بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين.
اللهُمّ كُن لوليّكَ الحجة بنِ الحسن، صلواتُك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعةِ وفي كلِّ ساعة، وليًّا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليلًا وعَينًا، حتى تُسكِنه أرضَك طَوعًا وتُمتِّعه فيها طويلًا.
على روح الإمام الخميني (رحمه الله) الطاهر وأرواح شهداء الإسلام العظام وكل صاحب حق علينا نهدي ثواب الصلاة على محمد وآل محمد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا منْكُم وَعَمِلوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأَرضِ كَما اسْتَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوْفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا).[1]
أشكر الله عز وجل أن وفّقني للحضور في هذا المجلس النيّر والامتثال لأمر العِظام ممن أمرونا بما يسعنا من الطاعة لكي آخُذ دقائقَ من وقتكم أيها الأعلام والأعزة.
موضوع بحثنا هو البيان القيم جدًّا الذي أصدره سماحة الإمام القائد الخامنئي (دام ظله) تحت عنوان "بيان الخطوة الثانية للثورة" الذي مهما أطَلنا التفكير في جوانبه وأبعاده، وتمَعَّنّا في لفَتاته وإضاءاته، وانتفَعنا من توجيهاته في حياتنا المستقبلية فلربما نعجز عن أداء حقه. إنه لبيان نفيس جدًّا، وإنه لفَخر لي أن أعترف بأني عاجز عن بلوغ أعماقه وسَبر أغواره. إجمالًا لقد بوَّبتُ هذا البيان بصورة منظومة في حدود ما استطعتُ أنا فَهمَه منه وما جنَيتُه أحيانًا من ثمارِ إيضاحات الآخرين في شأنه أثناء محاضراتهم المختلفة، وسأحاول أن أستعرض هذه المنظومة بإيجاز.
أولًا العنوان الذي أطلَقه سماحةُ الإمام القائد على البيان، "الخطوة الثانية للثورة" يستبطن التفاتات تدعو إلى التوقّف والإفادة، أولها هي أنه يُبطل نظريةً تُنسب إلى بعض علماء الاجتماع. تعلمون جميعًا أن من النظريات المعروفة في حقل علم الاجتماع حول الظواهر الاجتماعية هي أنه كما أنّ الظواهر الفردية تمُر بولادة، ثم مرحلةِ نُضج وازدهار، ثم تنتهي بمرحلة أُفول وموت، هناك تصوُّر مشابه حول الظواهر الاجتماعية أيضًا يقول بأن كل ظاهرة تُولَد في ظروف خاصة، فتكون بدايةً أشبه بالطفل الضعيف، ثم تنمو وتنضج تدريجيًّا، حتى تزدهر وتعطي ثمارًا، ثم تميل - شيئًا فشيئًا - إلى الأفول والتقهقُر، حتى تحين لحظة موتها، فتختفي من الوجود ولا يبقى منها حتى الاسم. المقتنعون بهذه النظرية كانوا يحملون التصوُّر ذاتَه إزاء الثورة الإسلامية في إيران، وهو أنها ثورة قامت في ظروف خاصة، حيث قد استغَلّ الإمام الراحل (رضوان الله عليه) تلك الظروف فأطلق هذه الحركة، فنجحَت الثورة في بلوغ بعض الأهداف، وكان لها نتائج محبَّذة، وهي ستَؤول تدريجيًّا إلى الضعف حتى تنتهي، حيث سيتحتم علينا حينها أن ننتظر ظاهرة أخرى، ونرى ما الذي ستقتضيه الظروف التالية، وكيف ستولَد الظاهرة القادمة، وكيف ستنمو، وإلى أين ستنتهي، فإن عصر هذه الثورة قد أشرف على نهايته وهو يُكمل عامَه الأربعين وسينتهي لا محالة. بعض المثقفين والمتنورين تُغويهم هذه النظريات المرتكزة إلى علم الاجتماع، كما أن بعض الساسة، الخبثاء والدنيئين – كما يصطلح عليهم الإمام القائد الخامنئي نفسه أحيانًا – أرادوا استغلال هذه النظرية بدافع البغضاء فبدؤوا، منذ اليوم الأول لولادة الثورة، يناوئونها متوقعين أن تُطوى صفحتُها وتزول من الوجود قبل أن تبلغ عامها الأربعين، بل هنالك من شخصيات العالم الاستعمارية الكبرى قد صرّحَت بأننا لن ندع هذه الثروة ترى أربعينيتها، بل كان معظمهم مطمئنًّا أن هذه الثورة، بما يحوكونه ضد هذه الجمهورية الإسلامية من مؤامرات ويمارسونه عليها من ضغوط، لن تطيق عبء الاستمرار بالحياة حتى تبلغ عامها الأربعين!
