المقدمة
الْحَمْدُ للهِِ الَّذِی أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ یَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَیِّماً لِیُنذِرَ بَأْساً شَدِیداً مِنْ لَدُنْهُ وَیُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِینَ الَّذِینَ یَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً1.
وتَبَارَكَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِیَكُونَ لِلْعَالَمِینَ نَذِیراً2.
یَهْدِی بِهِ اللهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَیُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَیَهْدِیهِمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِیم3.
والصلاة والسلام على رسول الله الذی أرسله شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِیراً * وَدَاعِیاً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِیراً4 وبعثه لیتمّم مكارم الأخلاق فی نفوس المؤمنین ویزكّیهم ویعلّمهم الكتاب والحكمة ویأمرهم بالمعروف وینهاهم عن المنكر ویحلّ لهم الطیبات ویحرّم علیهم الخبائث ویضع عنهم إصرهم والأغلال التی كانت علیهم، وعلى آله الأخیار والائمة الأبرار الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهیراً.
القرآن الكریم هو الهبة الإلهیة الكبرى التی منّ الله بها على الإنسان بتنزیله على رسول الإسلام (صلى الله علیه وآله وسلم). القرآن نور ینیر القلوب، دواء یسكن الآلام ویشفی الصدور، وهو موعظة یخرج الإنسان من الغفلة، «وهو الدلیل یدل على خیر سبیل».
«من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار».
قد بیّن كلّ ّما یحتاجه الإنسان وَنَزَّلْنَا عَلَیْكَ الْكِتَابَ تِبْیَاناً لِكُلِّ شَیْء5.
وعن أمیر المؤمنین (علیه السلام): «جعله ریّاً لعطش العلماء، وربیعا لقلوب الفقهاء»6.
«نور لا تطفأ مصابیحه، وسراج لا یخبو توقّده، وبحر لا یدرك قعره وینابیع العلم وبحوره...وعلم لمن وعى»7.
«لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه»8.
وعن أمیر المؤمنین (علیه السلام): «ولا تنقضی عجائبه، ولا یشبع منه العلماء»9.
ما سمعناه من تعریف الآیات والروایات بشأن هذا الكتاب الإلهیوالسماوی یؤكّد علینا أن نتدبر فی القرآن الكریم أكثر فأكثر، ونغوص فی أعماقه ونتزوّد من ینابیعه ومعارفه الصافیة والنفیسة قدر المستطاع، وما ورد من تأكید فی الآیات والروایات على ما فی تلاوة القرآن واحترام القرآن والأُنس مع القرآن من فضیلة كبیرة یكون بالتالی لدرك معارف القرآن والعمل بآدابه وأحكامه، والخطوة الاُولى لذلك هو التدبر والتأمل فی القرآن.
القرآن بدوره یدل فی موارد كثیرة بمختلف التعابیر على انّه اُنزل لكی یتدبر الناس فی آیاته ویزدادوا معرفة بحقائقه كـوَلَعَلَّهُمْ یَتَفَكَّرُونَ10، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ11 ولِیَدَّبَّرُوا آیَاتِهِ12
القرآن الكریم مجموعة متكاملة من المعارف التی یحتاج إلیها الإنسان، فهو یتحدّث عن التأریخ، الحقوق، السیاسة، الأخلاق، التربیة، العقائد، الاحكام، علم الاجتماع و... ویطرح رؤیته الخاصّة فی جمیعها، فعلى العلماء المسلمین اكتشاف الرؤیة القرآنیة فی كلّ ّواحد من الموضوعات المذكورة، من خلال التأمل واجراء الدراسة اللازمة وتقدیمها للمجتمع، سیّما جیل الشباب المتعطش فی العصر الحاضر ـ فی ضوء الموجة العارمة التی أوجدتها الثورة الإسلامیة فی العالم ـ لدرك المعارف الإسلامیة أكثر من ذی قبلُ، ویرغب فی التعرّف على الرؤیة القرآنیة فی المجالات المذكورة وما شاكلها.
