سؤال: اذا كان الولی الفقیه نائب الامام صاحب الزمان «عج» فی الارض وولی امر المسلمین فی العالم، فلماذا نُظِّم الدستور بنحو یشترط ایرانیة الولی الفقیه واعضاء مجلس الخبراء وغیرهم؟
جوابه: بادئ ذی بدء نقدّم ایضاحاً حول السؤال نفسه: فمراد السائل هو: هل ان ولایة الفقیه منصب على غرار المناصب الحكومیة التی تتحدد صلاحیاتها وواجباتها فی اطار ذلك القطر الذی یحكمونه، أم انها منصب الهی لا تقیده الحدود الجغرافیة؟ لو افترضنا مقبولیة الرأی الأول فلماذا تعتبرون الولی الفقیه ولی أمر المسلمین جمیعاً؟ وإن قبلتم الافتراض الثانی فلماذا یولی الدستور اهتماماً بالحدود الجغرافیة فیما یتعلق بالقوانین ذات الصلة بالقائد واعضاء مجلس الخبراء وغیرهم وكأن القضایا ذاتَ المساس بالقائد منحصرة بایران، فلم تتم الاشارة ـ مثلاً ـ فی الدستور الى عدم اشتراط ایرانیة قائد الجمهوریة الاسلامیة أو ان یكون بعض اعضاء مجلس الخبراء من سائر الدول؟
من الضروری ایراد بعض المقدمات فی معرض الاجابة على هذا التساؤل وهی:
دَوَران الأمر بین الكل أو العدم
هنالك بعض المذاهب السیاسیة أو الحقوقیة أو الاخلاقیة... الخ تدور نظریاتها بین الكل أو العدم، أی بمعنى اذا ما توفرت كافة الشروط التی ینشدونها فی أمر ما فقد تحققت النتیجة، أما اذا ما توفر ما هو اقل من كافة الشروط فلیس من ثمرة تُجنى، وبعبارة اخرى اننا نشهد حصول النتیجة بتوفر الشروط باجمعها ولن نظفر بالنتیجة مع توفر ما هو اقل من الجمیع.
وللمزید من الایضاح حول هذا الكلام تأملوا هذا المثال من فلسفة الاخلاق لـ «كانت»: فهو یعتقد بان من لم یكن لدیه أی دافع للعمل سوى الامتثال لأمر العقل والوجدان فان عمله یكون ذا قیمة اخلاقیة، واذا كانت الرغبة فی نتیجة العمل مؤثرة فی نیّته إلى جانب تلبیة أمر العقل ـ على سبیل المثال ـ فلن تترتب على عمله أیة قیمة اخلاقیة، وفی المذاهب السیاسیة أو الحقوقیة هنالك ما یماثل هذه الآراء التی یدور أمر الانسان فیها بین الكل أو العدم.
ولكن حریٌّ القول: ان هذه الآراء لا تمتّ للواقع بصلة، وبما ان الاسلام قد طرح احكاماً ومثلاً واقعیة فی كافة المجالات ولآرائه مراتب ودرجات، فلم یصرّح الاسلام بعدمیة الأمر إن تعذرت النتیجة المثلى تماماً فی واحدة من القضایا، بل یوعز بانجاز ما هو ادنى منها مرتبة، ولغرض ادراك صواب هذا المدّعى بوسعنا الرجوع الى المباحث الفقهیة التی وضعت أمام المكلّف بدلائل متعددة لأمر واحد، والاوضاع المختلفة لاداء الصلاة خلال الظروف المختلفة نموذج على هذا الادعاء، بل هنالك مراتب متعددة لأهم مسألة دینیة وهی الایمان.
النموذج الاسلامی فی قضیة قیادة المجتمع
یتمثل الانموذج الاسلامی فی نظریة امامة المجتمع وقیادته فی ان یدار المجتمع الاسلامی بقیادة زعیم معصوم كما كان الحال فی عهد النبی الاكرم(صلى الله علیه وآله)، ونحن نعتقد بامكانیة ذلك وسیتحقق عند ظهور الامام الحجة «عجل الله تعالى فرجه الشریف»، بیدَ ان هذا النموذج متعذر عملیاً فی الوقت الراهن لاننا نعیش عصر غیبة الامام المعصوم.