فجاء هذا البيان، الذي أُطلق عليه "الخطوة الثانية للثورة" ليدحض جميع تلك الأوهام الخاطئة المغلّفة بغلاف العلم، ويُبطل نوايا الأعادي والمتآمرين الخسيسة. فدلالة عبارة "الخطوة الثانية" ليس أن الثورة لم تنته فحسب، بل تعني إنها لم تَخطُ إلى الآن غير خطوة واحدة، وإننا نعيش اليوم بداية خطوتها الثانية، وأننها ماضية قدُمًا! بل لا يُدرى ما إذا كانت ستُحَد بخطوتين أو ثلاث خطوات، وأنه كم ستطول كل خطوة؟ خطوتها الأولى فقط امتدَّت أربعين عامًا! وعليه فإن تلك النظرية باطلة، وإن هذا العداء بكل أشكاله لن يحقق أغراضه. ومجرد تسميتها بـ"الخطوة الثانية" يوحي بهذا المدلول، ويزف لأبناء الغد البشرى بأن: كونوا على أمل بأن التطور والتقدم سيكون حليفكم في هذا الطريق ولن يكون لهذه الأفكار المغلوطة وقعٌ في أنفسكم.
الالتفاتة الثانية هي أنه بعد أن نسلّم بأنها خطوة، وأن الخطوة السابقة لها قد مضَت والخطوة التالية ما زالت مستمرة وأن هذه الثورة لن تزول، فقد يقول قائل: "صحيح أنها ستستمر، لكنها ستستمر بنتائجها؛ فهناك مسيرة قُطعَت وقد جنَينا منها بعض النتائج، والآن علينا الاحتفاظ بهذه النتائج وحسب، وليس ثمة شيء آخر!
هنا أيضًا استعمال عبارة "الخطوة الثانية" يعني أننا خطونا إلى الآن خطوة، ولفظة "الخطوة" إنما تُستعمل حينما يكون ثمة طريق، ويكون لا بد من الـمُضي بخطوات نحو مقصد ما لكي نقترب منه. فحين نخطو خطوة فإننا نقترب بعض الشيء من الهدف، ولا بد في الخطوة الثانية من الاقتراب أكثر منه؛ بتعبير آخر: اجتزنا مرحلة ونحن ندخل مرحلة أخرى، والآن نحن أكثر قربًا من الهدف. فليس أننا خطونا الخطوة الأولى والآن نتائجها مستمرة، بل إنها ستتواصل، وبنتائج أعظم وصورِ تقدُّم أكثر بروزًا، وهذه هي الخطوة الثانية. ومَثَل ذلك مَثَل الموضع الذي يرتفع بسُلَّم ذات بضعِ درجات، فإن صعدنا درجة واحدة نكون قد اقتربنا قليلًا من ذلك الموضع الذي نصبو إليه. فإن المراد من الخطوة الثانية هو أننا كنا قد اقتربنا قليلًا من الهدف في الخطوة الأولى، فإن خطَونا الخطوة الثانية فسنكون قد اقتربنا من الهدف أكثر بكثير، وأننا على مشارف مرحلة قطَعنا مسيرةً تحضيرية من أجلها واكتسبنا الآن القدرة على اتخاذ خطوة أعلى نحو ذلك المقصد والاقتراب منه أكثر. فهذا المعنى تتضمَّنه أيضًا عبارة "الخطوة الثانية" تحديدًا.
الالتفاتة الثالثة هي أنه لا ينبغي لنا الاكتفاء بمنجزات الخطوة الأولى من أجل اتخاذ الخطوة الثانية، فهذا أشبه بمن ارتقى درجةً من السُلّم وظل ماكثًا هناك؛ فصحيح أنه لم يعد يقف على الأرض وأنه ارتقى درجةً واحدة، لكنه إن مكث هناك فهو أيضًا لن يبلغ الهدف. إذ يتحتم أن نبذل جهدًا أكبر لكي نقترب من المقصد خطوة خطوة حتى نبلغ الهدف الرئيس، فإنّ ارتقاء درجة واحدة لا يمثّل لنا بحد ذاته هدفًا؛ فالدرجة طريقٌ نسلكه لبلوغ الهدف، وفيها إشارة إلى أن أمامنا هدفًا ساميًا وعظيمًا جدًّا. فمسيرة الأربعين عامًا المنصرمة كانت خطوة واحدة خطَوناها في هذا الطريق فاقتربنا من ذلك الهدف، وثمة خطوات أخرى علينا خَطوُها. وناهيك عن أن علينا حفظ مستوى الدرجة الأولى، بأن لا نعود القهقرى، ينبغي لنا السعي لارتقاء الدرجة الثانية للتقدم. وهذا أيضًا يُستلهَم من العبارة ذاتها.
بالالتفات إلى هذه الإلهامات المستوحاة من هذه العبارة بالذات، فإنه بغَضّ النظر عن المضمون العالي جدًّا لبنود البيان المتعددة وكلماته البالغة العمق والحكمة، والتي طُرح بعضها – بطبيعة الحال - في الاجتماعات التي عُقدت لهذا الغرض، بل كُتب عنها طيلة هذه المدة مقالات جمة، وجرَت حولها دراسات، وأُلقي فيها محاضرات – بغض النظر عن هذا كله فقد خَطى كلُّ فرد، بُغية الانتفاع من هذا البيان، ما وَسِعه من خطوات وأَنجز ما قَدِر عليه من أعمال. ثم بالالتفات إلى أننا إن شئنا أخذَ الخطوة الثانية – التي هي أعلى من الأولى والتي تقرّبُنا من هدفنا أكثر – فمن الطبيعي أنه أوّلًا لا يبنغي لنا أن نرجع على الأعقاب وعلينا أن نحفظ ما اكتسبناه جيّدًا. ثانيًا أن نبذل جهدنا في استجماع قوانا لكي نرتقي من هذه الدرجة إلى مرحلة أعلى، ثم نحاول الـمُضي في هذا الطريق بنجاح أكبر لكي نحقق ما لم نستطع تحقيقه في الدرجة الأولى، حيث لم تكن الظروف مواتية لتحقّقه بهذه المرتبة المطلوبة من الكمال، من أجل أن نقترب أكثر من الهدف الرئيس، ثم نعانقه يومًا ما بلطف من الله عز وجل.
