ar_barege-ch04.htm

 

 

الأرضیّة لنهضة عاشوراء (1)

 

ـ السوابق التاریخیّة لواقعة عاشوراء

ـ الأرضیّة الاجتماعیة لانحراف المجتمع

ـ عوامل انحراف المجتمع

ـ التشابه بین مجتمعنا والمجتمع الذی عاش فیه الامام الحسین(علیه السلام)

ـ ما هی سبیل التصدّی للسیاسات الشیطانیّة؟

 

المقدمة:

طرحنا فیما سبق عدة أسئلة، وهدفنا هو تقدیم أجوبة على مثل هذه الأسئلة التی تطرح بشكل طبیعی على الشباب، ونسعى جهد امكاننا ان تكون الأجوبة واضحة ومقنعة حتّى نؤدّی جانباً من مسؤولیاتنا ازاء ثقافة عاشوراء. والاجوبة حاضرة عند الكثیر بصورة اجمالیّة لكنها قد تكون غائبة عن بعض الشباب بصورتها التفصیلیّة فی مقام البحث والمناقشة.

مثلاً طرح سؤال یقول: لماذا لابدّ من اقامة العزاء على سید الشهداء؟ ثمّ طرح هذا السؤال: لماذا یركّز المؤمنون اهتمامهم على احیاء ذكرى سیّد الشهداء من بین الأئمة الاطهار(علیهم السلام) فیقام العزاء غالباً على الامام الحسین(علیه السلام)؟ ولماذا تذكر الروایات خصائص معیّنة لسیّد الشهداء(علیه السلام)؟ ولماذا تحتلّ هذه الاهتمامات ومجالس العزاء مكاناً رفیعاً فی الثقافة الشیعیّة؟

قدّمنا فیما مضى بعض الأجوبة فی هذه المجالات.

واذا تعمّقنا فی السؤال أكثر وجدنا أنفسنا أمام سؤال یقول: لماذا لابدّ ان تحدث ظروف على الرغم من انّه لم ینقَضِ زمان طویل على وفاة النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) بحیث یستشهد حفیده المفضّل عنده بتلك الصورة الفاجعة بحیث اذا لم نقل انها لا نظیر لها فانّه یمكن القول انّها قلیلة النظیر. ولعلّ الباحث یستطیع ان یجد بعض ما یشبه أحداث كربلاء فی التاریخ، ولكنّه لا یوجد نظیر فی التاریخ لكلّ هذه المجموعة من

الأحداث والمصائب التی تعاقبت فی كربلاء فی أیّام قلیلة متتالیة. ومن الواضح انّنا لا نحیط علماً بتاریخ كلّ بقاع الارض، لكنّه فی حدود ما سمعناه وما نُقل الینا فانّه لا توجد حادثة اُخرى تتمیّز بكلّ هذه الخصوصیّات.

وعلى كلّ حال فقد كانت القضیة فاجعة كبیرة، حتّى اذا فرضنا انّ كثیراً ممّا تنقله كتب المقاتل وما یقرأه اصحاب العزاء لیس له سند معتبر فان المطّلعین على التاریخ وكتب المقاتل یعلمون انّ كثیراً من تلك الأحداث قد وقعت. فهناك مجموعة من القضایا الیقینیّة الّتی لاشكّ ولا تردید فی وقوعها. وحتّى اذا اقتصرنا على هذه الموارد الیقینیّة فانّها تثبت ان تصرّفات اعداء الامام الحسین(علیه السلام) كانت قاسیة جدّاً لا رحمة فیها وهی بعیدة جدّاً عن الانصاف والانسانیّة وحتّى عن الأخلاق العربیّة، فقد تمیّز العرب من بین الامم بصفات یفتخرون بها ویعتبرونها من الصفات الرفیعة وهی كذلك، ومن جملتها كرم الضیافة فهی من صفات العرب القدیمة ولا تزال لحدّ الآن، وهی صفة ممتازة یتحلّون بها، فاذا حلّ ضیف على عربی ولم یأكل ولم یشرب شیئاً ممّا یقدّمه له صاحب البیت فانّ هذا التصرّف یعتبر بمنزلة اعلان الحرب علیه.

هكذا ینظر العرب الى أهمیّة اكرام الضیف. ومع هذه التقالید فقد وجّهوا دعوة من خلال كتابتهم لإِثنتی عشرة الف رسالة للامام الحسین(علیه السلام) ومن معه ثمّ امتنعوا حتّى عن اعطاء طفل الامام الحسین(علیه السلام) الرضیع الّذی لم یتجاوز عمره ستة اشهر جرعة من الماء بل ذبحوه وهو عطشان.

هل یمكننا ان نجد نظیراً لهذه القسوة فی تاریخ العالم؟!

لماذا حدثت هذه المصائب؟ وكیف أمكن وقوع هذه الحادثة العظیمة بتلك الأحداث التی یصعب تصوّرها وهضمها بحیث لا یصدّق الانسان بسهولة انّها قد وقعت؟

انّ هذا السؤال قد یطرح من ایّ شخص ولاسیّما من الشباب الّذین لا یتمتّعون بخبرة طویلة فی الحیاة، فهم یتساءلون باستغراب: لماذا حدث هذا؟ هل انّ مجموعة كافرة جاءت من خارج الحدود الاسلامیّة لتقترف هذه الجریمة البشعة؟

هل انّ الذین تعاملوا بهذه المعاملة القاسیة مع ابناء رسول الله(صلى الله علیه وآله) كانوا من الكفّار والمشركین ام من الیهود والنصارى؟

انّ التاریخ یرفض هذا ویؤكّد انّهم لم یكونوا من هؤلاء. فمع انّ القرآن الكریم یقول: «أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الْیَهُودَ»(1)

ولكنّ احداً لم یُلصق بالیهود تهمة قتل الامام الحسین(علیه السلام) واصحابه. ولم یزعم أحد انّ قاتلیه(علیه السلام) هم من النصارى أو أتباع زردشت، ولم یقل احد انّهم من المشركین.

كیف أقدم المسلمون أنفسهم على مثل هذه الجریمة الشنعاء وهذا الذنب العظیم؟

انّه سؤال مهم وحیویّ ویحتاج الى جواب واضح ومفصّل.

وللوصول الى مثل هذا الجواب لابدّ ـ على أقلّ تقدیر ـ من استعراض تاریخ صدر الاسلام ـ بعنوان انه مقدّمة للجواب ـ منذ عصر ظهور النبی(صلى الله علیه وآله) ثم عصر الخلفاء. ولكی یكون الجواب واضحاً ومقنعاً لابدّ ان نقوم بدراسة ذلك التاریخ بصورة تحلیلیّة، الاّ انّ القیام بهذه الدراسة التحلیلیّة لیس من مجالات تخصّصی العلمیّ ولا هو مناسب لهذا المجال المحدود. اذن سوف نقوم بمرور اجمالیّ على ذلك التاریخ طالبین من الراغبین فی التوسّع ان ینهضوا بالتحقیق فی هذا المضمار.

