ar_akhlag3-ch1_1.htm

الأخلاق والحیاة الاجتماعیة

المقدمة

فی الأقسام السابقة قمنا بدراسة مجموعتین من المسائل الأخلاقیة: المجموعة الاُولى هی المسائل التی محورها علاقة الانسان بالله عزّ وجلّ، والمجموعة الثانیة هی المسائل التی محورها علاقة الانسان بنفسه.

اما المجموعة الثالثة فهی المسائل التی محورها العلاقات الاجتماعیة للانسان بالآخرین وتطلق علیها (الأخلاق) عادة وفی اغلب الموارد. فحینما یقال فی المحاورات العرفیة ان فلانا ذو أخلاق حسنة أو سیئة فالمقصود هذه الملكات التی تتجلى فی العلاقات مع الآخرین. المجموعتان السابقتان تمثلاًن توسّعاً فی الأخلاق العرفیة وتتحققان فی ضوء الرؤیة الاسلامیة وكون موضوع الأخلاق هو فعل الانسان الإختیاری مطلقا ـ اجتماعیاً كان أو غیر اجتماعی ـ لان كل فعل اختیاری ـ اجتماعی أو غیر اجتماعی ـ یمكن أن یكون ذا قیمة ایجابیة أو سلبیة ویدخل نطاق المسائل الأخلاقیة.

الأخلاق والحیاة الاجتماعیة

السؤال الأول فی بحث الأخلاق الاجتماعیة یدور حول قیمة الحیاة الاجتماعیة ذاتها. هل الحیاة الاجتماعیة فی الرؤیة الاسلامیة ذات قیمة كی تدخل نطاق الأخلاق، وهل یمكن اعتبار الحیاة بصورة جماعیة من الأخلاق الاجتماعیة أم لیس لها قیمة وهی خارجة عن موضوع الأخلاق ونطاقها؟

یجب القول فی الاجابة: یستند الحكم بهذا الشأن الى اعتبار الحیاة الاجتماعیة فعلا اختیاریا للانسان أو فعلا قهریاً وغیر اختیاری. فلو كانت الحیاة الاجتماعیة باختیار الانسان، أی اذا شاء الحیاة الاجتماعیة فهو یستطیع ذلك، وإنْ لم یشأ فهو یستطیع أن ینزوی عن المجتمع، فی هذه الحالة تكون الحیاة الجماعیة فی ذاتها موضوعاً اخلاقیا، واذا كانت الحیاة الاجتماعیة قهریة ولیس بوسع أی انسان أن یعیش لوحده منزویا عن المجتمع فانّ موضوع الحیاة الجماعیة فی هذه الحالة یكون خارجا عن نطاق الأخلاق وموضوعها. إذ انّ القیم الأخلاقیة ـ الایجابیة أو السلبیة ـ ترتبط بالأفعال الإختیاریة كما أسلفنا.

وعلیه من خلال الاجابة عن السؤال المذكور یطرح سؤال آخر لا یرتبط جوابه بنطاق الأخلاق، بل یمكن طرحه ودراسته فی نطاق العلوم الاُخرى وهو: هل الانسان مجبر على الحیاة الاجتماعیة أم مختار؟ انّنا سنطرح هذا السؤال فی البحوث المتعلقة بالمجتمع، ولكن نضطر هنا الى الاشارة الیه كمقدمة للدخول فی بحث الأخلاق.

كان بعض المفكرین الغربیین یعتقدون بانّ الحیاة الاجتماعیة أمر قهری، وتلاحظ رؤى مختلفة من هذا القبیل فی العلوم الاجتماعیة حیث تعتبر الحیاة الاجتماعیة ضرورة طبیعیة للانسان. وقد تجاوز البعض ذلك وقالوا: لا أصالة لذات الفرد فی المجتمع، بل هو بمثابة الخلیة فی جسم المجتمع، وتستند الیه حیاته وهویته وشخصیته، أو قالوا: انّ وجود الفرد بمثابة الورقة بین كتلة من الاوراق والاغصان والاجزاء الاخرى من الشجرة، وأرادوا من خلال هذه التشبیهات عرض هذا الارتباط وبیان انّ الفرد تابع محض للمجتمع ومجرد عن كل استقلال، وانّ المجتمع ذو أصالة ووجود حقیقی.

