ar_akhlag2-ch2_1.htm

الیقظة بعد الغفلة والالتفات للحقیقة

الیقظة بعد الغفلة والالتفات للحقیقة

الموضوع الأول الذی یطرح فی قسم الأخلاق الفردیة، أی قسم الأخلاق الذی ینظم علاقة الإنسان بنفسه هو موضوع الالتفات والیقظة فی مقابل حالة الغفلة وعدم الالتفات. من هنا فإنّ علماء الأخلاق الذین قاموا بدراسة مراحل المسیرة الإنسانیة نظیر أرباب السیر والسلوك والعرفاء اعتبروا (الیقظة) المحطة الاُولى من محطات سیر الإنسان وسلوكه نحو التعالی والتكامل، وتستعمل بمعنى الانتباه فی مقابل الغفلة.

وفی القرآن الكریم تدل آیات كثیرة ـ لعلّها أكثر من 20 آیة ـ على انّ أساس شقاء الإنسان وفساده وأصل الرذائل الأخلاقیة هو الغفلة، ونشیر هنا إلى بعضها:

جاء فی إحدى الآیات:

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِیراً مِنْ الْجِنِّ وَالاِْنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ یَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لاَ یُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ یَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ1.

ویبدو واضحا تماماً من سیاق الآیة انّ أساس الشقاء بالنسبة للذین یتعرضون للعقاب والشقاء الأبدی هو الغفلة والجهل بالحقائق التی تقتضی انسانیةُ الإنسان العلمَ والالتفات إلیها، وبهذا اللحاظ فإنّ هؤلاء الأشخاص أحطّ قیمةً من الحیوانات التی تقتضی طبیعتها الغفلة والجهل.

وفی آیة اُخرى وبعد الإشارة إلى الذین كفروا بعد إیمانهم وفضّلوا الدنیا على الآخرة أضافت:

أُوْلَئِكَ الَّذِینَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ2.

وواضح فی الآیة أیضاً انّ ما یستدعی طبع الله على قلوبهم لكی تنحرف قواهم المدركة عن المسیرة الصحیحة وتفقد دورها الإیجابی هو غفلتهم وعدم التفاتهم.

والتفتت مجموعة اُخرى من الآیات إلى ألوان معیّنة من الغفلة، ونشیر إلى بعضها ونركّز على الملاحظات الخاصّة الموجودة فی بعض هذه الآیات. فقد جاء فی إحدى الآیات هكذا:

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِی غَفْلَة مُعْرِضُونَ * مَا یَأْتِیهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ یَلْعَبُونَ * لاَهِیَةً قُلُوبُهُمْ...3.

فی كلّ من الآیات الثلاث المذكورة ذُكر لفظ یتعلّق ببحثنا: ففی الآیة الاُولى استُعمل لفظ (الغفلة) وفى الثانیة عبارة (وهم یلعبون) وفى الثالثة عبارة (لاهیة قلوبهم).

انّ الآیات المذكورة نماذج من الآیات التی قلنا إنّها اعتَبرت الغفلة منشأً لفساد الإنسان . ومن هذه الآیات یمكن أیضاً استنتاج انّ ما یقع فی مقابل الغفلة أعنی الالتفات والیقظة یكون أساساً لسعادة الإنسان.

ومن الصعب تحدید اللفظ الذی یتضمّن المفهوم الذی نرومه فی مقابل مفهوم الغفلة تماماً، ولكنْ یمكن القول: انّ اللفظ الأكثر شمولیة من بین الألفاظ التی لها هذا المضمون هو لفظ (الذكر) الذی یستعمل بمعنى الیقظة والانتباه.

انّ لفظ (الذكر) یقع تارةً فی مقابل النسیان فیكون بمعنى عدم النسیان ودوام الالتفات، وتارةً بمعنى التذكر أعنی الالتفات الذی یحصل للانسان بعد نسیانه. كما انّ الغفلة فی ذاتها تكون أعمَّ، فتشمل نوعی الغفلة، سواء أكانت غفلة أصلیة وابتدائیة أم غفلة تعرض مرة اُخرى على الإنسان بعد الذكر والیقظة والالتفات وطرد الغفلة.