ولحُسن الحظ فقد اُنجزت خطوات كبیرة بهذا الشأن، وتحقّقت إنجازات أساسیة فی كشف وتبیان وطباعة ونشر معارف القرآن. وقد قام علماء ومفسّروا العصور السالفة بكتابة تفاسیر متعدّدة وتفصیلیة بأسالیب مختلفة، وقاموا بدراسة الآیات القرآنیة من زوایا مختلفة، فی حین تعتبر الدراسة التفصیلیة لمعارف القرآن فی المجالات المذكورة وخاصّةً مبادئ العقیدة والأخلاق وملاحظة أبعادها ومسائلها المتنوّعة ابتكاراً وإنجازاً حدیثاً.
فی هذا الباب یجب أن نشیر إلى المفكّر البارع والأستاذ الفذّ آیة الله الشیخ مصباح یزدی (حفظه الله) حیث قام بفضل اُنسه الكبیر مع القرآن الكریم، ونور قلبه ومساعیه الكثیرة فی التحقیق بإبداعات وإنجازات نافعة حقّاً فی معارف القرآن، وقد تمَّ لحدّ الآن نشر أقسام كثیرة منها.
لقد قام سماحته بالتحقیق فی معارف القرآن بمنهج خاصّ، وألقى حصیلته بدقة كدروس منذ عام 1974م فی دورات تعلیمیة وتحقیقیة فی(مؤسسة فی طریق الحقّ) وأبدى ملاحظاته الخاصّة وذلك فی فترات ومجموعات مختلفة. وقد تمَّ نشر أقسام منها بعد تكمیلها وتنقیحها وإعدادها. ومن جملتها قسم الأخلاق. والأخلاق فی القرآن الكریم ذو أهمّیة بالغة، وحسب الآیات والروایات یمثّل تزكیة النفس ـ وهو المحور الأساس فیهاـ من أهمّ الاهداف فی تنزیل القرآن وبعثة رسول الإسلام(صلى الله علیه وآله وسلم). وللأخلاق علاقة وطیدة مع الملكات النفسیة، والسلوك الفردی والعلاقات الاجتماعیة للإنسان. وتقوم بتنظیم علاقة الإنسان مع ربه، وتقیم العلاقات بین أبناء المجتمع بحیث تبلغ بالفرد والمجتمع إلى الفلاح والكمال، وبكلمة واحدة: إن لها الدورَ الأساس والشامل فی حیاة ومصیر الفرد والمجتمع الإنسانی.
من بین الموضوعات القرآنیة المختلفة خصّص سماحته قسطا من عمله التحقیقی وجهده العلمی لدراسة موضوع الأخلاق فی القرآن الكریم، وله فی هذا القسم نكات وآراء وإبداعات قیّمة حقّاً، وقد قام بتدریس حصیلة هذا التحقیق والجهد فی دورات تعلیمیة وتحقیقیة أقامتها مؤسسة (فی طریق الحقّ) فی الفترة 1984 ـ 1986 م ولا تزال كراساتها وأشرطتها موجودة.
ونظراً لعزمه على طباعتها ونشرها أوكل إلیَّ شرف القیام بتنظیمها وتنقیحها. وقد سعیت بقدراتی الضعیفة لإخراجها بصورة بهیّة فی مدة قصیرة ومع ذلك فقد أنجزت المهمة ببطء وتأخیر.
ثمّ انّ أفعال الإنسان الاختیاریة التی تمثّل المحور والموضوع الأساس فی الاخلاق تنشأ من علل و عوامل مختلفة، فیوجد لبعضها منشأ غریزی، فی حین یستند البعض الآخر من سلوكه إلى الانفعالات الروحیة كالوحشة والاضطراب وغیرهما، وفی الكثیر من الموارد تكون میول الإنسان ورغباته الفطریة والخاصّة منشأ لتحقق أعمال وسلوك خاصّ، كما أنّ سلوك الإنسان ینشأ فی بعض الموارد من عوامل حسیة وعاطفیة أعمّ من الأحاسیس والعواطف الإیجابیة من قبیل الأُنس والحبّ ومن المشاعر والعواطف السلبیة كالحقد والنفور، ویمكن تقسیمها حسب تلك العوامل المختلفة إلى اربع مجموعات.