 

السوابق التاریخیّة لواقعة عاشوراء:


1. سورة المائدة، الآیة 82.

فی زمان حیاة النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) كان یعیش بین المسلمین بعض من لم یعتقد بالاسلام ولكنّه أسلم مُكرهاً وتظاهر بالاسلام لأغراض معیّنة. وقد أكّدت هذا الموضوعَ آیاتٌ من القرآن الكریم، وقد نزلت سورة كریمة اسمها «المنافقون»، وقد جرى الحدیث فی الاسلام ـ فی موارد متعدّدة ـ عن المنافقین وهم الذین یظهرون الایمان ولكنّهم فی الحقیقة كاذبون، وحتّى انّهم یُقسمون على اظهارهم الایمان، یقول تعالى: «إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَ اللّهُ یَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّهُ یَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِینَ لَكاذِبُونَ»(1).

وهناك آیات كثیرة تشیر الى وجود هذه الفئة بین المسلمین وتؤكّد انّ هؤلاء لم یؤمنوا بصورة واقعیّة. واحیاناً یعدّ القرآن الكریم حتّى اصحاب الایمان الضعیف والمتزلزل من جملة المنافقین، فیقول مثلاً فی وصفهم: «... وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى یُراؤُنَ النّاسَ وَ لا یَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِیلاً»(2).

فهم یؤدّون الصلاة فی المسجد ولكن من دون رغبة أو ریاءً ولا تكون صلاتهم ذكراً لله.

وهناك شواهد عدیدة فی القرآن الكریم تدلّ على انّ ضعفاء الایمان ومن لم یصل ایمانهم الى حدّ النصاب معدودون من جملة المنافقین. ومن الواضح انّنا الآن لسنا بصدد تعیین مصادیق هذه الآیات الكریمة. بعض هؤلاء قد اسلم بعد فتح مكّة وقد مسح الرسول الأكرم(صلى الله علیه وآله) على رؤوسهم بید الرأفة والشفقة على الرغم من كل ما أبدوه من عداوة واحقاد، واسماهم النبی(صلى الله علیه وآله) بـ «الطلقاء» ای الذین اطلق سراحهم، ومن جملتهم كثیر من بنی اُمیّة. وقد عاش هؤلاء فیما بعدُ بین المسلمین وعاشروهم وتزاوجوا معهم. إلاّ انّ كثیراً منهم لم یُوفّق للایمان الواقعیّ. ولم یقتصر امرهم على


1. سورة المنافقین، الآیة 1.

2. سورة النساء، الآیة 142.

هذا بل كانوا یحسدون النبی الاكرم(صلى الله علیه وآله)، یقول تعالى: «أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ»(1). وقد كان بعض هؤلاء من قریش ولست احبّ ان اذكر أسماءهم، وعندما كان یُذكر اسم النبی(صلى الله علیه وآله) فی الأذان فانّهم یشعرون بالألم. كانت هناك عشیرتان فی قریش وهم ابناء عمومة، وكانوا یقولون عن النبی(صلى الله علیه وآله): انظروا الى ابن العم هذا، كان طفلاً یتیماً ونشأ فی عائلة فقیرة لكنّه قد لمع نجمه بحیث اصبح اسمه یذكر الى جانب اسم الله! ولهذا فهم یشعرون بالألم من اعماق قلوبهم.

وعلى أیّة حال فقد نال بعضهم مناصبَ رفیعة فی المجتمع الاسلامىّ خلال خمسة وعشرین عاماً بعد وفاة النبی(صلى الله علیه وآله) حتى وصل الدور الى حكومة الامام امیرالمؤمنین علی بن ابی طالب(علیه السلام).

وأنتم تعلمون انّ معاویة بن ابی سفیان قد عیّنه الخلیفة الثانی عمر بن الخطاب والیاً من قِبله على الشام، ثم ثُبّت فی منصبه هذا اثناء خلافة الخلیفة الثالث عثمان بن عفان. وقد جرى كل هذا قبل ان تصل الحكومة الظاهریّة الى الامام امیرالمؤمنین علی(علیه السلام).

وبما ان لمعاویة قرابةً مع الخلیفة الثالث فقد اُطلقت یده اكثر فی الحكم اثناء خلافة الخلیفة الثالث. ومن هنا فقد اعدّ معاویة لنفسه جهازاً ضخماً للحكم فی الشام. ومن المعروف ان الشام بعیدة عن المدینة وتُعتبر جزءاً من المنطقة الواقعة تحت نفوذ دولة الروم. وكان سكّان الشام حدیثی العهد بالاسلام، وكانوا على اتّصال اشدّ واقوى مع اهل الروم، والعلاقات بینهم حمیمة. ولم یتوفّر لأهل الشام ـ حینذاك ـ ان یطّلعوا على المعارف الاسلامیّة بصورة صحیحة وكاملة، لبُعد منطقتهم جغرافیاً عن مركز انطلاقة الاسلام، ولتسلّط حاكم علیهم خلال عشرات السنین،


1. سورة النساء، الآیة 54.

وهذا الحاكم غیر راغب فی ان یتعلّم هؤلاء الاسلام بشكل جیّد. انّه كان یرید ان یترأّس علیهم وان یشیّد سلطنة، ولا یهمّه بعد ذلك آمن الناس بالاسلام ام لم یؤمنوا.

واستمرّ هذا الوضع حتى سُلّمت الخلافة الظاهریّة للامام امیرالمؤمنین علی(علیه السلام)بعد مقتل الخلیفة الثالث عثمان بن عفان. وهنا قام معاویة بالتمرّد على الحكومة الشرعیّة للامام علی(علیه السلام) بذریعة انّ علیاً(علیه السلام) هو قاتل عثمان، وقرّر القیام بمحاربة الامام(علیه السلام).

انّنی ابیّن هنا خلاصة ما جرى، واشیر فقط الى النقاط المهمّة فی التاریخ.

وقد أمضى معاویة مدّة فی محاربة امیرالمؤمنین على(علیه السلام) حتّى استطاع بالتالی ان ینهى حرب صفین لصالحه وضدّ الامام علی(علیه السلام)، وذلك من خلال مساعدة عمرو بن العاص وبعض اقاربه واصدقائه وشخصیّات قریش قبل الاسلام، وبالتآمر والتخطیط ومساعدة الخوارج ایضاً.

وفی حرب صفّین طُرحت مسألة التحكیم التی أثمرتْ اعطاء الخلافة لمعاویة، وبالتالی فقد استُشهد امیرالمؤمنین علی(علیه السلام) بید الخوارج.

