ar_porsesh3-ch6_2.htm

6 ـ الاسلام والتنمیة السیاسیة

الدوافع الخفیة فی التنمیة السیاسیة

ما هو دافع البعض فی طرحهم لـ «التنمیة السیاسیة وبعض المفاهیم المشابهة لها» فی هذا الوقت؟

لغرض الكشف عن ماهیة هذه التحركات وكذلك السبل التی تُسلك لبلوغ الاهداف المتوخاة منها، نشیر بایجاز لتاریخ الاحداث التی شهدتها أوربا بعد الثورة الصناعیة:

ان قصة التسلط فی الغرب تبدأ فی الحقیقة من عصر الثورة الصناعیة فی اوربا وان كانت هنالك میول قبل ذلك فی اوربا وكذلك بین سائر الاقوام لغزو البلدان والتسلط على الآخرین ـ عندما حصلوا على الآلات الحدیثة فی ظل التحام العلم والصناعة والتقنیة الحدیثة وافلحوا فی انتاج اكداس البضائع وباسعار زهیدة من حیث كلفة الانتاج واحتكار الثروة والربح الطائل من خلال بیع هذه البضائع باسعار خیالیة.

وبازدیاد الربح وبالتالی رأس المال یزداد الاستثمار لغرض الانتاج، وهذا بحد ذاته یمثل دافعاً لكسب المزید من الربح ورأس المال، وهكذا وبدوران عجلة رأس المال والانتاج یزداد ركام الثروة یوماً بعد یوم.

ولكن فی المقابل والى جانب تزاید الانتاج العرض ـ ظهرت مشكلتان جوهریتان هما:

1 ـ شحة المواد الاولیة للانتاج.

2 ـ تضاؤل معدل الطلب مقارنة بما یُعرض من منتجات.

هذان السببان دفعا الدول الغربیة لتفكیر باستعمار البلدان الاخرى للحصول على الموادّ الخام من جهة وللظفر بأسواق جدیدة لمنتجاتهم من جهة اخرى. وقد استمر هذا التوجه الاستعماری من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر، وفی غضون هذه الفترة تنبّه الغربیون الى مشكلة اخرى وهی انحسار المصادر الطبیعیة والقدرة الشرائیة فی البلدان الخاضعة للاستعمار، فالتقنیة والوسائل الحدیثة المصدّرة تحتاج الى متخصصین لاستخدامها، من هنا فقد قرروا العمل على رفع القدرة الشرائیة ومستوى المعلومات فی هذه البلدان، ولهذا الغرض عمدوا الى امرین هما:

الاول: منح هذه البلدان القروض والمساعدات الاقتصادیة وتأسیس صندوق النقد العالمی.

الثانی: استقطاب ذوی الكفاءات فی هذه البلدان الى الجامعات الاوربیة ومن بینها جامعات انجلترا والمانیا وفرنسا.

وكانت المهمة الثانیة تأتی بدافع تربیة الاخصائیین من ذوی القدرة على استخدام السلع المستوردة من الدول الاستعماریة، مثلما تجری المهمة الاولى بغیة رفع القدرة الشرائیة لدى شعوب البلدان المستعمَرة لیتم من خلاله تصدیر المزید من البضائع الى هذه البلدان ویحافظ سوق الغربیین على ازدهاره.

بید ان هذا المنحى لم یكن یروق للمستعمرین على الدوام اذ ان بعض هؤلاء المثقفین اخذوا ینادون بعد عودتهم لبلدانهم بفكرة الدعوة للاستقلال والمطالبة بالتحرر عن الاستعمار الاجنبی، وهذا بذاته كان منطلقاً لمرحلة جدیدة وعهد جدید بدء منذ اواخر القرن التاسع عشر وبلغ ذروته فی القرن العشرین.

وبالرغم من المواجهات المتعددة الوجوه التی جوبهت بها مثل هذه التحركات الاستقلالیة، توصّل المستعمرون فی نهایة المطاف الى هذه النتیجة وهی ان من الافضل لهم التحلی بقدر من الرؤیة الواقعیة وبطرحهم لفكرة «العلاقة» بدلاً عن «الاستعمار» یتمكنون فی المستقبل من الانتفاع من هذه البلدان ایضاً، ومن بین هذه التحركات الاستعماریة كان مشروع تأسیس منظمة دول الكومنولث « Commonwealth» الذی اقترحته بریطانیا لتبقى المستعمرات التی كانت رازحة لهیمنة الانجلیز فی السابق وحصلت على الاستقلال فیما بعد، على تعاونها ومشاركتها مع بریطانیا تحت هذه الیافطة، ویستمر الاستعمار هذه المرة باسلوب آخر.