العلم بالنفس والالتفات إلیها

للمزید من الإیضاح لموضوع البحث وتحدید علاقته بمشروعنا المعنی بدراسة الشاكلة النفسیة للانسان لابدّ من القول: انّ النفس فی أساس وجودها وذاتها عین العلم والوعی، ومن أوائل الأفعال التی تصدر من النفس مباشرة هو الوعی والالتفات.

انّ الالتفات وإنْ كان ذا علاقة وثیقة مع العلم الاّ انّه لیس عین العلم، بل یفترق عنه، فكثیراً ما نعلم بشیء ولكنْ لا نلتفت إلى معلوماتنا. فمن الممكن أن یمثّل العلم حالة انفعالیة للنفس فی حین یكون الالتفات المستمر فی النفس فعلا صادراً منها، فهی حالة فعّالة.

الالتفات القهری والالتفات الاختیاری

قد یتعلّق التفات الإنسان بشیء ما بفعل عوامل خارجة عن النفس، خاصّةً فی مرحلة الطفولة والرضاعة، حیث ینجذب بفعل عوامل طبیعیة ویكون بعض مراتبها ـ تقریبا أو تماماً ـ غیر اختیاری.

فمثلاً حینما تفرغ معدته یلتفت إلى الجوع والطعام، أو إذا أصیب فی جسمه كأنْ تتألّم رجله أو تلسعه حشرة انجذب التفات الطفل إلى ذلك الموضع الخاصّ ویبدأ بالبكاء.

ثمّ یصل الإنسان تدریجیّاً فی مسیرته التكاملیة إلى مرحلة یمكن أن یكون له الدور الرئیسی فی الالتفات إلى الأشیاء المختلفة أو عدمه، أی سیدخل فی مرحلة الالتفات الاختیاری وسیكون لها فی ذاتها مراتب مختلفة، الاّ انّها تشترك فی هذه الحقیقة وهی انّ زمام التفاته بیده.

من الضروری هنا أن نذكر: انّ ما یطرح من هذین النوعین من الالتفات أعنی الالتفات القهری والالتفات الاختیاری فی علم الأخلاق ویكون موضوعا للبحوث والدراسات الأخلاقیة هو النوع الاختیاری من الالتفات، أمّا النوع القهری منه والذی لا یتحكم فیه الإنسان ولا سلطة له علیه فانّه لا یمكن أن یتصف بالحُسن والقبح الأخلاقیَّین أبداً، ولا یمكن أن یكون موضوعاً للمدح والذمّ.

حینما یذمّ القرآن الكریم الإنسان بسبب غفلته فإنّما یكون فی بعض الموارد التی یكون لاختیار الإنسان دور فی طروء الغفلة أو استمرارها على الأقل.

كما انّنا حینما نقول انّ الالتفات أمر جید ومحبّذ فانّا نقول ذلك فی حالة حصوله بنحو اختیاری، ولا یصحّ أن یتصف ذلك النوع من الالتفات الجبری بأیّة قیمة أخلاقیة.

هنا یطرح هذا السؤال: فی أیّة مرحلة من مراحل النضج وفی أیّة نقطة من مسیرة التكامل یظفر الإنسان بالالتفات الاختیاری ویكون قادرا على انتخاب متعلّق التفاته؟

