علاقة جهاز الإدراك بجهاز الإرادة
إنّ حصول أیّ میل مسبوق بإحساس خاصّ له معه سنخیّة و توافق، فالمیل نحو الغذاء و الماء مسبوق بإحساس الجوع و العطش مثلاً، و لشدّة هذا الترابط یحسّ الإنسان بأنّها حالة واحدة.
كما أنّ إشباع هذه المیول و الاحتیاجات الغریزیة متوقّف على إدراكات متناسبة، أمّا تأثیر جهاز الإدراك على جهاز التحریك فی مثل هذه المرحلة فهو واضح إلى حدّ كبیر و یمكن أن تتعاون فی إشباع میل خاصّ قوى إدراكیّة متعدّدة و فی مجال واسع فإنّ مجرّد التركیز على عملیّة طبخ وجبة غذائیّة بالوسائل العادیّة الیوم یوضح مدى الفعّالیات الإدراكیّة الواسعة «الحسّیة و الخیالیّة و الفكریّة» التی تجری لتحقیق هذا الهدف، إلاّ أنّ رابطة هذین الجهازین لاتنحصر بهذین المجالین و إنّما هناك نوع آخر من الترابط بینهما له أهمیّة خاصّة بالنسبة لبحثنا هذا، و هو عبارة عن تأثیر بعض الإدراكات فی تحریك المیل و الإرادة أو النفور و الاشمئزاز ممّا لایعرف بینهما رابطة طبیعیّة فقد یؤدّی رؤیة منظر خاصّ أو سماع صوت معیّن أو الإحساس برائحة إلى تحریك المیل نحو الغذاء أو الشهوة الجنسیّة أو غیر ذلك من المیول فی حین یؤدیّ لون أو طعم أو رائحة خاصّة إلى نفور و اشمئزاز خاصّ بالنسبة إلى غذاء أو شیء آخر.
و إنّ تأثیر بعض هذه الأمور قد یكون عادیّاً واضحاً إلى حدّ یظنّ معه الإنسان بوجود علاقة طبیعیّة مع تحریك المیل هذا مثل الإحساس برائحة طعام و تحرّك اشتهاء الإنسان له، فی حین نجد تأثیر البعض الآخر خفیّاً إلى حدّ یظنّ معه الإنسان أنّ بعض المیول تحصل اتّفاقاً و دون سبب أو یتحیّر فی تعلیل حدوثها.
إنّ معرفة مثل هذه الروابط له أهمیّته الخاصة لتحقیق هدفنا المنشود، ذلك لأنّ التركیز علیها یؤدّی إلى أن ندرك أنّه قد تكون نظرة واحدة أو سماع صوت مّا ذا تأثیر عجیب فی مستقبل الإنسان، و كیف تحرّك میلا أو إرادةً تؤدی إلى سعادة الإنسان أو شقائه.
و سرّ هذه العلاقة تكمن فی تداعی المدركات و المعانی بمعنى أنّ الذهن الإنسانیّ خلق بحیث یؤدّی تقارن صورتین فیه بشكل متكررّ إلى أن یتذكّر إحداهما عند حصول الأخرى، فلو كان یكررّ أكل طعام برائحة و طعم خاصّین فإنّه بمجّرد الإحساس بتلك الرائحة یحسّ بالطعم أیضاً و تتحرّك شهیته نحو هذا الطعام.
و لو بحثنا عن علل حدوث إرادتنا عرفنا دور الإدراكات الحسّیّة المهّم ـ خصوصاً المنظورات و المسموعات ـ فی تخیّلاتنا و أفكارنا و عرفنا آثارها فی صدور الأفعال الإرادیّة و من هنا نستنتج أنّ أفضل وسیلة لتدبیر المیول و الاحتیاجات و بالتالی التسلّط الأكثر على النفس و الانتصار على أنماط الهوى النفسیّ و الوساوس الشیطانیّة هو السّیطرة على الإدراكات، و قبل ذلك السّیطرة على العین و السمع.
«إنّ السّمع و البصر و الفؤاد كلُّ أُولئك كان عنهُ مسؤولا»([1])
كما أنّ أحد أفضل وسائل تحریك الإرادة الخیّرة هی رؤیة الأشخاص الصاحین و سماع قصصهم و قراءة القرآن و مطالعة الكتب المفیدة و زیارة المعابد و المشاهد و الأمكنة التی تذكّر الإنسان باللّه و بالعباد الخلّص و الأهداف المقدّسة و السبل التی طووها فی سبیل ذلك.
«فیه آیاتٌ بیّناتٌ مقامُ إبراهیم»([2]) و من هنا تبدو الحكمة فی كثیر من الأحكام الواجبة و المستحبّة أو المحرّمة و المكروهة، مثل الحجّ و زیارة المشاهد المقدّسة، أو غضّ النظر عن المناظر المثیرة للشهوة و كراهة الجلوس فی مكان فیه حرارة ناتجة من جلوس المرأة الأجنبیّة.
و كذلك أهمیّة الدور الذی یلعبه الصدیق فی السّعادة و الشّقاء الإنسانیّ.
«یاویلتى لیتنی لم أتّخذ فلاناً خلیلا لقد أضلّنی عن الذّكر بعد إذ جائنی»([3])
«إذا أراد اللّه بعبد خیراً رزقه خلیلا صالحاً إن نسی ذكّره و إن ذكر أعانه»
قالت الحواریّون لعیسى بن مریم(علیه السلام) یا روح اللّه من نجالس؟ قال: «من یذكّركم اللّه رؤیته، و یزید فی علمكم منطقه، و یرغّبكم فی الآخرة عمله»([4]).
و كذلك التأثیر الذی تملكه أعمال الإنسان و أقواله فی الآخرین و الدور الذی یلعبه سلوكنا كنموذج فی السّعادة أو الشقاء للعائلة أو المجتمع، و من هنا تترتّب علینا مسئوولیّة أخرى; «كونوا دعاة النّاس بغیر ألسنتكم».
[1]. الإسراء: 36.
[2]. آل عمران: 97.
[3]. الفرقان: 28ـ29.
[4]. الكافی: ج1 ص 39.