ar_porsesh3-ch6_1.htm

6 ـ الاسلام والتنمیة السیاسیة

سؤال: ما هو المراد من التنمیة السیاسیة؟ وما هی نظرة الاسلام بشأنها؟

جوابه: ان لمفهوم التنمیة السیاسیة مكانة مهمة فی میدان السیاسة وعلمها، ولكن لم یزل هنالك الكثیر من الغموض وعدم الوضوح یلف هذه المفردة1، ویمكن القول بجرأة انه لیس هنالك تعریف دقیق وواضح لمفهوم «التنمیة السیاسیة»، ورغم ذلك حریٌ القول: ان التنمیة السیاسیة تتركب من مفردتی «التنمیة» و«السیاسة»، وان توضیح كلٍّ منهما بامكانه ایضاح مفهوم التنمیة السیاسیة اكثر:

ان التنمیة (Development) عبارة عن نشاط یقوم به فرد أو مؤسسة أو مجتمع باكمله بالاستعانة بافضل الآلیات والمستلزمات المقترنة بالبرمجة المتكاملة لبلوغ الهدف المرسوم لذلك النظام بسرعة وعلى احسن وجه.

وفی هذا التعریف تمّت الاشارة الى عنصرین احدهما كمّی وآخر كیفی، فقولنا «بسرعة» انما نرید به الكمّ الزمانی لبلوغ المنشود، وحیثما كان ما ننشده هو ما ینشده المجتمع بأسره، سیكون ملازماً للمزید من المشاركة الشعبیة لتحقیق الهدف، واما قولنا «على احسن وجه» فنقصد به كیفیة بلوغ الهدف، وهذه الكیفیة انما تكتسب معناها عبر الآلیات والعنایة بالبعد القیمی من استخدامها والاهداف المتوخاة.

والسیاسة«politics» عبارة عن: القیادة السلمیة أو غیر السلمیة للعلاقة بین الناس، والفئات والاحزاب القوى الاجتماعیة ـ والنشاطات الحكومیة داخل البلاد، وللعلاقات التی تربط الدولة مع الدول الاخرى على الساحة العالمیة2 والتی تأتی فی اطار تحقیق اهداف ومصالح المجتمع وأبنائه.

بناءً على هذا فان مضمار التنمیة فی بعدها السیاسی یتمثل فی قیادة وادارة العلاقة بین الافراد والتنظیمات والنشاطات الحكومیة والعلاقات الخارجیة للبلاد التی انما تقام لكی یبلغ المجتمع اهدافه، وبطبیعة الحال، فان هذه الاهداف وان اشتركت فی بعض الامور لكنها تختلف مع بعضها باختلاف الدول، فعلى سبیل المثال، ان غایة بلوغ الرفاه المادی والاقتصادی فی بلادنا مقترنة بالتكامل الثقافی والمعنوی وسیادة القیم الاسلامیة; وبعبارة واحدة: تحقیق السعادة الدنیویة والاخرویة للمواطنین التی انما تتأتى فی ظل العمل بالاحكام والتعالیم الاسلامیة.

بناءً على هذا، فان قوام التنمیة السیاسیة یتمثل فی عنصرین احدهما كمّی والآخر كیفی. احدهما «المزید من المشاركة الشعبیة فی الشؤون السیاسیة» والآخر «ادراكهم الافضل للقضایا السیاسیة»، بید ان هذه العبارة اصبحت شأنها شأن الكثیر من الشعارات الاخرى آلة بید السلطویین لیفرغوا ـ من خلال تقدیمهم تعاریف ومعاییر خاصة ـ البلدان المستقلة ذات الثقافة والافكار الخاصة بها لاسیما الاسلام من اصالتها ویمهدوا السبیل لشن الهجوم الثقافی علیها3.

بید ان مفهوم «التنمیة السیاسیة» الحاصل من تركیب مفردتی التنمیة والسیاسة هو مفهوم انتزاعی، والمفاهیم الانتزاعیة خاضعة للتعریف والتشخیص كلٌّ حسب معالمها4، وهذه المعالم تؤشر ما
هی المرحلة من التنمیة السیاسیة التی یمر بها البلد، أفی مرحلة التطور وتكامل المؤسسات الجماهیریة أم مرحلة التنمیة المتزلزلة وانهیار المؤسسات5.

