ar_akhlag3-ch3_15.htm

الاُسس الحقوقیة والأخلاقیة للاُسرة فی القرآن

الاُسس الحقوقیة والأخلاقیة للاُسرة فی القرآن

1 ـ مبدأ اشباع الحاجة الجنسیة

العامل الأول الذی یقرّب بین الرجل والمرأة ویستدعی الحیاة المشتركة والترابط بینهما هو الغریزة الجنسیة. فالرجل یرفع حاجة المرأة الجنسیة وهكذا المرأة حیث تلبی فی المقابل حاجة الرجل الجنسیة، وهذه الحاجة المتبادلة توجب الى حد كبیر الترابط الدائم أو الطویل الأمد بینهما. ان تلبیة هذه الحاجة المتبادلة تمثل القاعدة والأساس للكثیر من احكام الاُسرة.

2 ـ مبدأ اشباع الحاجة العاطفیة

العامل الثانی هو نشوء العلاقة العاطفیة بین الرجل والمرأة حیث تجعلهما مخلصین ومعینین ومدافعین عن بعضهما. لقد خلق الله تعالى بنی الانسان بنحو تنشأ بینهم آصرة عاطفیة وتنمو تدریجیا لدى تلبیة متطلباتهم ومصالحهم بنحو متبادل. تنشأ هذه العاطفة بین الزوجین بصورة قویة وطبیعیة وبوسعها القیام بدور مهمّ فی تحقیق مصلحة الاُسرة كلها بحیث یمكن القول ان اقوى عامل لاستمرار الاُسرة وتماسكها هی العاطفة والمحبة المتبادلة بین أعضاء الاُسرة. وبناء على ذلك ومع اعتبار ضرورة الحیاة الاُسریه یرى العقل ان افضل عامل لترسیخها واستمرارها هو اثارة العواطف المتبادلة بین أعضاء الاُسرة.

ولیس المراد طبعاً انّ العواطف ذات قیمة مطلقة وبلا حدود، لان قیمة هذه العواطف تنشأ من المصلحة العامة للاسرة، وقیمة الاُسرة بدورها تتبع القیم والمصالح العامة للمجتمع. وعلیه تكون ذات قیمة ایجابیة حسب دورها الایجابی فی تحقیق هذه المصالح. فیلزم سیطرة العقل على العواطف والاحاسیس وتوجیهها، ان قیمة النشاطات العاطفیة تتوقف على امضائها من قِبل العقل. وتنال النشاطات العاطفیة فی إطار الاُسرة تاییداً واستحساناً عقلیا طبعاً نظراً لما تستتبعه من استقرار الاُسرة وتوفیر المصالح العامة للمجتمع فی اغلب الموارد.

مما ذكر نستنتج ان الاهتمام بالعلاقة العاطفیة بین أعضاء الاُسرة یمثل مبدأ، فیكون كل ما یزعزع هذه العلاقة مرفوضا لانّه یهز كیان الاُسرة. فالتعامل العاطفی إذنْ یمثل المبدأ الثانی الذی یمكن أن یكون دعمه وتنمیته ذا تأثیر ایجابی فی تحقیق القیم الاُسریة.

وبناء على ذلك یلزم رعایة خط الاعتدال واجتناب الافراط والتفریط حتى فی العواطف الاُسریة. ویتحقق الاعتدال فیها حینما تعمل على توثیق العلاقات الاُسریة واستقرار كیان الاُسرة دون أن یترتب علیها أی تسامح فی أداء الاُسرة لمسؤولیاتها الاجتماعیة. انّ التفریط فی العواطف الاُسریة یعنی اللامبالاة وعدم الشعور بالمسؤولیة وضعف التحابب المتبادل بین أعضاء الاُسرة الأمر الذی یزعزع استقرارها. والافراط فیها یعنی جعل الأصالة للعلاقات الاُسریة الى حد التأثیر السلبیّ على العلاقات الاجتماعیة للأسرة أیضاً، والحیلولة دون أداء الأعضاء مسؤولیاتهم الاجتماعیة، كأن یمنع التحابب بین الزوجین الزوج من التوجّه الى الجهاد أو الأسفار الضروریة.