على أیة حال; لقد اخذت مسیرة المطالبة بالاستقلال بالتصاعد یوماً بعد یوم، وهذا بحد ذاته كان یستدعی اسالیب اكثر حداثة للاستعمار، بحیث ان الاستعمار المكشوف تنازل عن موقعه للاستعمار الخفی، وأحد هذه الاسالیب الجدیدة كان بطریقة ان تتولى الدول الاستعماریة صناعة عناصر واحزاب فی الدول المستقلة أو انها كانت تتدخل فی عملیة صیاغة بعض التنظیمات والاحزاب بصورة لم یكن حتى القائمون على هذه الاحزاب یعرفون بتدخل العناصر الاجنبیة وتوجیهاتها ـ فتقوم بجمع الناس حولها عبر مناداتها بالشعارات المناهضة للاستعمار، وبعد وصول الحزب الذی تأسس وتبلور بشعار مكافحة الاستعمار الى السلطة یمد ید الصداقة لأسیاده الاجانب ویتولى تأمین مصالحهم.

وبمرور الزمن وتنامی التجربة توصل الغربیون الى هذه النتیجة وهی ان استمرار وتجذر الاستعمار واستغلال البلدان الاخرى منوط بمسخ ثقافتها وفكرها بنحو تتغیر معه طبیعة الرؤیة لدى الناس ویروج الفكر القائم على «محوریة الفرد» و«الروح الاستهلاكیة» و«اكتناز الثروة» بشكل یشبه ما هو سائد فی الغرب وامریكا، ویسود تلك البلدان نظام یتبنى استهلاك وسائل الغرب وتقنیته وهو مرعوب ازاء ما یحققونه من تطور.

لو قدِّر لهذین الهدفین أن یتحققا لكان قد ضُمن استمرار الهیمنة، غیر ان أحد موانع تحقق الاهداف الآنفة الذكر فی الشرق هو «الثقافة الشرقیة» القائمة على القناعة والروح الجمعیة، من هنا فقد وضعت سهام الغزو الثقافی بتعقیداتها الخاصة بها على لائحة اعمال الغربیین، وفی هذا الصدد برزت الى الوجود فكرة تلازم الثقافة والتكنولوجیا، فكان الادعاء الجوهری لهذه الفكرة: ان لكل تكنولوجیا ثقافتها الخاصة الملازمة لها، وحیثما حلّت التكنولوجیا حلّت معها ثقافتها شئنا أم ابینا، إذن إما ان نقبل بالتكنولوجیا مقرونة بالثقافة أو ان لا نقبل بأیٍّ منهما، ونظراً الى ان التكنولوجیا قادمة من الغرب فلا مناص من ان تحل ثقافة الغرب ایضاً.

لقد اثبتت هذه الفكرة بطلانها فی الیابان، لان الیابانیین وبالرغم من قبولهم لبعض التأثیرات عن ثقافة الغرب الغازیة، فقد حافظوا وتمسكوا بتقالیدهم واعرافهم وقیمهم الشرقیة وثقافتهم واستطاعوا تحقیق تقدم هائل بحیث اختطفوا قصب السبق من الغربیین انفسهم.

وقبل انتصار الثورة الاسلامیة فی ایران أُثیر موضوع تناقض الاسلام والتنمیة فی اطار سیاسة الغرب ذاتها، وقد زعم الذین حاكوا هذه المؤامرة بان الاسلام دین الزهد والقناعة والتقشف، وان التنمیة شأنها التطور واستخدام المزید من الثروة، وعلیه من المتعذر المواءمة بینهما، وان الاسلام لا یطیق التنمیة، ونظراً لاضطرارنا للتنمیة فلابد من ان نضع جانباً الاسلامَ أو جوانبه التی تتنافى مع التنمیة على أقل تقدیر.

لقد اخذت مثل هذه النغمات تطرق الاسماع هذه الأیام على شكل محاضرة أو مقال أو كتاب... الخ للایحاء بهذه الفكرة وهی تناقض الاسلام مع التنمیة، وان صیاغة مواضیع من قبیل «تعارض الشریعة مع الحداثة» و«ضرورة نقد الشریعة» وما شابهها مما یمكن ادراجها تحت هذا العنوان.

بالرغم من ان البحث التفصیلی فی العلاقة بین الاسلام والتنمیة یستدعی مجالا أوسع لكننا نؤكد ان الاسلام لیس لا یعارض التنمیة والتطور فحسب بل انه یرید أن یكون المسلم افضل فی یومه مما كان علیه فی أمسه، غایة الأمر انه ینشد هذه التنمیة فی اطار قیمه واحكامه النورانیة التی تكفل منافع الانسان فی الدنیا والآخرة، ولا یرى أی ترابط بین التطور والتنمیة وبین القبول بالثقافة الغربیة.

