بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
اللهُمّ كُن لوليِّكَ الحجّةِ بنِ الحسن، صلواتُكَ عليهِ وعلى آبائِه، في هذهِ الساعَةِ وفي كلِّ ساعةٍ، وليًّا وحافِظًا وقائِدًا وناصِرًا ودَليلًا وعَينًا، حتّى تُسكِنَه أرضَكَ طَوعًا وتمتِّعَهُ فيها طويلًا.
على روح الإمام الخميني (رضوان الله عليه) الطاهرة وأرواح شهداء الإسلام العظام، ولا سيما حماة المقدسات نهدي للجميع ثواب الصلاة على محمد وآل محمد. أرحب بالإخوة والأخوات الكرام إذ أَتحَفونا بشرف حضورهم في هذه المؤسسة المتعلقة بهم، والتي هي في الحقيقة معهد دراسات علمي جامعي.
بالالتفات إلى الأصول التي نشترك بها كلنا والتي لا حاجة إلى تكرارها فإننا نؤمن جميعًا بأن سعادة الدنيا والآخرة لا سبيل لها غير العمل بتعاليم الإسلام، وبغير هذه السبيل لا سعادة الدنيا ستُضمَن لنا بشكل كامل ولا سعادتنا الأبدية في عالم الآخرة. ولا أظن أنه ثمة، بين الحاضرين الموقَّرين على الأقل، مَن يشك في هذه القضية. فإن كان الأمر كذلك فمن الطبيعي أن تكون أول خطوة علينا أن نخطوها هي أن نعرف الإسلام حق المعرف. وإذا كانت هذه هي سبيل سعادتنا فلا بد أن نُصِر على أن نُحْكِم معرفتَنا، ونعمل بشكل سليم، ونجتنب الخطأ، خصوصًا مع الالتفات إلى أنه كان هناك، منذ صدر الإسلام حتى يوم الناس هذا، الكثيرون ممّن زعموا معرفة الإسلام وأمثال ذلك ثم رأينا كيف ارتكبوا أخطاء جمة على صعيد العمل، وإن اختلافاتهم هذه نفسها تدل على أنهم لم يتوصلوا جميعًا إلى معرفة سليمة؛ (فَماذا بَعدَ الحَقِّ إِلّا الضَّلال).[1] فإن الحق واحد، وحين تختلف الميول والتوجّهات يُصبح واضحًا أنه ثمة بينها حتمًا ما يجانب الحق. ونحن لسنا قادرين على أن نلغي الميول الباطلة تمامًا ونجعل المجتمع حكرًا على أهل الحق والمنزَّهين عن كل خطأ. بل إن خلقة العالم لم يكن هذا هدفُها، بل هدفها أن تُهيَّأ لأُناس أرضيات الاختيار ليختاروا بأنفسهم ماذا يكونون؛ (فَمَن شاءَ فَليُؤمِن وَمَن شاءَ فَليَكفُر)،[2] وإلا فقد كان بإمكان الله تعالى منذ البداية - لو شاء - أن يُدخل أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. فإنما خُلق هذا العالم من أجل أن نختار نحن نهجًا ما بأنفسنا ثم نلتزم بنتائج اختيارنا وتبعاته. على أية حال، الخطوة الأولى في هذا الطريق هي أن نعرف الإسلام حق المعرفة، فلو كنا مثل أصحاب سائر المذاهب وباقي الأديان، بما فيها السماوية، لكان أمرنا صعبًا جدًّا. تصوّروا مثلًا الأديان التي نعُدّها ضمن الأديان الحقيقية والتي كانت إلهية منذ البداية، وأُرسل إلى أصحابها نبي وأنزل عليهم كتاب، وهي اليهودية والنصرانية، وكذلك الزرادشتية وفقًا لبعض الآراء، فهؤلاء أهل كتاب، لكن كم تظنون أن المجال الآن متاح لمن يريد أن يعرف حقًّا ما حقيقة الديانة الزرادشتية، أو ما هي حقيقة دين النبي موسى (عليه السلام)؟
غرضي من الإشارة إلى هذه الأمور هو أن يتضح أكثر عمق الاختلاف داخل هذه الديانات، فإن الاختلاف بين الأعمال التي تمارَس في الكيان الصهيوني وتلك المضادة لها في بعض بقاع العالم هو إلى درجة أنك تجد بين المتظاهرين ضد الكيان الغاصب حاخامات يهود بطاقِيّاتهم الخاصة وشعورهم ولحاهم المجدولة! مما يعني أن علماء اليهود مختلفون في ما إذا كان الدين المتّبَع الآن في الكيان الصهيوني باسم اليهودية هو اليهودية الحقيقية أم إنه – في واقع الأمر – مناهض لها؟! فهؤلاء يتظاهرون ليقولوا إننا نرفض أولئك، وإن دين نبي الله موسى (عليه السلام) ليس هذا!