ومن جهة اُخرى یمكن تقسیم السلوك الاختیاری للإنسان بلحاظ آخر، أی یمكن تبویبه بلحاظ ارتباطه بموجودات مختلفة.
فی تبویب قسم (معرفة الأخلاق) من معارف القرآن اختار سماحته التقسیم الثانی كإطار ومنهج للبحث وقام بتقسیم السلوك الاختیاری للإنسان حسب الهدف من ممارسته ومتعلّقه إلى ثلاث مجموعات عامّة:
المجموعة الأولى: الأعمال التی ینجزها الإنسان حسب ارتباطه بالله سُبحانه كالتوجّه إلى الله والرجاء من الله والإیمان بالله والخوف والخشوع بین یدی الله و... ممّا یكون منشأً لعبادة الله تعالى.
المجموعة الثانیة: السلوك الذی یرتبط فی الاصل بالإنسان نفسه وإنْ ارتبط بالآخرین عرَضا وبنحو ثانوی، أو لوحظ فیه الإرتباط مع الله سُبحانه.
المجموعة الثالثة: الأعمال التی ینجزها الإنسان بفضل ارتباطه مع الآخرین ومن خلال العلاقات التی یقیمها معهم.
وعلى هذا الأساس تنقسم الأخلاق فی القرآن إلى ثلاثة أقسام عامّة وتبیّن أبحاثها تحت ثلاثة عناوین عامّة:
1 ـ الأخلاق الإلهیة. 2 ـ الأخلاق الفردیة. 3 ـ الأخلاق الاجتماعیة.
هناك مجموعة من الموضوعات والمفاهیم العامّة التی تمثّل فی الواقع فلسفة الأخلاق من وجهة نظر القرآن، فنشرع قبل الخوض فی البحث حول الأخلاق الإلهیة والأخلاق الفردیة والأخلاق الاجتماعیة بالتطرق إلى هذه المسائل والقضایا من قبیل: المبادئ الموضوعیة فی علم الأخلاق، خصائص المفاهیم الأخلاقیة، المفاهیم الأخلاقیة العامّة فی القرآن، فرق النظام الأخلاقى للإسلام مع النُّظم الأخرى، أساس القیمة الأخلاقیة فی الإسلام، وقضایا كثیرة اُخرى من هذا القبیل حیث سنقوم بالتحقیق والدراسة بشأنها.
الآن حیث ینشر كتاب (الأخلاق فی القرآن الكریم) فی أجزاء ثلاثة یقسم حسب الاُطروحة العامّة وفی ضوء القضایا المذكورة كمقدّمة، إلى اربعة أقسام عامّة:
القسم الأول: مفاهیم عامّة.
القسم الثانی: الأخلاق الإلهیة.
القسم الثالث: الأخلاق الفردیة.
القسم الرابع: الأخلاق الاجتماعیة.
وسینشر القسم الأول والثانی فی الجزء الأول من كتاب (الأخلاق فی القرآن الكریم) والقسم الثالث فی الجزء الثانی والقسم الرابع فی الجزء الثالث من الكتاب.
نسال الله تعالى مزیداً من تأثیر الأخلاق القرآنیة فی المجتمع سیّما جیل الشباب، آملین أن یتقبل أعمالنا بفضله وكرمه، ولا یؤاخذنا على كلّ ّتقصیر وقصور، ویوفقنا برعایته لإكمال هذا العمل.
30 / 1 / 76 هـ. ش
محمد حسین اسكندری
1 الكهف : 1 و 2.
2 الفرقان : 1.
3 المائدة : 16.
4 الاحزاب : 45 و 46.
5 النحل : 89.
6 نهج البلاغة : الخطبة 193.
7 نهج البلاغة : الخطبة 193.
8 اصول الكافی: 2 : 598.
9 تفسیر العیاشی.
10 النحل : 44.
11 یوسف : 2.
12 ص : 29.