والى جانب تأكیدهم على دور المشاركة السیاسیة فی التنمیة، یرى بعض ذوی الخبرة6 فی «المؤسسة» معیاراً فریداً فی التنمیة السیاسیة. وعلى هذا الاساس فان تلكم الانظمة المزودة بمؤسسات ثابتة ومستقرة ومعقدة ومنسجمة هی التی تعتبر انظمة سیاسیة متطورة7، وبناءً على هذا فقد وصف امتلاك المؤسسات المدنیة المتماسكة والمستقلة بانه احدى المزایا المهمة للنظام المتقدم.

وستكون لسعة التنمیة السیاسیة آثارها ایضاً، وقد عدَّ بعض المنظّرین8 بعض هذه الآثار بما یلی:

1 ـ تغییر الهویة من الدینیة الى القومیة ومن المحلیة الى الاجتماعیة.

2 ـ تغییر الشرعیة من مصدر متعال الى مصدر واطئ.

3 ـ تغییر المشاركة السیاسیة من النخبة الى الجمهور ومن الاسرة الى الجماعة.

4 ـ تغییر توزیع المناصب الحكومیة من مستوى الموقع العائلی والتمییز الى الانجازات والكفاءات9.

بعد المعرفة الاجمالیة لمفهوم التنمیة السیاسیة، یصل الدور لهذا التساؤل وهو: هل تنسجم التنمیة السیاسیة مع الدین والنظام الاسلامی أم لا؟

كما تقدم، فان التنمیة السیاسیة مفهوم انتزاعی یتم تعریفه فی ضوء معالمه، ومن خلال نظرة واحدة یتسنى تقسیم معالم التنمیة السیاسیة الى بُعدی الشرعیة والكفاءة، وفی مثل هذه الحالة سیَكون التطور تابعاً للتقدم والتنمیة فی هذین البعدین الاساسیین.

ان الشرعیة تعنی التوفر على «المبرر العقلانی على الحكومة والامر والنهی الذی یمارسه شخص أو فئة على الآخرین»، وبتعبیر آخر، لماذا یمتلك شخص أو اشخاص حق الأمر والنهی على الآخرین؟

كلما كان الجواب على هذا التساؤل اكثر دقة وعقلانیة تكون الحكومة اكثر تطوراً وتقدماً من الناحیة الشرعیة، وقد تحدثنا فی الجزء الاول من هذه السلسلة عن معاییر الشرعیة10 وذكرنا فی معرض نقدنا لها بان افضل ملاك للشرعیة هو «الحق الالهی فی الامر والنهی والحكم على العباد»، لان هذا الحق متمخض عن حاكمیة ومالكیة وربوبیة (بمعنى انه صاحب الاختیار) لله تعالى التكوینیة والتشریعیة على الانسان وكافة شؤون حیاته. اذ ان الله سبحانه وتعالى وبحكمته البالغة وعلمه اللامتناهی وفضله غیر المحدود وضع قوانین ومقررات تُفضی الى مصلحة الانسان وسعادته فی هذه الدنیا وفی الآخرة، من هنا سیكون النظام الذی یؤسس شرعیته على اساس هذه الرؤیة ارقى نظام سیاسی.

بناءً على هذا، فان تلك الطائفة من المعاییر والنتائج الناجمة عن التنمیة التی تستدعی اقصاء المصدر الالهی السامی للشرعیة والجنوح نحو غیره من الملاكات تتعارض قطعاً مع الاسلام والنظام الاسلامی ولن تحظى بالقبول أبداً.