وإن في المسيحية بضع طوائف مشهورة، سمعنا من بينها على الأقل بالأرثوذُكسية والبروتستانتية والكاثوليكية. لكن بعض هذه الطوائف تصل الفِرَق التي تضُمّها إلى خمسمئة؛ فهناك في عالم اليوم حوالي خمسمئة فرقة بروتستانتية! فما نهج هذه الفِرَق؟ لنقرأ الإنجيل. الإنجيل لا يؤيد أيًّا من هذه الفرق! فلم يأتِ في أيِّ موضِعٍ من الإنجيل دليل على التثليث، في حين أن أساس المسيحية في جميع أنحاء عالمنا المعاصر هو التثليث! من أين ظهرَت هذه الأشياء، وكيف تحوّلَت إلى أُسُس؟ أنّى لنا إثبات هذه العقيدة وفقًا لهذا الإنجيل؟ ...إلخ. وكلنا نؤمن بأن هذه الكتُب محرَّفة، وأن الكتب التي نزلَت على موسى وعيسى (عليهما السلام) ليست هذه، بل تغيّرَت.
لقد مَنّ الله تعالى على أُمّة آخر الزمان فأنزل عليها كتابًا ضَمِن لها أن لا يَزيد منه حرفٌ ولا ينقص؛ (إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظون).[3] وهذا تعهُّد لم يضمنه الله تعالى لأي طائفة أو أمّة أخرى. فإن أبرز ميزة نمتاز بها عن سائر الأديان هو أن لنا كتابًا نعلم أنه نزَل كله من الله تعالى دونما زيادة أو نقصان، وهذا امتياز في غاية العظمة، وإن الله عز وجل قد حفظ القرآن الكريم بهذه الصورة على خلفيّة أنه لن يأتي بعد هذا الدين نبي. وإلى جانب ذلك فقد أخبرَنا النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ومن بعده الأئمة المعصومون (عليهم السلام) – الذين يعتقد الشيعة أنهم اثنى عشر، ولا يصدر منهم أي خطأ لا في الفكر ولا في السلوك – أخبرونا بأنه إذا ثبتَ أنهم قالوا قولًا أو أقَرّوا فعلًا وسلوكًا، فإن هذا هو ما يريده الله تعالى تحديدًا، وما من دين آخر ينطوي على مثل هذا الشيء. على أنه ثمة هنا وهناك مَن لا يعتقد بذلك، والآن هناك الكثيرون، وبعضهم من أهل السُنّة، ممن يقبلون الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) بصفتهم علماء ينبغي اتباعهم، والشافعية - في الغالب - يحملون مثل هذه العقيدة ويصرّحون بها أيضًا، على أنهم يقولون بأن الخلافة بصفتها منصبًا سياسيًّا لم تكن لهم! على أية حال فإن هذه مِنّة ثانية مَنّ بها الله على الأمة الإسلامية بأن عرّفَهم بأشخاص قولُهم وسلوكُهم العملي كلاهما حجة لهم.
وإنّ ما تدركه عقول البشر ويُقرّه الجميع ويقبَله كل عاقل هو شيء يشترك فيه البشر جميعًا ونحن أيضًا نمتلكه ونُفيد منه ولله الحمد. وإنّ ما يعتري الإدراك العقلي من قصور يَتَداركُه الوحي السماوي، الذي أهَمّ مصدر له هو القرآن الكريم، وهو وحي ثابت وكامل ولم تطَله يد التحريف، ومن ثم كلام النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) في توضيح ما خَفي من القرآن الكريم، والذين هم عِدْل القرآن الكريم؛ «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين؛ كتابَ الله وعترتي».[4] بالطبع في بعض روايات أهل السُنّة جاءت «وسُنّتي»، ولو كانت (سُنّتي) أيضًا فهي صحيحة بوجه من الوجوه؛ إذ هي سُنّة النبي الأكرم وأهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم.
