ar_porsesh3-ch1_1.htm

1 ـ الدین والثقافة

سؤال: ما هو الدین وما هی الثقافة؟ وما هی العلاقة التی تربطهما؟

جوابه: قدّم علماء الدین والاجتماع تعاریف متعددة لمفردتی الثقافة والدین، وان سردها ودراسة كلٍّ منها وعقد مقارنة بین الدین والثقافة وفقاً لكل واحد من هذه التعاریف من الصعوبة بمكان ومدعاة للملل، من هنا لنتفق أولاً على تعریف للدین والثقافة ومن ثم نلج المقطع الثانی من السؤال اعلاه.

أ ـ تعریف الدین

حاول علماء الدین ـ ونخصّ بالذكر المسلمین ـ تقدیم تعریف كامل للدین، كما قام علماء الاجتماع بدراسات ومطالعات كثیرة حول ما یعنیه الدین وموقعه بین مؤسسات المجتمع؟ هل ان الدین ركیزة اجتماعیة أم امر آخر لا یمكن اعتباره ركیزة اجتماعیة؟

على أیة حال، لا ضرورة لإیراد هذه المقدمة فالمهم بالنسبة لنا ایضاح مفهوم الدین الحق وبیان عناصره ومقوماته لكی نحكم فی ضوء وجودها أو فقدانها على ما إذا كان دینٌ مّا حقاً أم باطلاً. بناءً على هذا، حریٌ القول فی تعریف الدین ما من شأنه ان یشمل الدین الحق ویصدق على كافة الادیان الالهیة ذات الاصالة فی زمانها لكنها حُرّفت لاحقاً: «الدین مجموعة من المعتقدات القلبیة والوان من السلوك العملی المتطابقة مع تلك المعتقدات» ویشتمل فی بُعد العقائد على الایمان بوحدانیة الله وصفاته الجمالیة والجلالیة والایمان بالنبوة والمعاد، وتلك ما یُعبَّر عنها بـ «اصول الدین» أو «اصول العقائد» ویشمل فی بُعد السلوك كافة الاعمال التی تتطابق مع المعتقدات والتی تجری وفقاً للاوامر والنواهی الالهیة باتجاه عبودیة الله سبحانه وتعالى. ویعبَّر عن هذا القسم بـ «فروع الدین».

بناءً على هذا، یمكن القول فی تعریف الاسلام باعتباره الدین الحق الوحید1: «الاسلام عبارة عن مجموعة من المعتقدات القلبیة المنبثقة عن النزعات الفطریة والاستدلالات العقلیة والنقلیة، والتكالیف الدینیة المُنزلة من لدن الباری تعالى على نبی الاسلام(صلى الله علیه وآله)لغرض توفیر السعادة الدنیویة والاخرویة للبشر»، وهذه التكالیف تشمل كافة الشؤون التی لها دور بای نحو من الانحاء فی تحقیق سعادة الانسان فی الدنیا والآخرة.

ان هذا التعریف للدین، والاسلام على وجه الخصوص متعارف علیه ومقبول لدى المسلمین.

ب ـ تعریف الثقافة

ذكر علماء الاجتماع ما یقرب من خمسمائة تعریف لمفهوم «الثقافة» ومن الصعوبة بمكان التطرق لها على انفراد وتدارس نقاط القوة والضعف لكل من هذه المعانی ومقارنتها الى الدین، ونحن هنا نطرح ثلاثة تعاریف كلٌّ منها یشتمل على عدد كبیر من التعاریف ثم نتطرق بالبحث لعلاقة كلٍّ منها بالدین.

تعرَّف الثقافة فی بعض التعاریف على انها شاملة للعقائد والقیم والاخلاق وألوان السلوك المتأثرة بهذه العناصر الثلاثة، وكذلك الآداب والتقالید والاعراف الخاصة بمجتمع معین. وفی النمط الآخر من التعاریف تعتبر الاداب والتقالید اللبنة الاساسیة للثقافة، وتعرّف الظواهر المجرّدة للسلوكیات دون الاخذ بنظر الاعتبار مرتكزاتها العقائدیة على انها ثقافة المجتمع. واخیراً تعرَّف الثقافة فی طائفة اخرى من التعاریف بانها العنصر الذی یمنح حیاة الانسان المعنى والاتجاه.

