيش حياة معقولة، يُقرّها العقل من ناحية ويرتضيها الله تعالى من ناحية أخرى، ولا نندم عليها فيما بعد من ناحية ثالثة فلا بد أولًا أن نعرف: ما هي الطرق المتاحة أمامنا، وإلى أين تُفضي. ثانيًا أن نُقوّي في أنفسنا الدافع لسلوك السبيل القويمة. فإن حدّثتُ نفسي، بعد كل ما حصّلتُه من العلم واكتسبته من المعرفة، قائلًا: لا ضير في الوقت الحاضر أن أعيش كهذا الخروف آكل علفي! فلأُمضِ هذه السنوات القليلة هكذا، ثم إذا بلغتُ الشيخوخة أفكر في الطريق التي يتعيّن سلوكها؛ فما من عقل يُقر ذلك، ولا الله يرضاه، ثم إنني سأندم على ذلك في وقتٍ لن يكون الندم نافعًا؛ سأقول: (رَبِّ ارجِعون‏ * لَعَلّي أَعمَلُ صالِحًا[6] أرجعنا يومًا واحدًا علّنا نفعل في هذا اليوم شيئًا ما! فيأتي الجواب: (كَلّا)، فاتَ الأوان! فإننا - بما فيه الكفاية - أنذرناكم، ووعظناكم، وأرسلنا إليكم الأنبياء والرسُل، وأنزلنا عليكم الكتُب السماوية، وضَحّى أناسٌ واستشهدوا في هذا الطريق، وبذلوا أنفسهم وأموالهم وأعزاءهم من أجل أن تهتدوا. فإن نحن لم ننتفع من كل هذا فالذنب ذنبُ مَن؟ هنالك لا يلومَنّ المرءُ إلا نفسه، فالذنب ليس ذنب غيره.

ثواب أعظم وعقاب أقل!

ومن أجل أن يكون هذا الاختيار عن وعي لا بد فيه من التوازن بين الخيارات، وهو أن يكون ثمة طريقان ويكون منتهاهما وغايتهما كلاهما ما لانهاية له، ولا رجعة فيه؛ وهو أن تكون نهاية أحدهما رحمة الله التي لا تنفد، ومنتهى الآخر عذابه الذي لا يُرفع، لكي يحصل لنا التوازن بين الطريقين، ونختار عن وعي. عند ذاك يقول رب العزة: (ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنس)؛ أي جعلنا محلهم هناك، (أولئِكَ كَالأنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أولئِكَ هُمُ الغافِلون). أتريدون أن تكونوا هكذا؟ تفضّلوا! الطريق سالكة. ثمة أناس ظلوا يسيرون في الطريق القويمة لسنين ثم انحرفوا فجأة! فكيف كان تاريخ عُمَر بن سعد؟ وكيف كان تاريخ شمر بن ذي الجوشن؟ كان شمر أحد قادة جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب صفين، لكنّ أمثاله تركوا عليًّا (عليه السلام) بعد ذلك، ولاموه على قبوله التحكيم، واتّهموه بالكفر وقالوا إن عليه أن يتوب من فعلته، ...إلخ، ثم التحق شمر في الكوفة بابن زياد وأصبح قاتل الإمام الحسين (عليه السلام)! وهذه الطريق متاحة لي ولكم أيضًا، بما يتناسب وقابلياتنا. وفي المقابل نحن نحمل مرتبة من الولاية الإلهية، أيضًا بما يتناسب وقابليتنا، فإن أرَدنا واجتهدنا فسننالها. وبين هذين الخيارين ثمة اختلاف، فما هو؟

الله عز وجل لم يخلقنا للعذاب، بل إن هدفه الرئيس من خَلقه إيانا هو أن ننال رحمته. فالابتلاء بالعذاب له طابع ثانوي، وهو لكونه فردًا لأحد الزوجين الموجودين، وإلا فهو يقول لك: "لا تسلك هذه الطريق. أنا إنما هيّأتُ لك هذه الظروف لكي تختار، لكن لا تختر هذه الطريق! فلو اخترت سواء السبيل لأعَنتُك بعشرة أضعافه؛ (مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثالِها)، أما إن أذنبتَ واتخذتَ الطريق المعوَجّة، فإن لهذه الطريق لوازمها؛ (وَمَن جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجزى إِلّا مِثلَها)[7]". وهذا أيضًا من لطف الله تعالى. فهنا يقول: عشرة أضعاف، لكنه يقول في موضع آخر: (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاء[8] فلا تظنوا أن هذه الرحمة محدودة ولا تتعدى عشرة أضعاف الحسنة، بل ثمة أناس ينالون الأهلية لأن يجزيهم الله آلاف أضعاف حسناتهم، ويمُدّهم في هذه السبيل، ويهيئ لهم فيها أسباب الخير. فلننظر إذًا ما الذي ينبغي صُنعُه مع مثل هذا الرب، ومثل هذه السبيل التي كشَفها لنا النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، ومثل هذه الظروف التي تهيّأت لنا؟ ينبغي لنا أولًا أن نعرف حق المعرفة، ثم نهذّب دوافعنا البهيمية فلا نتمادى دائمًا في الإكثار من الطعام، والازدياد من اللباس، والتولّع بالدنيا.

