ar_akhlag3-ch5_4.htm

حسن العدل من جملة الاحكام التحلیلیة

حسن العدل من جملة الاحكام التحلیلیة

ان قولنا بانّ العقل له احكام فی مجال الأخلاق العملیة والقضایا القیمیة لا یعنی انه یدركها تلقائیا وبلا واسطة، ویحكم فی المسائل القیمیة بصورة مستقلة تماماً عن الادراكات النظریة. كما انه لا یعنی ان الانسان ذو جهازین للادراك العقلی: أحدهما یدرك الواقعیات، والآخر یدرك القیم والاحكام العملیة والمفاهیم الأخلاقیة، لعدم ثبوت هذه الاثنینیة العقلانیة التی یذهب الیها بعض العلماء ویطلقون علیها مصطلحی (العقل النظری) و(العقل العملی). فی رأینا انّ العقل واحد وترجع كل ادراكاته الى الادراكات النظریة وهی قابلة للاستدلال والبرهان كما اشرنا الى هذه الحقیقة فی موارد مختلفة.

هنا وبملاحظة هذا المبنى العام ما هو مفهوم هذا الحكم العقلی: انّ العدل معتبر فی العلاقات الاجتماعیة كقیمة؟

فی الاجابة یجب القول انّ النظم القیمیة كافة تذعن فی الغالب بحسن العدل وضرورة رعایته الاّ انّ لها احكاماً متفاوتة بشأنه:

یعتقد البعض ان حسن العدل حكم وجدانی، ویعتقد بعض آخر انه حكم العقل العملی، وفی منظار آخر هو من الآراء المشهورة والمحمودة. ولتوضیح الحقیقة یلزم تحلیل مفهوم العدل قبل كل شیء كی ندرك كیفیة حكم العقل بضرورة الالتزام به.

فی رأینا ان حسن العدل وضرورة رعایته فی الادراكات العملیة من القضایا التحلیلیة، ویكمن سرُّ بدیهیته فی كونه أمراً تحلیلیاً. ان هذا مبدأ عام وقد أشرنا الیه فی مواضع اُخرى أیضاً بان الاحكام البدیهیة للعقل ـ اعمَّ من البدیهیات فی الادراكات العملیة كحسن العدل وقبح الظلم والبدیهیات فی الادراكات النظریة كمبدأ العلیة ـ كلُّها أحكام تحلیلیة. ان ادراك العقل للبدیهیات الاولیة بنحو تلقائی لا یعنی ان هذه القضایا جزء من طبیعة العقل وقد خلقت كجزء من وجوده، بل یعنی ان مفهوم المحمول فی هذه الموارد یمكن الحصول علیه من تحلیل مفهوم الموضوع ولیس شیئا مفصولاً عنه.

مثلاً مبدأ العلیة الذی یعتبر من المبادئ البدیهیة یقول:

(كل معلول فهو بحاجة الى العلة) وقد قلنا ان احتیاج المعلول الى العلة، الذی یمثل محمول هذه القضیة العامة، یدركه العقل بنحو تلقائی من تحلیل مفهوم الموضوع وهو كلمة (المعلول). فالمعلول أساساً یعنی الشیء الذی یحتاج الى علة. هنا فی مورد الادراكات العملیة والقیم أیضاً نؤكد على هذه الطریقة ونقول: انّ المبادئ البدیهیة من الادراكات العملیة هی من القضایا البدیهیة أیضاً، فمثلاً (العدل واجب) من المبادئ البدیهیة فی الادراكات العملیة ومن القیم، ویعتبر من جملة القضایا التحلیلیة.

لمزید من الایضاح یجب القول انّ العدل یعنی (اعطاء كل ذی حق حقه) ولا یعنی التساوی المطلق. فمثلاً اذا كان لدیك عاملان فعمل أحدهما ساعتین والآخر عمل ثمانی ساعات واعطیت الثانی أربعة اضعاف الأول كنت مراعیا للعدالة لان العدل لا یعنی التساوی المطلق بل یعنی ان یعطى كل انسان حقه مهما كان. إذنْ لإدراك مفهوم العدل بنحو صحیح لابدّ من توضیح مفهوم الحق قبلاً. یستعمل لفظ (الحق) فی العلاقة بین موجودین وعلى اساسه یستحق أحدهما استلام شیء او الانتفاع به ویكلّف الثانی بدفعه له أو احترام انتفاعه به دون ان یتجاوز ذلك.

بناء على ذلك انّ العدل یعنی اعطاء الحق لصاحبه والحق شیء لابدّ من اعطائه لصاحب الحق.