لو اراد الاسلام التعاطی مع قضیة الامامة بعیداً عن الواقعیة لكان علیه رفض شرعیة أیة حكومة فی عصر الغیبة لعدم وجود معصوم یقف على رأس الحكومة الدینیة، لكنه تنبأ لهذه الحقبة وضعاً ادنى وجعل الفقهاء الذین یتوفرون على مواصفات متمیزة حكاماً.
یجمعُ الفقهاء على ان للفقیه الولایة فی الامور الحسبیة حتى مع وجود الحكومات غیر الشرعیة ایضاً، أی حتى لو لم تتوفر لدیه القدرة على ممارسة الحكم على الامة، فعلیه الاضطلاع بهذه الامور والتدخل فیها. ففی عهد النظام الطاغوتی الذی كان وفقاً لرؤیتنا الدینیة نظاماً ظالماً متغطرساً غیر شرعی، كان الفقهاء یعتقدون بوجوب رجوع الامة للمجتهد الجامع للشرائط (حاكم الشرع) فی المسائل التی تتوقف على حكم الحاكم الشرعی، فلو وقع اختلاف ـ مثلاً ـ بین الرجل وزوجته اثناء حیاتهما الزوجیة وارتضوا الطلاق للخلاص من هذا الوضع فعلیهما وفقاً للقانون آنذاك مراجعة أحد المكاتب الرسمیة الخاصة بالطلاق فیوقعان فی دفتر مخصص وبذلك یعتبر الطلاق رسمیاً، بینما یرى الفقه الشیعی وجوب حضور شاهدین عدلین لایقاع صیغة الطلاق، ولذلك كانت العوائل المتدینة تُجری الطلاق عند امام الجماعة أو المجتهد بحضور شاهدین عدلین ومن ثم مراجعة المكاتب الرسمیة لاضفاء صفة الرسمیة علیه.
هذا النمط من تدخل الفقیه لا یحقق الانموذج الاسلامی، لكنه بالنتیجة افضل من عدم تدخله. اذن الاسلام لا یرید للامة ان تختار ما بین الكل أو اللاشیء بل هو وضع مراتب وسطیة أمام المسلمین.
الاجابة النهائیة عن السؤال
الوضع الأفضل فی ضوء النظریة الاسلامیة هو ان تكون لنا حكومة عالمیة موحدة لا اثر للحدود الجغرافیة فیها، ولكن نظراً لعدم توفر المقومات لتحقق هذا الانموذج فی عالمنا المعاصر هل نصل الى طریق مسدود؟ بالتأكید كلا.
فحیث یتعذر الآن قیادة العالم باسره من قبل حكومة دینیة ما علینا إلا اقامة حكومة دینیة فی هذه البقعة ـ ایران ـ وفی مثل هذه الحالة لیس مقبولا أن یمتد الدستور وغیره من المقررات بنحو یشمل خارج ایران ایضاً، لذا فاذا ما اردنا إقامة حكومة دینیة فی ظل مثل هذا الوضع علینا ان نحترم الحدود الجغرافیة وتنظیم علاقاتنا مع سائر الدول بما ینسجم مع الاعراف الدولیة، أی ان نتبادل السفراء مع الدول ونحترم المواثیق الدولیة... الخ.
اذن لا یسعنا القول ونحن نعیش هذا العالم: بما ان زعیم حكومتنا هو قائد المسلمین جمیعاً فیجب ان یخضع المسلمون فی سائر الاقطار الاسلامیة لقیادته ایضاً، فذلك مما لا ترتضیه الاعراف الدولیة. واذا ما جاء الدستور بنحو یقیّد الحكومة الاسلامیة فی ایران وقائدها وسائر مؤسساتها بحدود بلد معین فانما للسبب الآنف الذكر، وإلا فالحدود الجغرافیة لا تمثل فی ضوء النظریة الاسلامیة حداً فاصلا بین الدول والشعوب، بل العقیدة هی بمثابة الحد الفاصل واقعیاً بین الناس بعضهم عن بعض.
* * * * *