لأنصار هذه النظریة آراء مختلفة بالنسبة للمبالغة فی اضفاء الأصالة على المجتمع، كما تختلف مذاهب علم الاجتماع بهذا الشأن، ولكن یمیل الذین یعتبرون الأصالة للمجتمع غالباً الى ان هویة الفرد تتحقق فی إطار المجتمع وانّ وجوده تابع لوجود المجتمع.

وغایة ما یسلم به بعض انصار هذه النظریة هو أنّ الفرد یمكن أن یكون ذا استقلال محدود داخل المجتمع وذلك بأن ینفصل عنه ویتحول الى عضو میت كالورقة التی تنفصل عن الشجرة، أو العضو الذی یُقطع من جسم الانسان، حیث یبقى طبعاً حیاً لأمد قصیر بعد الانفصال وسرعان ما یفسد ویتلف. وللفرد تجاه المجتمع هذا الحكم ذاته. فحینما ینفصل عنه یكون بمثابة موجود میت ینسلخ عن الوجود الانسانی ولو بقی حیا فانّ حیاته لا تتخطى الحیاة الحیوانیة.

ما أوضحناه یمثل نظریة أنصار أصالة المجتمع بمعناها الفلسفی، وهی طبعاً نظریة متطرفة جداً ولا تنسجم ولا تتطابق مع الرؤیة الاسلامیة.

فمن یعتبر وجود الفرد كالخلیة من جسم حی تماماً أو ورقة من شجرة فانّه یعنی انّ الحیاة الاجتماعیة ضرورة طبیعیة للفرد ولیس أمامه سبیل للحیاة غیرها، والنتیجة هی انّها لا تدخل نطاق الأخلاق، ولا یمكن القول: یجب أن یوجد فی المجتمع أو لا یجب، لان الانسان من جهة كونه انسانا اذا أراد أن یعیش ویبقى حیا فانّه یتحتّم وجوده فی نطاق المجتمع. وقد أثبتنا هذه الحقیقة فی محلها ونعتبرها هنا كأصل موضوعی، وهی أن الحیاة الاجتماعیة اختیاریة بالنسبة للفرد بشكل أو بآخر لا قهریة، وكل فرد فهو موجود مستقل ذو روح مستقلة وارادة ومعرفة وقادر على انتخاب مناهج مختلفة فی حیاته. وهو بوسعه ربط حیاته بحیاة أفراد من الانسان وبوسعه قطع هذه الرابطة.

لیس لوجود الفرد ارتباط عضوی مع وجود المجتمع، ولیس هو بمثابة خلیة فی جسم المجتمع ولا ورقة فی شجرة لیكون غیر قابل للانفصال عنه ویؤدی انفصاله عن المجتمع الى انعدامه، بل هو موجود مختار وله حیاة مستقلة وله الخیار فی الحیاة بصورة اجتماعیة أو فردیة، ویمكن أن یبحث فی نطاق علم الأخلاق بمقدار مایتمتع به من اختیار فی الحیاة الجماعیة.

وعلیه بوسعنا لدى المباشرة ببحث الأخلاق الاجتماعیة أن ندرس هذه المسألة: ما هی القیمة الأخلاقیة للحیاة الاجتماعیة؟ هل هی حسنة أم سیئة؟ وهكذا السؤال عن الحیاة الاجتماعیة كما وكیفاً، وعن كیفیة المعاشرة ومن هو طرف المعاشرة واقامة العلاقات معه أو قطعها؟ هذه الأمور تقع تحت اختیار الانسان الى حدّمّا وفی نطاق الأخلاق وإنْ لم یتساوَ اختیار الانسان فی هذه الموارد، فمثلاً لنا الخیار فی التنفس أیضاً ولكنه لیس كالخیار فی تحریك أیدینا إذ بامكاننا تحریكها كما نحب، ولكن التنفس فانه بوسعنا ایقافه الى حدّ ثمّ نبلغ درجة فقدان القدرة على ذلك.