لو اعتقَدنا حقًّا أن نهج السعادة الحقيقية للإنسان ينحصر في الإسلام، وأن السبُل الأخرى، وإن انطوَت على عناصر من الحق، فهي مَشُوبة بعناصر من الباطل؛ كالتثليث في النصرانية، والمعتقدات الفاسدة الأخرى في اليهودية، وكذا الحال في الأديان الأخرى – أقول: لو اعتقدنا أن أمامنا مقصدًا، وأن في أيدينا خطة وخارطة من شأنها أن توصِلنا إلى هذا المقصد، أنّ في متناولنا خارطة كنز إن تتبّعناها بشكل دقيق فسنصل إلى الكنز، فهل سنرضى بأن نَركُنَ هذه الخارطة جانبًا على الرف ليتجمّع عليها الغبار؟! أم سنشتري هذه الخارطة – أولًا – بأي ثمن، ثم نحفظها لئلا تضيع أو يتلف قسم منها؛ فإنها خارطة كنز، كنز عظيم. لكن هذا الكنز مهما بلغ فهو ينفع في هذه الدنيا القصيرة الزائلة، ثم ينضب في النهاية. فماذا لو كان كنزًا لا ينضب، نتيجته السعادة الأبدية، أي ما لانهاية له، فهل سنَركُن خارطتَه جانبًا بمثل هذه السهولة بحجة أن لنا عملًا أشد ضرورة؟! أم أنّ أهم عمل هو أن نقرأ هذه الخارطة لنرى من أين علينا أن نسير، وماذا ينبغي أن نصنع؟! ماذا يحكم العقل البشري هنا؟ يبدو أنه ما من شك في أنه لو كانت في أيدينا مثل هذه الخارطة لمثل هذا الكنز، كنز لا نهاية لمحتواه، لبذَلنا كل ما في وسعنا لدراسة الخارطة وتعلّمها، ذلك أن ربحه لا نفاد له! أفَهل يمكن لنا قياس عدد آخَر باللانهاية؟! أسنفعل ذلك؟! أفعَل المسلمون هذا؟!
للأسف ظهر أناس منذ صدر الإسلام نهَوا حتى عن البحث في القرآن الكريم، كما قال غيرهم نتمسّك بكتاب الله ونترك كل ما سواه، القرآن وحسب! هذا والقرآن الكريم نفسه قد أمر بأنه: (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه)؛[5] أي عليكم أن تقبلوا بكل ما يقوله النبي (صلّى الله عليه وآله). والقرآن الكريم نفسه يقول: (أَطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ)،[6] أما أولئك فقالوا: كلا، نحن نقبل القرآن وحسب؛ «حَسبُنا كتاب الله»! فكيف برزَت هذه الانحرافات منذ صدر الإسلام؟ الجواب هو أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان – في النهاية - مختارًا؛ (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر)،[7] وجعَل أمامه طريقين سالِكَين ليختار كل امرئ ما يشاء من بينهما فاختار هؤلاء هذا الطريق. انقضَت قرون من الزمن كانت فيها معرفة نهج الحق والاطّلاع على المحتوى الصحيح للقرآن الكريم وسُنة النبي (صلّى الله عليه وآله) في غاية الصعوبة. فكلنا يعلم أن أكثر أئمتنا (عليهم السلام)، إن لم نقل كلهم تقريبًا – فلربما نستثني منهم واحدًا أو اثنين – عاشوا في حالة من التقية؛ فلم يكن باستطاعتهم أن يُعلنوا عن عقائدهم وأفكارهم وعلومهم لأي أحد. وإن معرفة النهج الحق، والوقوف على محتوى الكتاب والسُنّة في مثل هذه الظروف أمر صعب جدًّا.