وبعد الامام علی(علیه السلام) جاء دور الامام الحسن(علیه السلام)، وقد استمرّ الامام الحسن(علیه السلام)لفترة قصیرة فی النضال والجهاد الذی بدأه ابوه الامام علی(علیه السلام). ولكنّه بعد فترة استغلّ معاویة الأجواء السائدة آنذاك وفعل فعلاً اضطرّ فیه الامام الحسن(علیه السلام)للموافقة على الصلح. وبهذا نقترب الى الوقائع الحاسمة. ویأخذ معاویة بوضع الخطط الماهرة جدّاً. واذا اردنا ان نبیّن ونسمّی بعض السیاسیین لتلك المرحلة والمراحل التی سبقتها ممّن كانت افكارهم مؤثّرة فی الطبقة المتوسطة من الناس، وكانوا نوابغ فی السیاسة الشیطانیّة، فانّه لابدّ ان نعدّ معاویة فی طلیعة الزعماء المتبنّین للسیاسة الشیطانیّة.

ومن الواضح انّنا نقوم هنا بدراسة تحلیلیّة، وأمّا اذا أردنا اثبات هذا الموضوع

بالتفصیل من الناحیة التاریخیّة فانّه یستلزم دراسة الوثائق التاریخیّة. لكنّ الدراسة التحلیلیّة تثبت انّ معاویة قد انتهى الى هذه النتیجة وهی انّه لابد ان یستغلّ تلك الظروف الموجودة لصالح حكومته وللتوسّع فی بسط سلطانه. وصحیح انّه یطلق على حكومته اسم «الخلافة» ولكنّها ـ فی حقیقة الأمر ـ كانت سلطنة ملكیّة مثل ما كان موجوداً آنذاك فی منطقتی الروم وفارس. فقد كان من طموحهم ان یصبحوا مثل كسرى وقیصر، وان یحقّقوا سلطنة مثلهم.

وقد وجد هؤلاء أرضیّة صالحة فی المجتمع آنذاك وقد استغلّوها لإیجاد حكومتهم واستمرارها.

 

الأرضیّة الاجتماعیّة لانحراف المجتمع:

1 ـ المستوى الثقافی للمجتمع: انّ أوّل ارضیّة هی المستوى الثقافیّ المنخفض للناس. صحیح انّه قد مرّت عقود متعدّدة على ظهور الاسلام وانتشاره، لكنّ الرقیّ الثقافىّ لیس امراً یسیراً بحیث یمتدّ بهذه السرعة من المدینة الى أقصى نقاط الشام وینفذ فی أذهان الناس هناك. انّ تربیة الناس على أساس الثقافة الاسلامیّة ورفع مستوى وعیهم لیس شیئاً یحصل بهذه السهولة. ولاسیّما اذا كانت حكومة المنطقة بید شخص مثل معاویة.

وعلى كلّ حال فانّ الارضیّة التی ساعدت معاویة فی تحقیق أهدافه وكان یحسب لها الحساب هی انخفاض المستوى الثقافىّ للمجتمع هناك.

2 ـ روحیّة الارتباطات القبَلیّة: وهناك ارضیّة اخرى استغلّها معاویة وهی روحیّة التمسّك بالعلاقات القبَلیة. فالوضع الثقافی كان یفرض فی حالة اقدام رئیس القبیلة على عمل ان یقتفی اثرَه جمیعُ أفراد القبیلة أو اكثرهم على أقلّ تقدیر. وهناك أمثلة كثیرة تثبت هذا الأمر فی الجانب الایجابىّ وفی الجانب السلبىّ منه. فاذا آمن

رئیس قبیلة بالنبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) فانّ سائر أفراد قبیلته سوف یدخلون الاسلام بیسر وسهولة ومن دون مقاومة، واذا ارتدّ رئیس قبیلة عن الاسلام ـ كما حدث ذلك بعد وفاة النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) ـ فانّ اعضاء قبیلته سوف یرتدّون عن الاسلام بلا عناء مقتفین اثره.

ان تبعیّة أفراد القبیلة لرئیسهم كانت ارضیّة یحسب معاویة لها حسابها وقد استغلّها الى أبعد مدى.

3 ـ ضعف الایمان: وهناك ارضیّة اخرى ساعدت معاویة وهی ضعف ایمان الناس، ولاسیّما فی منطقة الشام حیث كان أهلها یفتقرون الى المربّین الدینیّین، فقد كان ضعف الایمان هناك بارزاً اكثر. وحتّى فی نفس المدینة حیث نال الناس التربیة الاسلامیّة تحت اشراف النبی الاكرم(صلى الله علیه وآله) فانّه لم تمض فترة طویلة على وفاة النبی(صلى الله علیه وآله) حتّى نسی الناس واقعة الغدیر، فضلاً عن سكّان الشام، فقد سجّل التاریخ لهم فی ذلك الزمان قصصاً عجیبة فی الجهل وعدم الوعی.

كانت هذه ألواناً من الأرضیّة استغلّها معاویّة لصالحه:

وهی جهل الناس، وانخفاض مستواهم الثقافیّ، وسیطرة روح القبیلة علیهم.

 

عوامل انحراف المجتمع:

هناك عوامل ثلاثة استغلّها معاویة للعمل والنشاط فی تلك الأنواع الثلاثة من الارضیّة.

ومن الواضح انّ استغلال هذه العوامل الثلاثة لیس امراً جدیداً، إلا انّ معاویّة قد حقّق نجاحاً باهراً فی تشخیصها واستغلالها الى ابعد حدّ ممكن. وعادةً فانّ جمیع السیاسیین فی العالم منذ اقدم العصور وحتى العصر الحدیث یستغلّون هذه العوامل الثلاثة.

1 ـ الإعلام: العامل الأوّل هو الإعلام، حیث یبذل السیاسیون جمیعاً غایة جهدهم لتغییر افكار الناس بواسطة الإعلام ودفعهم نحو الجهة الّتی یریدونها. وبما انّ الثقافات والمجتمعات مختلفة فانّ استغلال عامل الاعلام یختلف ایضاً. ففی ذلك العصر لم یكن مطروحاً فی اعلام المجتمع الاسلامی موضوع حقوق الانسان او التّعددیة او ما شابه ذلك، فلم یكن أحد فی المجتمع الاسلامیّ یلتفت الى ذلك، لانّ الاسلام كان هو الحاكم، ولانّ الناس كانوا معتقدین بالله تعالى وبالنبی(صلى الله علیه وآله)، ولم یكن هناك أحد یهتمّ بالقراءات المتنوّعة للدین، وما شابه ذلك ممّا نلاحظه الیوم فی مجتمعنا. لكنّه كانت هناك امور اخرى یمكن استغلالها فی مجال الإعلام.