نستفید من ضمّ هاتین العبارتین لبعضهما ان عبارة (العدل واجب) تعنی: (ان ما یجب اعطاؤه لابد من اعطائه) وهذه قضیة بدیهیة وتحلیلیة الاّ انّ هذا لا یعالج أیة مشكلة فی أی نظام قیمی، لان الجمیع یقولون: ان رعایة العدل واجبة ولا یجوز ظلم أحد ولا یوجد أی اختلاف او ابهام فی أصل هذه القضیة، وما فیه ابهام أو یقع مورداً للاختلاف هو تعیین مصادیق العدل، كمسألة ان ارث المرأة نصف ارث الرجل هل هو عدل أو ظلم؟

فالقائلون بأنها مسألة غیر عادلة یعتقدون بالتساوی بین حقوق الذكور والاناث فی اموال الاب، ولو اعتقدوا بان حق الابن هو اكثر من حق البنت لم یحكموا بذلك. فی مقابل هؤلاء یجب بیان معیار تعیین الحقوق لا بیان ضرورة رعایة العدل.

ان مبدأ العدل كما یشبه الأصول البدیهیة الاُخرى فی كونه تحلیلیا فهو یشبهها فی تعیین المصادیق أیضاً. وكما ان مبدأ العلیة مبدأ بدیهی ولكنه عاجز فی ذاته عن تشخیص مصادیق العلة والمعلول، أو الأصل البدیهی الآخر القائل بانّ الكل أكبر من الجزء فانه یعجز عن تحدید مصداق الكل أو الجزء، بل اننا نعرف مصادیق العلة والمعلول والجزء والكل من الخارج ثم نطبق هذه الأصول البدیهیة علیها، فكذلك مبدأ العدل فهو مبدأ بدیهی ولكنه عاجز عن تعیین مصداق العدل، فعلینا التعرف علیه من طریق آخر وبعد تعیینه یأمر مبدأ العدل بضرورة رعایته.

بناء على ذلك لا ینبغی ان تتعجّب من قولنا عن العدل بانه لا یعالج مشكلة رغم بدیهیته ویعجز عن اعانتنا فی تعیین مصداق العدل والظلم، لان كل مبدأ من المبادئ البدیهیة غیر قادر على تعیین مصداقه. من هنا یقال فی الفلسفة والمعارف اننا لا نستطیع اثبات وجود الله بمبدأ العلیة فقط لانه یقول: اذا كان شیء معلولا فی الخارج وجب أن تكون له علة والاّ لم یوجد. إذنْ یمكننا اثبات وجود الله بهذا المبدأ حینما یثبت لدینا معلولیة الكون بطریق آخر غیر هذا المبدأ.

الإجابة عن سؤال

قد یقال: اذا كانت ضرورة رعایة مبدأ العدل امراً بدیهیاً ویحكم به الجمیع بذاتهم إذنْ لماذا هذه التأكیدات الكثیرة فی الآیات والروایات على الالتزام بالعدل كقوله تعالى:

(إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الإِْحْسانِ)([1]).

(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)([2]).

للإجابة عن هذا السؤال نؤكد على أمرین: الاول انّ القرآن الكریم والروایات الشریفة وعلماء الأخلاق یؤكدون على ضرورة تسلیم بنی الانسان لحكم العقل، ولذا یصرّون على هذا الحكم العقلی البدیهی، وهذا الاصرار مستمر لوجود دوافع قویة فی الانسان لمعارضة هذه الاحكام العقلیة، فیلزم ان یقوم اشخاص كالانبیاء العظام(علیهم السلام) ومربّو المجتمع وعلماء الأخلاق باعانته لیتمكّن من طاعة العقل فی مقابل هذه الدوافع.

وعلیه فان هذه التأكیدات لیست لتعلیم الانسان ضرورة رعایة العدل بل لدفعه للالتزام العملی به دون ان تعصف به الدوافع المعارضة الى هذه الجهة أو تلك.

الثانی ان هذه القضایا القیمیة البدیهیة تلعب دور الكبریات الفطریة البدیهیة فی البرهان، أی ان الانسان لا یلتفت أحیاناً الى قضیة وحینما یقرن بین قضیتین بدیهیتین یلتفت الى تلك القضیة التی هی لازم ضروری لهما. وثمرة البرهان اساسا هی إلفات الانسان الى الترابط بین هذه المفاهیم وبین النتیجة التی تستفاد منها.

فی القضایا القیمیة أیضاً یمكن ان یكون للقضایا البدیهیة هذا الدور، أی حینما تتعرفون على مصداق العدل وتشخّصون عملا عادلاً فبضم كبرى لزوم رعایة العدل تلتفتون الى وجوب القیام بذلك العمل.

إذنْ فی مقام النظر والاستدلال یكون لهذه القضایا القیمیة دور الكبرى البدیهیة فی الادراكات النظریة، وتترتب ثمرة الاستدلال البرهانی فی القضایا النظریة على الاستدلال فی القضایا القیمیة أیضاً وهی عبارة عن الالتفات الى الترابط بین الصغرى والكبرى كی ینتقل الى نتیجتها.

وعلیه هناك حكمتان فی تأكیدات القرآن والروایات على رعایة العدل: احداهما حیثیتها التربویة، والاُخرى حیثیتها التعلیمیة والمعرفیة.



[1]. النحل 90.

[2]. المائدة 8.