أحيانًا كان بعض الخواص من تلامذة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إذا سمع كلامًا منهم (عليهم السلام) دوّنَه بخط ذلك الزمان ودواته وحبره. كانوا يجتهدون أعوامًا في إعداد هذه المخطوطات، فإن داهمتهم عناصر السلطات الحاكمة آنذاك لسرقتها يعمدون إلى دفنها تحت التراب لئلا تقع في أيدي الأعداء! في ظروف مثل تلك بُذلَت جهود ليصل المذهب الحق والإسلام الأصيل إلى الأجيال القادمة. بالطبع هؤلاء الذين بذلوا تلك الجهود سينالون أجورهم، ونحن مدينون لهم، وإنّ كل عملِ خير يُنجز الآن يكون لمن ساهموا فيه في الماضي نصيبٌ منه، فأولئك لم يخسروا شيئًا. أما نحن، الذين نجلس على مائدة بُذلَت جهود جبّارة لبَسطها على مدى ما يقارب الـ1400 عام، الله ضمنَ أن يصل بعضها إلى أيدينا سليمًا، وهو القرآن الكريم، أما معاني هذا الكتاب ومفاهيمه، وأسراره، وتفسيره فقد وصلَنا بجهود العلماء والأعلام المضنية وجهادهم المرير، من خلال ما تعرّضوا إليه من السجن، والتعذيب، والنفي، والاتهامات. إذ تعلمون أن عنوان طائفةٍ من علمائنا هو «الشهيد»؛ فإنّ من الكتب الحوزوية المنهجية الذي يدرسه جميع طلبة العلوم الدينية تقريبًا هو كتاب (شرح اللمعة)، نص هذا الكتاب ألّفه أحد العلماء، فسُقي كأس الشهادة بعد مدة من تأليفه، ثم كتب شَرحَه عالم آخر، استشهد أيضًا فيما بعد! أي إن أحد كتبنا المنهجية أُلّف بجهود عالمين جليلين شهيدين! استشهدا في سبيل نشر الدين. ولولا كتاب هذين الشهيدين لم نكن نحن لنطّلع على أن مثل هذه الجهود قد بُذلَت، وبالمناسبة نحن نعلم أن هذا الكتاب دُوِّن نصّه وشرحه بواسطة عالمين شهيدين.
على أية حال إننا نجلس على مائدة مُعَدّة جرى العمل وبُذلَت الجهود على إعداد أطعمتها على مدى 1400 عام وقد وصلَتنا بالمجّان تقريبًا! فكم بذلنا نحن من جهود لإعدادها؟! أمِنَ الإنصاف أن لا ننظر أبدًا إلى ما صُف على هذه المائدة وما وُضع عليها من أطعمة وكيف لنا أن ننتفع منها؟! مع الأسف إننا جميعًا تقريبًا مُقَصّرون في هذا الجانب؛ حتى أولئك الذين وقفوا أعمارَهم على هذه الأمور غير مُبَرّئين من القصور؛ أمثالنا نحن المعممين الذين نزعم أننا جئنا نعرّف الناس بالقرآن الكريم والدين، نحن أيضًا نعاني بعض أشكال القصور وعلينا أن نجلس إلى بعضنا لنناقش ذلك. الآخرون أيضًا يتحملون بعض التقصير إذ لم يفتشوا عن العلماء العاملين الحقيقيين لمعرفتهم والإفادة منهم حق الإفادة. إلى أن بعَث الله تعالى معجزةً أخرى بعد ما يقارب الـ1400 عام!
لو أنكم كنتم زمان كنا أطفالًا، أي قبل حوالي الثمانين عامًا، ولمستم أجواء المجتمع الدينية آنذاك لأدركتم أكثر معنى قولي أن الله بعث بمعجزة. أذكر في منزلنا، وقد كنت أنذاك طفلًا، أن النساء كن يذهبن إلى حمام السوق في الشهر مرة، وبشق الأنفس. ولكي لا يمسكهن الشرطة في الزقاق بحجة ارتدائهن الحجاب كُنّ إذا اضطررن إلى الذهاب إلى الحمام لغُسل واجب مثلًا يعتمرنَ بقبّعة مخروطية الشكل من اللُبّاد ويرتدين رداءً فضفاضًا فيه زوائد يُمسكنها حيالَ رقابهن ووجوههن. كان الحمام يبعد عن الدار مسافة مئة خطوة وكن قد فكّرن في هذا الزي، الذي كان يسمى أصلًا "زي السفور" من أجل الحمام الاضطراري. بهذا المظهر الغريب كن يخرجن للمشي لمسافة قصيرة إلى الحمام!