ومن جملة وسائل الاعلام التی كانت مستغلّة فی ذلك الزمان هو الفنّ والأدب ولاسیّما الشعر. فقد كانت للشعر مكانة رفیعة ومهمّة بین العرب فی ذلك العصر. والكلّ یعلم انّ معاویّة كان یبذل غایة جهده لاستغلال الشعراء المعروفین والبارزین حتّى ینظموا الشعر فی مدحه وذمّ معارضیه، ویحاول بمختلف الوسائل ان ینشر ذلك الشعر بین الناس. ولعلّ من أبرز هؤلاء الشعراء هو الأخطل النصرانی، فقد كان شاعراً مجیداً، وقد ربّى تلامذة فی هذا المضمار.

أمّا بین المتمسّكین بالاسلام أكثر فقد كان القرآن والحدیث هو مورد اهتمامهم. ولهذا سعى معاویة للترغیب فی وضع الحدیث. ومن جملة الوضّاعین للحدیث ابوهریرة، وقد اعترف بهذا جماعة من علماء السنّة انفسهم وكتبوا كتباً لإثبات ذلك. كان یجعل احادیث عجیبة ثم ینسبها الى النبی(صلى الله علیه وآله). وكان الناس البسطاء یصدّقون بذلك وتنطلی علیهم الحیلة. وكذا الأمر فیمن كان یطلق علیهم اسم «القرّاء». وقد كانت للقارئ مكانة رفیعة فی ذلك الزمان. والقراءة لا تعنی فقط انه یقرأ القرآن الكریم بالتجوید واللحن الجمیل، وانّما كان علماء الدین الكبار یطلق علیهم ایضاً اسم القرّاء، فهم الذین یقرأون القرآن بشكل جید ویفسّرونه ویبیّنون مفاهیمه، وفی

أغلب الأحیان یكونون حافظین له عن ظهر غیب.

وقد ركّز معاویة بالخصوص على هذه الطوائف الثلاث: القرّاء والشعراء والمحدّثین واستغلّهم فی تشیید جهاز إعلامىّ ضخم منسجم لصالحه.

2 ـ الترغیب: كان معاویة یخدع كثیراً من الناس بواسطة الشعر والحدیث والقرآن، لكنّ جمیع الناس لم یكونوا واقعین تحت تأثیر هذه الألوان من وسائل الاعلام. ولهذا كان یخدع رؤساء القبائل عن طریق التطمیع والترغیب فكان یغریهم بالمناصب والهدایا والجوائز الثمینة وآلاف الدنانیر من الذهب لیستمیلهم نحوه. ونحن ننظر الیوم الى قطعة صغیرة من الذهب فنراها ثمینة، فكیف اذا كان العطاء الف دینار من الذهب أو ملیون دینار من الذهب؟! ویقال انّ هذه الأرقام سهلة عندهم. وعندما كان یرسل الكمیّات الضخمة من الذهب الى زعیم قبیلة فانّ القلیل جداً كان یستطیع المقاومة ولا یخضع لهذا الاغراء. واستغلّ معاویة هذه الوسیلة فی شراء ذمم رؤساء القبائل.

3 ـ التهدید: وبالتالی فانّه كان یخضع سائر الناس فی المجتمع بواسطة التهدید. فكل من تحدّثه نفسه بالعصیان وینتقد معاویة أو یذمّه فانّه كان یُحضَر فوراً ویُضرب ویُسجن وبالتالی یُقتل.

لقد استغلّ معاویة هذه العوامل الثلاثة وهی «الإعلام» بواسطة الشعراء والمحدّثین والقرّاء، وعامل «الترغیب» بالنسبة الى رؤساء القبائل والشخصیّات الاجتماعیّة المؤثّرة، وعامل «التهدید» بالنسبة الى سائر الناس، ووجّه هذه الوسائل جمیعاً لیسوق المجتمع نحو أهدافه الشیطانیّة ویدفع به نحو الانحراف.

لقد صاغ معاویة المجتمع الشامیّ بواسطة تلك العوامل الثلاثة وفی ظل تلك الألوان من الأرضیّة التی أشرنا الیها، وصبغه بالصبغة الّتی أحبّها وأدار شؤونه بالشكل الذی یرید.

فماذا كانت نتائج فعل معاویة؟ وكیف تربّى الناس فی ظلّ سلطته؟ نحن لا نملك الفرصة الكافیة هنا لنبیّن هذا الموضوع بالتفصیل، لكنّنا نقول انّ معاویة قد صاغ المجتمع الذی یطمح الیه بعد استشهاد الامام امیرالمؤمنین علی(علیه السلام) وخلال فترة وجیزة من زمان الامام الحسن(علیه السلام) ای ما یقرب من عشرین عاماً (من عام اربعین الى عام ستین للهجرة تقریباً).

وقبل استشهاد الامام علی(علیه السلام) كان معاویة یحكم الشام ما یقرب من عشرین سنة اخرى منذ زمان عمر بن الخطّاب وحتّى استشهاد الامام علی(علیه السلام)، وخلال هذه الفترة قد اعدّ الأرضیّة لما یصبو الیه ایضاً. لقد كان یتمتّع بتجربة كافیة، وقد عرف الناس وجرّبهم، ثمّ بالتالی وضع هذه الخطة ونفّذها مستعیناً بتلك العوامل الثلاثة.

وفی الأعوام الأخیرة من عمر معاویة كتب وصیّته. كان راغباً جدّاً ان تبقى هذه السلطنة فی عائلته. وكان یحبّ ان یخلفه یزید فی الزعامة، ولكنّه كان یعلم جیّداً بعدم كفاءة یزید للرئاسة. وقد بذل غایة جهده لكی یربّیه بواسطة أفراد محنّكین وانتدب اناساً للاشراف علیه. وقد ترك معاویة لیزید وصیّة ایضاً. وحسب ما نقل فانّ معاویة یوجّه الخطاب الى یزید فی تلك الوصیة قائلاً: لقد اعددت الأرضیّة لسلطنتك بشكل لم یفعله والد آخر لولده، فالحكم معدّ لك بشرط ان تراعی عدّة اشیاء: أوّلاً أوصاه بعدّة امور تتعلّق بسكّان المدینة والحجاز. وامّا سكّان العراق فانّهم یحبّون تغییر حاكمهم باستمرار، فلو طلبوا منك فی كل یوم ان تغیّر حاكمهم فافعل ذلك فان افضل من ان یُصلت علیك مائة الف سیف، واكّد علیه باحترام سكّان الحجاز، لانّهم یرون انفسهم المتولّین الأصلیّین للاسلام، فاذا جاءوك فأكرم وفادتهم، وقدّم لهم الجوائز، وان لم یأتوك فابعث الیهم من یمثّلك لیتفقّد أحوالهم ویطیّب خواطرهم. وبعد هذه النصائح یقول له: هناك عدّة أشخاص لا یخضعون لك بسهولة وهم: ابن ابی بكر، وابن عمر، وابن الزبیر، وبالتالی ابن علی(علیه السلام). ثلاثة منهم

هم من ابناء الخلفاء، والرابع (وهو ابن الزبیر) كان أبوه متصدّیاً للخلافة وهو أحد الستّة اصحاب الشورى المكلفین باختیار الخلیفة. لابدّ لك من الاهتمام بشأن هؤلاء الأربعة. ویبیّن معاویة لیزید كیف یتصرّف مع كل واحد من هؤلاء حتّى یصل الى الامام الحسین(علیه السلام) فیقول: لا تصطدم بالحسین! وابذل غایة وسعك لتحصل منه على البیعة، فان لم یبایع وقاتلك ثمّ انتصرت علیه فتعامل معه بالرحمة والشفقة. فلیس من مصلحتك الاصطدام بالحسین. وحتّى اذا انجرّ الصراع بینكما الى الحرب، وحقّقت نصراً فی الحرب، فلا تتعامل مع الحسین بالقسوة لانّه ابن رسول الله(صلى الله علیه وآله)، وله مكانة رفیعة عند الناس، وشخصیته تختلف عن الآخرین.