ج ـ علاقة الدین بالثقافة

بعد معرفة الانواع الثلاثة من التعاریف للثقافة نقول:

اذا ما قیس الدین بوصفه مجموعة من المعتقدات القلبیة والسلوكیات العملیة المتطابقة مع تلك المعتقدات ـ مع النمط الاول من التعاریف المتقدمة، فهو یعتبر جزءاً من الثقافة، لان الثقافة وفقاً لهذه الرؤیة تشمل العقائد القلبیة الدینیة وغیر الدینیة وتشمل كذلك السلوكیات والاخلاق والآداب والتقالید الدینیة وغیر الدینیة. من هنا یعتبر الدین جزءاً من الثقافة ویدخل فی منظومتها.

أما اذا قسنا الدین مع الصنف الثانی من التعاریف، فبما ان ظواهر السلوك والآداب والتقالید تعتبر وفقاً لهذا الصنف من التعاریف على انها الثقافة، فیمكن أن تعرف علاقة الدین بالثقافة باعتبارهما مجموعتین تشتركان فی بعض العناصر فقط، ووفقاً لهذه الرؤیة لا الدین یشكل جزءاً من الثقافة بشكل تام ولا الثقافة تدخل ضمن مجموعة الدین.

ربما یمكن القول ان تعریف الثقافة بالعنصر الذی یمنح حیاة الانسان المعنى والوجهة هو افضل ما یقال منطقیاً فی تعریف هذه المفردة، ولكن ینبغی وقبل كل شیء ان نوضح ما المراد من قولنا: ان هذا یمنح الحیاة معنى؟

لو قارنّا بعض تصرفات الانسان مع تصرفات الحیوانات سنجد تماثلاً فی طبیعة هذین النمطین من التصرفات بالرغم من بعض الفوارق الظاهریة، فعلى سبیل المثال: ان كلاً من الانسان والحیوان یسعیان حین الجوع وراء الطعام وسد الجوع والشبع، ولكن فی نفس الوقت بالرغم من حصول الانتقال المكانی وحالة الشبع لدى الانسان والحیوان على حدٍّ سواء ربما ینطوی تصرف الانسان على قیمة ما سواء كانت ایجابیة أم سلبیة، فاذا ما سرق المرء مثلاً ـ طعام غیره وسدَّ جوعه به فان عمله هذا یعتبر سرقة وغصباً وتجاوزاً على حقوق الآخرین وهو برمته ینطوی على قیمة سلبیة.

وكذلك الامر فی المجتمع الدینی هنالك مجموعة من السلوكیات ذات قیمة ایجابیة أو سلبیة، فالغیبة وافطار شهر رمضان على سبیل المثال ـ لهما قیمة سلبیة فی الاسلام، والمحافظة على السرّ والصیام لهما قیمة ایجابیة، والملاحظة الجدیرة بالاهتمام هنا هی: لماذا یعطی الناس فی المجتمعات الدینیة بعض الاشیاء قیمة سواء كانت ایجابیة او سلبیة ـ بالاضافة الى الامور التی یرى سائر الناس حسنها أو قبحهاـ؟ وبتعبیر افضل: ما هو مصدر الحسن والقبح؟

ان من ابرز المسائل الفلسفیة واكثرها جدلاً فی العالم هو هذا السؤال: هل القیم نابعة من العقود الاجتماعیة أم من امور واقعیة وتكوینیة؟ هل كون الامور القیمیة ذات معنى ناشئ عن العقد أم عن حقائق یرشدُ العقل والوحی الناسَ نحوها؟

من البدیهی ان هاتین الرؤیتین تولدان ثقافتین مختلفتین: ثقافة ترى تابعیة معنى القیم للعقد الاجتماعی، وبالتالی فانها ترى الاخلاق والامور القیمیة «نسبیة» ومتغیرة وتابعة لاهواء الانسان، وثقافة ترى تابعیة معنى القیم لامور واقعیة مستقلة عن إقبال الناس وإعراضهم. وهذه الامور الواقعیة هی التی ملأت عالم الكون بأسره ویمكن تشخیصها بارشاد من العقل والوحی ولا یَعتَریها التغییر بتغیر اذواق الناس.