حتى في أواخر الأيام التي انتهت إلى انتصار الثورة كان لا يُسمح للمحجبات بدخول الجامعة. وفي الكثير من شوارع طهران التي كنتُ أمُرّ منها بنفسي كانت محلات بيع الخمور أكثر من تلك التي تبيع المواد الغذائية! كنتَ كلما سرت خطوات تشاهد محلًّا لبيع الخمور وبيع أقداح الشراب، وكانت تُفتح من وقت العصر حتى منتصف الليل، وكان الناس يرتادونها، يشربون ويعربدون من دون أي رادع. أما المساجد فكانت خالية في الأغلب، ولم يكن بإمكان مرتادي المسجد فعل الكثير، كانوا يصلّون فقط، وكان أغلبهم من المسنين. لم يكن يخامر أحدًا أملٌ في أن يُبعث الإسلام في هذا المجتمع من جديد. فإذا بنا نفتح أعيننا فنرى أن الله قد فعل ما أدى إلى هَوِيّ سلطة الشاه الاستبدادية فجأة وتسلَّمَ السلطةَ محلَّه عالم دين! أليست هذه معجزة؟!
الرجل الذي منذ مدة قصيرة داهموا منزله في جوف الليل واقتادوه معهم. إلى أين تقتادوني؟ لا شأن لك بذلك، إنها الأوامر! مضَت مدة لا يعلم أحد أين هو. وبعد مدة فُرضَت عليه الإقامة الجبرية في مكان ما ولا أحد يُسمح له بالتواصل معه. ثم نُفي إلى تركيا، ومن ثم إلى العراق. وتصرّمَت حوالي خمس عشرة أو ست عشرة سنة على هذا المنوال، كان جهاز السافاك والأجهزة الأمنية خلالها تقوى يومًا بعد يوم، وتتسلط على رقاب الناس بأساليب جديدة وضغوط تعسفية. أفَكان أحدٌ يأمُل بأن يُبعث الإسلام هنا من جديد؟!
إن من لطف الله اللانهائي بالناس أن جسّدَ أمام أنظارهم شخصًا ليروه بأعينهم فلا ينكرونه. إنه ذات الشخص الذي كان بالأمس لا يستطيع تأمين نفقات معيشته إلا بشق الأنفس يواصل اليوم حياته بتلك البساطة والزهد ذاتهما، لكن الله قد حباه بعِزّ ما جعَل رئيس أمريكا نفسه يأمر إذا خطب بأن يترجموا له خطابه ليعرف ما يقول! والآن أيضًا، وبعد مضي أربعين عامًا، طَفِق ساسةُ الغرب المحنكين يجيلون الفكر عَلّهم يضعون خطة ويحوكون دسيسة لإسقاط هذا النظام، النظام الذي أُقيم على يد رجل معمم! يظنون أن الأمر من صنع عالِم دين، وأن بالإمكان إسقاط هذا النظام بخطة يضعها بضعة من الساسة والمتآمرين وشياطين الإنس، أو بواسطة هذا الأبله الذي يحكم الآن الولايات المتحدة! من دون أن يعلموا أي يد تسند هذا النظام وتحفظه!
على أية حال، لقد لطف الله تعالى بنا، وحقق لنا هذه المعجزة، وأعَدّ لي ولكم هذه المائدة. أتعلمون ماذا يقول القرآن الكريم في مثل هذه المواطن؟ يقول: (ثُمَّ جَعَلناكُم خَلائِفَ في الأَرضِ مِن بَعدِهِم لِنَنظُرَ كَيفَ تَعمَلون)؛[8] لقد أزَحنا أولئك القوم، فزالَت دُوَل، وتغيّرت أقوام، وانقلبَت تيجان، وانتقلَت سلطة من منطقة إلى منطقة في الكرة الأرضية، وتهيأت أسباب جديدة، وقد مددناكم اليوم بالقوة والسلطان، وجعلنا لكم بلدًا آمنًا، فيه مثل هذه المائدة الواسعة الـمُعَدّة التي أُعدّت أطعمتُها على مدى 1400 سنة! أتعلمون لماذا؟ (لِنَنظُرَ كَيفَ تَعمَلون)؛ أي: ماذا تعملون؟!
أوَليس هذا العالم قد خُلق أصلًا من أجل أن يختار كل إنسان مصيره بنفسه؟! وإلا فإن الله تعالى قد خلَق من الملائكة ما لا يستطيع أي إنسان أن يحصيهم أو يَعُدّهم؛ «منهم سُجودٌ لا يركعون وركوعٌ لا ينتصبون»؛[9] فهناك في الفضاء والسماوات ملايين الملائكة راكعون مذ خُلقوا لا ينتصبون واقفين، ومنهم سُجَّدًا منذ أن خُلقوا لا يركعون!