اننا لو حصرنا ملاك القیمة فی العاطفة واعتبرناها أساسا للقیمة بنحو مطلق ـ كما یقول بعض فلاسفة الأخلاق ـ لغیّر هذا المبنى طریقة تفكیرنا بشأن الاُسرة، ولسوف نواجه مشكلة فی الجمع بین المسؤولیات الاجتماعیة وطموحات الاُسرة، فی حین لا تكون العاطفة محوراً للقیم الأخلاقیة فی فلسفة الأخلاق الاسلامیة بنحو مطلق، بل تمثل أحد الدوافع فی العمل الإختیاری، والعقل هو الذی یحدد قیمتها، وهناك مصالح وقیم أسمى أیضاً، قال تعالى:

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِیرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَیْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهاد فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى یَأْتِیَ اللّهُ بِأَمْرِهِ)([1]).

یتّجه هذا التهدید الى الذین یفرطون فی عواطفهم الاُسریة الى مستوى الصد عن القیام بالواجبات الإلهیة والاجتماعیة. فالعواطف إذنْ لا تمثل مبدءاً مطلقا ومحوراً أساسیا للقیمة الأخلاقیة، بل لابدّ من تقییدها بقیود اُخرى كی تكون ذات قیمة اخلاقیة.

وعلیه لا ینبغی ان تَحول العواطف الاُسریة دون القیام بالمسؤولیات الاجتماعیة لان میدانها هو كیان الاُسرة، فلا ینبغی ان تتعداه وتؤدی الى تسامح الانسان فی أداء مسؤولیاته الاجتماعیة. ولكن كما قلنا فانّ رعایتها فی كیان الاُسرة یمثل مبدأ، وتستتبع تقویتها تحقیقا أفضل لمصلحة الاُسرة، فالانسان حینما یحب شخصا فانّه یسعى لتحقیق مصالحه وحیثما وجدت العواطف المتبادلة فانّ جمیع الأفراد سوف یسعى كل منهم لتحقیق تقدم الآخرین.

ان ما یصد الانسان عن هذا التعاضد والتعاون هو الأنانیة بین بنی الانسان، فانّها تنخر فی أساس الاُسرة وتضعف كیانها وتزعزعها.

ان معرفة العوامل التی تشیع الأنانیة فی أعضاء الاُسرة فی نطاق الحیاة الاُسریة تحتاج الى دراسات نفسیة عمیقة، ولكن یمكن القول ان أنانیة الانسان ذات جذور فی العُقد النفسیة الحاصلة قبل تأسیس الاُسرة غالبا.

فالتعامل المهین مع الانسان فی مرحلة الطفولة من قِبل الوالدین او الآخرین یترك أثره على نفسه فلا یزول سریعا، ویدفعه لانتهاز الفرصة لأخذ الثأر دائما وبصورة لا شعوریة.

انّ الزوجین غیر المتعاطفین لا یلتفتان الى العامل الذی یدفعهما للسلوك الخاطىء، الاّ انّ العلماء بدراساتهم العمیقة توصلوا الى هذه النتیجة وهی ان اهانة أفراد الانسان فی مرحلة الطفولة داخل الاُسرة او المدرسة أو المجتمع ذات تبعات سلبیة علیهم فیبحثون عن فرصة للتعویض أو الانتقام.

