العلاج الأساسی
اننا وان امكننا مكافحة الغیبة من خلال الالتفات الى مفاسد وتبعاتها الاّ انّ العلاج الأساسی للغیبة هو ان نلاحظ ماهیة جذورها النفسیة، أی بدلاً من الالتفات الى الآثار والنتائج السیئة للغیبة نلتفت الى عللها وعواملها، فاذا وفقنا لاجتثاث جذورها كانت اصلاحاتنا وبناؤنا النفسی أعمق والتأثیر الاجتماعی لهذا الاصلاح اكبر. أجل، ان افضل طریقة لمكافحة الفساد الاجتماعی هی العثور على جذوره النفسیة والفردیة. اننا اذا بدأنا من هذه النقطة بمكافحة الحسد وطهّرنا انفسنا من أدرانها فان ما سوى الغیبة من الامراض النفسیة والآثار العملیة القبیحة المترتبة على الحسد أیضاً سوف تزول تلقائیا.
وإذا قمنا بمكافحة الحسد فسوف نجد دوراً هامّاً للمعرفة ـ التی لها دور مهم فی القضایا الأخلاقیة كافة ـ وهكذا للسلوك والتدریب العملی، فإنّ تهذیب النفس ـ سواء أكان تخلیة للنفس من الرذائل أو تحلیتها بالفضائل ـ یبتدأ بالفكر والعلم والمعرفة، ویستمرّ بالتدریب العملی وبالتالی تبقى آثاره وتترسخ على شكل ملكات ثابتة فی نفس الانسان.
الآن ولكی نعرف أی نوع من الافكار والآراء یكون نافعا فی هذا المجال ندرس موارد الحسد بنحو اجمالی:
الاول: ینبغی القول فی تعریف الحسد: انه عبارة عن تمنی زوال النعمة من صاحبها. والنعم التی یرجو الحاسد زوالها ذات انواع فیتنوع الحسد بتنوعها.
فتارة یكون منشأ الحسد هو النعم الالهیة التی لا دور للافراد فی نیلها سواء أكانت هذه النعمة جسمیة كالجمال الطبیعی للانسان فانه لا دور له فی تحصیل جماله الطبیعی، أو نعمة روحیة ونفسیة، كجودة الذهن والذكاء، فإنّها من المواهب الإلهیّة، اذ ان الاطفال منذ ولادتهم لا یتساوون تماما فی الذكاء. كما انّ التجارب البسیطة فضلا عن الدراسات العلمیة الدقیقة تشیر الى ان قابلیة الذكاء لدى اطفال الانسان لیست واحدة فی بدایة ولادتهم.
والذین لهم ذكاء اقل ـ خاصة التلامیذ فی بعض الموارد ـ یحسدون الذین لهم ذكاء وفراسة أفضل.
وتارة یكون منشأ الحسد هو النعم المكتسبة التی یحصل علیها الافراد بسعیهم، فمثلاً من یكدّ ویسعى فی اقتناء الثروة، ویبنی بما یدخره من اموال داراً جیدة أو یشتری سیارة جیدة یكون موضعا لحسد الآخرین. طبعا لو كان الاخرون یكدون بهذا المقدار لكان بامكانهم تحصیل مثل تلك الدار أو السیارة، ولكنهم إما أنهم لم یكدوا ویسعوا أو لم یدّخروا المال بصرفه فی مصارف اُخرى فلم یتمكنوا من تحصیل مثل تلك الدار أو السیارة، والآن حیث یرون انفسهم فاقدین لهذه النعمة ویحظى بها الآخر یحسدونه ویتمنون فقدانه لها. أمّا طریقة مكافحة الحسد فی مجال النعم الالهیة فهو الالتفات الى هذه الحقیقة، وهی أن تلك النعمة قد اعطاها الله سبحانه ایاه، واذا فكّر الحسود قلیلا لوصل الى هذه النتیجة، وهی ان الحسد لهذه النعمة یعود الى الاعتراض على فعل الله، بانه لماذا اعطاه تلك النعمة ویكون السعی لسلب تلك النعمة من المتنعم بها وصده عن الانتفاع بها من آثار المعارضة والمواجهة مع الله عز وجل فی تدبیر الكون، ومن الواضح أن المؤمن لا یقف أبداً بوجه خالق الكون ولا یسعى لمعارضة افعاله، ولكنه نظراً لعدم الالتفات الى هذه الحقیقة الذمیمة وهی ان عداءه یعود الى عدائه مع الله سبحانه فانه یحسد المحسود ویعادیه، ولو كان ملتفتا الى هذه الحقیقة لم یعاده هكذا.
أجل انّ الذین یریدون التخلص من هذا المرض أو تهذیب الحسود فان طریقه هو الالتفات الى هذه الحقیقة بنفسه أو إلفات الشخص الآخر له، وكلما ازداد التدبر فی هذا المجال كان عامل الحسد فیه أضعف.
وفی مورد النعم الاكتسابیة أیضاً اذا كانت له معرفة تامة نسبیاً وبلغ هذا المستوى بان یرى ید الله وقضاءه وقدره حتى فی الاعمال الاختیاریة والنعم الاكتسابیة، كان بامكانه بهذه المعرفة السعی لاصلاح مرض الحسد فی نفسه أو الآخرین، فمثلاً انّ العلم والمال الذی اكتسبه شخص هو عطاء إلهی، وان لم ینعدم تأثیر النشاط الاختیاری للمتنعم فی هذا المجال، ولكن حتى نشاطه الاختیاری ینجزه بقدرة الله وتوفیقاته. بناء على ذلك فانّ العداء فی هذا المورد یعود بنحو ما الى المعارضة مع القضاء والقدر الالهی.