أجل، لنا الخیار فی التنفس الى حدّمّا ولیس ذلك كنبض القلب إذ لیس لبنی الانسان العادیین أی خیار فی ذلك، ویكون ذا حكم اخلاقی حسب درجة الإختیار فیه، فمثلاً لو قُدّر للانسان أن یوقف تنفسه حتى یموت اعتُبر هذا العمل انتحاراً وحراماً اخلاقیا.

هذا إیضاح لقولنا: یتفاوت الإختیار فی الأعمال وعلیه سیتفاوت اندراجها فی الأخلاق أیضاً، والأعمال الإختیاریة تكون موضوعا للبحث الأخلاقی حسب درجة اختیار الانسان فیها.

والحیاة الاجتماعیة اختیاریة للانسان الى حدٍّ ما أیضاً، فهی اخلاقیة بدرجة الإختیار فیها. فمن الممكن أن یعزم على أن یعیش وحیداً فی زاویة بعیدة عن الآخرین فی غار أو غابة ولا یعاشر أحداً ولا یتكلم ولا یتعامل مع أحد ویقتات على الأعشاب الصحراویة وثمار الغابة ویصون جسمه من البرد والحر كما یحب ویواصل حیاته الفردیة لمدة. أجل، هذا النوع من الحیاة البعیدة عن المجتمع أمر ممكن للفرد إذ انّ وجودنا غیر مندك تكویناً مع وجود سائر الأفراد بنحو لا ینفك عن حیاة الآخرین.

قیمة الحیاة الاجتماعیة

نقول فی السؤال الثالث: ما هی قیمة الحیاة الاجتماعیة؟ وفی المقابل ما هو حكم الانعزال عن المجتمع والرهبانیة فی منظار الأخلاق الاسلامیة؟

للاجابة عن السؤال ینبغی دراسة وتحلیل الحیاة الاجتماعیة والانعزال عن المجتمع أی الرهبانیة. ما هی العوامل التی تستدعی ركون الانسان الى المجتمع؟ وما هی عوامل انعزاله وانزوائه ؟

لیس للحیاة الاجتماعیة وترسیخ الأواصر الاجتماعیة أو الاعتزال والانزواء قیمة ذاتیة، بل تكتسب قیمتها من عوامل واُسس اُخرى. ولذا لابدّ لتعیین وتحدید قیمة كل منها من دراسة العلل والعوامل لكل منهما.

یمكن تقسیم العوامل التی تبعث میل الانسان نحو الحیاة الاجتماعیة الى عدة مجموعات:

ـ المجموعة الاُولى: العوامل الغریزیة كالغریزة الجنسیة. فكل فرد لمیله التكوینی الى الجنس المقابل یقترب منه ـ شاء أم أبى ـ ویعاشره ویحتك به ویربط حیاته بحیاته.

انّ الحیاة الاُسریة والحیاة الاجتماعیة اصطلاحان مختلفان ـ بمعنىً من المعانی ـ ولكن وفق مفهوم أوسع تكون الحیاة الاُسریة نحواً من الحیاة الاجتماعیة بل ان الاُسرة تمثل النواة الاُولى والأساس للحیاة الاجتماعیة كما تذهب الیه بعض نظریات علماء الاجتماع ویؤیدها القرآن الكریم الى حدٍّ ما.

ولیس لأی مستوى من مستویات الحیاة الاجتماعیة والأحداث ومراحل التأریخ عامل واحد، بل هناك عوامل مختلفة تؤثر فی ایجادها دائما، ولكن لیس من الخطأ أن یقال: یقیم فردان حیاتهما المشتركة على أساس الغریزة الجنسیة وتكون هذه الغریزة عاملاً لحیاتهما الجماعیة.

ـ المجموعة الثانیة هی العوامل العاطفیة التی تستدعی المیول الاجتماعیة وربط حیاة فرد مع سائر الأفراد. وقد قلنا فی بحث العاطفة ان الانسان یمیل طبیعیا الى الاقتراب من بنی الانسان الآخرین والاستئناس معهم، سیّما العاطفة الاُسریة حیث تكون سببا لبقاء واستمرار الحیاة الاُسریة.

ـ المجموعة الثالثة: العوامل العقلیة التی هی أوسع من العوامل الاُخرى والعنصر الاختیاریُّ فیها أقوى.

