ar_akhlag3-ch11_6.htm

كتمان الحق

كتمان الحق

هناك آیات عدیدة تتحدث عن كتمان الحق تحت عنوان (لبس الحق بالباطل) أی لبس الحق بلباس الباطل كتمانا للحقیقة نشیر الى بعضها، قال تعالى:

(وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)([1]).

(أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ یُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِیقٌ مِنْهُمْ یَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ یُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ)([2]).

كان أهل الكتاب یسمعون كلام الله ثم یحرّفون الحقائق عن جهتها الأساسیة لفظا ومعنى.

جدیر ذكره ان هناك مراتب من الكفر والشرك والنفاق حتى فی المؤمنین، قال تعالى:

(وَ ما یُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ)([3]).

جاء فی احد تفاسیر هذه الآیة ان هناك مراتب ضعیفة من الایمان مقرونة مع مراتب من الشرك عند بعض الناس. إذنْ یجب علینا فی اقوالنا وسلوكنا ان نسعى لئلا نكون مشمولین لهذه الآیة وامثالها، فلا نكتم الحق ولا نخلط الحق بالباطل، ولا نلبس الحق بالباطل. ولا نستخرج من الحق تحلیلات وتفاسیر غیر صحیحة، ولا نفسره لصالحنا بدون حق، إذ اننا فی هذه الحالة سنكون مشمولین لآیات كتمان الحق ولبس الحق بالباطل وآیات النفاق.

لم تكن نُسخ التوراة والانجیل ـ خاصة فی العصور السالفة ـ كثیرة وفی متناول جمیع الناس، بل كانت هناك عادة نسخة واحدة فی كل مدینة كبیرة وهی محفوظة عند عالمها الكبیر، واذا أراد الناس تعلّم شیء من هاذین الكتابین السماویین كان علیهم الاستماع الى علمائهم. ولذا كان من السهل علیهم بیان امر كاذب للناس باسم التوراة والانجیل والناس یصدّقونهم فیها، وقد وقعت مثل هذه الاعمال فعلاً، قال تعالى:

(فَوَیْلٌ لِلَّذِینَ یَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَیْدِیهِمْ ثُمَّ یَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِیَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِیلاً فَوَیْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَیْدِیهِمْ وَ وَیْلٌ لَهُمْ مِمّا یَكْسِبُونَ)([4]).

وقال فی آیة اُخرى:

(وَ إِنَّ فَرِیقاً مِنْهُمْ لَیَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ)([5]).

وجاء فی آیة اُخرى:

(إِنَّ الَّذِینَ یَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ فِی الْكِتابِ أُولئِكَ یَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ یَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ)([6]).

كانوا یكتمون الآیات والحقائق الالهیة دفعا للضرر أو جلبا لمنفعة شخصیّته ولا یتركونها تصل الى اسماع الناس. ولذا جاء فی الروایات:

«اذا ظهرت البدع فی امتی فلیظهر العالم علمه فمن لم یفعل فعلیه لعنة الله»([7]).

وقال تعالى فی آیة اُخرى:

(إِنَّ الَّذِینَ یَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ یَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِیلاً أُولئِكَ ما یَأْكُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ إِلاَّ النّارَ وَ لا یُكَلِّمُهُمُ اللّهُ یَوْمَ الْقِیامَةِ وَ لا یُزَكِّیهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ)([8]).

قلّما استعمل فی آیة قرآنیة مثل هذا التعبیر بهذا اللحن الشدید والالفاظ المتضمنة للتهدید بحق الذین یكتمون آیات الله والحقائق الالهیة كی یكسبوا ثمنا قلیلا. ولا تعنی الآیة انهم لو اكتسبوا مالاً كثیراً فلا بأس فی ذلك، فالتعبیر (ثمنا قلیلا) هو بالقیاس الى الاثم الكبیر الذی ارتكبوه وحتى لو استلموا ملیارات الدولارات وهكذا كل ثروات العالم لكان ذلك ثمنا قلیلاً.

جاء فی آیة اُخرى:

(یا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)([9]).

ان ذلك من اكبر المصائد الشیطانیة لاضلال الناس، اذ انّ الباطل لو قیل بصراحة للناس لادركوا بطلانه سریعا ولم یضلوا. لقد تم اضلال الناس على طول التاریخ غالبا نتیجة لاختلاط الحق بالباطل.

یشیر امیر المؤمنین(علیه السلام) الى هذه الحقیقة المرّة بقوله:

«فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم یخفَ على المرتادین، ولو انّ الحق خلص من الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندین، ولكن یؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فیمزجان»([10]).

انّ السبب فی ضلال الناس هو ان اشخاصا یمزجون بعض الحق ببعض الباطل ویلبسون الباطل بلباس الحق فیثیرون الفتنة والضلال.

وقد اشار الله عز وجل فی آیة اُخرى بلحن اكثرَ ظرافةً الى هذه الظاهرة الاجتماعیة القبیحة بقوله:

(وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِیقاً یَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَ یَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ یَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ)([11]).

كما أشار فی آیات كثیرة اُخرى الى هذه الحقیقة المرّة وعِظم هذه المعصیة التی تسبِّب الفساد والضلال بقوله تعالى:

(وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ الَّذِینَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَیِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِیلاً فَبِئْسَ ما یَشْتَرُونَ)([12]).

وقال تعالى:

(مِنَ الَّذِینَ هادُوا یُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ)([13]).

وعلیه یعدّ كتمان الحق واخفاء آیات الله من اكبر مصادیق الكذب ومن اكبر الذنوب، وقد كانت الآیات المذكورة بأجمعها حول اهل الكتاب، ولكن هذه الآیات والحوادث التاریخیة الخاصة بأهل الكتاب یمكن ان تعلّمنا الكثیر. ان حكایة هذه الحوادث بنحو واسع یشیر الى شیوع هذا الذنب بنحو كبیر بین اهل الكتاب. وفی نفس الوقت لعلّ كل هذا التأكید الشدید هو لكی نتّعظ ونحترز من كتمان الحقائق الضار بنا، وبذلك تتم مكافحة موفقة للفساد الاجتماعی والاقتصادی والسیاسی.



[1]. البقرة 42.

[2]. البقرة 75.

[3]. یوسف 106.

[4]. البقرة 79.

[5]. البقرة 146.

[6]. البقرة 159.

[7]. وسائل الشیعة ج 16 الباب 40 ص 269 الروایة 21538.

[8]. البقرة 174.

[9]. آل عمران 71.

[10]. نهج البلاغة ـ الخطبة50.

[11]. آل عمران 78.

[12]. آل عمران 187.

[13]. النساء 46.