ar_akhlag3-ch13_6.htm

حق الدفاع عن النفس

حق الدفاع عن النفس

اذا دخل اشخاص فی قتال مع المجتمع الاسلامی واعتدوا على حقوق المسلمین فان للمسلمین حقَّ الدفاع من حیث الفهم العامّ والقیم التی یسلّم بها جمیع بنی الانسان، وسیكون الدفاع عن النفس عملاً صحیحاً ووجیها، الاّ انّ المشكلة فی وجود الجهاد الابتدائی فی الاسلام حیث لا یمكن تبریره على اساس النظام القیمی المعترَف به فی العالم المعاصر. ولذا حاول الكثیر من المفكرین المسلمین فی هذا العصر تصویر الحروب الاسلامیة كحروب دفاعیة كی یمكن تبریرها فی إطار المبادئ والمعاییر والقیم الفعلیة المسلّم بها، ولكن الحقیقة هی ان هذا الاختلاف یرجع الى الاختلاف فی فلسفة القیم بین الرؤیة الاسلامیة والمذاهب الاُخرى. ان موضع هذا البحث التفصیلی فی البحوث الحقوقیة والسیاسیة، ولكن نذكر هنا بعض القضایا اجمالاً بنحو یتناسب مع هذا البحث:

الجهاد الابتدائی والنظام القیمی المعاصر

النظام القیمی الحاكم على عالم الیوم والذی یعترف به اكثر الشعوب هو عبارة عن مبادئ تطرح فی إطار التحرر واللیبرالیة ونظام الحكم الدیمقراطی.

ان اعلان حقوق الانسان واشباهه والمعتبر فی النظام القیمی فی العالم المعاصر مبنی على اساس النظام القیمی المتحرر واللیبرالی، وهو یدّعی ان لكل انسان ـ لحیثیته الانسانیة ـ حقوقا ثابتة لا تتغیر، ومنها وجوب احترام حریة كل فرد وكل فئة فی المجتمع بین المجتمعات العالمیة وازاء المجتمع الآخر، بحیث لا یتعرض لتعدی الآخرین.

على هذا الأساس یقال فی العلاقات الدولیة ان على جمیع المجتمعات رعایة الحقوق بنحو متبادل وعدم التدخل فی شؤونها الداخلیة. وفی البیانات الصادرة بعد لقاء الرؤساء یتّم التأكید على هذین المبدأین غالباً، أی (رعایة الحقوق المتبادلة) و(عدم التدخل فی الشؤون الداخلیة للطرف الآخر).

ان الأساس فی هذه القضایا هو ما للانسان من حقوق ـ بما انه انسان ـ بنحو طبیعی أو فطری، وعلى الجمیع رعایتها، فمادام الانسان لا یضرّ بالآخرین فإنه حرّ فی سلوكه ولا یحقّ لاحد أن یسلبه هذه الحریة.

وعلیه اذا قبل مجتمع ما الكفر، وجعل النظام القائم على الكفر والشرك حاكما على سلوك أعضائه فانّه لا یحقّ لأی مجتمع آخر التدخل فی ذلك المجتمع وتحریض شعبه على حكومته واسقاط نظام الشرك فیه.

الخلاصة: ان (حق الحیاة الحرة لكل فرد ومجتمع فی داخله) و(سلب حق التدخل فی الشؤون الشخصیة للآخرین والمجتمعات الاُخرى) هما مبدآن قیمیان مسلّم بهما فی النظام الحاكم على عالمنا المعاصر، وطبیعی ان هذین الأصلین یتعارضان بوضوح مع الجهاد الابتدائی فی الاسلام، والإقرار بهما یعنی حظر الجهاد الابتدائی.

نقد ودراسة

فی رأینا ان هذا المبدأ أو هذه القضیة: (كل انسان حرّ فی ان یعیش كما یحب) أو (كل مجتمع حرٌّ فی أن یتصرف كما یشاء) من القضایا المشهورة التی لا یمكن أن نسلّم بها على هذه الصورة وبهذه الشمولیة، لان هذه القضایا لها اُسس برهانیة، فاذا كانت تلك البراهین مقیدة بقید أو اقتضت وجود قید فان هذه القضایا تستمد اعتبارها من تلك البراهین أیضاً فلا تبقى على عمومها وشمولیتها بل تتقیّد بالقیود الموجودة فی البرهان.