متى كان بالإمكان خَلق مخلوق لم يتأخّر الله عز وجل في خَلقه ولا بخلَ بذلك، وما ذلك بصعب عليه. ولم يكن يَنقُص غير مخلوق يتخيَّر مصيرَه باختيارٍ وإرادة منه، فإن كان اختياره سليمًا بلَغ مقامًا تصبح تلك الملائكة خُدّامه، لأنه وصل إلى ذلك المقام باختياره هو. كانت تخامره ميول كثيرة فيه لسلوك طرق منحرفة لكنه أشاح بوجهه عنها جميعًا وقال: "إلهي، أسلُك هذا النهج لأنك أنت أمرتني به." وهاهنا يكتسب من القيمة ما يجعل الملائكة قاطبة تفتخر بخدمته!
فإن من واجبات ملائكة الله المقربين المذكورة في القرآن الكريم هو: (وَيَستَغفِرونَ لِلَّذينَ آمَنوا رَبَّنا وَسِعتَ كُلَّ شَيءٍ رَحمَةً وَعِلمًا فَاغفِر لِلَّذينَ تابوا وَاتَّبَعوا سَبيلَكَ).[10] إنها آيات الذكر الحكيم! يقول تعالى: إن من الواجبات الثابتة لملائكة الله المقربين الذين خلقناهم هي أنهم دائمًا في حال دعاء واستغفار للمؤمنين يقولون: (رَبَّنا وَسِعتَ كُلَّ شَيءٍ رَحمَةً وَعِلمًا فَاغفِر لِلَّذينَ تابوا وَاتَّبَعوا سَبيلَكَ)؛ اللهُمّ اعفُ عن أولئك الذين أقلعوا عن فعل القبائح واتخذوا سبيلك وزِدْ من بركاتك ورحماتك عليهم! هذا هو شغل الملائكة؛ لقد خلقهم الله لكي يدعوا لي ولك، هذا إنْ نحن عرفنا قدر ذلك، وانتفَعنا من هذه المائدة خيرَ انتفاع، ووظّفنا قدرتَنا هذه على الاختيار من أجل كمالنا وسعادتنا، لا من أجل شهواتنا الشيطانية أو احتياجاتنا الحيوانية فحسب. فإن اكتسبنا هذه المعرفة بالله جل وعلا وبدينه واختَرنا سبيل الله لأن الله يحب ذلك. أوَليس الله محبوبًا؟! لقد أعد لنا كل هذه النعم منذ آلاف من السنين، أفلا ينبغي أن نشكر هذه النعم؟! أفلا تشكرون؟!
إن الالتفات إلى هذه الأمور، ومنها اجتماعنا هذا بالذات، وأنّ بمقدورنا أن نتكلم بهذا الكلام، هو واحد من ثمار تلك الشجرة التي غرسَتها اليد المباركة للإمام الخميني (رحمه الله)؛ فلقد غرس الإمام شجرة الثورة، وعلى مدى الأربعين عامًا التي انقضَت على انتصارها نمَت هذه الشجرة، واخضرَّت وأثمرت، وحلَت ثمارها، فكان من ثمارها اجتماعنا هذا. فلولا حركة الإمام وثورته هذه ما كان مصيرنا أنا وأنتم اليوم؟ وما كان مصير هذه البناية؟! ومصير أسباب الدين؟! فهذه واحدة من ثمار تلك الثورة.
إن من مقتضى العقل الذي وهبه الله تعالى لنا هو – أولًا – أن ننحني أمام من أسبغ علينا هذه النعم التي لا تُحصى ولا تُعَد، والحق إنها لا تحصى ولا تعد، قائلين له: "إلهي، لو لم يكن من سبب آخَر لطاعتي إياك غير شكر نعمِك هذه فلا بد لنا من طاعتك والركوع بين يديك." فلو قدّمَ امرؤ لنا خدمة فلأي زمان سنشعر بالامتنان له؟ ولو كانت خدمته مصيرية؛ كأن عالجَنا من مرض وأنقذَنا من موت، أفنَنسى فضلَه علينا ما حَيِينا؟! فكيف بالله العظيم الذي يبعث لي كل يوم طبيبًا ليحفظ عيني، وآخر يحفظ أذني، وثالث مَعِدتي، ورابع قلبي، ...إلخ! فمَن الذي أنعم علينا بكل هذه النعم التي وهبَها الله لنا والتي هذه نتائجها؟ ألا ينبغي أن نؤدي شكرها؟! (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَالأَفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرُون).[11] لقد وهبناكم البصر والسمع والقلب والعقل والإحساس والعاطفة، أعطيناكم هذه النعم، وإنّ مِن المتوقع أن تشكروها. أيعني هذا أن الله محتاج إلى شكرنا؟ كلا، بل من أجل أن تفيدوا أنتم منها على نحو أفضل.