انّ هذا السؤال لا یرتبط طبعاً بهذا البحث الأخلاقی، بل هو موضوع نفسانی تنبغی دراسته والبحث بشأنه فی فرع من علم النفس. انّ ما سیكون موضوعا للبحث الأخلاقی نظیر ما نحن فیه هو الفاعل المكلَّف الذی یشعر بوجود هذه القدرة فی نفسه على أن یكون التفاته ومتعلّق التفاته تحت سلطته ویحصل باختیاره. ولیس من المهم معرفة المرحلة التی یتیسّر له فیها ذلك وفی أیّة مرحلة من مراحل رشده یكتسب هذه القدرة، فمن الممكن أن یكتسب أشخاص هذه القدرة من خلال التمرین الكثیر وبمرور فترة زمنیة، كما انّ هناك اشخاصاً یتمتعون بهذه القدرة منذ ولادتهم بل وقبلها وفی عالم الرحم كما هو الاعتقاد بأنّ الائمة المعصومین(علیهم السلام)والرسول الأكرم(صلى الله علیه وآله وسلم) أو بعض الانبیاء یحظَون بالعلم والاختیار والالتفات فی رحم الأم وقبل الولادة. على أىّ حال، فهذه القضیة لیست بالمسألة التی تكون الإجابة عنها ضروریة ومهمة لمواصلة هذا البحث الأخلاقی. و على أیّ حال فإنّ تركیز الحواس والالتفات الاختیاری ذو مراتب ودرجات مختلفة وله شدة وضعف، ففی هذا الشأن یبلغ أشخاص من القوة والاقتدار ما یمكنهم فی كلّ آن التركیزُ على أیّ شیء یختارونه ویصرفون التفاتهم عن الأشیاء الأخرى، وفی المقابل هناك أشخاص لا یحظَون ـ حتّى نهایة أعمارهم ـ بذلك الإستقلال الكافی والوافی، فی حین یحظى كلّ انسان بالغ ومكلّف بهذه القدرة إلى حدّ ما بحیث یستطیع توجیه التفاته باختیاره إلى شیء وصرفه عن شیء آخر.

ینبغی هنا أن نلتفت إلى هذه الحقیقة وهی انّ تركیز الحواس فعل اختیاری للنفس ویصدر عنها بصورة التجلّی، أی انّ الفعل الاختیاری للنفس لا ینحصر فی نوع خاصّ، بل له أقسام وأنواع مختلفة، أحدها ما یصدر عن النفس على صورة التجلّی.

لتوضیح هذا القول نشیر إلى التقسیم الحاصل فی الفاعلیة فی باب الفلسفة حیث یقال: انّ الفاعلیة لها أقسام أحدها (الفاعلیة بالقصد) والمقصود منه هو انّ الفاعل یقوم بالتصور أولاً، ثمّ یصدّق بكونه مفیدا، وبعد المقارنة یعزم على القیام بالعمل، وفی النهایة یُعمل إرادته وینجز ذلك العمل.

یظنّ البعض أنّ الفعل الاختیاری للانسان یتلخص فی هذا الفعل القصدی، ویكون متعلّقه هو الأشیاء الخارجیة كالأكل والنوم والتكلّم والمشی و... ولكنْ ینبغی الالتفات إلى انّ هذا ظنّ باطل وكلام غیر صحیح لانّ هناك أقساماً اُخرى من الفاعلیة تدخل فی زمرة الأفعال الاختیاریة وإنْ لم تكن قصدیة، ومن أوضح مصادیقها هو فاعلیة الإنسان بالنسبة للارادة نفسها. فالإرادة ـ على عكس الرأی المشهور بانّها من مقولة الكیف النفسانی ـ فعل للنفس، أی انّ النفس لها فاعلیة بالنسبة للارادة، وهی توجدها ولیس تعاملها معها تعاملاً انفعالیّاً. وفاعلیة النفس بالنسبة للارادة نفسها لیست ـ طبعاً ـ فاعلیة بالقصد لكی تكون مسبوقة بإرادة سابقة وتقع فی التسلسل الباطل والمحال، بل من نوع الفاعلیة بالتجلّی، فنظراً إلى انّ أیّ عامل لا یقهر الإنسان فی إرادته ولا یحدث ذلك قهراً إذنْ تكون من أفعال الإنسان الاختیاریة.

مما ذُكر یمكن التوصل إلى هذه النتیجة وهی: بما انّنا قلنا انّ الفعل الاختیاری لا ینحصر فی الأفعال القصدیة. ولا فی الأفعال الخارجیة، فإنّ الأفعال التی یمكن أن تتصف بالحُسن والقبح وتدخل فی دائرة علم الأخلاق لا تكون محصورة فی الأفعال الخارجیة والأعمال القصدیة، بل یمكن أن تكون أفعالا باطنیة تماما كالتفكیر والالتفات، وتشمل جمیع الأفعال الاختیاریة للانسان أعمَّ من أن تكون إرادیة وقصدیة أو لا تكون كالفعل بالتجلّی المذكور والأقسام الاُخرى للفعل الاختیاری التی یتم بحثها فی فلسفتنا.