انّ الطفل الذی تحمّل المعاناة وأهانة والدیه یقوم بهذا الدور ذاته حینما یصبح أباً أو اُماً فیقوم باهانة ابنائه، انه مسیر طبیعی تقریبا. وتفسیره البسیط هو أنه قد تلقى هذه العادة من اُمه وابیه، الاّ انّه لیس تعلما فحسب بل له دافع نفسی لاشعوری أیضاً. فالذین عانوا من الأوامر التعسفیة وتحكم الآخرین فی الوسط الاجتماعی یقومون بذلك الدور ذاته بدلاً عن الاعتبار والاحتراز منه، ویمارسون إصدار أوامر تحكّمیة بحق الآخرین حتى انهم یستغلون الآیات والروایات والاحكام الإلهیة فی هذا السیاق، فمثلاً حینما یأمر الاسلام فی بعض الآیات والروایات المرأة بطاعة الرجل یتخذون ذلك ذریعة للتحكم وفرض آرائهم وافكارهم على أعضاء الاُسرة دون التفات الى المقصود منها وتفسیرها الأساسی، فی حین لا تكون مثل هذه التحكمات مقصودة، ومن یمارسها فهو مسؤول أمام الله عزّ وجلّ. ان دائرة أوامر الرجل كمدیر فی نطاق الاُسرة محددة، فعلیه ادارتها ضمن تلك الحدود كی لا تتشتت، الاّ انّ ذلك لا یعنی أبداً آمریة الرجل المطلقة فی هذا النطاق.

على أی حال، فانّ أساس حیاة الاُسرة فی الرؤیة الاسلامیة مبنی عل التحابب، قال تعالى فی القرآن:

(وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَیْها وَ جَعَلَ بَیْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً)([2]).

ولیس المراد طبعاً ان الله سبحانه یوجد مثل هذه المودة بین الزوجین قهراً وتكوینا وبدون أسباب اختیاریة، ویعشق أحدهما الآخر تلقائیا بمجرد اجراء صیغة العقد وكأن كلمات العقد وصیغته تمیمة لنشوء التحابب، بل المراد هو انّ الرجل والمرأة حینما أجریا العقد وقرّرا التعایش مدى العمر فانّ العواطف الخاصة المتبادلة سوف تنشأ وتنمو تدریجیا.

ان نشوء هذا النوع من العلاقات العاطفیة بین الزوجین مراد إلهی تكوینا وتشریعا. انّ الهدف الإلهی هو سیادة المودة والتحابب بین الزوجین وشعور أحدهما بالطمأنینة والسكینة فی جنب الآخر. وبناء علیه فانّ الأساس هو وجود أجواء الطمأنینة المفعمة بالمودة فی حیاة الاُسرة، فعلى الزوج والزوجة السعی لإحلال الطمأنینة بین أعضاء الاُسرة وتنمیة العواطف والتحابب المتبادل یوما بعد آخر. وهذا هو المبدأ الثانی الحاكم فی الاُسرة.

وقد تبرز بعض المشكلات والخلافات فی الحیاة الاجتماعیة فتتعكّر باستمرارها أجواء الطمأنینة والراحة فی الاُسرة، وسوف تنهار اُسس الرحمة والمودة بین الأزواج، مما یعنی انّ العواطف التی تسود الاُسرة لیس بوسعها رغم قوته ـ الحیلولة دون وقوع هذه المشكلات والخلافات. ولذا یلزم عرض مبادئ وأسالیب اُخرى لحلها والوقایة من تشتت الحیاة الاُسریة.

فالاسلام یقدّم مبادئ اُخرى للوقایة منها وحلها نبین هنا اربعة منها:

مبدأ التشاور ومبدأ قیمومة الرجل على الاُسرة ومبدأ اختیار الحَكَم ومبدأ اللین والتسامح.

لمزید من الایضاح یمكن القول: ان من الممكن طروء نوعین من الخلافات فی الاُسرة وبالتالی تعكیر أجوائها العاطفیة.

أ ـ لا یكون هدف الزوجین سوى تحقیق مصالح الاُسرة تارة فیتابعان هذا الهدف المشترك، ولكنهما یسلكان طریقین مختلفین لتحقیقه، أی تختلف وجهة نظرهما فی طریقة تحقیق مصلحة الاُسرة.