هكذا ینصح معاویة ابنه، ولكنه لم یحصل شیء من هذا، فبمجرّد أن وصل یزید الى الخلافة ـ كما ینقل التاریخ ـ فقد أصدر امره الى حاكم المدینة ان یأخذ له البیعة من عدّة اشخاص، فان امتنعوا عن البیعة فاقطع رؤوسهم. ولا ارید ان اخوض فی التفاصیل، فقد سمعتموها مرّات كثیرة، ولعلّ الشباب لم تتكرّر علیهم، وعلى أیّة حال فلست احبّ أن اطیل فی نقل التاریخ، وكلّ ما أهدف الیه هو انّ اقدم تحلیلاً للقارئ الكریم لیعرف كیف انسحب الناس بهذه السهولة وفی هذه المدّة القصیرة من الاسلام وأقدموا على قتل سبط نبیهم، ولم یكن شخصاً عادیّاً وانّما هو عزیز المؤمنین ومحبوبهم، اذا رأوا ظاهره عشقوا جماله، واذا تعاملوا معه عشقوا أخلاقه، واذا طلب منه شخص شیئاً فانّه كان یلبّی له طلبه من دون ان تلتقی نظرات السائل بعینی المسؤول حتّى لا یصاب بالاحراج والخجل. مثل هذا الانسان العظیم قتلوه بتلك الوحشیّة وذلك الوضع الفاجع. لماذا لابدّ ان یحدث مثل هذا؟

كان قصدنا من بیان هذه المقدمة هو ان تنظروا الى ثقافة ذلك المجتمع كیف كانت؟ وكیف یتصرّف الناس؟ والمؤمنون الواقعیّون الذین نفذ الایمان فی أعماق قلوبهم لم یكونوا قلیلین فی ذلك الزمان فحسب، وانّما هم دائماً قلیلون، وسیبقى

الأمر على هذا المنوال فی المستقبل أیضاً. وحُنكة القائد فی المجتمع تتمثّل فی ان یوجّه فكر وعقیدة الناس المتوسّطین وإلاّ فانّه من غیر الممكن عملیّاً ان یرفع هؤلاء جمیعاً إلى المستویات العالیة جدّاً. القائد المحنّك هو الذی یبذل جهده لیوجّه أفكار الناس المتوسّطین ولو قلیلاً وبصورة تدریجیّة نحو الخیر بحیث یقتربون الى الحقّ یوماً بعد یوم. وامّا المؤمنون اصحاب الكمال الذین لا تغیّرهم الظروف ولا تؤثّر فیهم المغریات فهم قلّة جداً، وحتّى فی ذلك الزمان كانوا قلیلین جداً. وقد استغلّ معاویة الضعف الثقافیّ وضعف الایمان وضعف المعرفة ونجح فی دفع الناس الى الجهة التی یریدها مستعیناً بالعوامل الثلاثة: الإعلام والترغیب والتهدید.

ولو حاول الامام الحسین(علیه السلام) او الامام الحسن(علیه السلام) أو أیّ امام آخر ان یقاوم معاویة ویواجهه فی تلك الظروف لتعرّض للاغتیال السرّی، ثمّ تنشط بعد ذلك أجهزة الاعلام، بالشعر الذی ینشدونه وبالأحادیث التی یجعلونها، لتُمطر المعارضین بألوان التهم والافتراءات ویشیعونها بین الناس، ویقوم وعّاظ السلاطین وعلماء السوء بدورهم فی تضلیل الناس. وقد كان هذا دورهم فی جمیع المجتمعات وكلّ الأزمنة ولاسیّما فی مجتمع دینی تتّجه فیه العیون الى أفواه علماء الدین.

والقرآن الكریم یؤكّد على انّ ایّ فساد او اختلاف قد وقع فی ایّ دین فهو یعود الى علماء السوء هؤلاء الذین باعوا انفسهم للشیطان:

«فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ»(1).

انّ اساس الفساد وایجاد الاختلاف والفوضى والانحراف والفتنة هو بید الذین یعرفون الطریق، انّهم لصوص یحملون المصابیح. والحكّام الطغاة مثل معاویة قد


1. سورة الجاثیة، الآیة 17.

شخّصوا مثل هؤلاء الأفراد واستعملوا معهم اسلوب التطمیع واشتروا ضمائرهم بالأموال.

واذا شعر واحد من هؤلاء العلماء بغیرة دینیّة فانه یُعزل من الساحة الاجتماعیّة بتهدیده بالقتل أو غیره. وقد جرى ذلك مع كبار اصحاب امیرالمؤمنین علی(علیه السلام)حیث تمّ اغتیالهم واحداً بعد آخر أو أنّهم صلبوا بأعذار واهیة. حجر بن عدی ومیثم التمّار وامثالهما ممّن كانوا راسخین فی ایمانهم ولم تؤثّر فیهم تلك العوامل فانّ نهایتهم كانت القتل والإعدام. وقد تمّ قتلهم تارة بصورة رسمیّة علنیّة وتارة اخرى بصورة اغتیال غیر رسمی.

فالذی دفع الناس للانحراف عن احكام الاسلام ـ وحتّى انهم تخلّوا عن عواطفهم الدینیّة وعاداتهم القومیّة واخلاقهم العشائریة وحبهم لاكرام الضیف ـ هو هذه العوامل الثلاثة التی استغلّها معاویة الى أبعد الحدود.

وفی جمیع الأزمان تؤدّی هذه العوامل الثلاثة الى الفساد والفتنة والانحراف. هكذا كان الأمر فی الماضی وسیبقى فی المستقبل.