أما على صعید بُعد الكفاءة الذی یشتمل بدوره على عدة معالم من التنمیة السیاسیة ـ فان الفكر الدینی یقتضی بان نسیر فی اطار القوانین الالهیة، وبتعبیر آخر، ان حكم الله وقانونه هو المقدّم حینما تستلزم مجموعة من الشواخص أو جزء ومفهوم من شاخص واحد تجاهل الاحكام الثابتة والقطعیة فی الاسلام، ویتم اقصاء المورد الذی یتعارض ویتنافى مع الدین، وكمثال على ذلك، ان احدى افتراضات التنمیة ومعالمها علمنة الثقافة أی دنیویتها وسلخها عن الدین ـ ومن الواضح ان مثل هذه المقولة لن تحظى بقبول الاسلام والنظام الدینی، أو امور من قبیل حریة الصحافة، فهی موضع قبول مادامت لا تؤدی للاخلال بالاسس الدینیة والقیم والعفّة والمصالح العامة والامن الوطنی، مثلما ان اضطراد النشاطات السیاسیة لن یكون مسوغاً للمخاطرة بالوحدة الوطنیة ومحاولة الاطاحة بالنظام الاسلامی.

ومن ناحیة اخرى، فان القاء لمحة على تاریخ عشرین عاماً مضت على الثورة الاسلامیة تبرهن على ان الكثیر من مقومات التنمیة تعد بحد ذاتها هدیة قدَّمتها الثورة الاسلامیة بحیث وُصف نظام الجمهوریة الاسلامیة على انه من اكثر انظمة العالم شعبیة وسیاسةً، اذ ان اضطراد حق التصویت والانتخابات الحرّة، وازدیاد المشاركة السیاسیة للجماهیر فی شتى المجالات، وفی مراكز اتخاذ القرار والحریة المعقولة والمقبولة للصحافة... الخ باجمعها كانت من انجازات الثورة الاسلامیة الجبارة. اضف الى ذلك ان الشعور بالتكلیف الشرعی كعنصر قوی جداً وحافز مضاعف نحو المشاركة فی النشاطات السیاسیة من قبیل المسیرات والانتخابات والتصدی للمسؤولیات وتقدیم المعونات المادیة والمعنویة والتواجد فی جبهات الحرب... الخ انما یتبلور نتیجة لایمان الشعب بالهیة واسلامیة الحكومة ولن یكون هنالك بدیلٌ وعوضٌ عنه اذا ما افتُقد أو تضاءل رونقه.

كما ان استقلال المؤسسات لا یعنی عدم تدخل الدین والفكر فی بناء المؤسسات داخل المجتمع الدینی وعملها وغایاتها، اذ ان فصل دائرة الدین عن دائرة سائر المؤسسات بنحو نعمل فی سائر المؤسسات بمعزل عن الدین بشكل كامل، یعد امراً لا ینسجم مع الاسلام الذی له حكمه وقانونه المنسجم مع الهدف من الخلقة على صعید كافة شؤون حیاة الانسان.

بناءً على هذا، الاسلام دینٌ لیس غیر متعارض مع التطور والتنمیة فی شتى المجالات فحسب، بل انه یرید أن یكون الانسان افضل فی یومه مما كان علیه فی أمسه، غایة الأمر انه یرید هذا التطور والرقی فی اطار اصوله واحكامه وقیمه الدینیة، لأن السعادة الحقیقیة للانسان حتّى فی هذا العالم، بالاضافة الى السعادة الاخرویة، انما تتحقق عن هذا الطریق، وإلا فان مختلف المشاكل النفسیة والاخلاقیة والفكریة التی یعانیها الغرب الآن بالرغم من تقدمه الكبیر لیس بالامر الخافی على أحد.

وكنموذج ملموس على ما ندعیه هو اسبانیا إبان عصر حاكمیة الاسلام فیها، حیث اعترف الغربیون انفسهم بانه لولا التراث الذی خلّفه الاسلام فی اسبانیا لبقی الغربیون یعیشون حالة شبه همجیة ولما حصلوا على هذه الصناعات والتطور أبداً.

بناءً على هذا، فان تلك الثّلة التی تحاول وصف الدین معارضاً للتطور ویهتفون بـ «تضاد الشریعة مع العصرنة» ویخلصون الى نتیجة مفادها: إما القبول بالتطور والحداثة واقصاء الدین جانباً، وإما الوفاء للدین والتخلف عن ركب التطور والتنمیة; إما هم یجهلون الاسلام أو یحاولون القضاء على الدین والتدین ومسخهما فی المیادین الاجتماعیة على اقل تقدیر وسیادة العلمانیة.