اما الذین لم یبلغوا هذه الدرجة من المعرفة والایمان فینبغی انتهاجهم طرقا اُخرى فانها اكثر جدوى لهم، كالتفكیر بان الآخرین أیضاً یمكنهم تحصیل مثل هذه النعمة وأفضل منها، أو ان زوال نعمة الآخرین لا یعود بفائدة على الحسود. ان افكاراً من هذا القبیل یمكن ـ الى حد كبیر ـ أن تخمد نار الحسد المستعرة فی نفسه وأن تقلّل من العذاب الباطنی فیه أو فی الشخص الذی یرید اصلاحه.
واحیاناً یكون التزاحم بحیث لوكان المحسود غیر موجود لكانت النعمة والموقع من نصیب الحاسد، كما هو الحال بالنسبة لبعض المرشحین فی الانتخابات للوصول الى موقع اجتماعی ویكون أحدهم ذا امتیازات اكبر. هنا یفكر غیره انه لو لم یكن موجوداً لوصلت النوبة الیه وكان بامكانه تحصیل هذا الاقتدار والموقع، فیحسده لان زوال نعمته مقدمة لنیل هذا تلك النعمة.
فی هذه الموارد یكون التدبر أكثر تعقیداً وینبغی استخدام معرفة اُخرى. ینبغی ان نفكر هنا هكذا: ان نعم الدنیا وسائل للاختبار، وكل من امتلك نعمة اكبر كانت مسؤولیته أثقل. وعلیه فان نفس هذه النعم لا تكون منشأ لسعادة الانسان، ویتوقف الامر على كیفیة انتفاع الانسان بها. فقد لا تكون هذه النعمة منشأ لكماله ولا یوّفق للانتفاع بها بنحو صحیح، ففی هذه الحالة لا تكون النعمة بلا فائدة فحسب بل تكون نقمة وعذابا علیه.
كما ینبغی ان نفكر هكذا: على فرض أن یكون تحصیل تلك النعمة فی صالحنا وسببا لسعادتنا، ولم تكن فساداً وفتنة ونقمة، ولكن الواجب هو تحصیلها بجهودنا وبارادة إلهیة دون ان نتمنى زوال تلك النعمة من أحد، أی ینبغی ان یكون سعینا ایجابیا ونافعا لا تخریبیا وضارا. فی هذه الحالة یكون سعی الانسان نافعا ویهتم باصلاح نفسه ورفع نقاط ضعفه واكتساب الامتیازات لنفسه، فیقوم بتوفیر المقدمات كی یكون اهلا لامتلاك تلك النعمة. هذا النحو من الارادة والنشاط ـ خلافا للحسد وتمنی زوال نعمة الآخرین وهو تمن وجهد مخرب ـ یكون نافعا تماما.
كما ینبغی التفكیر بانّ الحسد ضرر عاجل وخسران یرد علیه نقداً ویهدّد طمأنینته الروحیة وسلامته الجسمیة، وبه یكسب صفة اخلاقیة رذیلة ویهدّد سعادته الأبدیة بنفسه ویسخط الله على نفسه، هذه المجموعة من الافكار بمستویاتها المختلفة تكون سببا لان یدرك الانسان مفاسد الحسد، هذه الصفة الذمیمة والضارة، ویعزم على تطهیر نفسه من هذا الدرن.
طبعاً ینبغی الالتفات الى ان مجرد التفكیر والمفاهیم الذهنیة لا تكون مؤثرة وكافیة فی اصلاح سلوك الانسان بل اضافة الى ذلك لابدّ من العزم على تغییر اعماله وسلوكه. ولیكن له تجاه المحسود سلوك عملی معارض لمقتضى الحسد. فمثلاً حینما یشعر بانه یرغب فی تحقیره علیه أن یعزم على احترامه بدلا من تحقیره، أو حینما یود أن یتكبر علیه یسعى لان یتواضع له، ولیواصل سلوكه هذا حتى یوفّق لاجتثاث جذور هذه الصفة الرذیلة.
وینبغی التذكیر بهذه الملاحظة وهی ان ما ذكرناه یتعلق بالموارد التی یحصل فیها الانسان على النعمة من طریقها الصحیح ویحسده آخرون، ولكن فی الكثیر من الموارد یقوم اشخاص بطرد الآخرین من الساحة بأسالیب غیرمشروعة وبالمكر والتزویر والغیبة والتهمة ویكسبون بدون حقٍّ مواقعَ اجتماعیة فی المجال السیاسی أو الأقتصادی للمجتمع. فی هذه الحالة ینبغی التصدی لهؤلاء الافراد والفئات والطبقات، ولا یرتبط الأمر بالحسد.
بناء على ذلك فان مفهوم الأمور المذكورة لیس هو أن ینزوی المسلم ولا یهتم بأفعال أعضاء المجتمع، بل علیه ان یسعى لان یكون له دافع شرعی واخلاقی فی افعاله ونشاطاته، ولا یدفعه الحسد والصفات القبیحة والذمیمة الاُخرى لارتكاب ردود فعل.