ومن أجل أن نتمكن من صيانة منجزاتنا السابقة واتخاذ خطوتنا التالية بنجاح أكبر هناك شرطان:
الأول هو أن نعرف ما الأدوات المتاحة لنا والطاقات الكامنة فينا لنوظّفها لإنجاز الحراك المطلوب في الخطوة الثانية لنخطوها بقفزة. فإن لم نكن نعلم ما الطاقات اللازمة لهذا الأمر؟ وما إذا كنا نمتلك هذه الطاقات أم لا؟ وكيف نكتسبها إن لم نكن نمتلكها بالفعل، أو نُكملها إن كانت ناقصة؟ فلن نوفَّق في الخطوة الثانية موفقية يُعتَد بها. فالخطوة الثانية أهم من الأولى، وهي أعلى منها درجة؛ أي إن الدرجة الثانية أعلى من الأولى، وبعبارة أخرى: لقد أصبحنا الآن في مستوى أعلى مما كنا عليه ونحن نقترب أكثر من الهدف. علينا أن نعرف ما في حوزتنا من رؤوس أموال لكي لا نفرط بها أولًا، ولا نذرها راكدة ثانيًا، ونتبيَّن السبيل الأمثل لتوظيفها ثالثًا، ثم نوظّفها رابعًا من أجل أن نتمكن من المضي في الخطوة الثانية بنجاح وموفقية.
بالطبع من أجل أن نتمكن من أخذ هذه الخطوة علينا أولًا، كما أسلَفنا، أن نؤمن بأننا قادرون عليها. ثانيًا أن نرى ما هي هذه القدرات؟ وكم قسمًا هي؟ لكي لا نفرط بها، ولا تبقى راكدة، والأهم أن لا يسرقها الأعداء منا؛ أي أن لا يسلبنا العدو ثرواتنا ورؤوس أموالنا التي نملكها من أجل خطوتنا التالية، أن لا يخدعنا ويسرق هذه الثروات منا. إذًا ضرورة معرفة الثروات ورؤوس الأموال اللازمة، ومعرفة السبيل إلى استغلالها من أجل التقدم، وتحقيق القفزات، والسير نحو الرقي والقمة، مضافًا إلى معرفة الأخطار التي يمكن أن تحيق بنا من ناحية العدو لكي لا تُحدق بنا أو لكي نواجهها؛ إذًا علينا أن نتعلم الطريقة لذلك ونُعِد لها الخطط. هذه هي الشروط المهمة لكي نخطو الخطوة الثانية بشكل سليم. ومن أجل أن نستطيع خَطو هذه الخطوة لا بد لنا من بعض رؤوس الأموال والمؤهِّلات والممتلكات المادية؛ ففي النهاية إن ما يُنجَز في هذا العالم لا يتأتى في العادة من دون مؤهلات مادية. وإن حصلَت أحيانًا بعض الإفاضات والإمدادات الغيبية فإنها الجوائز على التحركات التي أُنجزَت سابقًا بالإفادة من هذه المؤهلات المادية ذاتها، وإلا فلا تقضي خطة الله تعالى أن يُوصِل أحدًا إلى مقام سامٍ من دون استحقاق اكتسبَه هو بعرق جبينه.
هذا العالم مَبني على التحرك الاختياري وإن علينا أن نكتسب هذه الأهلية بأنفسنا. فمن أجل أن ننتفع من الإفاضات الإلهية - سواء تلك التقليدية التي تحصل بشكل طبيعي، أو تلك الخارقة التي تُلحَق بها على هيأة الكرامة والإعجاز والإمداد الغيبي – من أجل أن ننتفع منها لا بد أن تتحقق فينا الأهلية لها مسبقًا. والمثال البسيط على ذلك، الذي أشار إليه القرآن الكريم بشكل مفصَّل تقريبًا، هو وقعة بدر؛ إذ يقول تعالى: (وَلَقَد نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدرٍ وَأَنتُم أَذِلَّة)،[2] (إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم فَاستَجابَ لَكُم).[3] فالعِدة التي كانت في بدر كانت قليلة، ولم يكن في نيتها القتال لكنها اصطدمَت بقافلة ضخمة مجَهَّزة. عِدة قليلة ما كان لها القدرة العسكرية، ولا كانت تملك الإمكانيات، ولا العدد الكافي لمواجهة العدو، وفي النهاية كانوا جميعًا في ضيق شديد إلى درجة أن النبي – بحسب ما يُروى – رفع يديه بالدعاء والتضرّع أن: إلهي، إنك إن لم تنصر هؤلاء فلن يعبدك على وجه الأرض أحد؛ أي لن يتحقق الهدف من الخلقة وهو عبادة الله، فإن السبيل الوحيدة للخروج من هذا المأزق هو أن تنصر هذه القلة؛ (إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم)؛ والاستغاثة [بالرب] هي أن يكون رجاء المرءُ بالله وحسب بعد أن تتقطّع به السبُل كافة ويخيب أمله من كل شيء. حينذاك أرسل الله ملائكة لنصرة الناس بعد أن عَدموا الأسباب الظاهرية للنصرة، والقصة تعرفونها جميعًا ولا داعي للتكرار. إذًا شرط الإفادة من الإمدادات الغيبية هو أن يستغلّوا ما توافر لديهم من إمكانيات ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ثم يستغيثوا الله ليَمُدّهم بالإمدادات الغيبية ويسألونه النصرة، وأن يثقوا بنصرته تعالى. عند ذلك فقط يُمِدّهم الله تعالى بالنصر؛ (نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدرٍ وَأَنتُم أَذِلَّة)؛ أي كنتم في منتهى الضعف فنصركم الله عز وجل.