فالانسان یدرك بعقله أنّه عاجز عن توفیر متطلبات حیاته بنفسه، فهو بحاجة الى التعاون مع الآخرین فی توفیر حوائجه المادیة كالملبس والمسكن والمأكل، وهكذا حوائجه المعنویة. انّ التكامل المعنوی للانسان وتلبیة حوائجه المادیة یتوقفان على الحیاة الاجتماعیة، ولولا المجتمع فلا تعلیم ولا تربیة ـ اضافة الى اختلال حیاة الفرد المادیة ـ كما لا یتحقق الرقیّ المعنوی والأخلاقی، ولذا یحكم العقل بضرورة معاشرة الآخرین وربط الحیاة بحیاة الآخرین والتعاون معهم فی حل مشكلات الحیاة.

ما ذكر یمثل أهم العوامل التی تدفع الانسان لانتخاب الحیاة الاجتماعیة، الاّ انّ تأثیر هذه العوامل غیر متكافئ فی جمیع الأفراد، اذ هناك أفراد یریدون الحیاة الاجتماعیة لتلبیة حوائجهم المادیة فقط ولا یعبأون بالمتطلبات المعنویة، وفی حین یولی بعض آخر اهتماماً أساسیاً للمعنویات، هؤلاء یحبون المجتمع ویمیلون الى الحیاة الاجتماعیة لتلبیة متطلباتهم المعنویة، وجلّ تفكیرهم هو أن ینتفعوا بعلوم الآخرین وسلوكهم وتجاربهم فی المجتمع، وأن یستخدموها فی سبیل تكاملهم المعنوی حتى انّهم یستعدون للابتعاد عن الحیاة الاجتماعیة أو تقییدها فی حالة فقدان هذا العامل، أو تعرُّض هذه المصلحة للخطر، ویتأثر بعض آخر بالعوامل العاطفیة بشدة، ویضعف تأثیر هذه العوامل فی بعض آخر، وهكذا یتفاوت تأثیر العامل الغریزی فی الأشخاص.

وعلیه فانّ تقییم الحیاة الاجتماعیة یتبع تأثیر العوامل والدوافع التی تدعو الانسان للحیاة الاجتماعیة أو الابتعاد عنها. إذنْ لابدّ من دراسة تأثیر هذه العوامل أولاً، ومن الطبیعی أن یكون إبداء الرأی بالنسبة لهذه الشؤون مع وجود عوامل متعددة ذات ادوار مختلفة معقدا وصعبا.

فی حالة وجود عامل واحد لسلوك الانسان فانه یمكن قیاسه وتقییمه الى حدٍّ ما، اما سلوك الانسان واعماله المعقدة والتی تتعاضد عوامل مختلفة فی ایجادها ویؤثر بعضها على البعض الآخر وتتساند أو تتعارض فی القیمة فلا یمكن ببساطة دراسةُ قیمها وبالتالی ابداء الرأی عن تقییم هذا النحو من الحیاة الاجتماعیة بصورة عامة; هل تكون محبذة أم لا؟ فالكثیر من الحسابات ینبغی اجراؤها بدقة كی تقدَّم اجابة صحیحة عن السؤال المذكور.

انّ التقییم فی هذه الموارد نسبی ولا یمكن ـ فی الرؤیة الاسلامیة ـ اعتبار قیمة مطلقة للحیاة الاجتماعیة أو الانزواء الاجتماعی. وقولنا انّ التقییم فی هذه الموارد نسبی لا یعنی خضوعه لآراء الأشخاص وأذواقهم، بل یعنی انّ قیمتها تابعة للظروف الزمانیة والاحوال الاجتماعیة المختلفة والدوافع والعوامل الاُخرى.

وبعبارة اُخرى: نظراً لتأثیر عوامل مختلفة فی تقییم الحیاة الاجتماعیة لا یمكن تقدیم ضابطة ثابتة له، ولیس ذلك لأن مجرد تغییر الزمان أو الموقع الجغرافی أو اختلاف الاذواق یؤدی الى اختلاف القیم، بل ان الاختلاف فی العوامل والظروف ودوافع الحیاة الاجتماعیة یستتبع اختلاف القیم، فلو اجتمعت مجموعة من العوامل والظروف فستكون لها قیمة ایجابیة فی أی زمان ومكان وبالنسبة لای فرد، وتكون لمجموعة اُخرى قیمة سلبیة.