فمثلاً یتفقان فی الرأی على ضرورة وجود دخْل معین لرفع حاجات أعضاء الاُسرة، فتقترح المرأة ممارستها عملاً خارج الاُسرة لتساهم فی توفیر مؤونة الاُسرة بشرط أن یقتطع الرجل بعض وقته للاهتمام بشؤون البیت، الاّ انّ الرجل یعارض هذا الاقتراح ویرغب فی أن یقوم هو بتوفیر المؤونة وإنْ استدعى ذلك مضاعفة اعماله وتبقى زوجته فی البیت بدلاً من العمل خارجه وتتولى تدبیر شؤون البیت وتربیة الأبناء. هذا الاختلاف فی الرأی قد یكون منشأ للخلاف بین الزوجین.

ب ـ الخلافات الناشئة من اتّباع الزوجین أو أحدهما للمنافع الشخصیة، كأن ترغب المرأة فی العمل خارج البیت لیس لتحقیق مصلحة اجتماعیة أو اسریة بل لكسب ربح شخصی، وهكذا الرجل وذلك بأن یعارض زوجته ویجبرها على البقاء فی البیت لا لتحقیق مصلحة فی المجتمع أو الاُسرة، بل للتحكم وتعویض ما تلقّاه من اهانات فی الماضی.

فی مثل هذه الموارد التی یختلف فیها الزوجان حول تحدید مصلحة الاُسرة أو تتعارض رغباتهما ومنافعهما الشخصیة تفقد العواطف فاعلیتها المطلوبة. ولذا یقترح الاسلام طرقاً لحل هذه الخلافات نقوم بتوضیح هذه المبادئ تحت عنوان المبدأ الثالث وحتى المبدأ السادس:

3 ـ مبدأ التشاور

المبنى أو المبدأ الثالث الحاكم على الاُسرة هو مبدأ التشاور. الاسلوب الأمثل فی حلّ الخلافات المذكورة آنفا هو أن یتبادل الرجل والمرأة الرأی وینتخبا طریقا یستسیغه العقل. من الطبیعی أن یكون لكل شخص رغباته وآراؤه الخاصة، وأن یكون للزوجین رغبات وآراء متعارضة، ولكن فی الكثیر من الموارد بوسعهما التنسیق بین رغباتهما وآرائهما والحد من التعارض بینهما من خلال تبادل الرأی والتشاور.

فالطریقة المثلى لحل الخلافات فی الاُسرة إذنْ هی تبادل الزوجین الرأی باخلاص وتعاطف وارادة للخیر، ویفهم أحدهما الآخر ویفكر فی ادلته وآرائه ویهجر الهوى والانانیة، وعلیهما الاذعان لحكم العقل سیّما فی القضایا الطارئة فی الاُسرة وترتبط بالمرأة بنحو أكبر، فاذا انفرد الرجل فی اتخاذ القرار بشأنها دون التفات لرأیها فسوف تبرز بعض المشكلات.

وكنموذج: یمثل تغذیة الطفل الرضیع إحدى هذه القضایا، فهل تقوم الاُم بارضاعه أو یسلّم الى المرضعة، وما هی مدة الرضاعة ولأی مرضعة یسلّم؟

على المرأة والرجل فی هذه القضایا ـ التی یحتاج حلها الى التعاون المشترك بینهما ـ أن یتشاورا ویفكرا فی المصلحة ویتخذا قراراً صائبا ومناسباً. قال تعالى فی القرآن الكریم:

(فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراض مِنْهُما وَ تَشاوُر فَلا جُناحَ عَلَیْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَیْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَیْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ)([3]).

على الاُم ارضاع طفلها سنتین، ولكن اذا اتفق الوالدان بعد التشاور على ان یفطم قبل ذلك واتخذا هذا القرار تشخیصا لمصلحة الطفل والاُسرة فلا بأس فی ذلك.

وبدلا من التعبیر بـ (التشاور) فی الآیة المذكورة یستخدم تعبیر (الائتمار) فی آیة اُخرى برعایة هذا المبدأ فی موضع وجّه فیه بعض الارشادات بشأن النساء المطلّقات حیث یقول:

(وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْل فَأَنْفِقُوا عَلَیْهِنَّ حَتّى یَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَیْنَكُمْ بِمَعْرُوف وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى)([4]).