الآية التي تلوتها في مستهل كلامي تقول: (وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا منْكُم وَعَمِلوا الصّالِحاتِ)؛ فإن الوعد الذي قطعناه على أنفسنا بنصرة أصحاب بدر لا يقتصر على أصحاب بدر، بل يشمل كل ذي إيمان وعمل صالح. وما هو هذا الوعد؟ (لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأَرضِ كَما اسْتَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوْفِهِم أَمنًا)، وفي النهاية: (يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا).
فالذين أُهّلوا لإدراك هذه الرحمة على خلفية إيمانهم وعملهم الصالح يشملهم هذا الوعد؛ (وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا منْكُم وَعَمِلوا الصّالِحاتِ). وما هو؟ هو أننا سنستخلفهم في عالم الدنيا هذا، وسنمنحهم القوة والمقدرة. يَعِدهم الله تعالى بأنه سيستبدل بما كانوا يشكونه من الضعف والخوف في مواجهة أعدائهم، الذين يزيدون عليهم بالعدد أضعافًا مضاعفة بما لا يقبل المقارنة والقياس، ويفوقونهم في العُدّة والتجهيزات المادية والتقنيات المتطورة – نَعِدهم بأن الله سيزيل عنهم هذه المخاوف أمام الأعداء ويستبدلهم بها طمأنينةً وأمنًا؛ (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوْفِهِم أَمنًا).
يمنح الله عز وجل هذا الوعد لتيسير الهدف من الخلقة، الذي هو عبادة الله: (وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدون)،[4] وهو الهدف الذي يؤدي إلى التكامل الحقيقي للبشر؛ (يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا).
وهذا وعد عام؛ فالله جل وعلا لم يخاطب به جماعةً بعَينِها بأنه وَعد خاص بكم، أو أنه يقتصر على أصحاب بدر، أو يخص سائر الأمم؛ العرب، أو العجم، أو الفرس، أو الترك.. كلا، ليس هو وعدًا خاصًّا. المناط هو: (الَّذينَ آمَنُوا منْكُم وَعَمِلوا الصّالِحاتِ). فحصِّلوا أولًا الإيمانَ السليم، ثم اعمَلوا ما تيسر لكم من العمل الصالح بما ينسجم مع مقتضى إيمانكم هذا. وبالطبع حين تزمعون على الإتيان بالعمل الصالح فإنكم لا تُكلَّفون بما لا تطيقون، بل يتوجّب عليكم ما وسعكم من العمل، وأن لا تبخلوا بما تستطيعون. فلتكتسبوا العقيدة السليمة، وليكن لديكم الإيمان، ولتتبنّوا ما تستطيعونه من السلوك الصالح المتناسب مع إيمانكم هذا. فإن فعلتم ذلك فسيمدكم الله بقوة فوق قوتكم، ويهيّئ لكم الإمكانية للمزيد من العمل، والانتفاع من المزيد من النعم الإلهية.
هذه نقاط عامة تُستشَف إجمالًا من عبارات الخطوة الثانية للثورة التي أصدر الإمام القائد الخامنئي (حفظه الله) بيانًا فيها، ومن الآية الشريفة التي تعكس في الحقيقة هذه النظرة الإلهية العامة التي تشمل هذه الأمور وتُقرّها وتدعمها جميعًا. لكن علينا – من الناحية العملية – أن نعرف قدراتنا ومؤهّلاتنا، وأن نتعلم الطريقة لتوظيفها إن كنا نجهل ذلك، ثم نعمل بها لنكون من جملة الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
إجمالًا لا بد لنا من أجل الانطلاقة الضرورية في الخطوة الثانية للثورة من حيازة ثلاثة أمور، على أقل تقدير؛ نكرر: على أقل تقدير، فقد يجعَلها البعض أكثر من ثلاثة.