ولیست المبادئ والقضایا المذكورة فقط بل المشهورات كافة لها هذا التحدید، فحتى القضیة القائلة (الصدق حسن) والتی هی من المشهورات التی یسلّم بها بنو الانسان لا عمومیة لها، لانها فی بعض الموارد لیست محبَّذة، لیس هذا فحسب بل هی مذمومة أیضا، فمثلاً لا یكون للصدق ـ الذی یعرِّض نفس انسان للخطر أو یستتبع فساداً آخر ـ قیمة ایجابیة، لیس هذا فحسب بل له قیمة سلبیة أیضا.

فی رأینا كما قلنا ان اساس القیم لا یعود فقط الى انسانیة الانسان، بل الى علاقة الانسان بالله عز وجل، ولیس معنى اعتبار القیم هو مجرد أمور تشریعیة وتعاقدیة وجعلیة ـ حسب اصطلاح علمائنا ـ لنقول: كل ما اعتبره الله عز وجل حسنا فی القوانین الدینیة والسماویة فانه حسن، وكل ما اعتبره سیئا فهو سیء، بلا ارتباط بالجذور الفطریة والتأثیرات التكوینیة لها، لان هذا الكلام لا نقبله، بل ان جمیع القیم تتشكّل فی ضوء الحكمة الالهیة والغایة من الخلق. إذنْ لكی ننال القیم لابدّ أن نلاحظ الهدف الالهی من خلق الانسان، وفی هذا السیاق نلتفت الى القیم.

هنا یجب ان نرجع فی قضیة حریة الفرد والمجتمع ـ التی نبحث عنها ـ الى هذا الأصل أیضا ونلاحظ ما هی الغایة من خلق الانسان؟

فی رأینا كما قلنا سابقاً انّ الهدف من خلق الانسان هو تكامله الاختیاری، وهو حسب الرؤیة الاسلامیة تقرُّبه الى الله وسعادته المعنویة والأبدیة. وبملاحظة هذه الغایة وعلى اساس هذه الحكمة الالهیة تجد القیم الحقوقیة والأخلاقیة موقعها، فان لم نلتفت الى الغایة من خلق الانسان فانا سوف نعجز عن اثبات أیة قیمة اخلاقیة وحقوقیة.

ان حریة الانسان كقیمة یمكن الاهتمام بها الى درجة معیّنة، لان التكامل الحقیقی للانسان لا یتحقق بدون حریته لانه تكامل اختیاری ویجب تحققه بصورة حرة من دون اجبار، الاّ انّ لازم هذه الحریة لیس هو سلب حق التدخل فی الحیاة الشخصیة والاجتماعیة للآخرین، لانه فی بعض الموارد وعلى اساس الهدف من الخلق یُمنح الانسان حقُّ التدخل فی شؤون الآخرین، وحق منعهم من بعض الاعمال، فمثلاً اذا أقدم شخص على الانتحار فالواجب هو منعه من ذلك، وهذا هو تدخل فی الحیاة الخاصة للآخرین، ولا یتنافى ذلك مع الأخلاق أو الحقوق أبداً بل یعتبر تركه معصیة وأمراً غیرخلُقی.

و ما ذكر یصدق تماما على التدخل فی الشؤون الداخلیة للمجتمعات الاُخرى. فالمجتمع تصبح له قیمة ویكون محترما حینما یسیر منسجما مع الغایة العامّة للخلق، ویكون نظامه الأخلاقی ومنهجه فی الحیاة محترما حینما یكون متّجها نحو التكامل أو لا یكون مضاداً لتكامل ذلك المجتمع ومانعا لتعالیه على الاقل.

اما السلوك والنظام الذی یكون ضارّاً بذلك المجتمع وغیره فلا یوجد مبدأ عامٌّ یثبت القیمة والاحترام لهذا السلوك ویضمن حریة المجتمع فی هذا المجال، ویمنع الآخرین من التدخل فی الشؤون الداخلیة لذلك المجتمع فیما یرتبط بهذا السلوك الخاطىء.

من البدیهی ان مثل هذا التدخّل لا یعنی سلب الاختیار والحریة من الآخرین، بل یعنی التمهید للانتفاع الصحیح من الاختیار والحریة أو لانتخاب المنهج الصحیح فی الحیاة.