الالتفات هو من الأمور القیمیة والأخلاقیة

بملاحظة ما ذكرناه بشأن سعة دائرة الفعل الاختیاری وكونه أعمَّ من الفعل القصدی یمكن أن نصل إلى هذه النتیجة: انّ البحث عن ماهیة الفكر الجید والسیء بحث یرتبط بعلم الأخلاق، لانّ التفكیر كما ذكرنا یدخل فی زمرة الأفعال الاختیاریة بمفهومها الواسع فیكون من الأفعال القیمیة والأخلاقیة، كما انّ استخدام الإرادة هو أیضاً كالتفكیر یكون من الأفعال الباطنیة، وبالتالی یكون قیمیاً وأخلاقیاً، ویمكن أن یصبح موضوعا للمدح والذمّ أعمّ من أن یكون من وجهة النظر الفقهیة منشأ للثواب والعقاب المترتّبین على الطاعة والعصیان تجاه الواجبات والمحرمات الفقهیة أو لا یكون. على أیّ حال، من المسلّم به أن تكون إرادة الإنسان من الناحیة الأخلاقیة ـ وإنْ لم تكن سبباً لفعل ما لوجود الموانع ولا تظهر على أعضاء الإنسان وجوارحه ـ موضوعا للحُسن والقبح والتقییم الأخلاقی تلقائیا، وتكون ذات آثار معنویة وأخرویة وإنْ اختلفت تلك الآثار مع الثواب والعقاب المترتّبین على الواجبات والمحرمات الفقهیة.

من البدیهی أن یبحث فی باب الفقه عادة عن الأفعال الخارجیة الواجبة أو المحرمة أو التی یتعلّق بها الأمر والنهی، وتكون منشأ لآثار خاصّة فی الآخرة الاّ انّ ذلك لا یعنی أن لا یكون هناك أیّ أثر للارادة الحسنة والسیئة وهما من الأفعال الباطنیة للانسان، بل قد تترتّب علیها آثار هی أهمُّ من آثار الأفعال الواجبة أو المحرمة الخارجیة. ومن جهة اُخرى فإنّ الثواب والعقاب فی الآخرة لا ینحصران فی نِعم الجنة وعذاب جهنم، فأكبر الثواب هو رضا الله عزّوجلّ وعنایته للانسان، وأشدّ العذاب لدى الذین یدركون ذلك هو عدم العنایة الإلهیة. یقول تعالى فی آیة قرآنیة: وَلاَ یُكَلِّمُهُمْ اللهُ وَلاَ یَنْظُرُ إِلَیْهِمْ4، أجل قد یكون لبعض الأعمال مثل هذه الآثار رغم عد كونها واجبة أو محرمة حسب النظر الفقهیّ.

على أیّ حال، فكلّ عمل اختیاری یتحقّق فی باطن الإنسان وفكره وروحه لا یكون خالیاً من التأثیر على سعادته وشقائه قطعاً، أعمّ من كون ذلك الفعل واجبا أو حراماً من الناحیة الفقهیة أم لا، وتبعاً لذلك سواء أترتّب ثواب وعقاب عینیّان على الطاعة أو المخالفة للواجب او الحرام أم لم یترتّب، لانّ النیات والإرادة الحسنة والسیئة لها آثار حسنة وسیئة وثواب وعقاب أیضاً یناسبها فی الآخرة لمن ینویها أو یریدها وإنْ لم تكن هذه الآثار والثواب والعقاب من سنخ نِعم الجنة أو عذاب جهنم.

فی البحوث السابقة قلنا لدى ذكر الأبعاد والخصوصیات الذاتیة للنفس: انّ النفس متحرّكة فی ذاتها حتّى یمكن القول: انّ النفس فی ذاتها حركة وانبعاث. ولعل إطلاق الروح على النفس یكمن فی هذه الحركة الذاتیة، ونقول هنا: انّ التجلّی الأول للحركة النفسیة هو نشوء الالتفات إلى هذا المعنى فی أعماق النفس بمعنى انّ الالتفات فی نفسه مؤشر وعلامة للتغییر الحاصل فی باطن النفس، فمن یغفل عن شیء حینما یلتفت إلیه یتغیّر حاله، ویحصل فی روحه ونفسه ما لم یكن موجوداً، وهذا فی نفسه حركة، وبما انّ أیّة حركة لا تكون بدون جهة فإنّ نفس الإنسان تتّبع جهة ما فی هذه الحركة أیضاً.