إذًا علينا حيازة ثلاثة أمور:
الأول: كما ذكرت فإن كل حركة تُنجز في عالم الطبيعة هذا لا بد لها من أدوات مادية، والإمكانيات المادية تشمل الإمكانيات الاقتصادية والعلوم المرتبطة بها. فلا بد أن نرى ما إذا كنا نملك ذلك أم لا؟ فإن لم نكن نملكه فعلينا اكتسابه، وإن كنا نملكه فلا بد من حفظه، وإن كان ناقصًا فيتعين تكميله. والحمد لله فإن مجتمعنا قد أدرك جيدًا في هذه المدة أن لدينا مؤهّلات مادية كثيرة نحن أنفسنا لم نكن نعرف معظمَها ولا نؤمن بها، وقد اتضح أكثر، في هذا العقد الأخير على وجه الخصوص، بأن مجتمعنا، الذي قاسى صنوف الازدراء والإذلال، والذي كان قبل الثورة – في الحقيقة – يُتعامَل معه أكثر ما يُتعامل وكأنه عبد لأمريكا – اتضح أنه كم لدينا من الإمكانيات، وكم نملك من أرصدة مادية لا نَقدِرها حق قَدْرها، والتي كانت - بسبب غفلتنا - نهبًا لأعدائنا، وكأنها متاحة مجانًا! أو لربما كأنها غير موجودة أصلًا! إذ كانوا يأخذون نفطنا بثمن بَخس ويعطوننا في المقابل أسلحةً بأثمان باهظة، ثم يكرهوننا على استخدام هذه الأسلحة في خدمة مصالحهم! على ماذا كنا نحصل في المقابل؟! كنا نتيح سرقة ثرواتنا الطبيعية التي وهبَنا الله إياها بعد أن نريق عليها عرق جبيننا، ثم يشترونها منا بالـمَنّ؛ قائلين: "إننا نشتري منكم نفطكم (في الوقت الحاضر لا يشترونه منا بسبب الحصار لكن في ذلك الحين كانوا يمُنّون علينا أننا نشتري نفطكم) لكن بالثمن الذي يحددونه هم والشروط التي يضعونها. ثم يمُنّون علينا في المقابل قائلين: "إننا نبيعكم السلاح، فنحن لا نزوّد أيًّا كان بالسلاح! أنتم أعزّتُنا وأحباؤنا ولذا نحن نزودكم بهذه الأسلحة المتطورة!" بأي ثمن؟! بالثمن الذي يحددونه هم! ثم يأمروننا بأن: "استعملوا هذا السلاح في كذا وكذا؛ فمضافًا إلى إبادة أبناء شعبكم بهذا السلاح، قاتلوا به "جبهة تحرير ظفار" في بلد آخر[5]! الأمر لا يخصكم بشيء! السلاح الذي اشتريتموه بثرواتكم الطبيعية استعملوه في موضع آخر بما يصب في مصالحنا نحن!" [وإن سألنا:] لماذا؟! [يقولون:] لا تسألوا، هذه أوامر أسيادكم!" لعلكم تذكرون أن حركة ثورية انطلقت في ظفار بعُمان في أواخر أيام حكم شاه إيران تدعى «جبهة تحرير ظفار»، فأصدرت الولايات المتحدة أوامرها "لجلالة شاه إيران!" بأن "عليك أن ترسل الجند والسلاح لإخماد الفتنة وقتل الناس هناك تأمينًا لمصالحنا!" فقال الشاه: "وما شأننا نحن بهم؟!"، فجاءه الجواب: "ليست القضية بحاجة إلى استفسار! إنها الأوامر! نحن من أعطاك السلاح، وعليك استخدامه في الموضع الذي نراه نحن!"
فلو قال أحدهم في ذلك الحين: "سيأتي يوم يصبح فيه هذا الشعب الإيراني، الذي يعامَل اليوم معاملة العبيد، قوّةً عالمية تنافس الولايات المتحدة، ويعترف الرئيس الأمريكي نفسُه بأن خصمه ونِدّه في القوة هو إيران،" أكان سيجابَه بغير الضحك والسخرية؟! كان سيقال له: "ما هذا الهراء؟! أأنت تحلم؟! إن علينا أن نمد يد العوز إليهم من أجل لقمة عيشنا، أفنكون نِدًّا للولايات المتحدة؟!" (وَلَقَد نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدرٍ وَأَنتُم أَذِلَّة)؛ لقد أثبت الله جل وعلا أنه إذا أراد هو شيئًا فليس ثمة ما هو مستحيل، كل ما في الأمر أن هناك شرط لذلك؛ (...آمَنُوا ...وَعَمِلوا الصّالِحاتِ).