واذا أردنا ان نكتسب درساً من عاشوراء فلنأخذ هذا الدرس ونتأمّل كیف أقدم الناس على مثل هذا التعامل القبیح مع الامام الحسین(علیه السلام) الذی طالما رأوه فی حضن النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله)، وقد شاهدوا الحسین مراراً یأتی الى النبی الاكرم(صلى الله علیه وآله) وهو یخطب على المنبر فاذا اقترب الحسین(علیه السلام) الى المنبر فان النبی(صلى الله علیه وآله)ینزل من درجات المنبر ویحتضن الحسین(علیه السلام) ویهدّئ من روعه لانّ النبی(صلى الله علیه وآله) لا یستطیع ان یتحمّل بكاء الحسین(علیه السلام). هكذا كان یوصی الناس عملیّاً برعایة الحسین(علیه السلام)، ولكنّ هؤلاء الناس فعلوا بالحسین تلك الجرائم المخزیة.

 

التشابه بین مجتمعنا والمجتمع الذی عاش فیه الامام الحسین(علیه السلام):

وكذا الأمر فی الوقت الراهن فكلّ من یخطّط لدفع المجتمع الاسلامىّ فی مسیر منحرف فانّه لیس أمامه سوى الوسائل الثلاث وهی عامل الاعلام والترغیب والتهدید. لا ینبغی ان یتصوّر احد انّ من یرید القضاء على حكومة الثورة الاسلامیّة فی ایران لابدّ ان یأتی من اقصى العالم، وانّما یوجد منافقون فی أعماق المجتمع الایرانىّ، وهم یقومون بنفس الدور الذی قام به المنافقون فی صدر الاسلام مع الحسین(علیه السلام). فی ذلك العصر. ما كانت هناك حاجة لیأتی اناس من الروم او ایران او الصین وانّما ابناء عمّ الحسین(علیه السلام) نفسه نهضوا بالمهمّة. ولست اقصد أبناء عمه المباشرین ومن دون واسطة، وانّما أقصد من ابناء العشائر المتعلّقة بقریش. فبنو امیّة وبنو هاشم ابناء عمومة. وفی المجتمع المعاصر تأتی المساعدات الأجنبیّة لتضیف مصیبة الى مصیبة الخیانة الداخلیّة. لكنّ الدور المباشر تنهض به العناصر الداخلیّة. فلا یخطر فی بال أحد انّهم اذا أرادوا لمسیرة الثورة الاسلامیّة فی ایران ان تنحرف فانّ امریكا مضطرّة للتدخّل بصورة مباشرة، وانّما أمام امریكا خِیار آخر أسهل وأفضل، حیث تبذل جهدها لتتعرّف على العناصر الداخلیّة المناصرة لها فتدعمهم اعلامیّاً وتسخو لهم بالدعم المالیّ واحیاناً أشیاء اخرى كاثارة الفتن والاضطرابات والاغتیالات. وصحیح انّ كثیراً من موارد الاغتیالات التی جرت فی الجمهوریة الاسلامیّة الایرانیّة قد تمّت بأیدی المنافقین من اعضاء منظمة مجاهدی الشعب، لكنّ هؤلاء المنافقین لا یحملون الجنسیّة الامریكیّة، وانما جاءوا من هذا المجتمع الایرانی، وكثیر منهم قد بدأ نشاطه على أساس الدفاع عن الاسلام. فهذا الملحد الذی یهاجم الاسلام الیوم ویهاجم الامام الخمینی(قدس سره) فی مقابلة صحفیّة نشرت له فی خارج البلد قد نشأ وترعرع فی المجتمع الاسلامی ولعلّه فی یوم مّا كان یعیش فی هذا المجتمع بعنوان كونه احد حرّاس الامام الخمینی(رحمه الله)، والیوم ینكر الاسلام

ویقول ان الامام الخمینی(رحمه الله) لابدّ ان یجعل فی متحف التاریخ(1)، انّ مثل هذا الشخص لم یكن من المحتَّم ان یأتی من امریكا. لكنّ مثل هؤلاء الأفراد الذین امضوا جانباً من عمرهم فی هذا المجتمع بعنوان كونهم حرّاساً للامام الخمینی(رحمه الله)صاروا أیادی لأمریكا. ألا تلاحظون تصریحات وزیر الخارجیة الأمریكیّة او سائر الشخصیّات الأجنبیّة تبدی سرورها لانتشار الدیمقراطیّة ـ كما یزعمون ـ فی ایران، حیث أصبحت المطبوعات حرّة تكتب ما تشاء؟

اذا كان الأعداء قد عقدوا الأمل بالعودة الى ایران مرّة اخرى لیبسطوا سلطتهم الشیطانیّة من جدید فذلك اعتماداً منهم على مثل هذه الانحرافات التی ظهرت من أمثال هؤلاء هنا وهناك.

ومع الأسف الشدید فقد تغلغل بعض هؤلاء الى الأجهزة الحكومیّة.

واذا كان الامام الحسین(علیه السلام) «مصباح هدى» یعكس نور الهدایة فی قلوب الناس فیضیء لهم السبیل، فانّه فی هذا الزمان ایضاً لابد لنا ان ننتفع بنور الحسین(علیه السلام).

ان الطریق الذی سلكه اعداء الاسلام فی الماضی وحرّفوا فیه الاسلام ومسخوه وانتهى بهم الأمر الى قتل الحسین(علیه السلام)، یحاول اعداء الاسلام الیوم ان یسلكوا نفس ذلك الطریق ویضعوا العراقیل فی طریق حسین زماننا لیمنعوه من مواصلة مسیرته. وهم یستخدمون الیوم نفس العوامل ویستغلّون نفس الوسائل، فالسبل العامّة هی نفسها: الاعلام والترغیب والتهدید. وكلّما أجهدتُ نفسی فی التفكیر لأجد عاملاً رابعاً فانی لم اظفر به. نعم الأرضیّة مختلفة، فلعلّهم یستغلّون ألوانا أخرى من الأرضیّه، لكن العوامل هی نفسها تلك العوامل الثلاثة.


1. لیرجع من احب الى صحیفة «كیهان»، العدد المؤرخ 1379/01/24هـ .ش، حیث یوجد فیه تقریر للمقابلة الصحفیّة التی اجراها اكبر گنجی مع المجلة الالمانیة (تاكس اشبیجل).

لاحظوا الیوم ماذا یفعل أعداء الاسلام بالنسبة الى الاسلام، أهم یقصّرون فی مجال الإعلام؟ أیّة تهمة لم یلصقوها به، وایّ افتراء لم یفتروه علیه؟ وفی كثیر من هذه الصحف التی تُطبع وتُنشر فی داخل ایران وتُؤمَّن میزانیاتها من بیت مال المسلمین تَطبع وتَنشر هذه التهم والافتراءات وتُوزّع بأعداد كثیرة، ویتأثّر بها كثیر من الشباب. هل تتصوّرون انّ ذنب هؤلاء الأشخاص اقلّ من ذنب من أقدم على قتل سید الشهداء(علیه السلام)؟ ماذا ینقص هؤلاء عن اولئك؟

أیكون ذنب هؤلاء أهون من ذنب معاویة واصحابه وانصاره؟

أیكون ذنب من یدافع عن هؤلاء باسم الدین اقلّ من ذنب ابی هریرة وامثاله؟ انّه بمقدار ما اتّسع فیه الاسلام فی العالم الیوم وسوف یتّسع اكثر یكون ذنبهم اكبر أیضاً. الذین یعملون الصالحات یكون ثوابهم أكبر، والخائنون یكون ذنبهم اعظم. لانّ مجال ذلك العمل الصالح وهذه الخیانة أوسع وأشمل.