ومن الطبیعی لو كان التفات الإنسان قهریاً فانّه لن یكون للانسان نفسه اختیار فی توجیه ذلك الالتفات، ولكنّه إذا كان الالتفات اختیاریاً فإنّ الإنسان سوف ینشط بشكل فعال واختیاری أیضاً فی توجیه ذلك الالتفات، وبما انّنا نقوم بدراسة وتقییم الأفعال والسلوك الاختیاری فی نطاق علم الأخلاق فإنّ ما یتمّ البحث والدراسة والتقییم بشأنه من الالتفات هو النوع الذی تكون النفس مختارة فی القیام به وتوجیهه وذات دور فعال بانسبة إلیه، ولا یحصل بصورة انفعالیة أو لا یُفرض علیه بنحو قهری. مثل هذا الالتفات یحصل للمكلّف فی حال الیقظة والانتباه، وحتّى لو حصل التفات للنائم أو الطفل فحیث انّه غیر اختیاری لا یتعلّق به تكلیف، ولا یدخل دائرة علم الأخلاق.

انّ محور حدیثنا طبعاً هم الأشخاص المتعارفون ونوع الإنسان، ومن البدیهی وجود أشخاص استثنائیین هنا أیضاً كأىّ مجال آخر تكون نفوسهم فعالة وملتفتة حتّى فی حالة النوم. ففی روایة انّ النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) قال: «تنام عینی ولا ینام قلبی»5. فقلب النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) یقظ وملتفت حتّى حال نومه كحال الیقظة.

والحاصل فإنّ الالتفات غیر الاختیاری كالالتفات حال النوم، أو التفات الطفل الذی یحصل بتأثیر عوامل خارجیة طبیعیة قهریة یكون خارجا عن البحث. نعم، عندما یبلغ الإنسان مستوى یستطیع فیه السیطرة على التفاته ویتعامل بنحو فعال فی تحدید جهة التفاته، وبعبارة اُخرى فی توجیه التفاته یصبح مثل هذا الالتفات المستطاع موضوعا للبحث الأخلاقی. هنیئاً للذین بلغوا هذا المستوى من السیطرة على أنفسهم وقاموا مختارین بالتوجیه الصحیح لالتفاتهم، وتعساً للقادرین على الالتفات ولكنْ لا یلتفتون، وبإمكانهم توجیه التفاتهم إلى الجهة الصحیحة ولكنّهم یوجّهونه نحو جهة خاطئة. والثواب والعقاب فی هذا المجال هو من نصیب ذوی القدرة على جذب التفاتهم نحو شیء وصرفه عن شیء آخر.

بملاحظة ما مضى یمكن القول: انّ المقصود من الغفلة المذمومة فی الآیات القرآنیة لیس الغفلة المطلقة، لانّ الإنسان لا یكون حال الیقظة والانتباه غافلا مطلقاً، بل لابدّ أن یكون ملتفتا إلى شیء.

وبصورة عامّة یمكن القول: انّ غفلتنا المألوفة عن شیء فی ذاتها هی حصیلة التفاتنا لشیء آخر، أی ینجذب التفاتنا لشیء عادة ونغفل عن أشیاء أخرى، فعندما یتركّز التفات الإنسان على أمر مادی أو معنوی فمن الطبیعی أن یغفل عن الكثیر من الحقائق الجاریة فی العالم.

ومن الممكن طبعاً توزیع الالتفات على عدة أشیاء، ولكنّ التفات الإنسان محدود على ایّ حال، والأشخاص المتعارفون لیس بإمكانهم الالتفات إلى كلّ شیء فی آن واحد، وإنْ قلنا بوجود أشخاص استثنائیین ویمكن أن یصل البعض إلى مستویات من الكمال فی هذا المجال، ویحصلون على مقام جمع الجمع حسب تعبیر العرفاء، وبإمكانهم الالتفات إلى دائرة واسعة من الأشیاء، الاّ انّ مثل هؤلاء الأشخاص خارجون عن بحثنا الفعلی، والأشخاص المتعارفون ـ وهم محور البحث والدراسة الأخلاقیة فی هذا المقال ـ ینجذب التفاتهم عادة إلى شیء واحد أو عدة أشیاء محدودة وبوسعهم التركیز الكامل على شیء واحد فقط.