كان هذا جانبًا من الأرصدة المادية التي في متناول أيدينا؛ بعضها ما كنا نعلم أصلًا أننا نملكه، والبعض الآخر كنا نعلم أنه يتعرّض للسلب والنهب، وكأننا نهَبه مجّانًا. لكن ثرواتنا لا تقتصر على هذه الموارد الطبيعية والثروات المخزونة في الأرض، فلقد كنا نملك ثروةً بشرية يَندُر أن توجد في العالم بهذه الجودة، وقد تكون معدومة في بعض الأماكن. فإن المواهب الإلهية التي أودعها الله عز وجل في أفراد شعبنا، والظروف الخاصة التي تهيّأت لهم خلال الألف والأربعمئة عام المنصرمة، والتي كان آخرها ما تحقق عينيًّا وظهَر إلى الوجود على يد رجل من سلالة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الطاهرة الإمام الخميني الراحل (رضوان الله عليه) في هذا الزمان، وتحديدًا في النصف قرن الأخير. في أوائل الأمر، حين كنت في سن المراهقة والشباب، كان التصوُّر الغالب عندي عن شباب إيران هو أنهم شريحة طائشة همُّها السعي وراء اللعب والملذّات، وأنها لا تنفع لشيء، غافلًا عن أن جوهرًا نفيسًا مُودَعٌ فيهم تراكَمَ عليه بعض الغبار، فإن استطاع أحدٌ نفض هذا الغبار عنهم، وغسل جوهرهم فسيظهر معدنهم وسينكشف أي جواهر نفيسة هم. ففي بداية حرب الثماني سنوات المفروضة من النظام العراقي البعثي علينا ظهر فتًى يافع قال فيه الإمام الراحل: "هذا قائدنا!" لقد صنع ذلك المراهق ذو الثلاثة عشر ربيعًا ما جعل رجلًا مثل الإمام الخيمني (رحمه الله) يقول فيه: "هذا قائدنا!" أي إن جواهر ثمينة كانت مودعةً في أعماق أولئك الفتيان بقيَت دفينةً تحت طبقات من الغبار، إن هي غُسلت، وتفجرت طاقات هؤلاء الشبيبة، وأدركوا أنفسهم لاستطاعوا صنع المعجزات، كما قد صنعوا فعلًا.
لا أدري إن كان كبار السن يذكرون أنه في أوائل أيام انطلاق ثورة الإمام الخميني (رحمه الله)، أي حوالي خمسة عشر عامًا قبل انتصارها، كم من الناس كانوا على استعداد لطاعة الإمام الراحل طاعةً كاملة؟ إجمالًا لم يكن ثمة أمل كبير في أن يُبعث أنصارٌ حقيقيون للإمام يَثبُتون حتى النهاية من أجل تحقق الهدف الذي كان سماحته يصبو إليه. أنا هكذا أُعبّر، لكن هناك مجال للتعبير بما هو أقسى من ذلك! أذكر أن بعض الأشخاص كان أحيانًا ينقُد كلام الإمام الراحل (قدس سره) لكن رأيتم أنه إذا أراد الله تعالى شيئًا فإنّ وعدَه حق؛ (إِنَّ وَعدَ الله حَقّ)،[6] (وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا منْكُم وَعَمِلوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأَرضِ كَما اسْتَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذي ارتَضَى لَهُم).[7]
إذًا الرصيد الثاني الذي كان في حوزتنا والذي كنا غافلين عنه أيضًا هو تلك الكوادر الكفوءة وأولئك الشباب الطاهرين الذين كانوا، بسبب ظروف البيئة المحيطة والتقاليد الخاطئة والثقافة الاستعمارية التي كان يروَّج لها على يد عملاء المستعمر – كانوا يكررون قول: "لا يمكن، هذا مستحيل، هذه أفكار طائشة، ...إلخ." لكن سماحة الإمام الراحل (رحمه الله) كان قد أحيا منطقَ: "نحن قادرون"، وغرسَه في القلوب، ونمّاه في النفوس.
القسم الثالث من الأرصدة الذي ما كنا نعرف قيمته، ولعله أهم من سابقَيه كلَيهما، هو الرصيد الإيماني والإلهي الذي أورثَنا اللهُ تعالى وشعبَنا إياه ببركة الإسلام والتشيع وقادة الدين والتعاليم القرآنية وكلام أئمتنا الأطهار (سلام الله عليهم أجمعين)، فكنا ننتفع من النَّزْر اليسير منه، أمّا معظمه فكان دفينًا. ولم نكن نَفقه أنه أي ثروات عظيمة نحن نملك، وكم هي قَيِّمة ونفيسة، وكيف لنا أن نستغلها، وهي معرفة الله تعالى والإيمان به، ومعرفة رسول الله وأئمة الهدى (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومعرفة صفات الله وأفعاله، والوقوف على السُنَن الإلهية، وأمثال هذه الأمور المنبثقة من تعاليم ديننا، هذه الأشياء كلها أرصدة وثروات معنوية في حوزتنا كنا غافلين عن الآثار والنتائج التي يمكن أن تحصل منها، وأي دَور يمكنها أن تنهض به على طريق تقدّمنا ونجاحنا. لكن المؤسف أنه على خلفية ما كان شائعًا من الثقافة الغربية الإلحادية، التي كانت تُضَخ في أدمغة أطفالنا منذ أيام الابتدائية، والتي بلغَت الذُروة في مرحلة الجامعة، كان الاعتقاد السائد هو أن هذه القضايا المعنوية، والـمَعُونة والنصرة الإلهية، والإمدادات الغيبية هي ضَرب من الخرافات، ولم يكن عقلاء البلد، وسياسيوه، والنُخب المتعلمة والمثقفة فيه يُعيرون هذه الأمور كبيرَ اهتمام، بل قد يجتنبون ذكرها أحيانًا. فكان سلوكهم يوحي بأنّ أمثال هذه الأمور هي مجرد مرتكزات ذهنية، وأن البعض يحمل معتقَدات هي أشبه ما تكون بالخرافات! والمؤسف أن هذه العقلية لم تقتصر على أولئك البعيدين عن الثقافة الإسلامية، والغرباء عن التعاليم الدينية، وغير المهتمين بثقافة الدعاء والتوسل وطاعة الله ووجود الإمدادات الغيبية، بل سرَت إلى مَن كنا نتوقع منهم ما يناقض ذلك! فكان ثمة أناس يُفهَم من سلوكهم أنهم لا يكترثون لهذه الأمور. فإنْ دارَ الحديث عن جفاف الأرض وشُح السماء أخَذهم فكرُهم إلى اصطناع التقنيات الحديثة في تلقيح السُحب في سماء البلد لاستمطارها، وهو ما يلجأ إليه الملحدون ومُنكرو الله، فطريقة تفكيرهم متشابهة. أنا لا أذكر أن هؤلاء الذين في بالي قالوا ولو مرّة: "لنصلي أيضًا صلاة الاستسقاء." كان يشغل فكرَهم تلقيحُ السحب باصطناع الأدوات الإلكترونية، لكن ما كانوا يُعيرون اهتمامًا كبيرًا للصلاة والدعاء وأمثالهما! ولم يقتصر ذلك على الدارسين في الغرب والحاصلين على شهادات الدكتوراه من بريطانيا وأمثالها، بل تعَدّاه إلى خريجي الجامعات الأخرى أيضًا. على أي حال، كان الإيمان ضعيفًا لكنّ مُقوِّمات نمو الإيمان في نفوس أنقياء الفطرة من أبناء مجتمعنا كانت كثيرة، إلا أنّنا كنا نجهلها ونجهل كيفية الإفادة منها.
