ar_akhlag3-ch12_11.htm

القیمة فی سلوك طرفی الدعوى

القیمة فی سلوك طرفی الدعوى

العنصر الانسانی الثانی فی القضاء هو الطرفان فی الدعوى وهما اللذان یطالبان بتطبیق الحق والعدل. ففی بعض الموارد یطالب الطرفان بالحق، أی فی المواضع التی یشتبه فیها الحق مع الباطل ولا یَعرف الطرفان ما هو الحق وماذا یجب أن یصنعا؟ إذنْ لا یمكن القول كقاعدة عامة ان احد الطرفین ظالم دائماً وقد تعدى على الطرف الآخر، اذ من الممكن ان یظن كل طرف بانّ الحق معه، أو لا یعلم انّ الحق مع من، ولكن فی الكثیر من الموارد یعلم الطرفان انّ الحق مع من، ورغم علم احد الطرفین یودّ أن یظلم الطرف الآخر.

العنصر المشترك بین الفئتین هو انهما تابعان للحكومة الاسلامیة فی كل الاحوال ویخضعان لحكم المحاكم والقضاء الاسلامی، اذ من الممكن ان یرغب شخص فی بعض الموارد أن یغشّ فی معاملته أو یدلّس تبعاً للهوى والمیول النفسیة الاّ انّه لا یودّ محاربة النظام الاسلامی. فكثیراً ما یحدث ان یكون فی بعض الاشخاص انحراف عن الحقّ ولكن حینما یرتبط الامر بالمصلحة العامة للمجتمع الاسلامی فانهم یطیعون الحق ویدافعون عنه، كماانّ الكثیر من الاشخاص یبیعون البضائع بأسعار باهظة أو یطففون فی المیزان، ولكنهم حینما یتعرّض المجتمع الاسلامی للخطر فانّهم لا یبخلون بأموالهم ویقدّمونها للحكومة الاسلامیة.

هذه الأمور تشیر الى ان بعض أعضاء المجتمع ـ رغم تساهلهم واتّباعهم لأهواء النفس فی الموارد الجزئیّة ـ مستعدّون للتضحیة بمصالحهم الخاصة فی سبیل المجتمع وقضایاه المهمة.

یرید الاسلام فی المرحلة الاُولى ان یمنع الناس من هذه الانحرافات بصورة عامة. ولكنّ النظرة الواقعیة تقتضی التسلیم بهذه الحقیقة وهی امكانیة انحراف بعض أعضاء المجتمع مهما كان التعلیم والتربیة قویا وكان فیه مربّون كالانبیاء والائمة(علیهم السلام).

فی المرحلة الثانیة یؤكد الاسلام على ان هؤلاء الاعضاء المنحرفین مهما بلغ انحرافهم یجب ان یخضعوا للحكومة الاسلامیة وان لا یتمردوا على الاقل على حكم القضاة فی المجتمع الاسلامی، فان تمردوا فانهم سیواجهون الحكومة الاسلامیة فلا یجوز ان یُتركوا وشأنهم، لان إطلاق سراح هؤلاء المتمردین على الحكومة والقضاء والنظام الاسلامی وغیر العاملین بحكم السلطة القضائیة یعنی الفوضى، وهذا یعنی التنصل عن أصل النظام. ان معنى سیادة النظام إذنْ هو أن یُتعامل باقتدار مع هؤلاء الافراد وینفَّذ حكمه بحقهم.

لا نرید طبعا الاستنتاج مما ذكر انّ القضاة على صواب فی الاحكام التی یصدرونها كافة، اذ من الممكن إذنْ ان یتعارض حكم القاضی فی بعض الموارد مع الواقع ونفس الامر.

انّ القاضی یحكم على اساس شهادة الشهود والقرائن والأصول الاُخرى، فمن الممكن ان یخطئ الشهود، أو یدلوا بشهاداتهم بدون حق عمداً، وان یصدر القاضی حكما بغیر حق استناداً الیها فلا یردّ الحق الى صاحبه. والإفدح من ذلك انه لا ینتفی عقلا احتمال ارتشاء القاضی فیحكم بغیر حق رغم صلاحه الظاهری ورعایته للتقوى والدقة والمراقبة. رغم هذه الاحتمالات یجب على طرفی الدعوى إطاعة هذا الحكم الظاهری للقاضی وعدم التمرد على حكم السلطة القضائیة.