الآن وقد عُلم انّ الغفلة المطلقة غیر مذموم فی القرآن، ولا مصداق لها حال الیقظة والانتباه یطرح هذا السؤال: أیة غفلة، والغفلة عن أىّ شیء تؤدی إلى شقاء الإنسان؟ ومن هم الغافلون المذمومون فی القرآن الكریم؟

نقول فی الإجابة: ورد متعلّق الغفلة فی الكثیر من الآیات القرآنیة وقد جاء (ذكر الله) فی بعضها متعلّقاً للغفلة كقوله تعالى:

وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُط6.

وعُدّت (آیات الله) فی آیات اُخرى متعلّقاً للغفلة كقوله تعالى:

وَالَّذِینَ هُمْ عَنْ آیَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ7.

وذكرت (الآخرة) متعلّقاً للغفلة فی مجموعة ثالثة من الآیات نظیر:

یَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَهُمْ عَنْ الاْخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ8.

بملاحظة الآیات القرآنیة التی ذكرنا نماذج منها وعلى أساس الرؤیة الإسلامیة نعلم انّ من الضروری الالتفات إلى الله عزّوجلّ والقیامة وآیات الله وأمور أخرى، ولكنْ بغضّ النظر عن الأدلة العقلیة والنقلیة والآیات والروایات یمكن السؤال أیضاً: ما هو مقتضى الفطرة الإنسانیة فی هذا المجال؟

توضیح ذلك: لقد قلنا سابقاً انّ حبّ الذات هو من الأبعاد الأساسیة فی الإنسان، ومن الأمور الفطریة المتجذّرة فی ذاته. ومقتضى حبّ الذات فی الإنسان هو أن یكون ملتفتا إلى نفسه، حیث یمكن القول انّ الالتفات الاختیاری سیكون فی الغالب حصیلة الرغبة والانجذاب والحبّ أو العداء الشدید. وهذا هو من خصائص النفس الإنسانیة ومن النِعم الإلهیة، فالنفس رغم كونها موجوداً بسیطا تكون قادرة على الالتفات إلى ذاتها، فی نفس الوقت الذی تلتفت فیه إلى أشیاء أخرى، والعامل الذی یستدعی التفات النفس إلى ذاتها هو حبّ الذات المتجذّر فی الفطرة الإنسانیة.

كما قلنا: انّ حبّ الذات ـ نظراً لكونه عین النفس أی یستحیل أن تكون النفس موجودة ثمّ لا تحبّ ذاتها ـ لیس اختیاریا، وعلیه لا یتصف بالقیمة الإیجابیة والسلبیّة ولا یمكن مدح شخص أو ذمّه على حبّه لذاته.

والحاصل فإنّ أكثر مصادیق الحبّ أصالةً فی نفس الإنسان هو حبّ الذات هذا، وبما انّ الحبّ یجذب التفات الإنسان إلى محبوبه ومتعلّق حبّه فإنّ هذا النوع من حبّ الذات یجذب التفات الإنسان إلى نفسه أیضاً. ومن المؤسف أن یُمسخ الإنسان ـ لاشتغاله والتفاته المتطرف إلى المادیات ـ إلى الحدّ الذی ینسى فیه نفسه ویصبح غریباً عن ذاته، وأحیاناً یبلغ حدّ السُكر والجنون.

وفی القرآن الكریم اشارات إلى حالة السُكر وغربة الإنسان الغارق فی المادیات عن نفسه، نظیر قوله عن المرابی:

الَّذِینَ یَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنْ الْمَسِّ9.

فبعض المرابین یحدّثون أنفسهم عند الخلوة بها ویغرقون فی الحسابات وتشغل بالصكوك والكمبیالات أذهانهم عند السیر فی الشوارع ولا یلتفتون إلى شیء أبداً ویبتلون بحالة جنونیة، مثل هذا الشخص الغریب عن نفسه یغرق فی طلب الثروة إلى حدّ الغفلة عن كلّ شیء ولا یدرك ما یفعله أبداً.