لقد عرف الإمام الخميني الراحل (رضوان الله عليه)، بما مَدّه الله تعالى به من فراسة - عرف هذه الأرصدة الثلاث حق المعرفة. حتى أقرب أقرانه إليه لم يكونوا يؤمنون برؤيته؛ نعم ما كانوا يعارضونه مداراةً له وحفظًا لشأنه ومنزلته، لكنهم ما كانوا يعتقدون بكلامه من أعماق قلوبهم. فلم يكونوا يؤمنون بجدية بشعاراتٍ من قبيل: "نحن قادرون"، و"أمريكا لا يمكنها أن ترتكب أي حماقة"، وهو ما كان يثير رعدة الأغيار ويُدخل الرعب إلى قلوبهم. [يقولون:] "أوَيمكن النطق باسم الولايات المتحدة من دون إجلال؟!" الإمام الراحل (رضوان الله عليه) قال: "ليس لأمريكا أن ترتكب أيّ حماقة!" أتعلمون ما هو مدلول هذه العبارة باللهجة الفارسية الدارجة؟! إنها لقوة ورصيد مادي في أيدنا أن لا تشتري أمريكا نفطنا! هذه نعمة لنا! فلقد كانوا ينهبون ثرواتنا هذه مجّانًا! فلتبقَ هذه الثروات لنا لتنتفع منها أجيالنا المتسقبلية. أساسًا اجتنبوا بيع الموارد الطبيعية الخام، لا تبيعوا لهم نفطكم. حاولوا أن تستخرجوا مشتقّات النفط، وتعالجوها، لتكون لها قيمة مضافة، انتفعوا من خدماتها. من الأفضل أن لا يشتروا منا النفط الخام، اشتغلوا أنتم عليه لكي يعودوا إليكم متوسلين لشراء مشتقاتكم النفطية.
لقد عرف إمامنا الراحل (رضوان الله عليه) جيّدًا ما نملك من ثروات مادية وثروات بشرية على حد سواء، إلى درجة أنه قال في ذلك الفتى ذي الثلاث عشرة سنة: "إنه قائدنا". لم يكن الإمام (قدس سره) يُطلق الكلام على عواهنه من غير وَزن ودراية. حين وصَف طفلًا في الثالثة عشرة بأنه "قائدنا" كان قد وزَن كل كلمة قالها بكل دقة. لقد عرف الإمام الخميني (رحمه الله) طاقاتنا الإنسانية، التي تُعَد من أعظم الأرصدة الطبيعية التي وهبَنا الله إياها - عرفها حق المعرفة، فسعى إلى تفجيرها وتوظيفها أفضل توظيف. كما عرف أيضًا الأرصدة المعنوية والربانية، والألطاف الإلهية، والإمدادات الغيبية التي آمَن بها (رحمه الله) ووظَّفها أكثر من أيّ فرد فينا. ثم جاء خلَفه الصالح – أطال الله عز وجل عمره، ومده بالعزة والمنعة ساعة بعد ساعة – ليعمل بالوصفة ذاتها؛ فإذا به على النهج ذاته من الإيمان، والتمسّك بالمعنويات، والتوسّل بأهل البيت (عليهم السلام) والقدوم إلى مسجد جمكران في منتصف الليالي، وإطالة السجود في محراب صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف).
في أي بقعة من العالم وفي أي زمان تجدون مثل هذه الخصال في قائد سياسي؟! في أي مكان من العالم توجد مثل هذه الأمور؟! إنها ثروات وأرصدة في حوزتنا علينا أن نعرفها أفضل في الخطوة الثانية للثورة. ففي الخطوة الأولى لم نكن نعرف إلا بعض هذه الثروات فإذا بنا نحقّق كل هذه النجاحات والانتصارات، وإن علينا أثناء الخطوة الثانية أن نعرف هذه الطاقات على نحو أفضل، ونفجّرها بشكل أحسن، ونوظّفها، وننتفع منها، ولا ندعها راكدة، بل - فوق ذلك – أن نحذر من أن نُسلَبها!