انّ أهم عامل للتقییم فی الشؤون الأخلاقیة هی نیة الانسان ودافعه حتى انّ العمل المحدد الواحد قد یؤدى بدافعین متضادین: دافع حسن جداً ودافع سیء جداً، فلا یمكن تقییم عمل ما دون الأخذ بنظر الاعتبار الدافعَ فی ادائه. وهذه حقیقة مغفول عنها فی الكثیر من الفلسفات الأخلاقیة.

وعلى أساس رؤیتنا وبتأیید الآیات والروایات لا ینبغی ـ على الأقل ـ التغاضی عن النیة والدافع ـ وهما من العوامل الأساسیة لإنجاز العمل ـ فی تقییم السلوك الاجتماعی. طبعاً المؤثر فی قیمة العمل لا ینحصر فی النیة، فقد یكون للانسان هدف ونیة صالحة ولكن یجهل الطریق لتحقیق ذلك فقد ینجز العمل مستتبعا الضرر المادی والمعنوی لنفسه أو للآخرین. وعلیه فانّ مجرد النیة الحسنة لوحدها لیست ملاكاً للتقییم ولكن لیس من الصحیح التغاضی عنها أیضاً فی تقییم العمل فانّه یبعد الانسان من الحقیقة.

فالانسان تارة یلاحظ مصلحة الحیاة الاجتماعیة فیعطیها قیمة مطلقة مع أن هناك عوامل اُخرى تقیّد تلك القیمة. ففی النظام الحاكم السابق كانت قضیة الاختلاط بین النساء والرجال من القضایا المألوفة جداً فی مجتمعنا وكانت تطرح آراء مختلفة بشأنها، لكن كان التعامل الحسن مع الشرائح والفئات كافة قیمةً قد سرت من الثقافة الغربیة الى ثقافتنا، واتخذت موقعها لدى متنوّری الفكر والمتغرّبین. وذلك بأن یكون كل انسان حسن التعامل وحمیما مع أی انسان آخر، ولا فرق من هذه الناحیة بین الرجل والمرأة. فعلى المرأة أیضاً أن تتعامل بحرارة مع أیّ رجل، فكما تمزح مع النساء الاُخریات فانها تمزح مع الرجال. على أی حال كانوا یرون ذلك من القیم حیث یكون بنو الانسان ـ رجالاً ونساءً ـ متحابّین ومستأنسین فیما بینهم.

هذه الفكرة تنشأ من جذور فلسفیة وفكریة عمیقة، وحینما تدخل تلك المبادئ أدمغة أفراد الانسان فانّها تثمر هذه النتائج، فمثلاً ستكون معاشرة المرأة الاجنبیة مع الرجل الاجنبی عنها من جملة القیم، فاذا دخل الضیف الاجنبی البیت ولم تستقبله ربة البیت ولم تصافحه وتكرمه كان سلوكها غیر قیمی وتُتّهم بانّها تجهل الآداب الاجتماعیة وانّها لیست اجتماعیة بل انعزالیة.

أجل، لو اعتبرت هذه الفكرة مبدءً عاماً یأبى الاستثناء بمعنى ان جمیع أفراد الانسان یمثلون خلایا جسد واحد فلابدّ من التنسیق والتلاحم بینها دون فرق، مثل هذه الفكرة تستتبع هذه النتیجة وتوجد هذه القیم، وعلیه یكون ابتعاد المرأة الاجنبیة عن الرجل الاجنبی أمراً غیر قیمی، فیما یكون الاحتفاء والمعاشرة والمزاح بینهما أمراً قیمیاً.

وعلیه فانّ هذه القیم لا تظهر تلقائیا بل لها أرضیة فكریة، وعندما تروّج هذه الأفكار فی الكتب ووسائل الاعلام ومؤسسات التربیة والتعلیم فانّها تستتبع هذه النتیجة وتحدث هذه القیم، ویعتبر المعارض لها رجعیاً ومتزمّتاً ولم ینمُ حسّه الاجتماعی، ویبقى بعیدا عن الثقافة الجدیدة والأمور الحدیثة والجمیلة. فی هذه الرؤیة یكون كل ما هو أحدث فهو الاجمل والاكثر جذابیة، وهذ هو المبدأ الثقافی المعروف بـ(الحداثة).

