ar_akhlag3-ch11_12.htm

هل الكذب مذموم دائما؟

هل الكذب مذموم دائما؟

السؤال الآخر هو: هل الكذب مذموم دائما وفی كل مكان وله قیمة اخلاقیة سلبیة؟ أو انّ الكذب لیس مذموماً فی بعض الموارد، لیس هذا فحسب بل قد یكون حسنا بل قد یكون واجباً؟ فی الاجابة ینبغی القول: فی بعض الموارد یكون الكذب جائزاً بل واجبا، نذكر هنا بعضها:

1 ـ التقیة

لابأس فی الكذب فی موارد التقیة وقد طرح بحث التقیة فی الكتب الفقهیة، ولكن نظراً لكونها مسألة مهمة وفیها زوایا مبهمة فهی بحاجة الى مزید من الدراسات الفقهیة.

لألفاظ: (تقوى وتقیة وتقاة) كما اشرنا سابقاً معنى واحد، ویستعمل بعضها بدلاً عن البعض الآخر. وقد استعمل لفظ (تقیة) فی بعض الموارد من نهج البلاغة بدلا عن التقوى([1]). على أی حال فان لفظ (تقیة) قد استعمل فی اللغة والاستعمالات القرآنیة ونهج البلاغة وكلمات امیر المؤمنین(علیه السلام)، وقد ظهر اصطلاح فقهی خاص فی موردها واصبح لها مفهوم غیر مفهوم التقوى. لقد لوحظت الصیانة من الخطر فی مفهوم هذه الالفاظ الثلاثة المشتقة كلها من مادة (الوقایة) بمعنى الصیانة. إذنْ یفرض وجود الخوف من الخطر فی مواردها. ولذا تعتبر التقوى تارة بمعنى الخوف من الله، لان الانسان حینما یخاف العقاب الالهی فی الدنیا أو الآخرة فلكی یبقى بعیدا عن العقاب وصائنا لنفسه فانه یعزم على أداء واجباته وترك المعاصی.

وهكذا یمهد الخوف الارضیة للتقیة التی یصطلح علیها الشیعة مع فارق هو ان خوفا خاصا اُخذ بعین الاعتبار فی التقیة المصطلحة لدى الشیعة، أی بدلاً عن الخوف من الله یلاحظ الخوف من انسان آخر لو اطلع على عقیدته ومذهبه فسوف یؤذیه، أو یخاف من تعرُّض نفسه أو ماله أو عِرضه للخطر أو احاطة الخطر بالاسلام والمسلمین، ولكی یدفع هذه الاخطار والتهدیدات یراعی الاحتیاط فیقوم بأعمال أو یتركها أو یكتم اعتقاده، ویطلق على هذا الاحتیاط اصطلاح: (التقیة) قال تعالى فی القرآن:

(مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِیمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْیمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَیْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ)([2]).

قیل: ان هذه الآیة نزلت فی عمّار حینما قُتل والداه (یاسر وسمیّة) فی محضره تحت التعذیب، وقد أظهر براءته من الاسلام حتّى لا یتعرض للتعذیب والقتل فنجا، ولكنه كان حزینا دائما من عمله هذا، حتى جاء الى المدینة وأعرب عن قلقه لرسول الله(صلى الله علیه وآله وسلم) قائلا: لقد هلكت واعلنت براءتی من الاسلام صونا لنفسی، فقال له(صلى الله علیه وآله وسلم): لا تجزع، فقد عملت بواجبك، ثم نزلت الآیة.

ویستفاد منها انّ الكذب والبراءة من الاسلام فی الظاهر تقیةً وصیانة للنفس أمر جائز، وقد یكون واجبا فی بعض الموارد.

طبعا اذا كان ترك التقیة ضروریا فی بعض المراحل التاریخیة بهدف انتصار الاسلام فإن كانت التقیة سببا لانهیار الدین فلا یجوز العمل بالتقیة. من هنا اذا كانت التقیة جائزة بل واجبة فی بعض الموارد وكانت حراما فی بعض آخر فان تعیین موارد الجواز أو الوجوب او الحرمة بدقة یحتاج الى دراسة الظروف والفهم الصحیح لمصلحة الاسلام والمسلمین.

فی بعض الموارد یكون لبیان الحق وترك التقیة ـ وان عرّض نفس الانسان للخطر ـ آثار اجتماعیة نافعة ومهمة، ویكون سببا لانتصار الدین والمذهب الحق. ولذا عرّض بعض العظام انفسهم للخطر فی بعض المراحل وبیّنوا الحق علناً رغم التهدیدات كلها. أحدهم سعید بن جبیر حیث كان من المسلمین الطیبین ومن عشاق الامام علی(علیه السلام)وشیعته، فرفض اعلان براءته منه أمام الحَجاج فقتله. لا یمكن القول أنَّ سعید بن جبیر كان جاهلا بحكم التقیة وعرّض نفسه للخطر جهلا. من الممكن القول ان یاسراً وسمیة لم یتّقیا آنئذ، اذ لم تنزل آیة التقیة بعدُ فلم یطلعا على هذا الحكم، ولكن سعید بن جبیر لا یمكن القول انه لم یعلم بحكم التقیة بعد سنوات من نزول الآیة. كان على علم بحكم التقیة حتما ولكن امثال هؤلاء المسلمین والشیعة العاشقین قد سقوا شجرة الاسلام بصمودهم على طول التاریخ واصبحوا عاملا لانتصار الدین والمعرفة الالهیة وعبادة الله سبحانه.