على سبیل المثال، لقد كان المسلمون إبان عصر همجیة الغرب وبربریته، حملة لواء العلم والصناعة فی العالم، وباذعان الغربیین انفسهم، لولا التراث الذی خلّفه الاسلام فی اسبانیا لبقی الغربیون یعیشون حالة شبه همجیة ولما نالوا نصیبهم من الصناعة والتطور.

والیوم فان انصار فكرة تعارض الاسلام مع التنمیة یحاولون وبشكل مشبوه اشاعة هذه الفكرة فی المجتمع وهی ان «التنمیة الاقتصادیة تقترن بالتنمیة السیاسیة والثقافیة».

ان لنا فهماً خاصاً لهذه المفاهیم اذ اننا نتصور ان المراد منها المضی قُدُماً بهذه المفاهیم الثلاثة باتجاه تحقیق اهداف النظام الاسلامی، غیر ان مراد هذه الحفنة من الخطباء والكتّاب مفهوم خاص لهذه المفردات یؤول الى فرض الثقافة الغربیة على الثقافة الاسلامیة.

ان استهداف العقول بالمنثورات على اختلافها، والكتب والنظریات العلمیة داخل الجامعات من ناحیة; وقولبة عقول الطلبة المبعوثین الى الخارج الذین یدرسون فی فروع من قبیل الاقتصاد وعلم الاجتماع والحقوق والعلوم السیاسیة لیرددوا ما یقوله الغربیون بدقة بعد عودتهم الى البلاد ـ من ناحیة اخرى، كل ذلك یعد من اسالیب الهجوم الغربی وجرّ البلاد ثانیة كی ترزح تحت هیمنة المستعمرین.

كما یجری الایحاء بصور مختلفة إما التخلف عن ركب التطور والحضارة أو التخلی عن الحمیّة الدینیة والتحلی بالتساهل والتسامح على صعید القضایا العقائدیة والاقتصادیة والسیاسیة التی ربما تستبطن عقبات دینیة وان كان ذلك من مزاعم وایحاءات هذا الطیف ـ والحصول على قروض ضخمة من صندوق النقد الدولی والبنك العالمی والحصول على رأس المال الضروری للانتاج من خلال تمهید الارضیة للاستثمارات الخارجیة وتأسیس المناطق التجاریة الحرة، ونظراً لان المحافل الدولیة لیست على استعداد لمنح هذه القروض أو الاستثمار داخل البلاد دون شروط مسبقة، فلابد من غض الطرف عن الروح الثوریة والتمسك ببعض الاصول والقیم لیتسنى لنا بلوغ مرامنا.

وینبغی التحلی بالمداراة والتسامح فی الامور الثقافیة ایضاً، اذ یمكن فی مثل هذه الحالة دخول المجتمع الدولی ورسم صورة دولیة حسنة لنا وإلاّ فان تمسكنا باصولنا ومبادئنا الثابتة من شأنه ان یبتلینا بالعزلة على الصعید الدولی.

اذن لابد من التخلی عن الاصولیة والتزام الاعتدال واللیبرالیة وتجنب الاتجاه الیقینی والتفكیر المطلق الى الحد الذی لا نبدی معه ایّ تحفظ اذا ما شنَّ البعض هجوماً على الامور التی نعدّها من المسلّمات!! بینما یحتل الیقین موقعاً متمیزاً فی الاسلام وان اصحاب الیقین یتبوؤن منزلاً رفیعاً فی آیات القرآن الكریم والروایات، وفی المقابل فان الشك واتجاه التشكیك الذی یمثل الآن احدى قیم العالم الغربی ـ هو أمر مذموم ومحطة بغیضة فی النظرة الاسلامیة وان الثبات على اصول الاسلام ومسلّماته یُعدّ من أسمى قیم الانسان المسلم.

بناءً على هذا، فان مفاهیم من قبیل «التنمیة السیاسیة» التی ربما تكون احدى ادوات الاعداء لاثارة الفرقة والتمهید للقضاء على قیم الاسلام والثورة ومحو ما لدى الجماهیر من حمیّة دینیة وثوریة للعمل بالاضافة الى ضیاع آخرة الناس، فهی تضیّع دنیاهم ایضاً عبر جرف هذا الشعب لیرزح من جدید تحت سلطة الاجانب، من المناسب أن تُوضح بدقة متناهیة من قبل الغیارى وان یقدموها بدافع الوصول لاهداف النظام الاسلامی، والعمل على الحیلولة دون استغلالها وذلك من خلال القیام بالاعمال التخصصیة.

* * * * *