ویحدث مثل هذه الحالة أیضاً إثر الانجذاب إلى الشهوات والغریزة الجنسیة، فقد قال تعالى عن قوم لوط:

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِی سَكْرَتِهِمْ یَعْمَهُونَ10.

وقد أطلق القرآن فی بعض الآیات لفظ (اللهو) على حالة الغفلة والغربة عن الذات بسبب الانجذاب الشدید للاشیاء الاُخرى حیث یقول فی آیتین كریمتین:

أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ11.

ویقول فی آیة أخرى:

ذَرْهُمْ یَأْكُلُوا وَیَتَمَتَّعُوا وَیُلْهِهِمْ الاَْمَلُ فَسَوْفَ یَعْلَمُونَ12.

كما جاء أیضاً فی آیات اُخرى لا حاجة لذكرها.

یمكن القول: انّ العلة فی تحریم الكثیر من الأعمال تحت عنوان (اللهو) هو أنّها تجعل الإنسان غافلا وغریبا عن نفسه، لانّ منشأ صدور كلّ عمل صحیح فی الإنسان هو التفاته إلى نفسه، الالتفات إلى انّه من هو؟ وأین هو؟ وأیّ عمل یتّفق مع مصلحته و أیّ عمل لا یتفق مع مصلحته؟ أیّ عمل لابدّ أن یقوم به وأیّ عمل لا ینبغی له القیام به؟

انّ الإنسان لا یتیسّر له انتخاب الطریق الصحیح الاّ فی حالة التفاته. ولكنْ إذا تسلطت علیه العوامل الخارجیة وقهرته وجعلته غافلا غیر ملتفت إلى نفسه فانّه یُسلب منه قدرة الانتخاب، ویكون حسب الاصطلاح القرآنی مبتلىً بحالة اللهو، وهی الحالة المحرمة فی بعض مراتبها والمذمومة أخلاقیا فی مراتب أخرى.

انّ الآیات المذكورة تؤید هذه الحقیقة وهی انّ الالتفات إلى الذات بلحاظ حبّ الإنسان لذاته ذو جذور فطریة، ویستفاد هذا المضمون أیضاً من الآیة القائلة:

یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا عَلَیْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ یَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ13.

تقول الآیة بأنّ على الإنسان أن یهتم بنفسه ویتدبر فی مصالحه الواقعیة، الاّ انّ ذلك یتیسّر فقط حینما یلتفت إلى نفسه، ومع الغفلة یصعب علیه تشخیص العمل النافع لیقوم به والعمل الضار لیتجنّبه، بل لا تخطر هذه الأمور بباله.

وعلیه یمكن القول: انّ الالتفات إلى النفس هو الأساس لكلّ أعمال الخیر والأعمال النافعة، كما انّ الغفلة وعدم الالتفات إلیها والغربة عن النفس یدمّر مستقبل الإنسان تماماً. قال تعالى فی إحدى الآیات:

وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِینَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ14.

هذه الآیة تدلّ بوضوح على انّ نسیان النفس والغربة عنها عقوبة للغفلة عن الله. انّ الغفلة عن الله معصیة یعاقب الله الإنسان علیها بأن یجعله غافلا عن نفسه فلا یذكرها.

آثار الالتفات إلى النفس

للالتفات إلى النفس مراتب عدیدة ویترتّب على كلّ مرتبة آثار خاصّة تتنوّع بتنوّع قابلیات بنی الإنسان ومستویات معرفتهم وإیمانهم.

ویكون الالتفات إلى النفس منشأ لتقویة العلم الحضوری فی نفس الإنسان. وكلّ انسان طبعاً یتمتّع بعلم حضوری بنفسه، ولكنْ بما انّ العلم الحضوری بالنفس هو عین النفس وهناك اتحاد بین العلم والعالم والمعلوم فإنّ نفس الإنسان كلّما كانت أكمل وكان تجرّدها أكثر فإنّ علمه الحضوری بنفسه یكون أكمل وأوضح وأعمق.