أجل، فی هذه الموارد لا یكون التشاور مع الأزواج مذموماً، بل عملاً ممدوحا قد دعا الله سبحانه الى رعایته فی القرآن الكریم مكرراً. ان عدم التشاور مع الزوجة لیس جریمة طبعاً ولا یستتبع مؤاخذة قانونیة، بل ان ضرورة التشاور حكم اخلاقی یلزمان به. فی هذه القضایا ـ خاصة اذا ارتبطت بمصیر الطفل ـ لابدّ أن یجتنب الرجل والمرأة الاهواء والتفرد فی الرأی، وعلیهما الاذعان لحكم العقل وتبادل الرأی والتشاور، الاّ انّ هذا حكم اخلاقی لا یستتبع أجراً ولا عقوبة قانونیة.

جدیر ذكره ان ضرورة التشاور مع الزوج وقیمته الأخلاقیة تكون فی شؤون الاُسرة وقراراتها، ولا دور للتشاور مع الزوجة من جهة كونها زوجة فی الأعمال التی لا ترتبط بالاُسرة، بل یلزم التشاور فیها مع الذین لهم احاطة أكبر بتلك الشؤون، والتعرف على آراء الذین تحملوا مسؤولیة وساهموا فی تلك الأعمال، ویكون للاتفاق معهم دور ایجابی وراجح فی انجاح ذلك العمل.

بناء على ذلك حینما نقول بضرورة التشاور مع الزوجة فلابدّ أن یقتصر ذلك على الأعمال المرتبطة بنطاق الاُسرة، ولا یُظن جواز تدخل الأزواج بعضهم فی جمیع شؤون البعض الآخر بنحو غیرمسؤول. فی الأعمال التی یقوم بها الرجل ولا ترتبط بشؤون الاُسرة لا تكون المرأة مؤثرة، فهی لیست أعرف أو أوعى لكی تكون موافقتها نافعة أو یكون التشاور وتبادل الرأی معها مؤثرا.

من ثمار التشاور وتبادل الرأی أن یعتبر أطراف التشاور أنفسهم مساهمین فی ذلك الرأی وما اتخذ من قرار، ولا یشعرون بانّ أمراً قد فرض علیهم. وكما ذكر لیس من الضروری التشاور مع المرأة فی الشؤون الخارجة عن البیت، فالكثیر من الشؤون الاجتماعیة لا ینسجم مع مشاعر وعواطف النساء، ولا یكون التشاور معهن فی هذه الموارد نافعا، فمثلاً لیس من النافع مراجعة مستشارات نساء فی الحرب والسلم والدفاع، إذ انّ المرأة نظراً لأحاسیسها وظرافتها الروحیة لا تصمد أمام آثار الحرب ومجازرها ودمارها، ولا تبدی رأیها على أساس مصالح المجتمع العامة، بل من الطبیعی أن یكون تعاملها عاطفیا بدلاً عن التدبر وابداء الرأی الصحیح، وبالتالی سیترتب على ذلك أضرار فادحة. فی مثل هذه الموارد لا یحظى التشاور مع المرأة بقیمة ایجابیة، وما ورد فی بعض الروایات: (شاوروهن وخالفوهن) فانّه یقصد هذه الموارد.

مثل هذه الروایات لا یعنی عدم التشاور مع المرأة فی أی مورد، بل یعنی انّ التشاور مع المرأة یجب أن یكون فی الموارد التی تتناسب مع أحاسیسها وعواطفها ونظامها الادراكی، وهذه حقیقة یقتضیها الجمع بین آیات التشاور وهذه الروایات.

فحینما یأمر الله سبحانه بالتشاور مع الزوجة فی شؤون الطفل فانّه لتطابق أحاسیس المرأة مع مصلحة الطفل فی الاُسرة فی هذه الموارد، وانشداد الأم بالطفل یقتضی تدبرها بمصلحته بنحو أكبر. فی هذه الموارد لا تتّهم المرأة بغلبة أحاسیسها على عقلها، بل عاطفة الاُمومة تقتضی اعتبار مصلحة الطفل.