حصيلة قولي هي إننا اليوم ننعَم بنعمة قلَّ نظيرها في تاريخ البشرية، فإن الظروف المهيّأة لنا اليوم للرقي والتكامل البشري والتقرب إلى الله لا نجدها في زمان أيما نبي من الأنبياء. فإن لنا قائدًا لم يتمكّن الأعداء من أن يعثروا في حياته كلها على نقطة سلبية واحدة يمكن أن يشيروا إليها بالبنان ويقولوا: "هاهنا أخطأ!" إذ لو أنهم عثروا على مثل هذه النقطة لوضعوها مئات المرات تحت المجهر ولضَخَّموها وصَدَّعوا رؤوسَنا بها، إلا أن قوى العالم الكبرى، وشخصياته الأولى يقولون: "ما دام لكم مثل هذا القائد فأنتم لا تهزمون!" فمنذ مدة قصيرة صرّح السيد بوتين: "طالما أن لإيران مثل هذا القائد فهي لن تُهزَم!" ألا يستحق هذا شكرًا؟! في عالم كهذا يخجل شعبُ ما يسمى بـ"أكبر بلدان العالم تقدُّمًا!" أن يقول: "هذا هو رئيسنا!" ويسخرون به ما شاؤوا أن يسخروا، ويشتمونه، ويتظاهرون ضده، وتَعكُف بضعٌ من أكبر صحفهم باستمرار على انتقاده؛ فإن "الواشنطن بوست" و"النيويورك تايمز" تنقد "ترامب" على الدوام، وشعبه يتظاهرون ضده باستمرار، ويرسمون الكاريكاتور ضده، ويهزؤون به، بل إني التقيتُ بأمريكيين موجودين في إيران أيضًا وهم يقولون: "نحن نخجل أن نقول نحن أمريكيين" – أقول: في عالم كهذا نحن لدينا قائد تقول فيه إحدى أكبر شخصيات العالم السياسية: "طالما لديكم قائد كهذا فأنتم لن تُهزموا!" هذه أمور نعرفها جميعًا تقريبًا، على أني ركّزتُ على بعض جوانب الموضوع. فماذا يتوجب علينا أن نصنع؟ وكيف لنا أن نشكر هذه النعمة؟
أول شكر على هذه المائدة الإلهية العظيمة هي أن نتعلم القرآن الكريم على نحو أفضل. لا نقولن: "يكفينا ما قرأناه إلى الآن،" أو: "يكفينا أن نعرف معانيه ومفاهيمه"، فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في القرآن الكريم: «باطنه عميق، ولا تفنى غرائبه ولا تنقضي عجائبه».[12] فمهما اشتغلتم في المجال القرآني يظل ثمة مجال للعمل. إذًا لنخصّص قسمًا لا بأس به من أعمارنا لتعلّم القرآن على نحو أفضل، لا أن نقرأ منه في شهر رمضان المبارك فقط بضعَ صفحات، فنُنهي الختمة أو لا ننهيها، أو نلتفت إلى معانيه أو لا نلتفت.