اجابة عن سؤال

توصّلنا الى هذه النتیجة وهی انّ الكذب وان كان حراما كحكم أولی ولكن فی بعض الموارد قد تكون هناك مصلحة تجیز الكذب بل توجبه. قد یصبح هذا الكلام سبباً لسوء فهم وهو اننا نعتقد ـ كما تعتقد بعض المذاهب الفكریة ـ بانّ الغایة تبرّر الواسطة، والمقولة المذكورة تلتقی مع الشعار الذی نعارضه، لان غایتنا فی هذه الموارد هو ان نصون نفوسنا واموالنا أو أعراضنا أو المسلمین الآخرین، ولصونها نعتقد بوجاهة الكذب رغمَ انه غیر وجیه اصلا.

انّ الرد الكامل على هذه الشبهة یتطلب تفصیلا یضیق به هذا البحث، ولكن نقول اجمالاً بان هناك تفاوتاً واضحاً بین المسألتین، فالذین یعتقدون بانّ الغایة تبرر الواسطة یتلقون ذلك كقاعدة عامة ـ مع التغاضی عن الأهداف المادیة والدنیویة التی یتابعونها ـ ویرون جواز ارتكاب أی عمل غیرخلقی بغیة تحقیق الأهداف الفردیة أو الفئویة أو السیاسیة، ولكن الاسلام بری من هذه القاعدة العامة، فلیس فی الاسلام فعل أو حركة أو سكون دون ان یكون له حكم على اساس ما فیه من مصلحة أو مفسدة واقعیة.

وقد یحصل تزاحم بین المصلحة فی حكم مع المصلحة فی حكم آخر حیث یستلزم العمل بأحدهما ترك الآخر أو یكون ترك أحدهما مقدمة لاداء الآخر، فی هذه الحالة اذا كان أحدهما أهمَّ من الآخر، وحصل التزاحم بین الاهم والمهم، فلا تجوز التضحیة بالأهم من أجل المهم، بل تجب التضحیة بالمهم من أجل الأهم عقلا وشرعاً. اذ ان حكم الأهم ذو مصلحة اكبر، وتقدیم الأهم على المهم حكم بدیهی عقلی. فمثلاً اذا واجه شخص خطر الغرق فی البحر وكان المركب الوحید الذی یمكن الاستعانة به ملكا لشخص لا یجیز استخدامه، هنا لا یحق لنا أن ندعه یغرق ولا نستعین بالمركب احتراما للمالكیة، لان حفظ نفس المسلم أهمُّ من احترام مالكیة الآخرین.

فی هذه الحالة یجوز التصرف بالمركب غصبا، ولیس فی ذلك قیمة سلبیة، لانه المقدمة الوحیدة لتحقیق مصلحة أهمَّ وهو حفظ نفس المسلم. هذا فی حالة ادراكنا لأهمیة أحد الحكمین بحكم عقلی قطعی أو طبقا لنص حكم شرعی، أما اذا شككنا فی أهمیة أحد الحكمین أو وجد طریق آخر لتحقیق الهدف الأهم فلا یمكن القول انّ الغایة تبرر الواسطة فنتخذه ذریعة لارتكاب عمل غیر اخلاقی.

بناء على ذلك هناك تفاوتان أساسیان بین قاعدة (الأهمّ والمهمّ) حیث نضحّی بالمهم من أجل الأهم استناداً الیها وبین مقولة (الغایة تبرّر الواسطة):

الاول هو ان قاعدة الأهم والمهم أضیق دائرةً، فلا تحكم بتبریر كل واسطة لتحقیق ایّ هدف ممّا هو مستفاد من عموم (الغایة تبرّر الواسطة).

الثانی هو ان الأهداف التی نقصدها هنا لا تنحصر فی الأهداف المادیة وانّما هی اهداف إلهیة ومعنویة نوعا ما.

2 ـ اصلاح ذات البین

من الموارد التی یجوز الكذب فیها هو مورد الإصلاح بین الناس ورفع الخصومات بینهم. لعلنا كنا نعجز عن الیقین من هذه الحقیقة وهی ان مصلحة الإصلاح بین مسلمین هی اكبر من مفسدة الكذب الاّ انّ الشارع المقدس قد أجاز الكذب بصراحة بهدف رفع الخصومات.

ان للكذب ذی المصلحة حكما واضحا فی الشریعة سواء أكان الكذب للاصلاح بین شخصین أو لإنقاذ نفس المسلم أو ماله أو لتحقیق مصلحة مهمّة اخرى.



[1]. نهج البلاغة، الخطبة 83.

[2]. النحل 106.