فی ذلك الزمان الذی كان فیه معاویة متسلّطاً فقد تسلّط على اُناس أغلبهم لا یمیّز بین الذكر والانثى من الحیوانات، حیث یصلّی الخلیفة صلاة الجمعة فی یوم الأربعاء ولا یعترض علیه أحد، وفی احدى المرّات جاء أحد الخلفاء الامویّین الى صلاة الصبح وهو سكران فأمّ الناس وصلّى اربع ركعات بعنوان كونها صلاة الصبح، ولمّا قیل له انّ صلاة الصبح ركعتان، أجابهم بانّی الیوم فرح مسرور وان شئتم لزدتكم اكثر!

فی ذلك العصر كان یحكم أعداء الاسلام على مثل هؤلاء الناس، امّا الیوم فان خداع الشباب الذین ترعرعوا فی ظل الثورة الاسلامیّة غیر میسور بهذه السهولة، ولكنّ حیل الاعداء قد اصبحت اكثر تعقیداً واشدّ خفاءً.

وهناك ملاحظة جدیرة بالاهتمام: تأمّلوا فی تاریخ الجاهلیة قبل بعثة النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) هل یمكنكم أن تجدوا بین الاُمّة العربیة شخصاً أقسى قلباً من حرملة؟

انّه الشخص الذی ذبح طفل الامام الحسین(علیه السلام) الذی لم یتجاوز عمره ستة اشهر وكان یمرّ بحالة احتضار ویقضی آخر لحظات حیاته، ذبحه بسهم مسموم وجهّه الى رقبته. هل یمكنكم ان تجدوا حیواناً أحقر من هذا؟ هل وجد قبل الاسلام شخص بهذه الدناءة؟ أنا لا اتصوّر وجود شخص بهذه الدرجة من القسوة من بین جمیع المتوحّشین الذین عاشوا قبل الاسلام. ولكنّه بعد ظهور الاسلام وانتشاره ظهر شیاطین مثل یزید وحرملة والشمر بكلّ ما یتمیّزون به من قسوة للوقوف فی وجه الاسلام.

هناك ملاحظات عجیبة یشیر الیها القرآن الكریم، ومن جملتها انّ القرآن عندما ینزل فانّه یكون سبباً لهدایة المؤمنین، امّا بالنسبة للظالمین المصرّین على الفساد والانحراف والكفر فانّه یزیدهم فی نفس الاتّجاه الذی اختاروه لأنفسهم، یقول تعالى:

«وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِینَ وَ لا یَزِیدُ الظّالِمِینَ إِلاّ خَساراً»(1).

انّ النتائج المترتّبة على نزول المطر هی انّه فی مزرعة الزهور تنمو الورود الجمیلة والعطرة، أما فی الأراضی التی فیها اشجار مسمومة فان السمّ ینتشر اكثر بواسطة نفس ذلك المطر.

وفی المجتمع الاسلامیّ یترعرع وینضج أمثال سلمان وابی ذر وعمّار ومیثم التمّار وسعید بن جبیر، ویظهر فیه أیضاً من یقول للامام الحسین(علیه السلام) فی لیلة عاشوراء: لو قتلنا تحت رایتك سبعین مرّة ثمّ اُحیینا لتمنّینا ان نستشهد معك مرّة اخرى.

هذا من جهة، ومن جهة اُخرى نلاحظ ایضاً نموّ تلك القسوة وانعدام الرحمة


1. سورة الاسراء، الآیة 82.

فیمن وقفوا فی وجه الامام الحسین(علیه السلام). من یتنكّر للهدایة الالهیّة ویشیح بوجهه عن رحمة الله فانّ شقاءه یزداد وقسوته تشتّد.

وكذا الأمر فی الثورة الاسلامیّة الایرانیّة فهی من ناحیة قد ربّت زهوراً قلیلة النظیر طیلة التاریخ الاسلامیّ. اتذكّر عندما بدأت دراساتی الدینیّة وانتمیت الى سلك علماء الدین فقد تعرّفت ـ الى حدّ مّا ـ على تاریخ الاسلام، ومن اهمّ القضایا التاریخیّة التی تركت فی نفسی اعظم الأثر وحملتنی على الاعجاب هی قصّة حنظلة غسیل الملائكة، فقد عاش هذا الشاب (حنظلة) فی صدر الاسلام ثم تزوّج، وفی الیوم الذی اعقب لیلة زفافه شارك فی غزوة اُحد، وقد اشترك فی القتال قبل ان یجد الفرصة للقیام بغسل الجنابة من اللیلة الماضیة، ثم سرعان ما نال الشهادة فی سبیل الله، فقال الرسول الأكرم(صلى الله علیه وآله): انی ارى الملائكة قد جاءت بالماء من السماء وغسّلت به حنظلة(1). ومن هنا فقد اطلق علیه اسم حنظلة غسیل الملائكة.

انّ هذه القصّة كانت عجیبة جدّاً بالنسبة الیّ: شاب فی لیلة زفافه یعرض عن أحلى لیلة فی عمر الزواج ویشارك فی جبهة القتال ثم یستشهد.

ولكنّنا فی أحداث هذه الثورة الاسلامیّة المباركة نملك مئات بل آلافاً من امثال حنظلة غسیل الملائكة، انّها زهور نمت وعطّرت بشذاها الآفاق. كم عدد الشهداء الذین طلبوا من الله عز وجلّ ان تضیع اجسادهم بعد الشهادة ولا یتمّ العثور علیها لدفنها. هناك احد طلاب العلوم الدینیّة وهو من اقرب اصدقائنا(2) وقد ساهم فی جبهة القتال عدّة سنوات حتى أصبح قائداً لفرقة من فرق القوّات المسلّحة، ولم یكن قد تزوّج حینذاك، وقد قال: اننی آمل فی الزواج من فتاة علویّة حتى اصبح محرماً مع


1. بحار الانوار، ج 17، ص 26، الباب 14، الروایة 1.

2. المقصود به هو المرحوم الشیخ مصطفى ردانى پور.

السیدة فاطمة الزهراء(علیها السلام)، فذهب واقترض مبلغاً من المال مقداره عشرة آلاف تومان وتزوّج فتاة علویّة. انّ هذا المناضل الذی قضى ربیع شبابه فی جبهات القتال لا یبقى مع زوجته سوى لیال معدودات ویعود فی الیوم الثالث من زواجه الى جبهات القتال فینال الشهادة. وقد طلب من الله تعالى ان تضیع آثار جنازته، وهكذا حدث.