ولا نُخفی ان المسلّم به عند دعاة التنمیة السیاسیة هو «النسبیة» فی المعرفة بمعنى ان لیس من أحد أو فكر یمثّل حقاً مطلقاً، وعلیه لابد من التحلی بالمداراة والتساهل مع مختلف الافكار لان لكلّ مذهب نصیباً من الحق، وان الاستنباط من الدین والنصوص الدینیة لیس مستثنىً من هذه القاعدة، ومن ذلك تنشأ ما یصطلح علیها «القراءات المتعددة». اذن التمسك بامور تحت عنوان اصول وقیم دینیة لا تحتمل التغییر یعدُّ ضرباً من التعصب والرؤیة غیر الواقعیة.

وللرد على الحدیث الأخیر نقول: ان اصول الاسلام وكذا احكامه وقوانینه القطعیة والضروریة امور ثابتة ومطلقة، ونظراً لقطعیة البراهین الدالة علیها لیس هنالك مجال لاستنباطات متعددة، واننا لو لم نفترض هذه الطائفة من المسائل الاسلامیة على انها ثابتة ومطلقة لم یبقَ ما نذكره تحت اسم الاسلام.

* * * * *




1. عبد الرحمن عالم، قواعد علم السیاسة: 123، نقلاً عن لوسین بای Lucian.w.pye.

2. نفس المصدر: 30.

3. لقد اسهبنا فی الحدیث بهذا الشأن وكذلك حول استراتیجیة العدو لبلوغ مآربه الاستعماریة وذلك لدى الاجابة على السؤال اللاحق من هذه السلسلة.

4. بناءً على هذا، فاننا وبتقدیمنا لتعریف مباشر لهذا المفهوم «التنمیة السیاسیة» ندرج فیما یلی المعالم الاساسیة له:

أ ـ تنامی حق التصویت والانتخابات الحرّة المتمیزة بكثرة المنتخبین.

ب ـ التسییس أو المزید من المشاركة الجماهیریة فی الاحداث السیاسیة.

ت ـ المشاركة الجماهیریة فی مراكز اتخاذ القرار.

ث ـ اضطراد المصالح من خلال الاحزاب السیاسیة واستتباب الدیمقراطیة.

ج ـ حریة الصحافة وتطور وسائل الاعلام.

ح ـ توسیع الامكانیات التعلیمیة.

خ ـ استقلال السلطة القضائیة وسیادة القانون.

د ـ محوریة الدنیا فی الثقافة العلمانیة .

ذ ـ قوات مسلحة بعیدة عن السیاسة.

وفی المقابل فقد ذُكرت بعض المعالم التی تؤدی الى زعزعة مسیرة التنمیة السیاسیة وهی عبارة عن:

أ ـ الفساد السیاسی الذی یصب فی المصالح الشخصیة.

ب ـ صنمیة الحكام.

ت ـ تعظیم وتكریم الفكر الرسمی الحاكم.

ث ـ التزام المسؤولین بخط الحزب الحاكم.

ج ـ التدخل الاجنبی فی الشؤون الداخلیة للبلاد.

ح ـ تسییس القوات المسلحة.

خ ـ المظاهرات الاحتجاجیة باستخدام العنف.

د ـ قمع المعارضین.

ذ ـ تفشی الفساد وسوء الادارة.

ر ـ الاغتیالات السیاسیة.

5. المصدر الآنف الذكر، عبد الرحمن عالم: 127 129، بقلیل من الاختصار والتصرف.

6. صاموئیل هانتینغتن.

7. البروفسور برتران بدیع «التنمیة السیاسیة»، ترجمه الى اللغة الفارسیة: الدكتور احمد نقیب زاده، ص 82.        

8. لیونارد بیندر Leonard Binder.

9. عبد الرحمن عالم، المصدر المتقدم: ص 126.

10. الاستاذ محمدتقی مصباح الیزدی، اسئلة وردود: 1 / 17 ـ 21.