بناءً على هذا، فكون حیاة الانسان ذات معنى انما ینجم عن طبیعة رؤیة الانسان للكون والانسان، أو بتعبیر آخر انه تابع لـ «رؤیته الكونیة ومعرفته الانسانیة» فالرؤیة الكونیة بدورها تبلور «النظام العقائدی» و«النظام العقائدی» یبلور «النظام القیمی».

بما ان الافعال الاختیاریة للانسان تابعة لارادته وان ارادة البشر انما تصاغ فی ضوء طبیعة رؤیتهم والنظام القیمی الذی یحظى بقبولهم، فان سلوكیات الانسان ستكون هی الاخرى تابعة للنظام القیمی الذی یرتضیه.

وخلاصة القول، ان المعنى الذی یطبع حیاة الانسان منوط باداء افعال وممارسات یؤطرها نظام قیمی خاص بالمجتمع وتأتی فی ضوء معتقدات ذلك المجتمع ونظامه العقائدی. وبما ان الرؤیة الكونیة الحقة الوحیدة استناداً للرؤیة الاسلامیة ـ وتبعاً لها النظام العقائدی والقیمی الصحیح هو الاسلام وحده، فاننا ـ اعنی المسلمین ـ نرى ان الدین هو العنصر الذی یمنح حیاة الانسان معناها ووجهتها. من هنا فان الثقافة فی الصیغة الثالثة من التعاریف الآنفة الذكر تنطبق على الدین، إلاّ ان نرى مركبات الثقافة اقل من مركبات الدین، كأن نرى مثلاً ـ مركبات الثقافة هی النظام القیمی والسلوكیات السائدة فی المجتمع الدینی، وفی مثل هذه الحالة ستدخل الثقافة فی منظومة الدین وتكون تابعة له.

ولا یخفى أن القیم تعرَّف احیاناً فی البلد ذی المجتمع الدینی بمعنىً أوسع مدىً من القیم الدینیة، وفی مثل هذه الحالة سیبلور لدینا نمطان من القیم، الاول: القیم الثابتة التی لا تقبل التغییر وهی التی تنبثق عن المعتقدات الدینیة، والثانی: القیم المنبثقة عن الاعراف والتقالید والعقود الاجتماعیة وهی تقبل التغییر والتبدل، ولكن من الواضح جداً ان التغیر فی الطائفة الثانیة لا یمس بسوء القیمَ الثابتة التی لا تتغیر، وذلك لانبثاقهما عن مصدرین مختلفین.

* * * * *




1. لدى السؤال لماذا الدین الحق واحدٌ لا اكثر؟ ینبغی القول: الدین وكما تقدم ـ ذو شقین: العقائد والافعال المتطابقة معها، والعقائد فی حقیقتها تحكی عن الحقائق التی یزخر بها عالم التكوین، أی هنالك حقاً فی عالم الوجود إلهٌ واحدٌ له صفاته المختصّة به، وانبیاء هم حقاً مبعوثون من لدن الباری تعالى لهدایة البشر، وعالمٌ بعد هذا العالم یُسمى الآخرة. وهذه الامور بأسرها تعد ثمرة التأملات العقلیة المعمقة فی عالم الوجود التی تؤیدها الفطرة والكتب السماویة التی لم یطلها التحریف ومن بینها القرآن الكریم.

ومن ناحیة اخرى، ان الله تعالى الذی غایته من خلق الانسان بلوغه الخیر والكمال، قد وضع احكاماً وتكالیف بنحو تتحقق فیه مصلحة من مصالح الانسان بادائه لأیّ منها، وتُطوى خطوة فی طریق الكمال الانسانی، وكما یُعبّر فان «الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعیة»، ومن المسلّم به ان طریق الوصول الى تلك المصالح والكمالات سیوصد بتحریف هذه الاحكام أو تغییرها، وذلك سیتناقض مع الهدف الذی یتوخاه الله سبحانه وتعالى من الخلقة.

من هنا مادام الدین متضمناً لهذین الشقین وبعیداً عن ای تحریف، فانه سیكون الدین الحق، وبما ان الادیان باسرها هی من لدن الباری تعالى وهنالك حقائق متماثلة تؤلف الكون، اذن لا مجال لاحتمال وجود نوعین من الدین الحقّ على مر التاریخ یتناقضان فی جمیع تفاصیلهما أو بعضها.