لسنا الیوم بحاجة الى البحث عن هذه الشؤون حیث تسود الاجواء الثوریة والاهتمام بالدین، ولكن من اللازم الدراسة الاكادیمیة لهذه القضایا بدقة كی یتعرف الغافلون على منطق الاسلام وعدم أصالة هذه المیول والأفكار وأشباهها.

لقد ترسَّخ فی مخیلة اغلب شعوب العالم فی الشرق والغرب انّ كل جدید فهو ذو قیمة ایجابیة، وانّ كل قدیم فهو ذو قیمة سلبیة (حب الجدید ونبذ القدیم). وقد صاحب ذلك ـ اضافة الى كونه منسجما مع طبیعة عامة الناس وأهوائهم ـ تبریراتٌ فلسفیة خاصة، سیّما مذهب الدیالكتیك ـ الذی یعتبر كل حركة تكاملیة وكل جدید أكمل من القدیم وأفضل ویعتبر الحرص على الحداثة ونبذ القدیم أمراً ضروریاً.

وفی المقابل نحن الذین نرى بوضوح خواء هذه القضایا، فاننا لا نعتبرها جدیرة بالبحث والدراسة العلمیة فنمرّ علیها مرّ الكرام، أمّا اذا اردنا النقد العلمی لهذه الرؤى والقیم فانه یلزمنا البحث عن جذورها بنحو مستقل ونقدها لكی تتوفّر لدینا ثقافة ثابتة ومتقنة لا تدحر.

على أی حال فانّ قول شخص بانّ الحیاة الاجتماعیة مذمومة أو ممدوحة فی الآیة أو الروایة الفلانیة لا یكفی للرد على هذا السؤال المعقد، لاحتمال وجود قضایا معارضة لها فی آیات وروایات اُخرى، فمثلاً تقول روایة ترتبط بآخر الزمان: (كونوا أحلاس بیوتكم) ای الزموا بیوتكم ولا تغادروها([1]).

فهل یمكن أن تكون هذه الروایة ـ وإنْ افترض صحة سندها ـ ملاكاً للتقییم العام لمثل هذه القضیة المعقدة والمصیریة؟

انّ الفقهاء العظام ـ كثّر الله أمثالهم ـ كم یبذلون من جهود لاستنباط الاحكام الفقهیة البسیطة كحكم ماء البئر والآنیة وانفعال الماء القلیل، وكم هی الجهود التی یبذلونها فی التحقیق بشأن سند الروایات والجمع بین الروایات المتعارضة، وفی النهایة قد لا یُفتون جازمین فی الكثیر من الموارد ویعملون بالاحتیاط. حینما تكون مثل هذه المسائل ـ التی لیس لها دور مهم فی حیاة الانسان ویسهل الاحتیاط فیها ـ بحاجة الى هذا الجهد الكبیر والدقة فكم هی ضروریة الدقة فی القضایا التی تتعلق بمصیر المجتمع الاسلامی؟ لابدّ أن نستیقظ ونعتبرها قضایا جدیة ونبحث فی مثل هذه القضایا أكثر من القضایا البسیطة، إذ انّها تمثِّل الأساس لثقافتنا وتقرِّر مصیر المجتمع. الحصیلة هی انّ هذه القضایا معقدة جداً وینبغی لدى البحث بشأنها وتقییمها ملاحظة عوامل مختلفة، ولا تكون الاجابة عنها أمراً یسیراً. لا یمكن القول بانّ الحیاة الاجتماعیة محبذة مطلقا وذات قیمة ایجابیة فی جمیع الاحوال والاوضاع، كما لا یمكن اعتبار الانزواء الاجتماعی أمراً محبّذاً مطلقا، فقد یكون المیل الى المجتمع أحیاناً أمراً محبذاً بأعلى المستویات، وقد تكون الهجرة والانزواء الاجتماعی كذلك فى احیان اُخرى.


[1]. بحار الانوار ج 52 الباب 22 الروایة 43.