ولأقُل هنا شيئًا: إن الخطوة الثانية تختلف عن الأولى اختلافًا يتماشى مع السُنّة الإلهية. فمتى ما وَفُرَت نعمة وتمهَّد مجالٌ للنضج والتكامل نَما في مقابل ذلك خطر ما ليُهيِّئ أرضية لتوازن النعم ويفسح مجالًا للاختيار. وهذه هي الحال دائمًا. استعرِضوا التاريخ منذ عصر النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) حتى يومنا هذا وستلاحظون أنه على مدى هذه القرون الأربعة عشر أينما وُجدَت نعمة أوفَر وفُسحةٌ أكبَر للنضج تكون الامتحانات أصعب. واليوم أيضًا نجد أنه في مقابل ما تهيّأ لنا من مجالات للنضج والرُقي، والتي كان معظمها ببركة قيادة الإمام الراحل (رحمه الله) وتضحيات أنصاره الأوفياء المخلصين، حيث إن كل ما نملك هو يفضلهم – نجد في مقابل تنامي هذه النعم أن بعض المخاطر تنامَت أيضًا، ولا سيما تلك التي تُهدّد شؤوننا الثقافية والروحانية ومعتقداتنا الدينية. ولأُشر إلى مثال واحد: في العوائل التي تعرفونها كم صار الأطفال والمراهقون ما بين السابعة والعاشرة يأنسون بالحواسيب وبرامج الإنترنيت؟! فهي تُلهيهم عن دروسهم من ناحية، وتشغلهم عن الاختلاط بباقي أفراد العائلة من ناحية أخرى، وتسلبهم أُنس المشاركة في صلوات الجماعة والعبادات من ناحية ثالثة! فهو مجال للتسلية واللهو، بل تجد أكثرنا مرتاحًا لأن أطفالنا لاهين ولا يعكّرون مزاجَنا، لكنها آفة كبرى من شأنها أن تهدّد الرصيد الإيماني لأجيالنا من خلال الدسائس التي يحوكها الأعداء ويسعون بهذه الأساليب إلى جعل مراهقينا منذ نعومة أظفارهم غير مبالين بالدين، وإلى إضعاف أرضية التدين والإيمان بالآخرة والروحانيات فيهم بحيث لا نلتفت نحن أنفسنا لذلك، من خلال مشهد يُعرض، أو مقطع فلم يُبَث.. نعم، بعض الحركات قد لا يكون فيها بأس للأطفال، لكننا غافلون عما تحتويه هذه المقاطع، وأنه أي ضعف ستُحدِثه في إيمانهم وسلوكياتهم بعد مدة.
فمضافًا إلى ما يتوجّب علينا م أن نعرف تلك النعم وننتفع منها بشكل صحيح يتوجّب علينا أيضًا أن نحذر هذه المخاطر ونُعِد أنفسنا للحيلولة دون تفشيها في أجيالنا المستقبلية. فإن سُلب شبابُنا هذا الرصيد الإيماني فما الذي سيبقى في أيدي جيلنا القادم ليُحصّنهم في مواجهة مؤامرات الأعداء وما يَعرِضونه لهم من زخارف الدنيا وما يُهيّئونه لهم من اللذات المادية والحيوانية بصور شتى؟!
لنعلم أن علينا أثناء الخطوة الثانية للثورة أن نُولي هذه القضايا أهمية أكبر، فهي لم تكن مطروحة أثناء الخطوة الأولى؛ فقَبل أربعين عامًا من الآن لم يكن هناك جوّالات أصلًا، ولم تون مشاهدة هذه الأفلام متاحة لأطفالنا. ما زالوا لم يبلغوا الثلاثين لكن الخطر جدي، وفي حال اتساع، وهو يهدد مستقبلنا.
هذه أمور علينا أن نلتفت إليها إجمالًا لكي نتمكّن من أخذ الخطوة الثانية بشكل صحيح، من أجل أن نَبلُغ – إن شاء الله – هدفنا الأساسي وهو تحقُّق مجتمع العدل الإلهي على يد الإمام صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف) المباركة، الذي يصادف اليوم أول يوم لتسلّم مقاليد الإمامة.
اللهم إنّا نُقسِم عليك بكل عزيز عندك، وبحق الشهداء، والعلماء الماضين، وحق كل صاحب حق علينا، من الشباب المضحين الذين ضحوا بأرواحهم في سوح الجهاد لكي ننعم اليوم ببركات الثورة – نقسم عليك بهم جميعًا أن تحفظ إيماننا، وتصون أجيالنا المستقبلية من كل آفة وبَلِية، وتوفّقنا لنعرف واجباتنا حق معرفتها ونعمل بموجبها، وأن تديم ظل إمامنا القائد الخامنئي فوق رؤوسنا، وأن ترفع درجات إمامنا الراحل لحظةً بعد لحظة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
[1]. النور: الآية55.
[2]. آل عمران: الآية123.
[3]. الأنفال: الآية9.
[4]. الذاريات: الآية56.
[5]. جبهة معارضة للحكومة العُمانية. [المترجم]
[6]. الروم: الآية60.
[7]. النور: الآية55.