فی هذه الموارد تكون القضیة ذات طرفین: أحدهما هو ما قلناه من ان الافراد لیس بوسعهم التمرد على الحكم الصادر ضدهم بذریعة هذه الاحتمالات والادعاءات، ولكن من جهة اُخرى مَن علم انّ الحق لیس معه فی هذه المحكمة وانّ المال الذی دُفع له بحكم القاضی لیس مالَه واقعا وقد صدر الحكم لصالحه بواسطة دفع الرشوة وشهادة الزور مثلاً فانه لا یحق له التصرف فی ذلك المال أو تنفیذ ذلك الحكم بغیر حق لصالحه، بل علیه ارجاع ذلك المال لصاحبه الحقیقىّ والعمل بمقتضى الواقع، والا فانه سیواجه محكمة العدل الالهی.

ان ما یدفعنا للخضوع لحكم القاضی فی كل الاحوال ـ وان كان بضررنا ونعتبره بغیر حق ـ هو المصلحة العامة لنظام المجتمع، إذ انّنا لو لم نخضع للحكم الظاهری للمحكمة ولم نحترم السلطة القضائیة تعرَّض نظام المجتمع الى الخلل. ان مصلحة المجتمع الاسلامی تقتضی ان یكون للسلطة القضائیة اعتبار فی المجتمع ویخضع لها الناس، وبدون ذلك سوف تعجز عن استیفاء حق المظلوم من الظالم، ولا یمكن ان تكون سنداً جیداً للضعفاء وأعضاء المجتمع بصورة عامة.

من هنا یؤكد الله عز وجل على هذا الامر بشدة ویدعو الناس لطاعة السلطة القضائیة وعدم الشعور بالقلق ازاءها.

قال تعالى بهذاالشأن:

(فَلا وَ رَبِّكَ لا یُؤْمِنُونَ حَتّى یُحَكِّمُوكَ فِیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَیْتَ وَ یُسَلِّمُوا تَسْلِیماً)([1]).

هذه الآیة اوضحت جیداً واجب أعضاء المجتمع ولم تدعْ مجالاً لأی ذریعة، اذ المطلوب لیس فقط الخضوع الجسدی لحكم القاضی الاسلامی بل المطلوب ایضا هو عدم الشعور بالرفض حتى فی القلب. فمن نُصّب للقضاء من قبل الله عز وجل بنحو مباشر أو غیر مباشر فالواجب هو الخضوع لحكمه بدون أی ذریعة، وحتى لو شعر الانسان بضیاع حقه فی هذه المحكمة فان علیه التسلیم لحكمها، فی هذه الحالة یمكن التصدیق بوجود نظام سائد ومجتمع متحضّر.

هناك قیمتان بالنسبة للمتخاصمین: الاُولى هی ان علیهما الرجوع للمحاكم الاسلامیة لفضّ الخصومات والدعاوی والاقرار برسمیة جهاز القضاء الاسلامی لحل هذه المشكلة والتسلیم لحكم المحاكم الاسلامیة.

الثانیة: على من صدر بحقه حكم ان یسلّم له وان كان بضرره، وان لا یشعر بالسخط على السلطة القضائیة الاسلامیة حتى فی قلبه.

قال تعالى فی ذم الذین یتبعون مصالحهم بدلاً من اتباع الحكم الصادر من قبل اجهزة القضاء المعتبرة:

(وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ لِیَحْكُمَ بَیْنَهُمْ إِذا فَرِیقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَ إِنْ یَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ یَأْتُوا إِلَیْهِ مُذْعِنِینَ * أَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ یَخافُونَ أَنْ یَحِیفَ اللّهُ عَلَیْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ)([2]).

ولكی یشیر الى ان هؤلاء لیسوا مؤمنین بل هم منافقون یتحدث بعد ذلك عن المؤمنین وانقیادهم للمحكمة الالهیة والاسلامیة فیقول سبحانه:

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِینَ إِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ لِیَحْكُمَ بَیْنَهُمْ أَنْ یَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([3]).

وقال فی آیة اُخرى:

(أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْم یُوقِنُونَ)([4]).

هذه الآیات تبین بصورة عامة قیمتین مهمتین فی سلوك طرفی الدعوى:

الاُولى: الاعتراف برسمیة السلطة القضائیة الاسلامیة وارجاع الخصومات والاختلافات الیها لفضها وحلها.

الثانیة: الخضوع القلبی لحكم المحكمة عند الرجوع الى المحكمة وان كان ضدّه، وحتّى لو ظنّ انّ القاضی قد أخطأ فی إصدار الحكم ضده، وعدم اساءة الظن بالسلطة القضائیة حتى فی القلب، وعدم الشعور بالسخط علیها.



[1]. النساء 65.

[2]. النور 48 ـ 50.

[3]. النور 51.

[4]. المائدة 50.