ar_porsesh4-ch1_1.htm

الفصل الاول/ الحریة

مفهوم الحریة وتعریفها

سؤال: ما هی الحریة وما هو التعریف الذی یمكن تقدیمه لها؟

جوابه: للاجابة عن هذا السؤال ینبغی التذكیر بان المفاهیم یمكن تقسیمها الى طائفتین هما:

أ ـ المفاهیم العینیة والانضمامیة.

ب ـ المفاهیم الذهنیة والانتزاعیة.

ولا یستعصی الفهم كثیراً حینما نستخدم المفاهیم العینیة، فعلى سبیل المثال ان المفاهیم التی هی من قبیل الماء، والحركة، والبرق التی تستخدم فی العلوم الطبیعیة، أو العین، والأذن، والكبد، والمعدة... الخ التی تستخدم فی العلوم الطبیة كلها مفاهیم عینیة، ومراد المتحدث منها واضح لدى الجمیع، وان كانت هنالك موارد ربما یلفّها الغموض ایضاً من قبیل ما اذا كان الماء العكر ماءً أم لا؟

أما فی الموارد التی نستخدم فیها المفاهیم الانتزاعیة ـ من قبیل المفاهیم الفلسفیة والمفاهیم التی تستخدم فی الكثیر من العلوم الانسانیة نظیر علم النفس وعلم الاجتماع والحقوق والعلوم السیاسیة وما شابهها ـ فان التفاهم یصبح صعباً، اذ ربما یكون للمفردة الواحدة تعاریف متعددة ومختلفة، ولذا قلّما تصل البحوث حول هذه المفردة الى نتیجة.

على سبیل المثال، ذكروا لمفردة الثقافة (culture) الكثیرة التداول ما بین خمسین الى خمسمائة تعریف وقلّما یستطیع أحد ان یُقدِّم تعریفاً دقیقاً وكاملاً للثقافة، وتبعاً لذلك سیصبح مفهوم «التنمیة الثقافیة» غامضاً ومدعاة للانزلاق، وعلى اثره ستغور الاحادیث حول الثقافة والتنمیة الثقافیة فی بحبوحة من الغموض ایضاً.

وهكذا شأن مفردة الدیمقراطیة (Democracy) ایضاً، فبالرغم من ان هذه الكلمة تستخدم بمعنى «حاكمیة الشعب» أو «حكومة الشعب على الشعب» لكن معناها لیس واضحاً على وجه الدقة، فهل ان هذه المفردة تفید نوعاً من الحكم؟ أم نمطاً معیناً فی علاج القضایا الاجتماعیة؟

والمثال الآخر مفردة اللیبرالیة (liberalism) التی تعنی تبنّی الحریة وبذلك تكتسب بریقاً خاصاً، ولكن لم یتم بیان معناها بشكل دقیق. كما ان مشكلة الترجمة وتحویل المفردة الى لغة اخرى یزید الغموض فی مثل هذه الكلمات.

ولم تخلُ مفردة الحریة من هذا الغموض والاختلاف فی المعانی والاستنباطات ایضاً، ولغرض ان یتحقق التفاهم فی البحوث الخاصة بالحریة یتعین الوصول لتعریف مشترك لها، ومن ثم الجلوس للحوار بعد الاتفاق على معنىً معین، وخلال الابحاث التی جرت فی غضون السنوات العدیدة الاخیرة حول الحریة لم یحصل التفاهم نتیجة وجود هذه المشكلة.

ربما تستخدم كلمة الحریة بمعنى الاختیار فی مقابل الجبر، وقد یكون المراد من الحریة ایضاً الانسان الحر فی مقابل المملوك والعبد، وتارة یقال ان فلاناً یتمتع بحریة الرأی ای ذو رأی مستقل فی قبال التقلید بالرأی، وفی بعض الحالات تستخدم الحریة ایضاً بمعنى ان یفعل الانسان ما یشاء ویقول ما یحلو له، وبعبارة اخرى ان لا یقیده قید أو شرط فی قوله وفعله، وما یتعلق بالبحث والحدیث فی فلسفة الحقوق وفلسفة القانون هو هذا المعنى الاخیر.

لقد ذكر بعض الكتّاب فی الغرب ما یقرب من مائتی تعریف للحریة یقترب الكثیر منها مع بعضها فیما یتنافى بعضها مع البعض الآخر. وان كافة الامم والاقوام تولی الحریة قداسة متمیزه وتنشدها، ورغم ذلك فان الاختلاف یطرأ حول بعض الامور مما یؤدی الى حدوث نقاش وجدال وربما الى حدوث نزاع وصراع وقتال احیاناً.

والنتیجة هی: نظراً لما تتصف به مثل هذه المفاهیم ـ ومن بینها مفهوم الحریة ـ عن فضفاضة ومطاطیة، فانه یتعین التوصل الى معنىً واضح ودقیق لها قبل الحدیث والرد على أی سؤال حولها، ومن ثم مواصلة البحث، لاننا اذا اردنا مقارنة التعاریف كلاً على حدة مع الاسلام والبحث فی انسجامها أو عدم انسجامها مع الاسلام فسنواجه بحثاً فی غایة التشعب والصعوبة.

بناءً على هذا، یبدو ان اسهل الطرق للمضی قدماً فی البحث هو تحدید موارد مفردة الحریة ومصادیقها بدلاً من البحث حول تعریفها ومعناها، فمثلاً یُطرح السؤال التالی: هل الصحافة حرّة فی الاسلام وما هی حدود هذه الحریة؟ هل العلاقات الجنسیة حرّة ومطلقة فی الاسلام والمجتمع الاسلامی؟ هل الاساءة للآخرین والاستهزاء بهم واهانتهم أمر مطلقٌ ومسموح به أم لا؟

ونتیجة الكلام هی ان تعاریف الحریة متنوعة جداً ولیس من الضرورة والسهولة الى حدٍّ كبیر الاتفاق على تعریف واحد، وانما المهم هو إیراد الموارد الخاصة بالحریة وعقد الحوار بشأنها.

* * * * *