فی ظلّ هذه الثورة أزهرت ورود من ناحیة، تتجسّد فی هؤلاء الشباب والیافعین الذی قطعوا فی لیلة واحدة المسافة التی یقطعها الآخرون فی مائة سنة. وفی مقابلهم تربّى أیضاً منافقون ملحدون یقلّ نظیرهم فی الشیطنة والنفاق على مدى التاریخ. ومع الأسف فانّ هؤلاء المنافقین الیوم ینالون الاحترام والتقدیر من قِبل أشخاص! لماذا؟ لانّهم نشطوا اجهزتهم الإعلامیّة منذ البدایة وأخذوا بإدانة العنف والدعوة الى التساهل والتسامح، فانتزعوا من الناس حمیّتهم وغیرتهم الدینیّة حتى لا یتنفّس احد ویعترض على هجماتهم الجبانة الموجّهة ضد أساس الاسلام، واذا تجرّأ احد واعترض فانّهم یصفونه بأنه نصیر العنف او المخطِّط للعنف، ولابدّ من الحكم علیه بالاعدام! هكذا كان دور الإعلام منذ البدایة وهو مستمرّ الآن بنحو أتمّ وأكمل.

وهذا هو نفس الدور الذی قام به معاویة وجمیع شیاطین العالم وهم یلعبون لعبتهم السیاسیّة. واستخدموا اسلوب التطمیع ایضاً فأرسلوا الهدایا الى من لا نرید ذكر اسمائهم. وقد منحوا المناصب والمسؤولیّات لأشخاص یشاركونهم فی الحزب أو فی الائتلاف الحزبی. وبالتالی لجأوا الى التهدید، فعلى الرغم من انهم یدینون العنف لكنهم لم یعفّوا عن تهدید معارضیهم، سواء عن طریق الهاتف او الصحیفة أو بأیة وسیلة ممكنة. وهذه هی عین السیاسة التی انتهجها معاویة.

 

ما هی سبیل التصدّی للسیاسات الشیطانیّة؟

والآن اذا أراد شخص أن یتصدّی لمثل هذه الألاعیب السیاسیّة فما هی السبیل الى

ذلك؟

انّها نفس السبیل التی بیّنها الامام الحسین(علیه السلام). والشرط الأوّل للتصدّی لهذا اللون من اللعب السیاسیّة هو ان لا تتعلّق قلوبنا بالدنیا. فالحسین(علیه السلام) قد ربّى أولاده واحبّاءه وأصحابه بشكل بحیث عندما أراد ان یختبر ذلك الشاب الذی لم یتجاوز عمر الزهور حیث كان فی الثالثة عشرة من عمره لیرى تصمیمه على الشهادة، فسأله الامام(علیه السلام): كیف تجد طعم الموت، فأجاب القاسم بن الحسن: «الموت احلى عندی من العسل»(1) لم یكن هذا شعاراً من القاسم بن الحسن فی محضر عمّه الامام المعصوم(علیه السلام)، وانّما كان تردیداً باللسان لما كان یشعر به فی اعماق الجنان. هل تتصوّرون كیف یمكن ان یتحوّل طعم الموت عند شاب فی الثالثة عشرة من عمره الى شیء احلى من العسل؟ أجل انّه لیس ایّ موت كان، وانّما هو الموت فی سبیل الله، وفی طریق اداء الواجب الشرعی، ومن أجل خدمة الاسلام. وإلاّ فانّ الموت بذاته لیس حلواً، ولكن لمّا كان المجال هو مجال الشهادة سأله الإمام(علیه السلام)عن طعم الموت عنده فأجاب بأنه أحلى من العسل.

فان اردنا الاستمرار فی طریق الحسین(علیه السلام) فلابدّ لنا من التصدّی لهذه المؤامرات الشیطانیّة المعقّدة. وفی البدایة لابدّ ان نعیش هذه الروحیة:

«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْكُمُ اللّهُ»(2).

«قُلْ یا أَیُّهَا الَّذِینَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِیاءُ لِلّهِ مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِینَ»(3).

ألا یودّ الحبیب ان یلقى محبوبه؟


1. وسیلة الدارین فی انصار الحسین(علیه السلام)، ص 253.

2. سورة آل عمران، الآیة 31.

3. سورة الجمعة، الآیة 6.

لابدّ ان نتعلّم هذا من اهله.

ولابدّ ان نلقّن أنفسنا هذه القیم، ولابدّ ان نتحرّك عملیّاً فی نفس هذا الاتّجاه، بحیث لا تتعلّق قلوبنا بالآمال الدنیویّة، وان لا یخدعنا الأحمر والأصفر، وان نعدّ الموت والشهادة فی سبیل الله اكبر مفاخرنا، عندئذ نستطیع ان نحافظ على طریق الله.

هذا هو الدرس الذی قدّمه لنا ابوعبدالله الحسین(علیه السلام).

كیف یمكننا ان نصبح حسینیّین وان نعشق الحسین(علیه السلام) من دون ان نتعلّم منه هذا الدرس؟

بین شبابنا الأعزّاء الكثیر ممّن یتأسّى بالقاسم بن الحسن.

فی احدى المرات كنت احاضر فی احدى المدن، وعندما عدت لیلاً الى البیت المقرّر ان استریح فیه جاءنی ابن صاحب البیت وهو شاب لا یتجاوز عمره الثالثة عشرة وقال لی: لدیّ موضوع سرّی احبّ ان أبوح لك به ـ ولعلّه شعر بالحیاء ان یطرحه معی أمام ابویه ولهذا اراد ان یسرّنی به ـ وعندما حان وقت مغادرتی لتلك المدینة قال لی ذلك الشاب: لم استطع أن أبوح لك بما فی نفسی. فأخذته جانباً وقلت له تحدّث بما تشاء، فاستجاب قائلاً: ادع لی ان یرزقنی الله الشهادة!

انّ هؤلاء الشباب نالوا تربیتهم فی مدرسة الامام الحسین(علیه السلام)، انّهم رفقاء القاسم بن الحسن. وشیوخنا رفقاء حبیب بن مظاهر.

لا ینبغی لنا ان نبقى بعیدین عن هذا الركب المقدّس. انّ رمز انتصارنا هو ان نعدّ الموت فی سبیل الله شرفاً وفخراً. فان اشتعلت نیران الحرب فنحن على أتمّ استعداد للشهادة، كما فعل شهداؤنا وحقّقوا ما نفتخر به. هناك الكثیر من الشباب الذی ذهبوا الى الامام الخمینی(قدس سره) وتوسّلوا الیه ان یدعو لهم بالشهادة. ومع الأسف كلما مرّ الزمان على نهایة الحرب فانّ هذه القیم یعلوها غبار النسیان. إلاّ انّه ببركة الامام الحسین(علیه السلام) فی هذه الأیام نشاهد ظواهر تدلّ على إحیاء تلك القیم من جدید.