4 ـ مبدأ قیمومة الرجل فی الاُسرة

المبنى الرابع والمبدأ الحاكم على الاُسرة هو اناطة قیمومة الاُسرة بالرجل، ففی الحیاة الاُسریة تطرأ أحیانا بعض المشكلات والخلافات فی الرأی لا ترتفع بالعواطف والتشاور مع الزوجة، ولو استمرت فسوف تنهار ركائز التعاطف والمودة بین الأزواج وطمأنینة الاُسرة واستقرارها، فینبغی البحث عن طریقة اُخرى لحلها احترازاً من تفكك الحیاة الاُسریة. ان الاُسرة حینما تؤسس بوصفها وحدة اجتماعیة صغیرة تكون ـ كأی تجمع آخر ـ بحاجة الى مدیر من الناحیة الحقوقیة، ولاعتبار الاُسرة فی الاسلام أساسا للمجتمع فقد أولى اهتماماً بالغا بارساء كیان الاُسرة بنحو صحیح لكی یضمن بذلك ثبات المجتمع وسلامته.

لقد اُوكلت قیمومة الاُسرة فی الاسلام الى الرجل، قال تعالى فی القرآن:

(الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ)([5]).

فعلى المرأة والأبناء الخضوع لقیمومة الرجل فی الاُسرة، ومن اللازم ـ سوى الجوانب القانونیة والحقوقیة ـ رعایة حرمة الأب فی الاُسرة واحترامه اخلاقیا من قِبل الزوجة والأبناء. ان قیمومة الرجل تمثل المبدأ الرابع الحاكم على الاُسرة، ویتوقف حل الكثیر من المشكلات فی حیاة الاُسرة على تنفیذ هذا المبدأ.

كل جماعة بحاجة الى مدیر، وفی القضایا الضروریة لابدّ من اتخاذ القرار من قِبل شخص واحد، والاّ فانّ الجماعة سوف تتفرق وتتشتت. ووقوع الخلافات فی الاُسرة أمر طبیعی وما یقوله أتباع بعض المذاهب من ضروره التوادد بین ابناء المجتمع كافة وعدم تفكیر الفرد بمصلحته الشخصیة فانّه یمثل فكرة مثالیة، الاّ انّها لا تنسجم مع الحركة الواقعیة للحیاة الانسانیة. فمن الناحیة العملیة لا ینبغی توقع الالتزام التام بالقیم الأخلاقیة السامیة من قِبل بنی الانسان فی الحیاة، وعدم وقوع أی خلاف فیما بینهم، بل لابدّ من تقدیم قیم اخلاقیة بمستویات أدنى، والبحث عن طریقة حقوقیة لحل الخلافات الواقعة قهراً.

ان الاسلام یلاحظ واقع الحیاة حینما یستعرض نظامه القیمی. وبناء على ذلك لا یدعو الانسان الى قیم نادرة التطبیق فی نطاق خاص ومن قِبل عدد ضئیل من الأفراد فحسب بل یلاحظ واقع الحیاة دائما ویقدم نظاما شاملاً ذا مستویات مختلفة، أی مع اهتمامه الشدید بتعمیم وتوثیق العواطف بین أعضاء الاُسرة وعرضه كمبدأ حاكم على سلوك الاُسرة فانّه لا یكتفی بذلك بل یطرح الى جانبه مبدأ قیمومة الاُسرة بغیة معالجة المشكلات الاُسریة بمبدأ القیمومة على الاُسرة فی الموارد التی یستعصی حلها على التعامل العاطفی. أجل، لو بُنی سلوك الاُسرة على أساس العاطفة فقط فسوف نواجه صعوبات لدى معالجة الكثیر من مشكلات الاُسرة، فلابدّ من وجود طریق آخر لمعالجتها. فی هذا السیاق یعرض الاسلام المبدأ الرابع الحاكم على الاُسرة أعنی مبدأ قیمومة الرجل.