الركن الثاني لنا هو العترة وأهل البيت (عليهم السلام)، فلنحاول معرفة هذا الدين وهذه السيرة وهذا المذهب أكثر. فإن الأمور التي نعرفها عادةً عن المذهب هي تلك التي تعرَّفناها في جو العائلة والكُتّاب وأمثالهما. فكم فكّرنا؟ وكم نطالع لنعرف مذهب التشيع بشكل أفضل وأعمق من خلال كلام أهل البيت (عليهم السلام)؟
نحمد الله على أنْ توافَر لنا في زماننا هذا الكم الهائل من الكتب والأبحاث والمقالات. إن علينا أن نُشَمّر عن سواعدنا ونخصص بعض يومنا، ربع ساعة منه على الأقل للقراءة والمطالعة. سيساعدنا هذا كله على توسيع رقعة إدراكنا، وتنوير أذهاننا. لكن الإدراك واستنارة الذهن وحدهما غير كافيَين، فهناك الكثير ممن يعرفون الكثير من الأشياء لكنهم لا يعملون بها. نحن أنفسنا أوَنعمل بكل ما نعرف يا ترى؟! فلا بد من توافر شيء آخر إلى جانب هذه المعرفة، وهو الدافع للعمل. وهذان الشيئان هما ما أكد عليه القرآن الكريم أيما تأكيد. فالقرآن يذكر هذين الأمرين معًا؛ يقول: (يُزَكّيهِم وَيُعَلِّمُهُم)،[13] الاثنان جنبًا إلى جنب. والعنصر الأساسي للنضج البشري في هذين الأمرين هو المعرفة الصائبة، بجَني معلومات أكثر عن الحقائق، والعزم على العمل، والتمرّس على أن يصبح إنجاز الأعمال المشروعة والمرضية عند الله ملَكةً فينا، ولا ننساها ساعة العمل، وأن نؤدي صلاتنا بحضور قلب، ونساعد الفقراء والمعوزين ما وسعنا ذلك، وأن نعمل بباقي تعاليم ديننا. يزكيهم، ويعلمهم؛ هما العنصران الأساسيان للتكامل والنضج.
ومن أجل تطبيق هذه العموميات فقد مَنّ علينا الله تعالى بنعمة أخرى وهي توافُر كلمات الإمام القائد الخامنئي في متناول أيدينا. وليس أمامنا سبيل أفضل من هذه، على الأقل التجربة الممتَدّة أمامنا لثلاثين أو أربعين عامًا تُثبت لنا أن هذا النهج صائب. فلنذكر حين كان الناس إذا أرادوا الحصول على فتوى إمامهم الحي في شأن بسيط من شؤون حياتهم كان عليهم أن يسيروا على الإبل من الكوفة إلى المدينة المنورة ليسألوا الإمام عن مسألة ما. أما اليوم فما أسهل الوصول إلى فتاوى الإمام القائد وكلامه، فهو إذا خطَب استطاع أهل العالم جميعًا أن ينتفعوا من كلامه. متى كانت كل هذه النعم في متناول البشر؟! فلنُولي هذه الأمور أهمّية؛ لنتعلّمها بشكل صحيح أولًا، ولنَعزم على العمل بكل ما نتعلّمه ثانيًا.
مضافًا إلى هذا كله فلقد حبانا الله تعالى نحن الشيعة بشيء لا يوجد عند سائر المسلمين بالمقدار الكافي، وإنِ امتلك بعضُهم بعض مراتبه؛ وهو قضية التوسل بأولياء الله واستعطافهم؛ يقول تعالى: (وَابتَغوا إِلَيهِ الوَسيلَة).[14] فإنْ أنتم تشرّفتُم اليوم بالحضور في مشهد السيدة فاطمة المعصومة (سلام الله عليها) فصدّقوا من أعماق قلوبكم أنها تسمع كلامكم، وترد عليكم بكل رأفة. اسألوها بصدق قائلين: إننا ضيوفك، وليس في أيدينا ما نقدّمه بين يديك، وما أتينا إلا لنستعطيك ونطلب إليك أن تسألي الله عز وجل أن يهدينا ويرشدنا ويوفقنا للعمل بواجباتنا، وأن يديم علينا ما مَنّ به من النعم، ولا سيما نعمة وجود الإمام القائد الخامنئي.
وفقكم الله وإيانا
والسلام عليكم ورحمة الله
[1]. يونس: الآية32.
[2]. الكهف: الآية29.
[3]. الحجر: الآية9.
[4]. القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي: ج2، ص345.
[5]. الحشر: الآية7.
[6]. النساء: الآية59.
[7]. الكهف: الآية29.
[8]. يونس: الآية14.
[9]. نهج البلاغة: الخطبة1، ص41.
[10]. غافر: الآية7.
[11]. النحل: الآية78.
[12]. ابن طاووس، علي بن موسى، كشف المحجة لثمرة المهجة: ص275.
[13]. آل عمران: الآية164، والجمعة: الآية2.
[14]. المائدة: الآية35.