لقد أُودع العلم الحضوری فی المرحلة الاُولى على صورة إدراك فطری مبهم وغیر واع فی نفس الإنسان حتّى انّه یخطأ أحیاناً فی التمییز بین حقیقته الإنسانیة وبین جسمه، وذلك نتیجةً لضعف علمه وخفائه ویظنّ انّ الـ (أنا) فی الإنسان هو الجسم المادی وینكر وجود حقیقة الروح وراء الجسم المادی أو یتردّد فی ذلك. انّ منشأ هذا الانكار أو التردّد وهذا الخطأ الكبیر لیس سوى ضعف ذلك العلم الحضوری للنفس بذاتها، وهذا ما یفسح المجال لعدم التمییز بینها وبین جسمه.

فی المراحل التالیة لا یقع مثل هذا الخطأ، لانّ العلم الحضوری للنفس یكون أوضح وأقوى إثر نضج وتفتُّح جوهر النفس، أی انّ نفس الإنسان المجرّدة تدرك حقیقة ذاتها بوضوح وتلتفت إلى انّها موجود آخر غیر الجسم، والجسم بمثابة اللباس او الراحلة للنفس أو مرتبة ضعیفة من وجود النفس.

ثمّ یصل العلم الحضوری ـ فی طریق تقویته وكمال ذاته ـ إلى مستوى ینفتح فیه أمام الإنسان باب المعارف القیّمة الاُخرى ومنها المعرفة التوحیدیة.

عندما یسمو إدراك الإنسان الحضوری ویدرك حقیقة وجوده یرى انّه موجود رابط وطفیلی ومرتبط بالله تعالى تماماً، وكلّما تعمق إدراك ارتباطه بالله سُبحانه تعمقت معرفته به. ویمكن القول: انّ ما ذكرناه هنا هو من معانی عبارة «من عرف نفسه فقد عرف ربه» الواردة فی الروایات.

وعلیه یكون الالتفات إلى النفس منشأ لتقویة العلم الحضوری بالنفس، ویمثّل حركة تكاملیة تنبعث من أعماق النفس وتكون منشأ للمعرفة الحضوریة بالله والإدراك الشهودی للتوحید.

انّ معرفة الله الحضوریة والتوحید الشهودی هما من أهمِّ النتائج للالتفات إلى النفس، لانّها تحظى بأهمّیة قصوى من الناحیة الأخلاقیة والمعنویة والتكامل الإنسانی، وقلّما یُوفّق الإنسان للوصول إلیها.

انّ التلازم بین معرفة النفس ومعرفة الله عزّوجلّ المستفاد من الروایة المذكورة تؤكّده آیة قرآنیة بطریق آخر حیث تقول:

وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِینَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ15فهذه الآیة تبیّن هذه الحقیقة وهی انّ الغفلة عن الله تعالى تسبّب الغفلة عن النفس ودمار مستقبل الإنسان، لاسیّما وقد جاءت هذه العبارة فی الآیة السابقة وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد16.

ویلاحظ انّ الروایة المذكورة تعتبر معرفة الله من لوازم معرفة النفس، فی حین تعتبر الآیة السابقة نسیان النفس من لوازم الغفلة عن الله، ونتیجة البیانین هی وجود علاقة واقعیة وتكوینیة خاصّة بین نفس الإنسان المخلوقة والمعلولة والمرتبطة وبین الله الخالق والعلة والمستقل وغیر المرتبط، وهذه العلاقة التكوینیة بین هذین الموجودین ـ الله عزّوجلّ والإنسان ـ هی المنشأ للعلاقة الخاصّة بین معرفة هذین الموجودین، لانّ الإرتباط الشدید والعمیق لوجود الإنسان بالله لن یتحقّق بدون معرفة الله المفیض لوجوده.


1 الأعراف 179.

2 النحل 108.

3 الانبیاء 1 ـ 3.

4 آل عمران 77.

5 بحار الانوار 76 / 189 الروایة 18.

6 الكهف 28.

7 یونس 7 و 8.

8 الروم 7.

9 البقرة 275.

10 الحجر 72.

11 التكاثر 1 و 2.

12 الحجر 3.

13 المائدة 105.

14 الحشر 19.

15 الحشر 19.

16 الحشر 18.