وهذا لا یعنی ـ كما ذكر ـ آمریة الرجل المطلقة فی نطاق الاُسرة، وفاعلیته لما یشاء بأن یأمر كما یحلو له، وإطاعة المرأة وتسلیمها كأمَة. لا یستفاد هذا الحق للرجل من أی مصدر اسلامی معتبر كالآیات والروایات ولكن قد یتمسك بعض بالمتشابهات والمطلقات دون التفات الى المخصصات والمقیدات والمعارضات ویستخدمها لتثبیت هذا الحق لأنفسهم.

وعلیه كما ان من الضروری وجود قیّم لترسیخ كیان الاُسرة، وهی تتشتت بدونه وتتزعزع، فكذلك الاستبداد والأنانیة والتحكم والقهر. بناء على هذا ینبغی ان لا یستغل الرجل حقه فی القیمومة ولا یتحرك الا فی نطاق الشرع وإطار حق القیمومة الوارد فی القانون الاسلامی، وینبغی أن یدیر شؤون الحیاة باسلوب صحیح وسلوك عقلانی. كما یجب على المرأة أن لا تعكر الاجواء العاطفیة والمودة فی الاُسرة بالتحكم والمواقف الفردیة، وینبغی أن تصون الاُسرة من التشتت باحترامها لحق الرجل.

5 ـ مبدأ التصالح

المبدأ الخامس الحاكم على أجواء الاُسرة هو مبدأ التصالح. فقد یبلغ الأمر بأحد الزوجین ـ فی منظار زوجه على الاقل ـ الى ممارسة سلوك غیر عقلانی. فی هذه الحالة اما أن یكون سلوكه غیر منطقی واقعا، أو یظن الزوج بانّه شخص معاند ویسعى لفرض رأیه ولا یذعن لحكم العقل. من الطبیعی فی الحالتین أن تتعرض الأواصر بینهما الى التفكك ویتزعزع كیان الاُسرة.

فی مثل هذه الحالة یدعو الاسلام الى السعی ـ قدر المستطاع ـ للحیلولة دون انفصام العلاقة الزوجیة وانهیار وحدة الاُسرة وإنْ استدعى ذلك تنازل أحد الطرفین الى الطرف الآخر فوق المستوى المطلوب بل التنازل عن حقه الثابت صونا للأسرة وبقاء العلاقة الزوجیة، قال تعالى بهذا الشأن:

(وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَیْهِما أَنْ یُصْلِحا بَیْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَیْرٌ)([6]).

من اللازم طبعاً رعایة كل من الزوج والزوجة حق الآخر بدقة، ولكن قد یتخلف الزوج عن أداء بعض حقوق زوجته فتشعر بالقلق من أنها لو أصرت على حقها فسوف یعرض زوجها عنها أو یتجاهل حقوقها الاُخرى، فی هذه الحالة یوصیها الاسلام ـ لما للحفاظ على كیان الاُسرة من أهمیة بالغة ـ بالسعی للمحافظة على أساس الاُسرة وإنْ كان بالتنازل عن بعض حقوقها، وتقی كیان الاُسرة من التشتت قدر المستطاع من خلال التصالح والمساومة والتسامح.

6 ـ مبدأ التحاكم

المبدأ السادس الحاكم على الاُسرة فی النظام الحقوقی والأخلاقی للاسلام هو مبدأ التحاكم، فالله سبحانه یدعو الزوجین فی القرآن الكریم فی حالة عدم حل مشكلة الاُسرة بالتصالح، وبقاء خطر تفكیكها قائما الى التحاكم لدى شخصین ذوَی تجربة كحكَمین علّهما یعالجان المشكلة. یقول القرآن بهذا الشأن:

(فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها)([7]).

وعلى الزوجین التسلیم لقضاء الحكمین كی یبقى كیان الاُسرة مستقراً وراسخاً، ویسود التصالح لا الجدال والخصام قدر المستطاع.



[1]. التوبة 24.

[2]. الروم 21.

[3]. البقرة 233.

[4]. الطلاق 6.

[5]. النساء 34.

[6]. النساء 128.

[7]. النساء 35.