ar_akhlag3-ch2_3.htm

ج ـ مبدأ ترجیح المصالح المعنویة على المصالح المادیة

ج ـ مبدأ ترجیح المصالح المعنویة على المصالح المادیة

المبدأ الثالث هو ترجیح المصلحة المعنویة على المصلحة المادیة. فتوفیر المتطلبات المادیة یتزاحم أحیانا مع رعایة المصلحة المعنویة، فانّ قوى الناس اذا استخدمت كلها للاعمال الاقتصادیة والتقدم المادی فی المجتمع فانّ هذا المجتمع سوف یشهد تقدما ملحوظا فی البعد الاقتصادی والحیاة المادیة طبعاً وذلك لتعبئة قوى الناس كافة فی هذا الاتجاه. فی حین اذا خصّص بعض الوقت للمعنویات فمن الطبیعی أن یتباطأ تقدمه المادی بمقدار ذلك، وهنا یحصل التزاحم بین التقدم المادی والمعنوی لذلك المجتمع.

ولا ینبغی التغافل عن هذه القضیة وهی أن التخلف المادی یضر أحیانا بالمصلحة المعنویة الاّ انّ هذه العلاقة لیست عامة وشاملة. كما ان معنویات المجتمع تدعم التقدم المادی أحیانا، فالعامل اذا كان امینا ومخلصا أو كان رجل الأعمال مراعیا لشؤون العاملین لدیه فانّ مثل هذه الخصال المعنویة سوف تعزز التقدم المادی.

وعلیه یمكن افتراض مجتمع ذی مستوى من الثقافة والأخلاق یمنع وقوع أضرار مادیة كالمجتمع النزیه عن تناول الخمرة والمخدرات واتباع الشهوات المفرط والضار بمصالح الانسان المادیه أیضاً. فی مثل هذا المجتمع یكون الازدهار المادی فی أعلى مستویاته كما تكون معنویاته فی مستوى یدعم ازدهاره المادی، ولكن لا وجود فیه للرقی المعنوی والعبادة والمناجاة والدعاء والتدبر فی المسائل الفلسفیة والعرفانیة. هنا اذا افترضنا وجود مجتمع لا یصرف أوقاته فی الشؤون المادیة والاقتصادیة فحسب، بل یخصص أعضاؤه قسطا من اوقاتهم للشؤون المعنویة أو تتّجه فئه منهم الى الشؤون المعنویة فمن الطبیعی أن لا یبلغ هذا المجتمع بهذه الاحوال مستوى المجتمع الأول فی التقدم المادی والاقتصادی الاّ انّه أكثر تقدما منه فی المعنویات قطعا.

ما ذكر یوضّح لونا من التزاحم بین المادیات والمعنویات فلا یتیسّر للمجتمع أن ینالهما معاً بل یضطر إمّا للاهتمام بالتقدم المادی باعلى مستویاته وترك الرقی المعنوی أو العكس أی الاهتمام بالرقی المعنوی والاكتفاء بتقدم أقلّ فی الابعاد المادیة والاقتصادیة، وعلیه یبدو التزاحم بین توفیر المصالح المادیة والمصالح المعنویة معقولا الى حدٍّ ما.

الآن وبعد بیان التزاحم بین المصالح المادیة والمعنویة یطرح هذا السؤال: فی حالة التزاحم بین المادیات والمعنویات فی المجتمع أی مبدأ سیعیننا فی رفع هذا التزاحم وتنظیم العلاقات الاجتماعیة؟ وهل یجب ترجیح المصالح المادیة باعلى مستویاتها وترك الرقی المعنوی، أم ینبغی توفیر المصالح المعنویة بثمن قبول تقدم مادی أقلّ؟

ان هذا السؤال لا ینحصر فی العلاقات الداخلیة للمجتمع بل یطرح على صعید العلاقات الدولیة أیضاً. فاذا أدت علاقات المجتمع الاسلامی مع مجتمع غیر اسلامی الى ضعف الاهتمام بالمعنویات واستحال الجمع بین الرقی المعنوی وبین اقامة العلاقات مع ذلك المجتمع فانّ هذا السؤال یطرح أیضاً: أی مبدأ یعیننا فی رفع هذا التزاحم، وأیهما نختار وندفع ثمن فقدان الثانی؟ هل نقیم العلاقات مع ذلك المجتمع ونترك الرقی المعنوی أم نهتم بالرقی المعنوی ولا نقیم معه مثل هذه العلاقات المزاحمة؟

بدیهی انّ المبدأ الأول ـ أی العدل ـ لیس له دور فاعل فی هذا المجال ولا یمثل حلاً لهذه المشكلة لان المفروض هو انّ العدل والتوازن حاكمان على المعاملات، ورغم ذلك یوجد مثل هذا التزاحم أیضاً. وهكذا المبدأ الثانی ـ أی الاحسان ـ فانّه یعجز عن حل المشكلة لانّا افترضنا مجتمعین متكافئین لا یحتاج أحدهما إلى الآخر أبداً، أو لا یحتاج ابناء المجتمع بعضهم إلى بعض فی الاُمور المادیة.