لا تتولع بالدنيا!

بخصوص هذا الولع بالدنيا كم يقول الله عز وجل لنا: (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنيا)![9] أي: احذروا من أن تخدعكم الحياة الدنيا وتغركم زخارفها. فكّروا في جانبها الآخر، لاحظوا ما الموجود في مقابلها؟ فمهما اجتهدتُم هنا لن تعيشوا لأكثر من مئة عام! فكم مئة عام ستعمّرون؟ افترضوا أنكم ستعمرون مئتي عام، لكن الحياة هناك إلى ما لانهاية! فأيُّ تناسب هناك بين العددين؟! هذا إذا دُستم قليلًا على أنفسكم، وسيطرتم قليلًا عليها وهذّبتُموها؛ ولا أقول أن لا تنتفعوا أصلًا من الدنيا! كلا، فبإمكانكم – شأنكم شأن الآخرين – أن تأكلوا طعامًا حلالًا طيّبًا، وتتخذوا قرينًا صالحًا، قد يكون أفضل من أقران الكثيرين من جميع الجوانب، كل ما عليكم هو أن تبذلوا جهدكم لكي تُحسنوا الاختيار عن وعي.

إن من الأمور ذات الأثر في موفقيتكم هي أن تَدعُو للشيوخ المذنبين، إذ حينها سيشملكم لطف بارئكم. وأنا من جانبي، أنا العاجز عن تقديم شيء، سأدعو لكم أيها الشباب مخاطبًا ربي: "إلهي، احفظهم بحفظك!" فلسنا قادرين نحن العجَزة على أكثر من ذلك، أما أنتم أيها الشباب فبلى، فلتنظروا قليلًا إلى الشيوخ والعَجزة والمذنبين لتشفقوا عليهم، وتخدموهم ما استطعتم إلى ذلك سبيلًا، بدءًا من الخدمات المادية، ووصولًا إلى تلك التي تزيد في فهمهم وتكشف لهم سواء السبيل.

ثواب هداية شخص واحد عند الله تعالى

ثواب أن تهدوا شخصًا واحدًا إلى الحق أكبر من ملء الأرض ذهَبًا تنفقونه جميعًا في سبيل الله! ولستُ أنا مَن يقول ذلك، بل إنه مروي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «یا علی لَأن یهدی الله بك رجلًا خیرٌ لك من ملء الأرض ذهَبًا تُنفقه في سبیل الله.» على أن مساعدته بإطعامه فيه ثواب أيضًا، فمساعدك المعوز بإطعامه لقمة خبز ستثاب به أيضًا، لكن أين هذا من أن تنجيه من عذاب أبدي وتهديه إلى سواء السبيل؟! أن تعينَه على أن يكون ثوريًّا، إسلاميًّا، مُتَّبِعًا للإمام القائد [الخامنئي (دام ظله)]، مُقتَفيًا لخطى إمام زمانه (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف)؟! فأين هذا من أن تطعمه فقط لتشبع بطنه؟! فلعل لقمة الخبز هذه ستدفعه إلى ارتكاب المزيد من المعاصي، لكن بما أنّ نيتك حسنة فإن الله سيثيبك عليها، لكنه ثواب في حدود إشباع بطن. فأين هذا الثواب من الثواب المعطَى إزاء هداية إنسان إلى مقام القرب من الله، ليسمو على الملائكة؟!

وفّقنا الله وإياكم

والسلام عليكم ورحمة الله


[1]. البقرة: الآية30.

[2]. الأعراف: الآية179.

[3]. المؤمنون: الآية115.

[4]. الزخرف: الآية71.

[5]. التوبة: الآية72.

[6]. المؤمنون: الآيتان99-100.

[7]. الأنعام: الآية160.

[8]. البقرة: الآية261.

[9]. فاطر: الآية5.

 

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...