وعلیه نحتاج هنا الى مبدأ ثالث هو (ترجیح المعنویات على المادیات) فاذا تزاحمت المادیات مع المعنویات كانت المعنویات هی الراجحة لان انسانیة الانسان وكماله الحقیقی یحصلان فی إطار المعنویات.

المعنویات تقرّب الانسان الى الله سبحانه وتكون الحیاة المادیة مقدمة لنیل المعنویات ووسیلة لتوفیرها. فان لم تقرِّبنا الوسیلة من الهدف وراح المبدأ أو الهدف ضحیة للوسیلة فانّها تفقد قیمتها الواقعیة.

تكون الحیاة المادیة ـ فی الرؤیة الاسلامیة ـ مقدمة للآخرة وتكون المصلحة المادیة وسیلة لتحقیق المصلحة المعنویة، ولا تمثل الثروة المادیة هدفا بل وسیلة لنیل الانسان تكامله الانسانی. وعلیه ینبغی فی حالة التزاحم بینهما ترجیح الأمور المعنویة.

وفی فرضیات نادرة یمكن أن یضحّى بمرتبة من المصالح المعنویة من أجل مراتب عظیمة من المصالح المادیة، إذ مع عدم تحقیق تلك المصالح المادیة ستتعرض المصالح المعنویة للخطر على المدى البعید. افترضوا مجتمعا تعرض للمجاعة فاضطر لاقامة علاقات مع مجتمع آخر لمواصلة حیاته، هذه العلاقات تحطّ شیئا من أموره المعنویة والأخلاقیة ولكن تبقى اُسس معنویاته واخلاقیاته ثابتة، فی هذه الحالة سیتعرض وجود المجتمع الى الخطر لولا هذه العلاقات، ولا یمكن بقاؤه حیا حتى یبلغ كمالاته، ولو أقیمت العلاقات فسوف تحفظ حیاته المادیة والمعنویة وإنْ تضررت المعنویات شیئا ما.

فی مثل هذه الفرضیات النادرة یمكن القول: انّه لا بأس فی التضحیة ببعض الكمالات المعنویة من أجل المصالح المادیة المهمة التی یبتنی علیها كیان المجتمع، لكن المبدأ العام هو ترجیح المصالح المعنویة على المصالح المادیة.

اننا لو لاحظنا التعالیم الأخلاقیة والاجتماعیة فی الاسلام لمسنا هذا المبدأ بوضوح فی مضامینها حیث یقول تعالى فی القرآن الكریم:

(وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِینَ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً)([1]).

أو یقول: (وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِینَ)([2]).

فلو كانت العلاقات الاقتصادیة مع مجتمع ما تشكل خطراً على استقلال المجتمع المسلم وعزّته وعلو شأنه فالواجب هو قطع هذه العلاقات، فلتفُقد تلك التكنولوجیا ولیحتفظ المجتمع الاسلامی فی مقابل ذلك باستقلاله وعزّته.

وهكذا اذا ادت اقامة العلاقات مع بلد ما الى الفساد الخلقی واضمحلال المعنویات فلیس من الجائز أبداً اقامة مثل هذه العلاقات وإنْ جلبت مكاسب مادیة ودنیویة كبیرة، فالواجب هو البراءة من اعداء الاسلام وإنْ استتبع فقدان بعض المصالح المادیة لان العلاقات الحمیمة مع اعداء الاسلام تعرّض المصالح المعنویة للمجتمع الاسلامی الى الخطر، وتحطّ من الثقافة الاسلامیة.

فی هذا العصر اذا وافق المجتمع الایرانی أن یكون ولایة من الولایات الأمریكیة ویشارك الولایات الاُخرى فی المصالح والامتیازات المادیة فلعل ذلك كان فی صالحه مادیا، ولكنه اذا أراد الاحتفاظ بقوانینه وقیمه المعنویة كدولة اسلامیة فلابدّ من تنازله عن هذه المصالح والتغاضی عن الاتحاد مع هذا البلد بل یلزم مواجهة امریكا.

هذا الملاك یكون هو الحاكم فی العلاقات الفردیة والجماعیة أیضاً، فما ورد فی بعض الروایات من النهی عن معاشرة ذوی خلق سیء معین فهو لما ذكر. ولیس ملاك هذه الاحكام هو العدل ولا الاحسان بل هو مبدأ ثالث وهو مبدأ ترجیح المصالح المعنویة على المصالح المادیة والذی یستتبع هذه الاحكام.



[1]. النساء 141.

[2]. المنافقون 8.